حكاية ناي ♔
02-21-2023, 09:44 AM
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 74-81].
«أما قصة بعثته باختصار، فإن الله قد بعثه إلى قوم مشركين يعبدون الشمس والقمر والنجوم، وهم فلاسفة الصابئة الذين هم من أخبث الطوائف، وأعظمها ضررًا على الخلق، فدعاهم بطرق شتى، فأول ذلك دعاهم بطريقة لا يمكن صاحب عقل أن ينفر منها، ولما كانوا يعبدون السبع[1] السيارات التي منها الشمس والقمر، وقد بنوا لها البيوت وسموها الهياكل، قال لهم ناظرًا ومناظرًا، هلم يا قوم ننظر هل يستحق منها شيء من الإلهية والربوبية؟ ﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ﴾، أي إن كان يستحق الإلهية بعد النظر في حالته ووصفه فهو ربي، مع أنه يعلم العلم اليقيني أنه لا يستحق من الربوبية والإلهية مثقال ذرة، ولكن أراد أن يلزمهم بالحجة ﴿ فَلَمَّا أَفَلَ ﴾، أي غاب ﴿ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ﴾، فإن من كان له حال وجود وعدم، أو حال حضور وغيبة، قد علم كل عاقل أنه ليس بكامل، فلا يكون إلهًا، ثم انتقل إلى القمر، فلما رآه بازغًا: ﴿ قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴾ [لأنعام: 77].
يريهم صلوات الله وسلامه عليه، وقد صور نفسه بصورة الموافق لهم، لا على وجه التقليد، بل يقصد إقامة البرهان إلى إلهية النجوم والقمر، فالآن وقد أفلت، وتبين بالبرهان العقلي مع السمعي بطلان إلهيتها، فأنا إلى الآن لم يستقر لي قرار على رب وإله عظيم، ﴿ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً ﴾ فلما رأى الشمس بازغة؛ قال: هذا أكبر من النجوم ومن القمر، فإن جرى عليها ما جرى عليهما كانت مثلهما، فلما أفلت وقد تقرر عند الجميع فيما سبق أن عبادة من يأفل من أبطل الباطل، فحينئذ ألزمهم بهذا الإلزام ووجه عليهم الحجة فقال: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ﴾ أي: ظاهري وباطني ﴿ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 78-79].
فهذا برهان عقلي واضح أن الخالق للعالم العلوي والسفلي هو الذي يتعين أن يُقصد بالتوحيد والإخلاص، وأن هذه الأفلاك والكواكب وغيرها مخلوقات مدبرات، ليس لها من الأوصاف ما تستحق العبادة لأجلها؛ فجعلوا يخوفونه آلهتهم أن تمسه بسوء، وهذا دليل على أن المشركين عندهم من الخيالات الفاسدة، والآراء الرديئة، ما يعتقدون أن آلهتهم تنفع من عَبَدَها وتضر من تركها أو قدح فيها، فقال لهم مبينًا أنه ليس عليه شيء من الخوف، وإنما الخوف الحقيقي عليكم، فقال: ﴿ ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 81].
أجاب الله هذا الاستفهام جوابًا يعم هذه القصة وغيرها في كل وقت، فقال:﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ أي: بشرك ﴿ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].
فرفع الله خليله إبراهيم بالعلم وإقامة الحجة، وعجزوا عن نصر باطلهم؛ ولكنهم صمموا على الإقامة على ما هم عليه، ولم ينفع فيهم الوعظ والتذكير وإقامة الحجج، فلم يزل يدعوهم إلى الله، وينهاهم عما كانوا يعبدون نهيًا عامًّا وخاصًّا، وأخص من دعاه أبوه آزر؛ فإنه دعاه بعدة طرق نافعة، ولكن: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96-97].
فلم يزل إبراهيم مع قومه في دعوة وجدال، وقد أفحمهم وكسر جميع حججهم وشُبههم، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يقاومهم بأعظم الحجج، وأن يصمد لبطشهم وجبروتهم وقدرتهم وقوتهم، غير هائب ولا وجل، فلما خرجوا ذات يوم لعيد من أعيادهم وخرج معهم، فنظر نظرة في النجوم، فقال: إني سقيم؛ لأنه خشي إن تخلف لغير هذه الوسيلة لم يدرك مطلوبه؛ لأنه تظاهر بعداوتها والنهي الأكيد عنها وجهاد أهلها، فلما برزوا جميعًا إلى الصحراء كرَّ راجعًا إلى بيت أصنامهم، فجعلها جذاذًا كلها إلا صنمًا كبيرًا أبقى عليه ليلزمهم بالحجة، فلما رجعوا من عيدهم بادروا إلى أصنامهم صبابة ومحبة، فرأوا فيها أفظع منظر رآه أهلها، فقالوا: ﴿ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ﴾ أي: يعيبها ويذكرها بأوصاف النقص والسوء ﴿ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴾ [الأنبياء: 59-60].
فلما تحققوا أنه الذي كسرها: ﴿ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 61]. أي: بحضرة الخلق العظيم، ووبخوه أشد التوبيخ ثم نكلوا به، وهذا الذي أراد إبراهيم؛ ليظهر الحق بمرأى الخلق ومسمعهم، فلما جمع الناس وحضروا، وحضَّروا إبراهيم ﴿ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾ [الأنبياء: 62-63]. مشيرًا إلى الصنم الذي سلم من تكسيره، وهم في هذه بين أمرين: إما أن يعترفوا بالحق، وأن هذا لا يدخل عقل أحد أن جمادًا معروفًا مصنوعًا من مواد معروفة لا يمكن أن يفعل هذا الفعل، وإما أن يقولوا: نعم هو الذي فعلها وأنت سالم ناج من تبعتها.
وقد علم أنهم لا يقولون الاحتمال الأخير، قال: ﴿ فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ﴾ وهذا تعليق بالأمر الذي يعترفون أنه محال، فحينئذ ظهر الحق وبان، واعترفوا هم بالحق ﴿ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ ﴾ أي: ما كان اعترافهم ببطلان إلهيتها إلا وقتًا قصيرًا ظهرت الحجة مباشرة التي لا يمكن مكابرتها، ولكن ما أسرع ما عادت عليهم عقائدهم الباطلة التي رسخت في قلوبهم، وصارت صفات ملازمة، إن وجد ما ينافيها فإنه عارض يعرض ثم يزول: ﴿ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 64-65].
فحينئذ وبخهم بعد إقامة الحجة التي اعترف بها الخصوم على رؤوس الأشهاد، فقال لهم: ﴿ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 66-67]، فلو كان لكم عقول صحيحة لم تقيموا على عبادة ما لا ينفع ولا يضر، ولا يدفع عن نفسه من يريده بسوء، فلما أعيتهم المقاومة بالبراهين والحجج عدلوا إلى استعمال قوتهم وبطشهم وجبروتهم في عقوبة إبراهيم فقالوا: ﴿ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 68]، فأوقدوا نارًا عظيمة جدًّا فألقوه فيها، فقال وهو في تلك الحال: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله للنار: ﴿ يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، فلم تضره بشيء، وأرادوا به كيدًا لينصروا آلهتهم، ويقيموا لها في قلوبهم وقلوب أتباعهم الخضوع والتعظيم، فكان مكرهم وبالًا عليهم، وكان انتصارهم لآلهتهم نصرًا عظيمًا عند الحاضرين والغائبين والموجودين والحادثين عليهم، وانتصر الخليل على الخواص والعوام والرؤساء والمرؤوسين حتى إن مَلِكهم حاجَّ إبراهيم في ربه بغيًا وطغيانًا ﴿ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ﴾ فقال إبراهيم: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾، فألزمه الخليل بطرد دليله بالتصرف المطلق، فقال: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]»[2].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 74-81].
«أما قصة بعثته باختصار، فإن الله قد بعثه إلى قوم مشركين يعبدون الشمس والقمر والنجوم، وهم فلاسفة الصابئة الذين هم من أخبث الطوائف، وأعظمها ضررًا على الخلق، فدعاهم بطرق شتى، فأول ذلك دعاهم بطريقة لا يمكن صاحب عقل أن ينفر منها، ولما كانوا يعبدون السبع[1] السيارات التي منها الشمس والقمر، وقد بنوا لها البيوت وسموها الهياكل، قال لهم ناظرًا ومناظرًا، هلم يا قوم ننظر هل يستحق منها شيء من الإلهية والربوبية؟ ﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ﴾، أي إن كان يستحق الإلهية بعد النظر في حالته ووصفه فهو ربي، مع أنه يعلم العلم اليقيني أنه لا يستحق من الربوبية والإلهية مثقال ذرة، ولكن أراد أن يلزمهم بالحجة ﴿ فَلَمَّا أَفَلَ ﴾، أي غاب ﴿ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ﴾، فإن من كان له حال وجود وعدم، أو حال حضور وغيبة، قد علم كل عاقل أنه ليس بكامل، فلا يكون إلهًا، ثم انتقل إلى القمر، فلما رآه بازغًا: ﴿ قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴾ [لأنعام: 77].
يريهم صلوات الله وسلامه عليه، وقد صور نفسه بصورة الموافق لهم، لا على وجه التقليد، بل يقصد إقامة البرهان إلى إلهية النجوم والقمر، فالآن وقد أفلت، وتبين بالبرهان العقلي مع السمعي بطلان إلهيتها، فأنا إلى الآن لم يستقر لي قرار على رب وإله عظيم، ﴿ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً ﴾ فلما رأى الشمس بازغة؛ قال: هذا أكبر من النجوم ومن القمر، فإن جرى عليها ما جرى عليهما كانت مثلهما، فلما أفلت وقد تقرر عند الجميع فيما سبق أن عبادة من يأفل من أبطل الباطل، فحينئذ ألزمهم بهذا الإلزام ووجه عليهم الحجة فقال: ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ ﴾ أي: ظاهري وباطني ﴿ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 78-79].
فهذا برهان عقلي واضح أن الخالق للعالم العلوي والسفلي هو الذي يتعين أن يُقصد بالتوحيد والإخلاص، وأن هذه الأفلاك والكواكب وغيرها مخلوقات مدبرات، ليس لها من الأوصاف ما تستحق العبادة لأجلها؛ فجعلوا يخوفونه آلهتهم أن تمسه بسوء، وهذا دليل على أن المشركين عندهم من الخيالات الفاسدة، والآراء الرديئة، ما يعتقدون أن آلهتهم تنفع من عَبَدَها وتضر من تركها أو قدح فيها، فقال لهم مبينًا أنه ليس عليه شيء من الخوف، وإنما الخوف الحقيقي عليكم، فقال: ﴿ ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 81].
أجاب الله هذا الاستفهام جوابًا يعم هذه القصة وغيرها في كل وقت، فقال:﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ ﴾ أي: بشرك ﴿ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الأنعام: 82].
فرفع الله خليله إبراهيم بالعلم وإقامة الحجة، وعجزوا عن نصر باطلهم؛ ولكنهم صمموا على الإقامة على ما هم عليه، ولم ينفع فيهم الوعظ والتذكير وإقامة الحجج، فلم يزل يدعوهم إلى الله، وينهاهم عما كانوا يعبدون نهيًا عامًّا وخاصًّا، وأخص من دعاه أبوه آزر؛ فإنه دعاه بعدة طرق نافعة، ولكن: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 96-97].
فلم يزل إبراهيم مع قومه في دعوة وجدال، وقد أفحمهم وكسر جميع حججهم وشُبههم، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يقاومهم بأعظم الحجج، وأن يصمد لبطشهم وجبروتهم وقدرتهم وقوتهم، غير هائب ولا وجل، فلما خرجوا ذات يوم لعيد من أعيادهم وخرج معهم، فنظر نظرة في النجوم، فقال: إني سقيم؛ لأنه خشي إن تخلف لغير هذه الوسيلة لم يدرك مطلوبه؛ لأنه تظاهر بعداوتها والنهي الأكيد عنها وجهاد أهلها، فلما برزوا جميعًا إلى الصحراء كرَّ راجعًا إلى بيت أصنامهم، فجعلها جذاذًا كلها إلا صنمًا كبيرًا أبقى عليه ليلزمهم بالحجة، فلما رجعوا من عيدهم بادروا إلى أصنامهم صبابة ومحبة، فرأوا فيها أفظع منظر رآه أهلها، فقالوا: ﴿ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ﴾ أي: يعيبها ويذكرها بأوصاف النقص والسوء ﴿ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴾ [الأنبياء: 59-60].
فلما تحققوا أنه الذي كسرها: ﴿ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 61]. أي: بحضرة الخلق العظيم، ووبخوه أشد التوبيخ ثم نكلوا به، وهذا الذي أراد إبراهيم؛ ليظهر الحق بمرأى الخلق ومسمعهم، فلما جمع الناس وحضروا، وحضَّروا إبراهيم ﴿ قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾ [الأنبياء: 62-63]. مشيرًا إلى الصنم الذي سلم من تكسيره، وهم في هذه بين أمرين: إما أن يعترفوا بالحق، وأن هذا لا يدخل عقل أحد أن جمادًا معروفًا مصنوعًا من مواد معروفة لا يمكن أن يفعل هذا الفعل، وإما أن يقولوا: نعم هو الذي فعلها وأنت سالم ناج من تبعتها.
وقد علم أنهم لا يقولون الاحتمال الأخير، قال: ﴿ فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ ﴾ وهذا تعليق بالأمر الذي يعترفون أنه محال، فحينئذ ظهر الحق وبان، واعترفوا هم بالحق ﴿ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ ﴾ أي: ما كان اعترافهم ببطلان إلهيتها إلا وقتًا قصيرًا ظهرت الحجة مباشرة التي لا يمكن مكابرتها، ولكن ما أسرع ما عادت عليهم عقائدهم الباطلة التي رسخت في قلوبهم، وصارت صفات ملازمة، إن وجد ما ينافيها فإنه عارض يعرض ثم يزول: ﴿ ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ ﴾ [الأنبياء: 64-65].
فحينئذ وبخهم بعد إقامة الحجة التي اعترف بها الخصوم على رؤوس الأشهاد، فقال لهم: ﴿ قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 66-67]، فلو كان لكم عقول صحيحة لم تقيموا على عبادة ما لا ينفع ولا يضر، ولا يدفع عن نفسه من يريده بسوء، فلما أعيتهم المقاومة بالبراهين والحجج عدلوا إلى استعمال قوتهم وبطشهم وجبروتهم في عقوبة إبراهيم فقالوا: ﴿ حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 68]، فأوقدوا نارًا عظيمة جدًّا فألقوه فيها، فقال وهو في تلك الحال: حسبي الله ونعم الوكيل، فقال الله للنار: ﴿ يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69]، فلم تضره بشيء، وأرادوا به كيدًا لينصروا آلهتهم، ويقيموا لها في قلوبهم وقلوب أتباعهم الخضوع والتعظيم، فكان مكرهم وبالًا عليهم، وكان انتصارهم لآلهتهم نصرًا عظيمًا عند الحاضرين والغائبين والموجودين والحادثين عليهم، وانتصر الخليل على الخواص والعوام والرؤساء والمرؤوسين حتى إن مَلِكهم حاجَّ إبراهيم في ربه بغيًا وطغيانًا ﴿ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ﴾ فقال إبراهيم: ﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ﴾، فألزمه الخليل بطرد دليله بالتصرف المطلق، فقال: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258]»[2].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.