حكاية ناي ♔
02-10-2023, 08:57 AM
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فإمام الورعين هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي ينبغي أن يكون القدوة والأسوة لنا في الورع مما لا يُشَكُّ ويُرتابُ فيه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأنقلب إلى أهلي، فأجد التمرة ساقطة على فراشي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فأُلقيها))؛ [متفق عليه].
قال الإمام النووي رحمه الله: وفيه استعمال الورع؛ لأن هذه التمرة لا تحرم بمجرد الاحتمال، لكن الورع تركُها، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: لم يمتنع من أكلها إلا تورُّعًا؛ لخشية أن تكون من الصدقة التي حُرِّمت عليه.
تمرة مشكوك فيها، هل هي من تمر الصدقة أو من غيره، ومع ذلك تورع إمام الورعين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عنها وتركها، فاللهم ارحمنا وتجاوز عنا.
الورع يشمل ترك المحرمات، ويشمل ترك المشتبهات، فما يخشى المسلم من عاقبته في الآخرة فليتركه؛ فعن الحسين بن علي رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((دع ما يُريبُك إلى ما لا يُريبُك))؛ [أخرجه النسائي والترمذي].
قال الإمام ابن العطار رحمه الله: ومعناه: اترك ما شككتَ في حلِّه وإباحته إلى ما لا تشُكُّ في حلِّه وإباحته، وذلك الورع المطلوب به.
وقال العلامة ابن الملقن رحمه الله: وهو أصل عظيم في الورع.
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله: هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الدين، وأصل الورع الذي عليه مدار اليقين.
والتورع عن الأمور الْمُشتبهات شامل لكل شيءٍ؛ قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: "فالذي يريب اتركه، سواء كان من العلم، أو القول، أو العمل، أو العلاقات، أو الظن، فكل ما يُربيك فتخاف منه ولا تطمئنُّ إليه دعه واتركه إلى أمر لا يُربيك".
والورع قُرْبة يُؤجَر عليها المسلم؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بيِّنٌ، وإن الحرام بيِّنٌ، وبينهما أُمور مُشتبهات، لا يعلمهُنَّ كثير من الناس، فمن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام))؛ [متفق عليه].
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: وفي الحديث مشروعية اجتناب الشبهات، وأن الاحتياط في الأعمال من القربات التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه، وأن الورع عمل صالح يؤجر العبد عليه.
ومن الأمور التي ينبغي الحرص على الورع فيها: ما يأكله الإنسان ويشربه؛ لأن إجابة الدعاء متوقُّف على كونها طيبة مباحة؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ينبغي للمؤمن أن يتوقف فيما يشك فيه، فإن هذا من الورع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فمن اتقى الشُّبهات استبرأ لدينه وعرضه))، لا سيما في المآكل والمشارب التي طيبها من أسباب إجابة الدعوة، وخبثها من أسباب ردِّ الدعوة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يُطيل السفر، أشعث أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، قال: ((فأنَّى يُستجاب لذلك))، فليحرص الإنسان على الورع، لا سيما في مأكله ومشربه وملبسه ومنكحه، فإن الأمر خطير جدًّا.
وإذا كانت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تقول: إن الناس قد ضيَّعوا أعظم دينهم: الورع، فما هو حالنا اليوم؟! قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ورع الصحابة ليسوا كحالنا اليوم، إذا قلت: نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هل هو حرام أو لا؟ ثم تقول: نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: نعم، لكن هل هو حرام، أو ليس حرامًا؟ يُريدُ منك أن تقول: ليس بحرام، من أجل أن يفعله؛ ولكن الإنسان الورع إذا قيل له: نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام تركه، فإن كان حرامًا أُثيب عليه ثواب ترك الحرام، وإن كان مكروهًا أُثيب عليه ثواب ترك المكروه.
لقد كان للورع منزلة عظيمة عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضربوا رضي الله عنهم أمثلة عظيمة في ذلك، في أشياء يسيرة لا يلقي لها كثير من الناس اهتمامًا، فخالد بن الوليد رضي الله عنه، دخل مع الرسول صلى الله عليه وسلم على ميمونة رضي الله عنها، وهي خالتُهُ، وكان عندها ضبٌّ محنوذٌ، فقدمت الضبَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الضبِّ، فقالت امرأة من النساء: إنه ضبُّ يا رسول الله، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَهُ عن الضبِّ، فقال خالد بن الوليد: أحرامٌ الضَّبُّ يا رسول الله؟ قال: (( لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه))؛ [أخرجه البخاري].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وفي الحديث دليل على ورع الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رفع يده، سأله خالد رضي الله عنه، فقال: أحرامٌ الضَّبُّ يا رسول الله؟
ومن أمثلة ورع الصحابة رضي الله عنهم:
توقيهم سكنى الحرم:
فقد كان جماعة من الصحابة يتقون سكنى الحرم؛ خشية ارتكاب الذنوب فيه؛ منهم: ابن عباس، وعبدالله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهم.
توقُّفهم عن أخذ العوض على قراءة القرآن:
فقد ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث قومًا من أصحابه في سريَّة، فنزلوا على جماعة من الناس؛ ولكنهم لم يُضيِّفوهم، ثم إن سيد هؤلاء لُدِغَ، فطلبوا منهم أن يرقوا سيَّدَهم، فقام أحد الصحابة فرقاهُ، فبرأ، فأمر لهم بغنم، فقال بعض الصحابة لبعض: لا تحدثوا شيئًا حتى نأتي ونسأل النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا المدينة، أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ((اقسموا واضربوا لي بسهمٍ))؛ [متفق عليه].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: من فوائد الحديث: ورع الصحابة رضي الله عنهم، حيث كفوا عن أخذ هذا العوض إلا بعد أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم.
عدم مساعدتهم لمن صاد وهو حلال وهم مُحرِمون:
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: "كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم فيما بين مكة والمدينة، وهو محرم، وأنا رجل حل على فرس، وكُنتُ رقَّاءً على الجبال، فبينا أنا على ذلك إذ رأيتُ الناس مُتشوفين لشيءٍ، فذهبتُ أنظره، فإذا هو حمار وحش، فقلت لهم: ما هذا؟ قالوا: لا ندري، قلتُ: هو حمار وحش! فقالوا: هو ما رأيت، وكنتُ نسيت سوطي، فقلتُ لهم: ناولوني سوطي، فقالوا: لا نُعينك عليه، فنزلت فأخذته"؛[أخرجه البخاري].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا الحديث دليل على فوائد؛ منها: ورع الصحابة رضي الله عنهم، وذلك من وجوه: أنه لما قال: هو حمار وحش، قالوا: هو ما رأيت! ولم يقولوا: حمار وحش، وأنه بعد ما قتله، وطلب منهم حمله، لم يحملوه حتى ذهب هو، وحمله إليهم.
ورع أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان لأبي بكر غلامٌ يُخرجُ له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيءٍ فأكل منه أبو بكر، فقال الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: ما هو؟ فقال: لقد تكهنتُ لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني لذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كلَّ شيءٍ في بطنه"؛ [أخرجه البخاري]، قال الإمام الطيبي رحمه الله: فقاء؛ أي: للورع.
وقد جاء عمر بن الخطاب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وقال له: "إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، فقال أبو بكر: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير"؛ [أخرجه البخاري].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا الحديث فوائد؛ منها: ورع أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه قال: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وعن الحسن رضي الله عنهما قال: لما احتُضِر أبو بكر رضي الله عنه قال: يا عائشة، انظري اللقحة التي كنَّا نشرب لبنها، والجفنة التي كنَّا نصطبح فيها، والقطيفة التي كُنَّا نلبسها، فإنا كنا ننتفع بذلك حين كنا في أمر المسلمين، فإذا متُّ فارْدديه إلى عمر، فلما مات أبو بكر رضي الله عنه أرسلت به إلى عمر رضي الله عنه، فقال: رضي الله عنك يا أبا بكر، لقد أتعبتَ مَن جاء بعدك"؛ [أخرجه الطبراني في الكبير].
ورع عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
وعن نافع "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف، وفرض لابنه ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين، فلمَ نقصته؟ فقال: إنما هاجر به أبوه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه"؛ [أخرجه البخاري].
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه مسك وعنبر من البحرين، فقال عمر: والله لودِدْتُ أني أجد امرأة حسنة الوزن، تزن لي هذا الطيب، حتى أُفرِّقه بين المسلمين، فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد: أنا جيدة الوزن، فهَلُمَّ أزن لك، قال: لا، قالت: ولِمَ؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه هكذا، وأدخل أصابعه في صدغيه، وتمسحين عنقك، فأصيب فضلًا من المسلمين"؛ [أخرجه الإمام أحمد في الورع].
ورع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه:
عنه رضي الله عنه قال: "لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمِّصات، والمتفلِّجات للحُسْن، المغيِّرات خلق الله، فبلغ ذلك امرأة، فجاءت فقالت له: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، وإني أرى أهلك يفعلونه، قال: فاذهبي فانظري، فذهبت فنظرت، فلم تر من حاجتها شيئًا، فقال: لو كانت كذلك ما جامعتها"؛ [متفق عليه].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا دليل على ورع الصحابة رضي الله عنهم، وكراهيتهم أن يجتمعوا مع امرأة تعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورع ابن عمر رضي الله عنهما:
عن سالم أن عبدالله بن عمر رضي الله عنه، قال: "كنتُ أعلمُ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تُكرى، ثم خشي عبدالله أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أحدث في ذلك شيئًا، لم يكن يعلمه، فترك كراء الأرض"؛ [متفق عليه].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: كان ابن عمر رضي الله عنهما استمرَّ في المزارعة زمن النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وعمر وعثمان، وصدرًا من إمارة معاوية رضي الله عنهم، لكنه رضي الله عنه كان ورعًا جدًّا، وعنده خوف كثير، فخاف أن يكون النهي عامًّا، وأنه يشمل المزارعة الجائرة، فتركه خوفًا من أن يكون حدث في الأمر شيء ما علِمه.
ورع عبدالله بن مغفل رضي الله عنه:
عنه رضي الله عنه أنه رأى رجلًا يحذف، فقال له: لا تحذف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحذف، أو كان يكره الحذف، وقال: ((إنه لا يُصاد به صيد، ولا يُنكى به عدو، ولكنها قد تكسر السن، وتفقأُ العين))، ثم رآه بعد ذلك يحذف، فقال له: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الحذف، أو كره الحذف وأنت تحذف! لا أُكلمك كذا وكذا"؛ [متفق عليه].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هذا من ورع الصحابة وشدة تعظيمهم لأوامر الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا عبدالله بن مغفل رضي الله عنه هجر هذا الرجل لمدة مُعينة لما رآه يحذف بعد أن سمِع النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك.
ورع سعيد بن عامر رضي الله عنه من تولِّي الإمارة:
دعا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سعيد بن عامر رضي الله عنهما، فقال له: إني مستعملك على أرض كذا وكذا، فقال: لا تفتني يا أمير المؤمنين، قال: والله لا أدعك قلدتموها في عنقي وتتركوني؛ [حلية الأولياء وطبقات الأصفياء؛ لأبي نعيم الأصبهاني، وقال محقق الكتاب: إسناده حسن].
ورع أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها:
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: ((يا زينب، ما علمتِ؟ ما رأيتِ؟))، فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ عليها إلا خيرًا، قالت: وهي التي كانت تُساميني فعصمها الله بالورع"؛ [متفق عليه].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: زينب رضي الله عنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم محبوبة، كما أن عائشة رضي الله عنها كذلك، ومع ذلك لورعها رضي الله عنها ما تكلمت في عائشة، مع أن العادة جرت في مثل هذا أن المرأة إذا رأت إحدى زوجات زوجها محبوبة عنده وغاليةً، جرت العادة أنها تتكلم فيها؛ لأنها تغار، لكن زينب رضي الله عنها من أجل ورعها قالت: والله ما علمتُ إلا خيرًا، وهذه منقبة عظيمة، وذلك أنها حمت سمْعَها وبَصَرَها من الكلام في عائشة رضي الله عنها.
إن على المسلم أن يكون ورعًا، وأن يبتعد عن المشتبهات؛ لأن من اقترب منها وقع فيها، ومن وقع فيها وقع في الحرام، ووقوعه في الحرام يُفسَّر -كما قال الحافظ ابن رجب رحمه الله - بمعنيين:
أحدهما: أن يكون ارتكابه للشُّبَه مع اعتقاد أنها شُبَه ذريعةً إلى ارتكابه الحرام بالتدرُّج والتسامُح.
الثاني: أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده، لا يدري: أهو حلال أم حرام، فإنه لا يأمَنُ أن يكون حرامًا في نفس الأمر، فيُصادف الحرام، وهو لا يدري أنه حرام.
إن علينا أن نُراجِع أنفسنا في: مأكلنا، ومشربنا، وملبسنا، وكتاباتنا، وما ننظر إليه، وما نستمع إليه، وما نتحدَّث به، وفي المسائل التي نفتي فيها، وفي كل أمورنا؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورَع في كلمة واحدة؛ فقال: ((من حُسْن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه))، فهذا يعمُّ الترك لما لا يعني من: الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.
وقد ورد عن بعض السلف: إن أشدَّ الورع ورع اللسان، وقال غيره: إنك لتعرف ورع الرجل في كلامه، وقال ثالث: قوم ملوا العبادة، ووجدوا الكلام أهون عليهم من العمل، وقلَّ ورعُهم، فتكلَّموا.
إنَّ من قلَّ ورعُه أكثر الكلام فيما ما لا يعنيه، وفيما لا يُحسِنه، وفيما يضُرُّهُ، وفيما ضررُه أكثرُ من نفعه، فلنجاهد أنفسنا على حَبْسِ ألسنتنا إلا على قول الخير، ما استطعنا لذلك سبيلًا، والله عز وجل في عون العبد الصادق المجاهد لنفسه.
والورع كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: يطهر دنس القلب ونجاسته، كما يطهر الماءُ دنس الثوب ونجاسته.
وقد يستصعبه كثير من الناس؛ ولكنه سهل على من سهَّلَه الله عليه؛ قال أحد علماء السلف: ما شيء أهون عندي من الورع، إذا رابني شيء تركته.
وليعلم أن من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه.
فإمام الورعين هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي ينبغي أن يكون القدوة والأسوة لنا في الورع مما لا يُشَكُّ ويُرتابُ فيه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لأنقلب إلى أهلي، فأجد التمرة ساقطة على فراشي، فأرفعها لآكلها، ثم أخشى أن تكون صدقة فأُلقيها))؛ [متفق عليه].
قال الإمام النووي رحمه الله: وفيه استعمال الورع؛ لأن هذه التمرة لا تحرم بمجرد الاحتمال، لكن الورع تركُها، وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: لم يمتنع من أكلها إلا تورُّعًا؛ لخشية أن تكون من الصدقة التي حُرِّمت عليه.
تمرة مشكوك فيها، هل هي من تمر الصدقة أو من غيره، ومع ذلك تورع إمام الورعين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عنها وتركها، فاللهم ارحمنا وتجاوز عنا.
الورع يشمل ترك المحرمات، ويشمل ترك المشتبهات، فما يخشى المسلم من عاقبته في الآخرة فليتركه؛ فعن الحسين بن علي رضي الله عنه قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((دع ما يُريبُك إلى ما لا يُريبُك))؛ [أخرجه النسائي والترمذي].
قال الإمام ابن العطار رحمه الله: ومعناه: اترك ما شككتَ في حلِّه وإباحته إلى ما لا تشُكُّ في حلِّه وإباحته، وذلك الورع المطلوب به.
وقال العلامة ابن الملقن رحمه الله: وهو أصل عظيم في الورع.
وقال العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله: هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الدين، وأصل الورع الذي عليه مدار اليقين.
والتورع عن الأمور الْمُشتبهات شامل لكل شيءٍ؛ قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: "فالذي يريب اتركه، سواء كان من العلم، أو القول، أو العمل، أو العلاقات، أو الظن، فكل ما يُربيك فتخاف منه ولا تطمئنُّ إليه دعه واتركه إلى أمر لا يُربيك".
والورع قُرْبة يُؤجَر عليها المسلم؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمِعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بيِّنٌ، وإن الحرام بيِّنٌ، وبينهما أُمور مُشتبهات، لا يعلمهُنَّ كثير من الناس، فمن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام))؛ [متفق عليه].
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: وفي الحديث مشروعية اجتناب الشبهات، وأن الاحتياط في الأعمال من القربات التي يتقرب بها الإنسان إلى ربه، وأن الورع عمل صالح يؤجر العبد عليه.
ومن الأمور التي ينبغي الحرص على الورع فيها: ما يأكله الإنسان ويشربه؛ لأن إجابة الدعاء متوقُّف على كونها طيبة مباحة؛ قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ينبغي للمؤمن أن يتوقف فيما يشك فيه، فإن هذا من الورع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فمن اتقى الشُّبهات استبرأ لدينه وعرضه))، لا سيما في المآكل والمشارب التي طيبها من أسباب إجابة الدعوة، وخبثها من أسباب ردِّ الدعوة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الرجل يُطيل السفر، أشعث أغبر، يمدُّ يديه إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغُذِي بالحرام، قال: ((فأنَّى يُستجاب لذلك))، فليحرص الإنسان على الورع، لا سيما في مأكله ومشربه وملبسه ومنكحه، فإن الأمر خطير جدًّا.
وإذا كانت أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تقول: إن الناس قد ضيَّعوا أعظم دينهم: الورع، فما هو حالنا اليوم؟! قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: ورع الصحابة ليسوا كحالنا اليوم، إذا قلت: نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: هل هو حرام أو لا؟ ثم تقول: نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: نعم، لكن هل هو حرام، أو ليس حرامًا؟ يُريدُ منك أن تقول: ليس بحرام، من أجل أن يفعله؛ ولكن الإنسان الورع إذا قيل له: نهى عنه الرسول عليه الصلاة والسلام تركه، فإن كان حرامًا أُثيب عليه ثواب ترك الحرام، وإن كان مكروهًا أُثيب عليه ثواب ترك المكروه.
لقد كان للورع منزلة عظيمة عند صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضربوا رضي الله عنهم أمثلة عظيمة في ذلك، في أشياء يسيرة لا يلقي لها كثير من الناس اهتمامًا، فخالد بن الوليد رضي الله عنه، دخل مع الرسول صلى الله عليه وسلم على ميمونة رضي الله عنها، وهي خالتُهُ، وكان عندها ضبٌّ محنوذٌ، فقدمت الضبَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم يده إلى الضبِّ، فقالت امرأة من النساء: إنه ضبُّ يا رسول الله، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَهُ عن الضبِّ، فقال خالد بن الوليد: أحرامٌ الضَّبُّ يا رسول الله؟ قال: (( لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه))؛ [أخرجه البخاري].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: وفي الحديث دليل على ورع الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رفع يده، سأله خالد رضي الله عنه، فقال: أحرامٌ الضَّبُّ يا رسول الله؟
ومن أمثلة ورع الصحابة رضي الله عنهم:
توقيهم سكنى الحرم:
فقد كان جماعة من الصحابة يتقون سكنى الحرم؛ خشية ارتكاب الذنوب فيه؛ منهم: ابن عباس، وعبدالله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهم.
توقُّفهم عن أخذ العوض على قراءة القرآن:
فقد ذكر أبو سعيد الخدري رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث قومًا من أصحابه في سريَّة، فنزلوا على جماعة من الناس؛ ولكنهم لم يُضيِّفوهم، ثم إن سيد هؤلاء لُدِغَ، فطلبوا منهم أن يرقوا سيَّدَهم، فقام أحد الصحابة فرقاهُ، فبرأ، فأمر لهم بغنم، فقال بعض الصحابة لبعض: لا تحدثوا شيئًا حتى نأتي ونسأل النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدموا المدينة، أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: ((اقسموا واضربوا لي بسهمٍ))؛ [متفق عليه].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: من فوائد الحديث: ورع الصحابة رضي الله عنهم، حيث كفوا عن أخذ هذا العوض إلا بعد أن يسألوا النبي صلى الله عليه وسلم.
عدم مساعدتهم لمن صاد وهو حلال وهم مُحرِمون:
عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: "كنتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم فيما بين مكة والمدينة، وهو محرم، وأنا رجل حل على فرس، وكُنتُ رقَّاءً على الجبال، فبينا أنا على ذلك إذ رأيتُ الناس مُتشوفين لشيءٍ، فذهبتُ أنظره، فإذا هو حمار وحش، فقلت لهم: ما هذا؟ قالوا: لا ندري، قلتُ: هو حمار وحش! فقالوا: هو ما رأيت، وكنتُ نسيت سوطي، فقلتُ لهم: ناولوني سوطي، فقالوا: لا نُعينك عليه، فنزلت فأخذته"؛[أخرجه البخاري].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا الحديث دليل على فوائد؛ منها: ورع الصحابة رضي الله عنهم، وذلك من وجوه: أنه لما قال: هو حمار وحش، قالوا: هو ما رأيت! ولم يقولوا: حمار وحش، وأنه بعد ما قتله، وطلب منهم حمله، لم يحملوه حتى ذهب هو، وحمله إليهم.
ورع أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان لأبي بكر غلامٌ يُخرجُ له الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيءٍ فأكل منه أبو بكر، فقال الغلام: تدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: ما هو؟ فقال: لقد تكهنتُ لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته، فلقيني فأعطاني لذلك هذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر يده فقاء كلَّ شيءٍ في بطنه"؛ [أخرجه البخاري]، قال الإمام الطيبي رحمه الله: فقاء؛ أي: للورع.
وقد جاء عمر بن الخطاب إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وقال له: "إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، فقال أبو بكر: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير"؛ [أخرجه البخاري].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا الحديث فوائد؛ منها: ورع أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه قال: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
وعن الحسن رضي الله عنهما قال: لما احتُضِر أبو بكر رضي الله عنه قال: يا عائشة، انظري اللقحة التي كنَّا نشرب لبنها، والجفنة التي كنَّا نصطبح فيها، والقطيفة التي كُنَّا نلبسها، فإنا كنا ننتفع بذلك حين كنا في أمر المسلمين، فإذا متُّ فارْدديه إلى عمر، فلما مات أبو بكر رضي الله عنه أرسلت به إلى عمر رضي الله عنه، فقال: رضي الله عنك يا أبا بكر، لقد أتعبتَ مَن جاء بعدك"؛ [أخرجه الطبراني في الكبير].
ورع عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
وعن نافع "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف، وفرض لابنه ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين، فلمَ نقصته؟ فقال: إنما هاجر به أبوه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه"؛ [أخرجه البخاري].
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه مسك وعنبر من البحرين، فقال عمر: والله لودِدْتُ أني أجد امرأة حسنة الوزن، تزن لي هذا الطيب، حتى أُفرِّقه بين المسلمين، فقالت له امرأته عاتكة بنت زيد: أنا جيدة الوزن، فهَلُمَّ أزن لك، قال: لا، قالت: ولِمَ؟ قال: إني أخشى أن تأخذيه هكذا، وأدخل أصابعه في صدغيه، وتمسحين عنقك، فأصيب فضلًا من المسلمين"؛ [أخرجه الإمام أحمد في الورع].
ورع عبدالله بن مسعود رضي الله عنه:
عنه رضي الله عنه قال: "لعن الله الواشمات، والمستوشمات، والمتنمِّصات، والمتفلِّجات للحُسْن، المغيِّرات خلق الله، فبلغ ذلك امرأة، فجاءت فقالت له: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت، وإني أرى أهلك يفعلونه، قال: فاذهبي فانظري، فذهبت فنظرت، فلم تر من حاجتها شيئًا، فقال: لو كانت كذلك ما جامعتها"؛ [متفق عليه].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: في هذا دليل على ورع الصحابة رضي الله عنهم، وكراهيتهم أن يجتمعوا مع امرأة تعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورع ابن عمر رضي الله عنهما:
عن سالم أن عبدالله بن عمر رضي الله عنه، قال: "كنتُ أعلمُ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأرض تُكرى، ثم خشي عبدالله أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد أحدث في ذلك شيئًا، لم يكن يعلمه، فترك كراء الأرض"؛ [متفق عليه].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: كان ابن عمر رضي الله عنهما استمرَّ في المزارعة زمن النبي عليه الصلاة والسلام وأبي بكر وعمر وعثمان، وصدرًا من إمارة معاوية رضي الله عنهم، لكنه رضي الله عنه كان ورعًا جدًّا، وعنده خوف كثير، فخاف أن يكون النهي عامًّا، وأنه يشمل المزارعة الجائرة، فتركه خوفًا من أن يكون حدث في الأمر شيء ما علِمه.
ورع عبدالله بن مغفل رضي الله عنه:
عنه رضي الله عنه أنه رأى رجلًا يحذف، فقال له: لا تحذف، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الحذف، أو كان يكره الحذف، وقال: ((إنه لا يُصاد به صيد، ولا يُنكى به عدو، ولكنها قد تكسر السن، وتفقأُ العين))، ثم رآه بعد ذلك يحذف، فقال له: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الحذف، أو كره الحذف وأنت تحذف! لا أُكلمك كذا وكذا"؛ [متفق عليه].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: هذا من ورع الصحابة وشدة تعظيمهم لأوامر الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا عبدالله بن مغفل رضي الله عنه هجر هذا الرجل لمدة مُعينة لما رآه يحذف بعد أن سمِع النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن ذلك.
ورع سعيد بن عامر رضي الله عنه من تولِّي الإمارة:
دعا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب سعيد بن عامر رضي الله عنهما، فقال له: إني مستعملك على أرض كذا وكذا، فقال: لا تفتني يا أمير المؤمنين، قال: والله لا أدعك قلدتموها في عنقي وتتركوني؛ [حلية الأولياء وطبقات الأصفياء؛ لأبي نعيم الأصبهاني، وقال محقق الكتاب: إسناده حسن].
ورع أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها:
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش عن أمري، فقال: ((يا زينب، ما علمتِ؟ ما رأيتِ؟))، فقالت: يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ عليها إلا خيرًا، قالت: وهي التي كانت تُساميني فعصمها الله بالورع"؛ [متفق عليه].
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: زينب رضي الله عنها كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم محبوبة، كما أن عائشة رضي الله عنها كذلك، ومع ذلك لورعها رضي الله عنها ما تكلمت في عائشة، مع أن العادة جرت في مثل هذا أن المرأة إذا رأت إحدى زوجات زوجها محبوبة عنده وغاليةً، جرت العادة أنها تتكلم فيها؛ لأنها تغار، لكن زينب رضي الله عنها من أجل ورعها قالت: والله ما علمتُ إلا خيرًا، وهذه منقبة عظيمة، وذلك أنها حمت سمْعَها وبَصَرَها من الكلام في عائشة رضي الله عنها.
إن على المسلم أن يكون ورعًا، وأن يبتعد عن المشتبهات؛ لأن من اقترب منها وقع فيها، ومن وقع فيها وقع في الحرام، ووقوعه في الحرام يُفسَّر -كما قال الحافظ ابن رجب رحمه الله - بمعنيين:
أحدهما: أن يكون ارتكابه للشُّبَه مع اعتقاد أنها شُبَه ذريعةً إلى ارتكابه الحرام بالتدرُّج والتسامُح.
الثاني: أن من أقدم على ما هو مشتبه عنده، لا يدري: أهو حلال أم حرام، فإنه لا يأمَنُ أن يكون حرامًا في نفس الأمر، فيُصادف الحرام، وهو لا يدري أنه حرام.
إن علينا أن نُراجِع أنفسنا في: مأكلنا، ومشربنا، وملبسنا، وكتاباتنا، وما ننظر إليه، وما نستمع إليه، وما نتحدَّث به، وفي المسائل التي نفتي فيها، وفي كل أمورنا؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورَع في كلمة واحدة؛ فقال: ((من حُسْن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه))، فهذا يعمُّ الترك لما لا يعني من: الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.
وقد ورد عن بعض السلف: إن أشدَّ الورع ورع اللسان، وقال غيره: إنك لتعرف ورع الرجل في كلامه، وقال ثالث: قوم ملوا العبادة، ووجدوا الكلام أهون عليهم من العمل، وقلَّ ورعُهم، فتكلَّموا.
إنَّ من قلَّ ورعُه أكثر الكلام فيما ما لا يعنيه، وفيما لا يُحسِنه، وفيما يضُرُّهُ، وفيما ضررُه أكثرُ من نفعه، فلنجاهد أنفسنا على حَبْسِ ألسنتنا إلا على قول الخير، ما استطعنا لذلك سبيلًا، والله عز وجل في عون العبد الصادق المجاهد لنفسه.
والورع كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: يطهر دنس القلب ونجاسته، كما يطهر الماءُ دنس الثوب ونجاسته.
وقد يستصعبه كثير من الناس؛ ولكنه سهل على من سهَّلَه الله عليه؛ قال أحد علماء السلف: ما شيء أهون عندي من الورع، إذا رابني شيء تركته.
وليعلم أن من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه.