حكاية ناي ♔
03-09-2023, 07:08 PM
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [البقرة: 124 - 126].
بعد اختتام الآيات في تذكير بني إسرائيل، أتبع عز وجل ذلك بالتذكير بنعمة الله عز وجل على إبراهيم وعلى ذريته، بجعله إماماً للناس، وجعل البيت مثابة للناس وأمنا وموئلاً للأرزاق، ومجبى للثمرات.
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾.
قوله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ﴾ الواو: استئنافية، و"إذ": ظرفية شرطية بمعنى "حين" أي: واذكر يا محمد للمشركين ولأهل الكتاب وللناس جميعاً حين ابتلى إبراهيم، ربه و"إبراهيم": مفعول مقدم، و"ربه": فاعل مؤخر.
وإبراهيم هو نبي الله ورسوله وخليله- عليه الصلاة والسلام- وهو إبراهيم ابن آزر كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ﴾ [الأنعام: 74]، وقال تعالى: ﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125].
وهو الأب الثالث للأنبياء، فالأب الأول: آدم عليه السلام، قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الأعراف: 26]، والثاني: نوح عليه السلام، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾ [الصافات: 77]، والأب الثالث: إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الحج: 78].
ويقال له: "أبو الأنبياء"؛ لأن كل من جاء بعده من الأنبياء هم من ذريته من كان منهم من العرب أو من بني إسرائيل.
وإبراهيم عليه السلام أحد أولي العزم، بل وأفضلهم بعد محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [الأحزاب: 7].
والابتلاء: الامتحان، أي: امتحنه بكلمات.
وفي إضافة اسم الرب إلى ضمير إبراهيم عليه السلام تكريم وتشريف له؛ لأن المراد بالربوبية هنا الربوبية الخاصة بل خاصة الخاصة.
وقوله: ﴿ بِكَلِمَاتِ ﴾ "كلمات" جمع كلمة، وهي كلمات شرعية وكونية.
فالكلمات الشرعية: ما أوحاه الله إليه وشرعه له من توحيد الله واجتناب الشرك وأداء المناسك، والقيام بأوامر الله واجتناب نواهيه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ والآيات بعدها، ومن ذلك الكوكب والقمر والشمس، كما جاء في سورة الأنعام في قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا ﴾ [الأنعام: 75، 76].
والكلمات الكونية ما امتحنه به وقدَّره عليه، من ذلك الهجرة من بلده إلى الشام، وإلقائه في النار، وأمره بالختان، وأمره بذبح ابنه، ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴾ [الصافات: 106]، وهو في ذلك كله صابر محتسب.
قال ابن كثير[1]: "وقوله تعالى: ﴿ بِكَلِمَاتِ ﴾ أي: بشرائع وأوامر ونواه، فإن الكلمات تطلق ويراد بها الكلمات القدرية، كقوله تعالى عن مريم عليها السلام: ﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12].
وتطلق ويراد بها الشرعية، كقوله تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]، أي: كلماته الشرعية، وهي إما خبر صدق وإما طلب عدل، إن كان أمراً أو نهياً، ومن ذلك هذه الآية: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾".
﴿ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ الفاء تدل على الفورية والمبادرة من إبراهيم عليه السلام في إتمامهن.
أي: فأكملهن بالقيام بما أوجب الله عليه فيهن شرعاً، فعلاً لما أمره الله به، واجتناباً لما نهاه عنه، وصبراً واحتساباً على ما قدره الله عليه، كما قال تعالى: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم: 37]، أي: تمم ما أمر به.
﴿ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ أي: قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام مجازاة له على إتمامه الكلمات، و"جعل" هنا بمعنى "صير" تنصب مفعولين الأول هنا الكاف، والثاني "إماماً".
أي: إني مصيرك كوناً وشرعاً للناس كلهم إماماً.
أي: قدوة في التَّوحيد والإخلاص لله تعالى والبراءة من الشرك، والقيام بأمر الله وفي الخير كله؛ ولهذا لم يأت بعده نبي إلا كان مأموراً باتباع ملته الحنيفية.
كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120 - 123].
﴿ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ أي: قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ أي: واجعل من ذريتي أئمة في الدين.
و"من" يحتمل أن تكون لبيان الجنس، أي: اجعل ذريتي كلهم أئمة، كما في قول عباد الرحمن: ﴿ ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ [الفرقان: 74]، أي: اجعلهم كلهم قرة أعين.
ويحتمل أن تكون "من" للتبعيض، أي: اجعل بعض ذريتي أئمة؛ لأن البعض قد لا يكون أهلاً لذلك، كما جرت بذلك سنن الله الكونية، ولهذا قال الله له: ﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾.
وإنما سأل إبراهيم عليه السلام لذريته الإمامة في الدين نصحاً لهم وشفقة عليهم ومحبة للخير لهم؛ لأن الإمامة في الدين أفضل درجة يتنافس فيها المتنافسون، كما قال عباد الرحمن في دعائهم: ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].
والذرية تطلق إطلاقاً عاماً فيدخل فيها أولاد الرجل وأولاد أولاده من ذكور وإناث وإن نزلوا، وتطلق الذرية عند الفقهاء إطلاقاً خاصاً على أولاد الرجل وأولاد بنيه بمحض الذكور دون أولاد البنات، فلو قال رجل: "أوقفت هذا المال على ذريتي" لم يدخل فيهم أولاد البنات.
وإنما دخل عيسى بن مريم- عليه الصلاة والسلام- مع ذرية إبراهيم في قوله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ﴾ الآية، مع أنه ابن بنت؛ لأنه لا أب له، قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنعام: 83 - 85].
﴿ قَالَ ﴾، أي: قال الله عز وجل: ﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، قرأ حمزة وحفص ﴿ عَهْدِي ﴾ بإسكان الياء، وقرأ الباقون بفتحها ﴿ عَهْدِي ﴾، و"لا": نافية، و"ينال": فعل مضارع مرفوع بالضمة، أي: لا يصيب.
﴿ عَهْدِي ﴾: فاعل، أي: تعهدي إليك بهذا، والعهد: الوعد المؤكد، وسمى عز وجل وعده عهداً؛ لأنه لا يخلف وعده.
و﴿ الظَّالِمِينَ ﴾: مفعول به، أي: الظالمين بالشرك والكفر، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].
أي: لا تصيب ولا يشمل تعهدي لك بالإمامة الظالمين من ذريتك بالشرك والكفر، فلا يكون أحد منهم إماماً، ومفهوم هذا أن غير الظالم سينال الإمامة، لكن مع إتيانه بأسبابها.
والمعنى: سأجعل من ذريتك أئمة، لكن لا يصيب ولا يشمل عهدي الظالمين منهم بالكفر والشرك، فلا يكون منهم إماماً يقتدى به.
فينال عهده عز وجل الرسل وأتباعهم المؤمنين، ولا ينال الظالمين من أهل الكتاب والمشركين وغيرهم، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 161]، وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 67، 68].
قال ابن كثير[2]: "لما جعل الله إبراهيم إماماً سأل الله أن تكون الأئمة من بعده من ذريته فأجيب إلى ذلك، وأخبر أنه سيكون من أمته ظالمون، وأنه لا ينالهم عهد الله، ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم، والدليل على أنه أجيب إلى طلبه قول الله تعالى في سورة العنكبوت: ﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [العنكبوت: 27]، فكل نبي أرسله الله، وكل كتاب أنزل الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه".
بعد اختتام الآيات في تذكير بني إسرائيل، أتبع عز وجل ذلك بالتذكير بنعمة الله عز وجل على إبراهيم وعلى ذريته، بجعله إماماً للناس، وجعل البيت مثابة للناس وأمنا وموئلاً للأرزاق، ومجبى للثمرات.
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾.
قوله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ ﴾ الواو: استئنافية، و"إذ": ظرفية شرطية بمعنى "حين" أي: واذكر يا محمد للمشركين ولأهل الكتاب وللناس جميعاً حين ابتلى إبراهيم، ربه و"إبراهيم": مفعول مقدم، و"ربه": فاعل مؤخر.
وإبراهيم هو نبي الله ورسوله وخليله- عليه الصلاة والسلام- وهو إبراهيم ابن آزر كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ ﴾ [الأنعام: 74]، وقال تعالى: ﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125].
وهو الأب الثالث للأنبياء، فالأب الأول: آدم عليه السلام، قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الأعراف: 26]، والثاني: نوح عليه السلام، قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾ [الصافات: 77]، والأب الثالث: إبراهيم عليه السلام، قال تعالى: ﴿ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الحج: 78].
ويقال له: "أبو الأنبياء"؛ لأن كل من جاء بعده من الأنبياء هم من ذريته من كان منهم من العرب أو من بني إسرائيل.
وإبراهيم عليه السلام أحد أولي العزم، بل وأفضلهم بعد محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [الأحزاب: 7].
والابتلاء: الامتحان، أي: امتحنه بكلمات.
وفي إضافة اسم الرب إلى ضمير إبراهيم عليه السلام تكريم وتشريف له؛ لأن المراد بالربوبية هنا الربوبية الخاصة بل خاصة الخاصة.
وقوله: ﴿ بِكَلِمَاتِ ﴾ "كلمات" جمع كلمة، وهي كلمات شرعية وكونية.
فالكلمات الشرعية: ما أوحاه الله إليه وشرعه له من توحيد الله واجتناب الشرك وأداء المناسك، والقيام بأوامر الله واجتناب نواهيه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ والآيات بعدها، ومن ذلك الكوكب والقمر والشمس، كما جاء في سورة الأنعام في قوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا ﴾ [الأنعام: 75، 76].
والكلمات الكونية ما امتحنه به وقدَّره عليه، من ذلك الهجرة من بلده إلى الشام، وإلقائه في النار، وأمره بالختان، وأمره بذبح ابنه، ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ ﴾ [الصافات: 106]، وهو في ذلك كله صابر محتسب.
قال ابن كثير[1]: "وقوله تعالى: ﴿ بِكَلِمَاتِ ﴾ أي: بشرائع وأوامر ونواه، فإن الكلمات تطلق ويراد بها الكلمات القدرية، كقوله تعالى عن مريم عليها السلام: ﴿ وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ﴾ [التحريم: 12].
وتطلق ويراد بها الشرعية، كقوله تعالى: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا ﴾ [الأنعام: 115]، أي: كلماته الشرعية، وهي إما خبر صدق وإما طلب عدل، إن كان أمراً أو نهياً، ومن ذلك هذه الآية: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾".
﴿ فَأَتَمَّهُنَّ ﴾ الفاء تدل على الفورية والمبادرة من إبراهيم عليه السلام في إتمامهن.
أي: فأكملهن بالقيام بما أوجب الله عليه فيهن شرعاً، فعلاً لما أمره الله به، واجتناباً لما نهاه عنه، وصبراً واحتساباً على ما قدره الله عليه، كما قال تعالى: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾ [النجم: 37]، أي: تمم ما أمر به.
﴿ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ أي: قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام مجازاة له على إتمامه الكلمات، و"جعل" هنا بمعنى "صير" تنصب مفعولين الأول هنا الكاف، والثاني "إماماً".
أي: إني مصيرك كوناً وشرعاً للناس كلهم إماماً.
أي: قدوة في التَّوحيد والإخلاص لله تعالى والبراءة من الشرك، والقيام بأمر الله وفي الخير كله؛ ولهذا لم يأت بعده نبي إلا كان مأموراً باتباع ملته الحنيفية.
كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [النحل: 120 - 123].
﴿ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ أي: قال إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ﴾ أي: واجعل من ذريتي أئمة في الدين.
و"من" يحتمل أن تكون لبيان الجنس، أي: اجعل ذريتي كلهم أئمة، كما في قول عباد الرحمن: ﴿ ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ﴾ [الفرقان: 74]، أي: اجعلهم كلهم قرة أعين.
ويحتمل أن تكون "من" للتبعيض، أي: اجعل بعض ذريتي أئمة؛ لأن البعض قد لا يكون أهلاً لذلك، كما جرت بذلك سنن الله الكونية، ولهذا قال الله له: ﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾.
وإنما سأل إبراهيم عليه السلام لذريته الإمامة في الدين نصحاً لهم وشفقة عليهم ومحبة للخير لهم؛ لأن الإمامة في الدين أفضل درجة يتنافس فيها المتنافسون، كما قال عباد الرحمن في دعائهم: ﴿ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].
والذرية تطلق إطلاقاً عاماً فيدخل فيها أولاد الرجل وأولاد أولاده من ذكور وإناث وإن نزلوا، وتطلق الذرية عند الفقهاء إطلاقاً خاصاً على أولاد الرجل وأولاد بنيه بمحض الذكور دون أولاد البنات، فلو قال رجل: "أوقفت هذا المال على ذريتي" لم يدخل فيهم أولاد البنات.
وإنما دخل عيسى بن مريم- عليه الصلاة والسلام- مع ذرية إبراهيم في قوله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ﴾ الآية، مع أنه ابن بنت؛ لأنه لا أب له، قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنعام: 83 - 85].
﴿ قَالَ ﴾، أي: قال الله عز وجل: ﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾، قرأ حمزة وحفص ﴿ عَهْدِي ﴾ بإسكان الياء، وقرأ الباقون بفتحها ﴿ عَهْدِي ﴾، و"لا": نافية، و"ينال": فعل مضارع مرفوع بالضمة، أي: لا يصيب.
﴿ عَهْدِي ﴾: فاعل، أي: تعهدي إليك بهذا، والعهد: الوعد المؤكد، وسمى عز وجل وعده عهداً؛ لأنه لا يخلف وعده.
و﴿ الظَّالِمِينَ ﴾: مفعول به، أي: الظالمين بالشرك والكفر، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].
أي: لا تصيب ولا يشمل تعهدي لك بالإمامة الظالمين من ذريتك بالشرك والكفر، فلا يكون أحد منهم إماماً، ومفهوم هذا أن غير الظالم سينال الإمامة، لكن مع إتيانه بأسبابها.
والمعنى: سأجعل من ذريتك أئمة، لكن لا يصيب ولا يشمل عهدي الظالمين منهم بالكفر والشرك، فلا يكون منهم إماماً يقتدى به.
فينال عهده عز وجل الرسل وأتباعهم المؤمنين، ولا ينال الظالمين من أهل الكتاب والمشركين وغيرهم، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 161]، وقال تعالى: ﴿ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 67، 68].
قال ابن كثير[2]: "لما جعل الله إبراهيم إماماً سأل الله أن تكون الأئمة من بعده من ذريته فأجيب إلى ذلك، وأخبر أنه سيكون من أمته ظالمون، وأنه لا ينالهم عهد الله، ولا يكونون أئمة فلا يقتدى بهم، والدليل على أنه أجيب إلى طلبه قول الله تعالى في سورة العنكبوت: ﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ﴾ [العنكبوت: 27]، فكل نبي أرسله الله، وكل كتاب أنزل الله بعد إبراهيم ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه".