عازف الناي
11-26-2022, 01:00 PM
سبع مسائل مهمة في فقه الأذكار
د. أحمد عبد المجيد مكي
بسم الله الرحمن الرحيم
ذِكر الله تعالى من أيسر العبادات، ومن أجلها وأفضلها، وهو للقلب مثل الماء للسَّمك، والمتأمِّل في نصوص الكتاب والسُّنة، يرَى عجبًا في بيان
أهميته وفضله وطلب الاستكثار منه ، وفي السطور التاليه التنبيه على بعض المسائل المهمة في فقه الأذكار والتي لا يُستغنى عنها.
1- المقصود بالذكر :
أشار العلماء الي أن الذِّكر وَرد فى القرآن على عشرين وجهًا، ما يخصنا منها في هذا المقال هو الذكر بمعنى: الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها، وهي سبحان الله، والحمد لله ، ولا إله إلا الله، ... ونحو ذلك([1]). وهذا المعنى هو الذي ينصرف إليه الذهن عند ذكر كلمة الذكر.
والذكر بهذا المعنى نوعان:
مطلَق، وهو: الأذكار العامة التي تُشرع في كل وقت، ومن امثلتها: الاستغفار والتسبيح والتهليل .....
مقيَّد، (ويطلق عليه : الأذكار الموَظفة): ما قُيِّد بمكان، أو وقت، أو حال. كأذكار ما بعد الصلوات، وبعد الأذان، وعند الغضب، وعند السفر، ونحو ذلك.
وقد اتفق العلماء على استحباب الذكر بنوعيه، ولم يوجبه أحد منهم. كما أفردوه بالتأليف في كتبٍ وكتيبات كثيرة ومنتشرة، ومن أنفعها وأجمعها، وأكثرها فائدة -مما وقفت عليه- ، الأذكار للنووي ، الوابل الصيب من الكلم الطيب لابن القيم، ومختصر النصيحة في الأدعية والأذكار الصحيحة للشيخ محمد اسماعيل المقدم، حِصن المسلم من أذكار الكتاب والسُّنة للدكتور: سعيد القحطاني، وهذا الكتيب- على صغر حجمه- نافع جدا، وقد كتب الله له القبول والانتشار.
2- فوائد الذكر :
ذكر الامام ابن القَيِّم للذكر اكثر من سبعين فائدة ، انتقيت منها-باختصار – الفوائد الثلاث التالية :
- يُسهل الصعب، ويُيسر العسير، ويخفف المشاق، فما ذُكر الله عز وجل على صعب إلا هان، ولا على عسير إلا تيسر، ولا مشقة إلا خفت، ولا شدة إلا زالت، ولا كربة إلا انفرجت.
- يُذهب عن القلب مخاوفه كلها، وله تأثير عجيب في حصول الأمن، فليس للخائف - الذي قد اشتد خوفه - أنفع من ذكر الله ، إذ بحسب ذكره يجد الأمن ويزول خوفه، حتى كأن المخاوف التي يجدها أمان له.
- من أنفع الحروز من الشيطان، فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى، فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، ولهذا سمي (الوسواس الخناس) أي يوسوس في الصدور، فإذا ذكر الله تعالى خنس أي (كَفَّ وأنقبض)، وإذا غفل عن ذكر الله تعالى التقم القلب، وألقى إليه الوساوس التي هي مبادئ الشر كله ، وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}.
3- متى يكون الإنسانُ من الذاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات؟
أمرنا الله عز وجل بالإكثار من ذكره ، والآيات في الباب كثيرةٌ ، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } [الأحزاب: 41].
ويمكن القول أنه ليس شيء يعم الأوقات والأحوال مثل الذكر، حتى قال ابن عباس: إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها في حال عذر، غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه، إلا مغلوبا على تركه، فقال: {فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} [النساء:103] ، بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال([2]).
وقال محمد ابن كعب القرظي: لو رُخِّص لأحد في ترك الذكر لرُخِّص لزكريا بقول الله عز وجل" ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا" ، ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عز وجل:" إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا" [الأنفال: 45] ([3]).
والسؤال: ما هو القدر الذي يُرجى به للمسلم أن يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات ؟
قال غير واحد من أهل العلم: أقل ذلك، أن يواظبَ على الأذكار الموظفة، كأذكار الصباح، والمساء، وأدبار الصلوات، وما يقال عند الأكل والشرب واللباس ودخول المنزل والمسجد والخلاء ، إلى غير ذلك.
4- هل يشترط في الذكر حضور القلب؟
أفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلب اللسان، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذاكِرُ معانِيَهُ ومقاصِدَهُ([4]).
والمرادُ من الذكر حضورُ القلب، فينبغي أن يكون هو مقصودُ الذاكر فيحرص على تحصيله، ويتدبر ما يذكر، ويتعقل معناه. فالتدبُر في الذكر مطلوبٌ كما هو مطلوبٌ في قراءة القرآن لاشتراكهما في المعنى المقصود([5]).
تجدر الإشارة إلى أن ذكر الله باللسان يؤجر عليه الناطق، حتى وان لم يستحضر معناه ، وفي ذلك يقول الإمام الشوكاني: لا ريب أن تدبر الذاكر لمعاني ما يذكر به أكمل، لأنه بذلك يكون في حكم المخاطب والمناجي، لكن- وإن كان أجر هذا أتم وأوفى- فإنه لا ينافي ثبوت ما ورد الوعد به من ثواب الأذكار لمن جاء بها ، فإنه أعم من أن يأتي بها متدبرا لمعانيها ، متعقلا لما يراد منها أولا، ولم يرد تقييد ما وعد به من ثوابها بالتدبر والتفهم([6]).
5- هل يترك المسلم الذكر خوفا من الرياء؟
الأفضل أن يخفض الذاكر صوته بحيث يسمع نفسه، ويجوز - في بعض الأحيان- أن يرفع صوته قليلا لمصلحة شرعية، كتذكير غيره ، أو ليطرد عن نفسه النوم أو الكسل ونحو ذلك.
" ولا ينبغي للمسلم أن يَتركَ الذكرَ باللسان خوفاً من أن يُظنَّ به الرياء، بل عليه أن يحرص على الذكر ويَقصدُ به وجه الله تعالى، ولو فتح الإنسانُ علي نفسه بابَ ملاحظة الناس، والاحتراز من تطرّق ظنونهم الباطلة لا نسدَّ عليه أكثرُ أبواب الخير، وضيَّع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمَّات الدين، وليس هذا طريق العارفين([7]).
وقد اعتبره بعض العلماء من مكائد الشيطان، وذلك لأن تطهير العمل من نزغات الشيطان بالكلية متعذر، فلو وقفنا العمل على ذلك، لتعذر الاشتغال بشيء من العبادة، وذلك يوجب البطالة، وهي أقصى غرض الشيطان، ولقد أحسن من قال: سيروا إلى الله عُرجًا ومكاسير، ولا تنتظروا الصحة، فإن انتظار الصحة بطالة ([8]).
ومن أقوال الفُضَيل بن عياض : ترك العمل من أجل الناس رياء.
والمعنى: أن من عزم على عبادة - كالاذكار المأثورة أو صلاة الضحى- ثم تركها مخافة أن يطلع الناس عليه فهو مراء؛ لأنه لو كان عمله لله لم يبالي باطلاع الناس عليه.
6- التَّسبيح بعقد الأصابع أو بالمسبحة أو غيرها.
التسبيح بالمسبحة أو غير ذلك مما يُتَّخذ للعدِّ لا يقصد به التعبد، إنما يقصد به ضبط العدد، أي أنه وسيلةٌ، وليس غاية، فعلى هذا فهو جائز خاصة في الأذكار المئوية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وعد التسبيح بالأصابع سنة… وأما عده بالنوى والحصى ونحو ذلك فحسن، وكان من الصحابة رضي الله عنهم من يفعل ذلك، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين تسبح بالحصى، وأقرها على ذلك. وروي أن أبا هريرة كان يسبح به. وأما التسبيح بما يجعل في نظام الخرز ونحوه، فمن الناس من كرهه، ومنهم من لم يكرهه، وإذا أحسنت فيه النية فهو حسن غير مكروه، وأما اتخاذه من غير حاجة، أو إظهاره للناس مثل: تعليقه في العنق، أو جعله كالسوار في اليد، أو نحو ذلك، فهذا إما رياء للناس، أو مظنة المراءاة ومشابهة المرائين من غير حاجة، والأول محرم، والثاني أقل أحواله الكراهة ([9]).
وقال الإمام السيوطي : لم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عد الذكر بالسبحة، بل كان أكثرهم يعدونه بها، ولا يرون ذلك مكروها([10]).
7- قضاء ما فات من الاذكار :
" ينبغي لمن كان له وظيفةٌ من الذكر في وقت من ليل أو نهار، أو عقب صلاة أو حالة من الأحوال ففاتته أن يتداركها ويأتي بها إذا تمكن منها ولا يهملها، فإنه إذا اعتاد الملازمة عليها لم يعرّضها للتفويت، وإذا تساهل في قضائها سَهُلَ عليه تضييعها في وقتها([11]).
وقد ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ نامَ عن حِزْبِهِ من الليل، أو عن شيءٍ منه، فقرأَه ما بيْنَ صَلاةِ الفجرِ وصَلاة الظُّهرِ، كُتِبَ له كأنما قَرأَهُ من الليْلِ ([12]).
والمراد بالحِزْب او الوِرْد: القدر الذي حدَّده الإنسان لنفسه يوميًّا من ذكر أو قراءة أو صلاة، واقتصر الحديث على ذكر القراءة لكونها أفضل الذكر، فمثلها سائر الإذكار .
ووجه التخصيص بهذا الوقت (ما بين صلاة الفجر والظهر) أنه ملحق بالليل دون ما بعده، أو أنه وقت يغفل فيه الناس عادة.
وهذه الفضيلة إنما تحصل لمن غلبه نوم أو عذر مَنَعه من القيام مع إن نيته القيام، وظاهره أن له أجره كاملا، وذلك لحسن نيته وصدق تلهفه وتأسفه ، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون غير كامل، إذ التي يصليها ليلاً أكمل وأفضل، والظاهر الأول ([13]).
نسأل الله أن يجعلنا من الذاكرين له كثيرًا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهم امين.
-----------------------------------
([1]) فتح الباري لابن حجر (11/ 209).
([2]) تفسير ابن كثير (6/ 433).
([3]) تفسير القرطبي (4/ 82). وللمزيد ينظر: باب فَضلِ الذِّكْرِ والحثِّ عليه، من كتاب: رياض الصالحين.
([4]) الفوائد لابن القيم (ص: 192).
([5]) الأذكار للنووي (ص: 13).
([6]) تحفة الذاكرين (ص: 53). وينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 209).
([7]) الأذكار للنووي (ص: 9).
([8]) الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية (1/ 108).
([9]) مجموع الفتاوى (22/ 506).
([10]) نقله عنه الإمام الشوكاني في نيل الأوطار (2/ 366).
([11]) الأذكار للنووي (ص: 13).
([12]) رواه مسلم (747)، والترمذي (581) ، وأبو داود (1313).
([13]) بتصرف من الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية (1/ 150).
صيد الفوائد
د. أحمد عبد المجيد مكي
بسم الله الرحمن الرحيم
ذِكر الله تعالى من أيسر العبادات، ومن أجلها وأفضلها، وهو للقلب مثل الماء للسَّمك، والمتأمِّل في نصوص الكتاب والسُّنة، يرَى عجبًا في بيان
أهميته وفضله وطلب الاستكثار منه ، وفي السطور التاليه التنبيه على بعض المسائل المهمة في فقه الأذكار والتي لا يُستغنى عنها.
1- المقصود بالذكر :
أشار العلماء الي أن الذِّكر وَرد فى القرآن على عشرين وجهًا، ما يخصنا منها في هذا المقال هو الذكر بمعنى: الإتيان بالألفاظ التي ورد الترغيب في قولها والإكثار منها، وهي سبحان الله، والحمد لله ، ولا إله إلا الله، ... ونحو ذلك([1]). وهذا المعنى هو الذي ينصرف إليه الذهن عند ذكر كلمة الذكر.
والذكر بهذا المعنى نوعان:
مطلَق، وهو: الأذكار العامة التي تُشرع في كل وقت، ومن امثلتها: الاستغفار والتسبيح والتهليل .....
مقيَّد، (ويطلق عليه : الأذكار الموَظفة): ما قُيِّد بمكان، أو وقت، أو حال. كأذكار ما بعد الصلوات، وبعد الأذان، وعند الغضب، وعند السفر، ونحو ذلك.
وقد اتفق العلماء على استحباب الذكر بنوعيه، ولم يوجبه أحد منهم. كما أفردوه بالتأليف في كتبٍ وكتيبات كثيرة ومنتشرة، ومن أنفعها وأجمعها، وأكثرها فائدة -مما وقفت عليه- ، الأذكار للنووي ، الوابل الصيب من الكلم الطيب لابن القيم، ومختصر النصيحة في الأدعية والأذكار الصحيحة للشيخ محمد اسماعيل المقدم، حِصن المسلم من أذكار الكتاب والسُّنة للدكتور: سعيد القحطاني، وهذا الكتيب- على صغر حجمه- نافع جدا، وقد كتب الله له القبول والانتشار.
2- فوائد الذكر :
ذكر الامام ابن القَيِّم للذكر اكثر من سبعين فائدة ، انتقيت منها-باختصار – الفوائد الثلاث التالية :
- يُسهل الصعب، ويُيسر العسير، ويخفف المشاق، فما ذُكر الله عز وجل على صعب إلا هان، ولا على عسير إلا تيسر، ولا مشقة إلا خفت، ولا شدة إلا زالت، ولا كربة إلا انفرجت.
- يُذهب عن القلب مخاوفه كلها، وله تأثير عجيب في حصول الأمن، فليس للخائف - الذي قد اشتد خوفه - أنفع من ذكر الله ، إذ بحسب ذكره يجد الأمن ويزول خوفه، حتى كأن المخاوف التي يجدها أمان له.
- من أنفع الحروز من الشيطان، فلو لم يكن في الذكر إلا هذه الخصلة الواحدة لكان حقيقاً بالعبد أن لا يفتر لسانه من ذكر الله تعالى، فإنه لا يحرز نفسه من عدوه إلا بالذكر، ولا يدخل عليه العدو إلا من باب الغفلة، ولهذا سمي (الوسواس الخناس) أي يوسوس في الصدور، فإذا ذكر الله تعالى خنس أي (كَفَّ وأنقبض)، وإذا غفل عن ذكر الله تعالى التقم القلب، وألقى إليه الوساوس التي هي مبادئ الشر كله ، وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}.
3- متى يكون الإنسانُ من الذاكرين الله كثيرًا والذَّاكرات؟
أمرنا الله عز وجل بالإكثار من ذكره ، والآيات في الباب كثيرةٌ ، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } [الأحزاب: 41].
ويمكن القول أنه ليس شيء يعم الأوقات والأحوال مثل الذكر، حتى قال ابن عباس: إن الله لم يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدا معلوما، ثم عذر أهلها في حال عذر، غير الذكر، فإن الله لم يجعل له حدا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه، إلا مغلوبا على تركه، فقال: {فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم} [النساء:103] ، بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال([2]).
وقال محمد ابن كعب القرظي: لو رُخِّص لأحد في ترك الذكر لرُخِّص لزكريا بقول الله عز وجل" ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا" ، ولرخص للرجل يكون في الحرب بقول الله عز وجل:" إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا" [الأنفال: 45] ([3]).
والسؤال: ما هو القدر الذي يُرجى به للمسلم أن يكون من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات ؟
قال غير واحد من أهل العلم: أقل ذلك، أن يواظبَ على الأذكار الموظفة، كأذكار الصباح، والمساء، وأدبار الصلوات، وما يقال عند الأكل والشرب واللباس ودخول المنزل والمسجد والخلاء ، إلى غير ذلك.
4- هل يشترط في الذكر حضور القلب؟
أفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلب اللسان، وكان من الأذكار النبوية، وشهد الذاكِرُ معانِيَهُ ومقاصِدَهُ([4]).
والمرادُ من الذكر حضورُ القلب، فينبغي أن يكون هو مقصودُ الذاكر فيحرص على تحصيله، ويتدبر ما يذكر، ويتعقل معناه. فالتدبُر في الذكر مطلوبٌ كما هو مطلوبٌ في قراءة القرآن لاشتراكهما في المعنى المقصود([5]).
تجدر الإشارة إلى أن ذكر الله باللسان يؤجر عليه الناطق، حتى وان لم يستحضر معناه ، وفي ذلك يقول الإمام الشوكاني: لا ريب أن تدبر الذاكر لمعاني ما يذكر به أكمل، لأنه بذلك يكون في حكم المخاطب والمناجي، لكن- وإن كان أجر هذا أتم وأوفى- فإنه لا ينافي ثبوت ما ورد الوعد به من ثواب الأذكار لمن جاء بها ، فإنه أعم من أن يأتي بها متدبرا لمعانيها ، متعقلا لما يراد منها أولا، ولم يرد تقييد ما وعد به من ثوابها بالتدبر والتفهم([6]).
5- هل يترك المسلم الذكر خوفا من الرياء؟
الأفضل أن يخفض الذاكر صوته بحيث يسمع نفسه، ويجوز - في بعض الأحيان- أن يرفع صوته قليلا لمصلحة شرعية، كتذكير غيره ، أو ليطرد عن نفسه النوم أو الكسل ونحو ذلك.
" ولا ينبغي للمسلم أن يَتركَ الذكرَ باللسان خوفاً من أن يُظنَّ به الرياء، بل عليه أن يحرص على الذكر ويَقصدُ به وجه الله تعالى، ولو فتح الإنسانُ علي نفسه بابَ ملاحظة الناس، والاحتراز من تطرّق ظنونهم الباطلة لا نسدَّ عليه أكثرُ أبواب الخير، وضيَّع على نفسه شيئاً عظيماً من مهمَّات الدين، وليس هذا طريق العارفين([7]).
وقد اعتبره بعض العلماء من مكائد الشيطان، وذلك لأن تطهير العمل من نزغات الشيطان بالكلية متعذر، فلو وقفنا العمل على ذلك، لتعذر الاشتغال بشيء من العبادة، وذلك يوجب البطالة، وهي أقصى غرض الشيطان، ولقد أحسن من قال: سيروا إلى الله عُرجًا ومكاسير، ولا تنتظروا الصحة، فإن انتظار الصحة بطالة ([8]).
ومن أقوال الفُضَيل بن عياض : ترك العمل من أجل الناس رياء.
والمعنى: أن من عزم على عبادة - كالاذكار المأثورة أو صلاة الضحى- ثم تركها مخافة أن يطلع الناس عليه فهو مراء؛ لأنه لو كان عمله لله لم يبالي باطلاع الناس عليه.
6- التَّسبيح بعقد الأصابع أو بالمسبحة أو غيرها.
التسبيح بالمسبحة أو غير ذلك مما يُتَّخذ للعدِّ لا يقصد به التعبد، إنما يقصد به ضبط العدد، أي أنه وسيلةٌ، وليس غاية، فعلى هذا فهو جائز خاصة في الأذكار المئوية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وعد التسبيح بالأصابع سنة… وأما عده بالنوى والحصى ونحو ذلك فحسن، وكان من الصحابة رضي الله عنهم من يفعل ذلك، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين تسبح بالحصى، وأقرها على ذلك. وروي أن أبا هريرة كان يسبح به. وأما التسبيح بما يجعل في نظام الخرز ونحوه، فمن الناس من كرهه، ومنهم من لم يكرهه، وإذا أحسنت فيه النية فهو حسن غير مكروه، وأما اتخاذه من غير حاجة، أو إظهاره للناس مثل: تعليقه في العنق، أو جعله كالسوار في اليد، أو نحو ذلك، فهذا إما رياء للناس، أو مظنة المراءاة ومشابهة المرائين من غير حاجة، والأول محرم، والثاني أقل أحواله الكراهة ([9]).
وقال الإمام السيوطي : لم ينقل عن أحد من السلف ولا من الخلف المنع من جواز عد الذكر بالسبحة، بل كان أكثرهم يعدونه بها، ولا يرون ذلك مكروها([10]).
7- قضاء ما فات من الاذكار :
" ينبغي لمن كان له وظيفةٌ من الذكر في وقت من ليل أو نهار، أو عقب صلاة أو حالة من الأحوال ففاتته أن يتداركها ويأتي بها إذا تمكن منها ولا يهملها، فإنه إذا اعتاد الملازمة عليها لم يعرّضها للتفويت، وإذا تساهل في قضائها سَهُلَ عليه تضييعها في وقتها([11]).
وقد ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَنْ نامَ عن حِزْبِهِ من الليل، أو عن شيءٍ منه، فقرأَه ما بيْنَ صَلاةِ الفجرِ وصَلاة الظُّهرِ، كُتِبَ له كأنما قَرأَهُ من الليْلِ ([12]).
والمراد بالحِزْب او الوِرْد: القدر الذي حدَّده الإنسان لنفسه يوميًّا من ذكر أو قراءة أو صلاة، واقتصر الحديث على ذكر القراءة لكونها أفضل الذكر، فمثلها سائر الإذكار .
ووجه التخصيص بهذا الوقت (ما بين صلاة الفجر والظهر) أنه ملحق بالليل دون ما بعده، أو أنه وقت يغفل فيه الناس عادة.
وهذه الفضيلة إنما تحصل لمن غلبه نوم أو عذر مَنَعه من القيام مع إن نيته القيام، وظاهره أن له أجره كاملا، وذلك لحسن نيته وصدق تلهفه وتأسفه ، وقال بعضهم: يحتمل أن يكون غير كامل، إذ التي يصليها ليلاً أكمل وأفضل، والظاهر الأول ([13]).
نسأل الله أن يجعلنا من الذاكرين له كثيرًا، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، اللهم امين.
-----------------------------------
([1]) فتح الباري لابن حجر (11/ 209).
([2]) تفسير ابن كثير (6/ 433).
([3]) تفسير القرطبي (4/ 82). وللمزيد ينظر: باب فَضلِ الذِّكْرِ والحثِّ عليه، من كتاب: رياض الصالحين.
([4]) الفوائد لابن القيم (ص: 192).
([5]) الأذكار للنووي (ص: 13).
([6]) تحفة الذاكرين (ص: 53). وينظر: فتح الباري لابن حجر (11/ 209).
([7]) الأذكار للنووي (ص: 9).
([8]) الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية (1/ 108).
([9]) مجموع الفتاوى (22/ 506).
([10]) نقله عنه الإمام الشوكاني في نيل الأوطار (2/ 366).
([11]) الأذكار للنووي (ص: 13).
([12]) رواه مسلم (747)، والترمذي (581) ، وأبو داود (1313).
([13]) بتصرف من الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية (1/ 150).
صيد الفوائد