عازف الناي
03-12-2023, 10:50 PM
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فالقلب مضغة صغيرة؛ لكنها مؤثرة في جميع حواسِّ الإنسان وجوارحه، فإن كان القلب سليمًا فلن يتكلم اللسان إلا بخير، ولن تسمع الأُذُن إلا ما ينفع، ولن تشاهد العين ما يُغضِب الله عز وجل، ولن تمشيَ القدمانِ إلى أماكن تُنتهَك فيها محارمُ الله، ولن تبطش اليدانِ إلَّا في سبيل الله.
ولطبيب القلوب العلامة ابن القيم رحمه الله دُرَرٌ نفيسة عن القلب، بثَّها في العديد من مصنفاته، وقد يَسَّر الله الكريم فجمعتُ بعضًا منها، أسأل الله أن ينفع بها الجميع.
القلب الطاهر:
قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 1 - 4]، وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب ها هنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأخلاق والأعمال.
القلب الطاهر-لكمال حياته ونوره وتخلُّصه من الأدران والخبائث- لا يشبع من القرآن، ولا يتغذَّى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذي لم يُطهِّرْه الله، فإنه يتغذَّى من الأغذية التي تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة.
حرم الله سبحانه الجنة على مَنْ في قلبه نجاسة وخبث، ولا يدخلها إلا بعد طيبه وطهره، فإنها دار الطيبين؛ ولهذا يُقال لهم: ﴿ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [الزمر: 73]؛ أي: ادخلوها بسبب طيبكم...فالجنة لا يدخلها خبيث، ولا مَن فيه شيء من الخبث.
الله سبحانه بحكمته جعل الدخول عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يدخل المصلِّي عليه حتى يتطهَّر، وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفًا على الطيب والطهارة، فلا يدخلها إلا طيب طاهر، فهما طهارتان: طهارة البدن، وطهارة القلب.
برُّ القلب وفجوره:
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13] إشارة هذه الآية أن برَّ القلب يُوجب نعيم الدنيا، ﴿ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 14] إشارة هذه الآية أن فجوره يوجب جحيمها؛ [كتاب: الكلام على مسألة السماع].
استقامة القلب:
استقامة القلب بشيئين:
أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدَّم عنده على جميع المحابِّ، فإذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره، سبق حُبُّ الله تعالى حُبَّ ما سواه...وما أسهلَ هذا بالدعوى! وما أصعبَه بالفعل! وما أكثر ما يُقدم العبد ما يحبه هو ويهواه أو يحبُّه كبيره أو شيخه أو أهله على ما يحبُّه الله تعالى! فهذا لم تتقدَّم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحابِّ، وسنة الله تعالى فيمن هذا شأنه أن يُنكد عليه محابه ويُنغصها عليه، فلا ينال شيئًا منها إلا بنكد وتنغيص، جزاءً له على إيثاره هواه وهوى مَن يُعظِّمه من الخلق أو يحبه على محبة الله تعالى...قد قضى الله عز وجل قضاءً لا يُردُّ ولا يُدفَع، أنَّ مَن أحبَّ شيئًا سواه عذَّبَه به ولا بُدَّ، وأن مَن خاف غيره سلَّطه عليه، وأن مَن اشتغل بشيء غيره كان شؤمًا عليه، ومَن آثر غيره لم يُبارِك له فيه، ومَن أرضى غيرَه بسخطه أسخطه عليه ولا بُدَّ.
الأمر الثاني الذي يستقيم به القلب: تعظيم الأمر والنهي وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي...فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق، وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعيُنِهم، وخشية العقوبات الدنيوية...فهذا ليس فعله وتركه صادرًا عن تعظيم الأمر والنهي، ولا عن تعظيم الآمر الناهي؛ [كتاب: الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب].
القلوب ثلاثة:
قلب خالٍ من الإيمان وجميع الخير، فذلك قلب مُظلم، قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ لأنه قد اتخذه بيتًا ووطنًا، وتحكَّم فيه بما يريد، وتمكَّن منه غاية التمكُّن.
القلب الثاني: قلب قد استنار بنور الإيمان وأوقد فيه مصباحه؛ لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الأهوية، فللشيطان هناك إقبال وإدبار، ومحاولات ومطامع، فالحرب دُول وسِجال، وتختلف أحوال هذا الصِّنْف بالقلة والكثرة، فمنهم من أوقات غلبته لعدوِّه أكثر، ومنهم من أوقات غلبة عدوِّه له أكثر، ومنهم مَن هو تارة وتارة.
القلب الثالث: قلب محشوٌّ بالإيمان، قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حُجُب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، فلنوره في قلبه إشراق، ولذلك الإشراق إيقاد، لو دنا منه الوسواس احترق به، فهو كالسماء التي حُرسِت بالنجوم، فلو دنا منها الشيطان ليتخطَّاها رُجِم فاحترق، وقد مُثِّل ذلك بمثال حسن وهو ثلاثة بيوت: بيت للملك فيه كنوزه وذخائره وجواهره، وبيت للعبد فيه كنوز العبد وذخائره وجواهره، وليس فيه جواهر الملك وذخائره، وبيت خالٍ صفر لا شيء فيه، فجاء اللص ليسرق من أحد البيوت، فمن أيها يسرق؟ فإن قلت: من البيت الخالي، كان محالًا؛ لأن البيت الخالي ليس فيه شيء يُسرَق، وإن قلت: يسرق من بيت الملك، كان ذلك كالمستحيل الممتنع، فإن عليه من الحرس...ما لا يستطيع اللص الدنو منه، كيف وحارسه الملك نفسه؟! فلم يبق للصِّ إلا البيت الثالث، فهو الذي يشُنُّ عليه الغارة.
فليتأمل اللبيب هذا المثال حق التأمُّل، ولينزله على القلوب، فإنها على منواله؛ [كتاب: الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب].
وقال رحمه الله: انقسام القلوب إلى صحيح وسقيمٍ وميت: القلب الصحيح هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلَّا مَن أتى الله به...وهو الذي قد سلم من كل شهوة تُخالِف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله.
القلب الصحيح: هو الذي هَمُّه كله في الله، حبه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابِّه.
القلب الثاني: الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربَّه، ولا يعبده بأمره، وما يحبُّه ويرضاه؛ بل هو واقف مع شهواته ولذَّاته، ولو كان فيها سخط ربِّه وغضبه.... الهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائسه، والغفلة مركبه...الدنيا تسخطه وترضيه.
القلب الثالث: له حياة وبه علة، فله مادتان تمده، هذه مرة، وهذه أخرى، وهو لِما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له والتوكُّل عليه ما هو مادة حياته، وفيه من محبَّة الشهوات والحسد والكِبْر والعُجْب...ما هو مادة هلاكه؛ [كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان].
الطرق التي يُصاب منها القلب:
جماع الطرق والأبواب التي يصاب منها القلب وجنوده أربعة، فمن ضبطها وعدلها، وأصلح مجاريها، وصرفها في محالها اللائقة بها - ضبطت وحفظت جوارحه ولم يشمت به عدوُّه؛ وهي: الحرص والشهوة والغضب والحسد.
فهذه الأربعة هي أصول مجامع طرق الشر والخير، وكما هي طرق إلى العذاب السرمدي، فهي طريق إلى النعيم الأبدي؛ [كتاب: التبيان في أيمان القرآن].
صدأُ القلب، وجلاؤه:
وصدأُ القلب بأمرين: بالغفلة، والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر، فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكبًا على قلبه، وصدؤه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل؛ لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم، فلم تظهر فيه صور الحقائق كما هي عليه.
فإذا تراكم عليه الصدأ واسودَّ، وركبه الرانُ، فسد تصوُّره وإدراكه، فلا يقبل حقًّا، ولا ينكر باطلًا، وهذا أعظم عقوبات القلب، وأصل ذلك من الغفلة، واتِّباع الهوى، فإنهما يطمسان نور القلب، ويُعميان بصَرَه، قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]؛ [كتاب: الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب].
فرح القلب وابتهاجه:
ابتهاج القلب وسروره وفرحه بالله وأسمائه وصفاته وكلامه ورسوله ولقائه أفضلُ ما يعطاه؛ بل هو أجل عطاياه، والفرح في الآخرة بالله ولقائه بحسب الفرح به ومحبَّته في الدنيا، فالفرح بالوصول إلى المحبوب يكون على حسب قوة المحبَّة وضعفها، فهذا شأن فرح القلب.
وله فرح آخر، وهو فرحه بما مَنَّ الله به عليه من معاملته والإخلاص له والتوكُّل عليه والثقة به وخوفه ورجائه، وكلما تمكَّن في ذلك قوي فرحُه وابتهاجه؛ [كتاب: الروح].
القلب المطمئن:
قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، فإن طمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج والاضطراب عنه، وهذا لا يتأتَّى بشيء سوى ذكر الله البتة، وأما ما عداه فالطمأنينة إليه وبه غرور، والثقة به عجز.
قضى الله سبحانه وتعالى قضاءً لا مردَّ له: أن من اطمأنَّ إلى شيء سواه أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته، كائنًا مَن كان؛ بل لو اطمأنَّ العبد إلى علمه وحاله وعمله سُلِبه وزايَلَه.
وقد جعل الله سبحانه نفوس المطمئنين إلى سواه أغراضًا لسهام البلاء، ليُعلِم عباده وأولياءه أن المتعلق بغيره مقطوع، والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع.
وها هنا سِرٌّ لطيفٌ يجب التنبيه عليه والتنبيه له، والتوفيق له بيد من أزِمَّة التوفيق بيديه، وهو أن الله سبحانه جعل لكل عضو من أعضاء الإنسان كمالًا إن لم يحصل له وإلا فهو في قلق واضطراب وانزعاج بسبب فقد كماله الذي جُعل له مثاله...جَعَلَ كمال القلب ونعيمه وسروره ولذته وابتهاجه في معرفته سبحانه وإرادته، ومحبته، والإنابة إليه، والإقبال عليه، والشوق إليه، والأنس به، فإذا عدم القلبُ ذلك كان أشد عذابًا واضطرابًا من العين التي فقدت النور الباصر، ومن اللسان الذي فقد قوة الكلام والذوق، ولا سبيل له إلى الطمأنينة بوجه من الوجوه، ولو نال من الدنيا وأسبابها ومن العلوم ما نال، إلا بأن يكون الله وحده هو محبوبه وإلهه ومعبوده وغاية مطلوبه، ويكون هو وحده مستعانه على تحصيل ذلك؛ [كتاب: الروح].
القلب السليم:
قال تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89] فهذا هو السليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة، من مرض الشبهة التي تُوجِب اتِّباع الظن، ومرض الشهوة التي توجب اتباع ما تهوى الأنفس، فالقلب السليم: الذي سَلِم من هذا وهذا؛ [كتاب: الروح].
وقال رحمه الله: القلب السليم الذي لا ينجو من عذاب الله إلا مَن أتى الله به هو القلب الذي...قد سلَّم لربِّه، وسلَّم لأمره، ولم تبق فيه منازعة لأمره، ولا معارضة لخبره، فهو...لا يريد إلا الله، ولا يفعل إلا ما أمره الله، فالله وحده غايته وأمره وشرعهُ ووسيلته وطريقته، لا تعترضه شبه تحول بينه وبين تصديق خبره؛ لكن لا تمر عليه إلا وهي مُجتازة، تعلم أنه لا قرار لها فيه، ولا شهوة تحول بينه وبين متابعة رضاه، ومتى كان القلب كذلك فهو سليم من الشرك، وسليم من البدع، وسليم من الغي، وسليم من الباطل، وكلُّ الأقوال التي قيلت في تفسيره فذلك ينتظمها؛ [كتاب: مفتاح دار السعادة].
وقال: قد أثنى الله تعالى على خليله بسلامة قلبه فقال: ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 83، 84]، والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغِلِّ والحقد والحسد والشُّحِّ والكِبْر وحب الدنيا، فهذا القلب السليم في جنة معجَّلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي الجنة يوم المعاد، ولا تتم له سلامتُه مطلقًا حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تُخالِف السُّنَّة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص، وهذه الخمسة حُجُب عن الله وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة تتضمَّن أفرادًا لا تنحصر؛ [كتاب الداء والدواء].
القلب الرقيق:
رقَّة القلب...ناشئة من صفة الرحمة التي هي كمال، والله إنما يرحم من عباده الرحماء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرقَّ الناس قلبًا،... فرقَّةُ القلب رحمة ورأفة.
والقلب...إذا أشرق فيه نور الإيمان واليقين بالوعد، وامتلأ مِن محبَّة الله وإجلاله رقَّ وصارت فيه الرأفةُ والرحمةُ، فتراه رقيقًا رحيمًا، رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، يرحم النملة في جُحْرها، والطير في وكْرِها، فضلًا عن بني جنسه، فهذا أقرب القلوب من الله تعالى، قال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالعيال.
والله سبحانه إذا أراد أن يرحم عبدًا أسكن في قلبه الرأفة والرحمة، وإذا أراد أن يُعذِّبه نزع من قلبه الرحمة والرأفة، وأبدله بهما الغلظة والقسوة؛ [كتاب: الروح].
أبغض القلوب إلى الله:
أبغض القلوب إلى الله: القلب القاسي، قال تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 22]، وقال: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ [البقرة: 74]؛ [كتاب: الروح].
عبودية القلب:
مَن تأمَّل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال القلب بأعمال الجوارح، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يُميَّزُ المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب واحد منهما من الأعمال التي ميَّزت بينهما، وهل يُمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه، وعبودية القلب أعظمُ من عبودية الجوارح وأكبر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت؛ [كتاب: بدائع الفوائد].
خشوع القلب:
الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق:
إن خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء، وشهود نعم الله، وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة، فيتبعه خشوعُ الجوارح.
وأمَّا خشوع النفاق، فيبدو على الجوارح تصنُّعًا وتكلُّفًا، والقلب غير خاشع، وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق، قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن يُرى الجسد خاشعًا، والقلب غير خاشع؛ [كتاب: الروح].
القلب القاسي:
الجبال أخبر عنها فاطِرُها وبارِيها أنه لو أنزل عليها كلامه لخشعت ولتصدَّعَتْ من خشيته، فيا عجبًا من مضغةِ لَحْمٍ أقسى من هذه الجبال! تسمع آيات الله تُتْلى عليها، ويُذكرُ الرب تبارك وتعالى، فلا تلينُ ولا تخشع، ولا تُنيب، فليس بمُستنكر لله عز وجل ولا يخالف حكمته أن يخلق لها نارًا تُذيبها إذا لم تلِن لكلامه وذكر زواجره ومواعظه.
فمن لم يلِن لله في هذه الدنيا قلبه، ولم ينب إليه، ولم يُذبه بحبِّه والبكاء من خشيته، فليتمتع قليلًا، فإن أمامه المُلين الأعظم، وسيُرَدُّ إلى عالم الغيب والشهادة فيرى ويعلم؛ [كتاب: مفتاح دار السعادة].
وقال رحمه الله: ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله.
• خلقت النار لإذابة القلوب القاسية.
• إذا قسا القلب قحطت العين.
• قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة؛ [كتاب: الفوائد].
أمراض القلب:
القلب يعترضهُ مرضان يتواردان عليه، إذا استحكما فيه كان هلاكه وموته، وهما: مرض الشهوات، ومرض الشبهات، وهذان أصلُ داء الخلق إلَّا مَن عافاه الله.
وقد ذكر الله تعالى هذين المرضين في كتابه: أما مرض الشبهات، وهو أصعبهما وأقتلهما للقلب، ففي قوله تعالى في حقِّ المنافقين: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [البقرة: 10]، وأمَّا مرض الشهوة، ففي قوله: ﴿ يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ [الأحزاب: 32]؛ أي: لا تَلِنَّ بالكلام فيطمعَ الذي في قلبه فجورٌ وزِنا.
وللقلب أمراض أُخَر مِن: الرياء، الكِبْر، والعُجْب، والحسد، والفخر، والخُيلاء، وحبِّ الرياسة والعلوِّ في الأرض، هذه الأمراض كلُّها متولدة عن الجهل، ودواؤها العلم.
فأمراض القلوب أصعبُ من أمراض الأبدان؛ لأن غاية مرض البدن أن يُفضي بصاحبه إلى الموت، وأمَّا مرضُ القلب فيُفضي بصاحبه إلى الشقاء الأبدي، ولا شفاء لهذا المرض إلا بالعلم؛ ولهذا سمى الله تعالى كتابه شفاءً لأمراض الصدور، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57]، فحاجة القلب إلى العلم ليست كالحاجة إلى التنفُّس في الهواء بل أعظم.
وبالجملة، فالعلم للقلب مثل الماء للسَّمك إذا فقده مات؛ [كتاب: مفتاح دار السعادة].
وقال رحمه الله: القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ؛ [كتاب: الروح].
وقال رحمه الله: قد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه؛ لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها؛ بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تُؤلِمه جراحات القبائح، ولا يُوجِعه جهله بالحق وعقائده الباطلة.
القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء من الشُّبْهة أو الشهوة، حيث لا يقدر على دفعهما إذا وردا عليه، والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف ذلك، وهو يدفعه بقوَّته وصحَّتِه.
مرض القلب...نوع لا يتألم به صاحبه في الحال...كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشكوك، ومرض الشهوات، وهذا النوع هو أعظم النوعين ألمًا؛ ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم...وهذا أخطر المرضين وأصعبهما، وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض.
كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن، ويشقى بما يشقى به البدن، فكذلك البدن يتألم كثيرًا بما يتألم به القلب، ويُشقيه ما يُشقيه؛ [إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان].
العين مرآة للقلب:
جعل سبحانه العينين... مرآتين للقلب، يظهر فيهما ما هو مُودَع فيه من الحب والبغض، والخير والشر، والبلادة والفطنة، والزيغ والاستقامة.
فيُستدل بأحوال العين على أحوال القلب، وهو أحد أنواع الفراسة الثلاثة، وهي: فراسة العين والأذن والقلب، فهما- أي: العينان - مرآة لما في القلب...ولذلك يستدل بأحوال العين على أحوال القلب من رضاه وغضبه، وحبه وبغضه، ونفرته وقُربِه؛ [كتاب: التبيان في أيمان القرآن].
غِنى القلب:
غِنى القلب: "سلامته من السبب"؛ أي: من الفقر إلى السبب، وشهوده، والاعتماد عليه، والركون إليه، والثقة به، فمن كان معتمدًا على سبب، غنيًّا به، واثقًا به، لم يطلق عليه اسم "الغني"؛ لأنه فقير إلى الوسائط؛ بل لا يُسمَّى صاحبه غنيًّا إلا إذا سلم من علة السبب استغناءً بالمسبب، بعد الوقوف على رحمته وتصرُّفه وحسن تدبيره؛ فلذلك يصير صاحبه غنيًّا بتدبير الله عز وجل.
فمن كمُلت له السلامة مِن عِلَّة الأسباب، ومِن عِلَّة المنازعة للحكم، بالاستسلام له، والمسالمة أي بالانقياد لحكمه...حصل الغِنى للقلب بوقوفه على حسن تدبيره ورحمته وحكمته....ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر، وهو مخاصمة الخَلْق بعد الخلاص من منازعة الربِّ، فإن مخاصمة الخَلْق دليلٌ على فقره إلى الأمر الذي وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة، ومَن كان فقيرًا إلى حظٍّ من الحظوظ يسخط لفوته، ويخاصم الخلق عليه، لا يُطلَق عليه اسم الغني حتى يسلم الخلق من خصومته لكمال تفويضه إلى وليِّه وقيُّومِه ومتولِّي تدبيره.
فمتى سلم العبد مِن عِلَّة فقره إلى السبب، ومِن عِلَّة منازعته لأحكام الله عز وجل، ومِن عِلَّة مخاصمته للخَلْق على حظوظ استحق أن يكون غنيًّا بتدبير مولاه، مفوضًا إليه، لا يفتقر قلبه إلى غيره، ولا يسخط شيئًا من أحكامه، ولا يُخاصِم عبادَه إلَّا في حقوق ربِّه، فتكون مخاصمته لله وبالله، ومحاكمته إلى الله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح صلاة الليل: ((اللهُمَّ لك أسلَمْتُ وبِكَ آمنْتُ، وعليكَ توكَّلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ))؛ [كتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين].
القلب الميت المظلم:
القلب الميت المظلم الذي لم يعقل عن الله ولا انقاد لما بُعث به رسولُه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يصف سبحانه هذا الضرب من الناس بأنهم أموات غير أحياء، وبأنهم في الظلمات لا يخرجون منها؛ ولهذا كانت الظلمة مستولية عليهم من جميع جهاتهم، فقلوبهم مظلمة ترى الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وأعمالهم مظلمة، وأقوالهم مظلمة، وأحوالهم كلها مظلمة، وقبورهم ممتلئة عليهم ظلمة؛ [كتاب: اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية].
القلب الحي المستنير:
القلب الحي المستنير هو الذي عقل عن الله، وفهِم عنه، وأذعن وانقاد لتوحيده ومتابعة ما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ [كتاب: اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية].
القلب خُلِق لمعرفة فاطِره ومحبَّتِه وتوحيده والسرور به:
القلب خُلِقَ لمعرفة فاطره ومحبَّته وتوحيده والسرور به والابتهاج بحبه، والرِّضا عنه، والتوكُّل عليه، والحب فيه، والبغض فيه، والموالاة فيه، ودوام ذكره، وأن يكون أحبَّ إليه من كل ما سواه، وأرجى عنده من كل ما سواه، وأجلَّ في قلبه من كل ما سواه؛ [كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد].
القلب الزجاجي:
وأصحُّ القلوب: القلب الرقيق الصافي الصلب، فهو يرى الحقَّ من الباطل بصفائه، ويقبله ويؤثره برقته، ويحفظه ويحارب عدوَّه بصلابته، وهذا القلب الزجاجي، فإن الزجاجة جمعت بين الأوصاف الثلاثة؛ [كتاب: الروح].
من أنفع الأمور للقلب:
قصر الأمل: العلم بقرب الرحيل، وسرعة انقضاء مدَّة الحياة، وهو من أنفع الأمور للقلب، فإنه يبعثه على...انتهاء الفرص...ويثير ساكن عزماته إلى دار البقاء، ويحثُّه على قضاء جهاز سفره وتدارُك الفارط، ويزهده في الدنيا، ويُرغِّبه في الآخرة؛ [كتاب: مدارج السالكين في منازل السائرين].
حال القلب مع الملك والشيطان:
إذا تأمَّلْتَ حال القلب مع الملك والشيطان رأيت أعجب العجائب؛ فهذا يلمُّ به مرةً، وهذا يلمُّ به مرةً، فإذا ألمَّ به الملَكُ حدث من لمته الانفساح والانشراح، والنور والرحمة، والإخلاص والإنابة، ومحبة الله وإيثاره على ما سواه، وقصر الأمل، والتجافي عن دار البلاء والامتحان والغرور، فلو دامت له تلك الحالة، لكان في أهنأ عيش وألذه وأطيبه؛ ولكن تأتيه لَمَّة الشيطان، فتُحدِث له من الضيق والظلمة، والهَمِّ والغَمِّ والخوف، والسخط على المقدور، والشك في الحق، والحرص على الدنيا وعاجلها، والغفلة عن الله ما هو من أعظم عذاب القلب.
ثم للناس في هذه المحنة مراتب لا يُحصيها إلَّا الله عز وجل: فمنهم من تكون لمَّة الملك أغلب عليه من لمَّة الشيطان وأقوى، فإذا ألم به الشيطان وجد من الألم والضيق والحصر وسوء الحال بحسب ما عنده من حياة القلب، فيُبادر إلى مَحْوِ تلك اللَّمَّة، ولا يدعها تستحكم؛ فيصعب تداركها، ومنهم مَن تكون لَمَّة الشيطان أغلب عليه من لَمَّة الملك وأقوى...فيموت القلب فلا يحس بما ناله الشيطان، مع أنه غاية العذاب والألم والضيق والحصر؛ ولكن سُكْر الشهوة والغفلة حَجَبَ عنه الإحساسَ بذلك المؤلم؛ [كتاب: التبيان في أيمان القرآن].
القلب ومعرفته بأسماء الله عز وجل وصفاته:
ليست حاجة الأرواح قطُّ إلى شيءٍ أعظم منها إلى معرفة بارئها وفاطرها، ومحبَّته وذكره، والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه والزُّلفى عنده، ولا سبيل إلى هذا إلَّا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلما كان العبدُ بها أعلم، كان بالله أعرف، وله أطلب، وإليه أقرب، وكلما كان لها أنكر، كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد.
والله تعالى ينزل العبد من نفسه حيث يُنزلُه العبدُ من نفسه، فمن كان لِذِكر أسمائه وصفاته مُبغضًا، وعنها معرضًا، نافرًا ومنفرًا، فالله له أشدُّ بغضًا، وعنه أعظم إعراضًا، وله أكبرُ مقتًا، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب ذكر الأسماء والصفات قوته وحياتهُ، ونعيمه وقُرة عينه، لو فارقه ذكرها ومحبتها ساعة لاستغاث: ((يا مُقلِّبَ القلوبِ، ثَبِّتْ قلبي على دينك))، والقلب الثاني: قلب مضروب بسياط الجهالة، فهو عن معرفة ربِّه ومحبَّته مصدود، وطريق معرفة أسمائه وصفاته كما أُنزلت عليه مسدود، قد قمَّشَ شُبهًا من الكلام الباطل، وارتوى من ماءٍ آجن غير طائل، تعجُّ منه آياتُ الصفات وأحاديثها إلى الله عجيجًا، وتضجُّ منه إلى مُنزلها ضجيجًا ممَّا يُسمُّونه تحريفًا وتعطيلًا، مُزجى البضاعة من العلم النافع الموروث عن خاتم الرسل والأنبياء؛ لكنه مليء بالشكوك والشُّبَه والجِدال؛ [كتاب: الكافية الشافعية في الانتصار للفرقة الناجية].
قلب العاصي:
لو فتَّش العاصي عن قلبه لوجد حشوه المخاوف والانزعاج والقلق والاضطراب؛ وإنما يواري عنه شهودَ ذلك سُكْرُ الغفلة والشهوة، فإن للشهوة سُكرًا يزيد على سكر الخمر، وكذلك الغضب له سكر أعظم من سكر الشراب؛ ولهذا ترى العاشق والغضبان يفعل ما لا يفعله شارب الخمر؛ [كتاب: الروح].
القرآن شفاء لأمراض القلب:
أنفع الأغذية: غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية: دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء، قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [يونس: 57]، وجماع أمراض القلب...أمراض الشبهات والشهوات، والقرآن شفاء للنوعين... ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه.
القرآن...شفاؤه لمرض الشهوات...بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة، بالترغيب والترهيب والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده.
القرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة، فيصلح القلب، فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فُطِرَ عليها، فتصلح أفعاله الاختيارية الكسبية... فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يُزكِّيه ويُقوِّيه، ويُؤيِّده ويُفرحُه، ويسُرُّه ويُنشِّطه؛ [كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان].
زكاة القلب:
القلب إذا تخلَّص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه، فتخلَّصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة، زكا ونما، وقوي واشتد، وجلس على سرير ملكه، ونفذ حكمه في رعيته، فسمعت له وأطاعت.
القلب لا سبيل له إلى زكاته إلَّا بعد طهارته كما قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30]، فجعل الزكاة بعد غضِّ البصر وحفظ الفرج؛ [إغاثة اللهفان].
من علامات صحة القلب:
• كلما صحَّ القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة، وقرب منها، حتى يصير من أهلها، وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها.
• من علامات صحة القلب: ألَّا يفتر عن ذكر ربِّه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بمن يدله عليه، ويُذكر به، ويذاكره بهذا الأمر...وإذا فاته وِرْده وجد لفواته ألمًا أعظم من تألُّم الحريص بفوات ماله وفقده.
• ومن علامات صحة القلب: أنه لا يزال يضرب على صاحبه، حتى ينيب إلى الله، ويخبت إليه، ويتعلَّق به تعلُّق المحبِّ المضطرِّ إلى محبوبه؛ لذا لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برِضاه وقُرْبه والأُنْس به.
• ومن علامات صحته: أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همُّه وغمُّه بالدنيا، واشتدَّ عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقُرة عينه وسرور قلبه.
• ومنها: أن يكون أشحَّ بوقته أن يذهب ضائعًا من أشد الناس شُحًّا بماله.
• ومنها: أن يكون اهتمامُه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك مِنَّة الله عليه فيه، وتقصيره في حق الله؛ [كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان].
وفي الختام يقول طبيب القلوب العلامة ابن القيم رحمه الله: القلب يمرضُ كما يمرض البدن، وشفاؤهُ في التوبة والحمية، ويصدأُ كما تصدأ المرآةُ وجلاؤهُ الذكر، ويعرى كما يعرى الجسم وزينته التقوى، ويجوعُ ويظمأُ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفةُ والمحبة والتوكل والإنابة والخدمةُ؛ [كتاب: الفوائد].
فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ (https://www.alukah.net/authors/view/home/14789/فهد-بن-عبدالعزيز-عبدالله-الشويرخ/)
شبكة الالوكة
فالقلب مضغة صغيرة؛ لكنها مؤثرة في جميع حواسِّ الإنسان وجوارحه، فإن كان القلب سليمًا فلن يتكلم اللسان إلا بخير، ولن تسمع الأُذُن إلا ما ينفع، ولن تشاهد العين ما يُغضِب الله عز وجل، ولن تمشيَ القدمانِ إلى أماكن تُنتهَك فيها محارمُ الله، ولن تبطش اليدانِ إلَّا في سبيل الله.
ولطبيب القلوب العلامة ابن القيم رحمه الله دُرَرٌ نفيسة عن القلب، بثَّها في العديد من مصنفاته، وقد يَسَّر الله الكريم فجمعتُ بعضًا منها، أسأل الله أن ينفع بها الجميع.
القلب الطاهر:
قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ﴾ [المدثر: 1 - 4]، وجمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم على أن المراد بالثياب ها هنا القلب، والمراد بالطهارة إصلاح الأخلاق والأعمال.
القلب الطاهر-لكمال حياته ونوره وتخلُّصه من الأدران والخبائث- لا يشبع من القرآن، ولا يتغذَّى إلا بحقائقه، ولا يتداوى إلا بأدويته، بخلاف القلب الذي لم يُطهِّرْه الله، فإنه يتغذَّى من الأغذية التي تناسبه، بحسب ما فيه من النجاسة.
حرم الله سبحانه الجنة على مَنْ في قلبه نجاسة وخبث، ولا يدخلها إلا بعد طيبه وطهره، فإنها دار الطيبين؛ ولهذا يُقال لهم: ﴿ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ﴾ [الزمر: 73]؛ أي: ادخلوها بسبب طيبكم...فالجنة لا يدخلها خبيث، ولا مَن فيه شيء من الخبث.
الله سبحانه بحكمته جعل الدخول عليه موقوفًا على الطهارة، فلا يدخل المصلِّي عليه حتى يتطهَّر، وكذلك جعل الدخول إلى جنته موقوفًا على الطيب والطهارة، فلا يدخلها إلا طيب طاهر، فهما طهارتان: طهارة البدن، وطهارة القلب.
برُّ القلب وفجوره:
قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13] إشارة هذه الآية أن برَّ القلب يُوجب نعيم الدنيا، ﴿ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 14] إشارة هذه الآية أن فجوره يوجب جحيمها؛ [كتاب: الكلام على مسألة السماع].
استقامة القلب:
استقامة القلب بشيئين:
أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدَّم عنده على جميع المحابِّ، فإذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره، سبق حُبُّ الله تعالى حُبَّ ما سواه...وما أسهلَ هذا بالدعوى! وما أصعبَه بالفعل! وما أكثر ما يُقدم العبد ما يحبه هو ويهواه أو يحبُّه كبيره أو شيخه أو أهله على ما يحبُّه الله تعالى! فهذا لم تتقدَّم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحابِّ، وسنة الله تعالى فيمن هذا شأنه أن يُنكد عليه محابه ويُنغصها عليه، فلا ينال شيئًا منها إلا بنكد وتنغيص، جزاءً له على إيثاره هواه وهوى مَن يُعظِّمه من الخلق أو يحبه على محبة الله تعالى...قد قضى الله عز وجل قضاءً لا يُردُّ ولا يُدفَع، أنَّ مَن أحبَّ شيئًا سواه عذَّبَه به ولا بُدَّ، وأن مَن خاف غيره سلَّطه عليه، وأن مَن اشتغل بشيء غيره كان شؤمًا عليه، ومَن آثر غيره لم يُبارِك له فيه، ومَن أرضى غيرَه بسخطه أسخطه عليه ولا بُدَّ.
الأمر الثاني الذي يستقيم به القلب: تعظيم الأمر والنهي وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي...فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق، وطلب المنزلة والجاه عندهم، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعيُنِهم، وخشية العقوبات الدنيوية...فهذا ليس فعله وتركه صادرًا عن تعظيم الأمر والنهي، ولا عن تعظيم الآمر الناهي؛ [كتاب: الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب].
القلوب ثلاثة:
قلب خالٍ من الإيمان وجميع الخير، فذلك قلب مُظلم، قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ لأنه قد اتخذه بيتًا ووطنًا، وتحكَّم فيه بما يريد، وتمكَّن منه غاية التمكُّن.
القلب الثاني: قلب قد استنار بنور الإيمان وأوقد فيه مصباحه؛ لكن عليه ظلمة الشهوات وعواصف الأهوية، فللشيطان هناك إقبال وإدبار، ومحاولات ومطامع، فالحرب دُول وسِجال، وتختلف أحوال هذا الصِّنْف بالقلة والكثرة، فمنهم من أوقات غلبته لعدوِّه أكثر، ومنهم من أوقات غلبة عدوِّه له أكثر، ومنهم مَن هو تارة وتارة.
القلب الثالث: قلب محشوٌّ بالإيمان، قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حُجُب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، فلنوره في قلبه إشراق، ولذلك الإشراق إيقاد، لو دنا منه الوسواس احترق به، فهو كالسماء التي حُرسِت بالنجوم، فلو دنا منها الشيطان ليتخطَّاها رُجِم فاحترق، وقد مُثِّل ذلك بمثال حسن وهو ثلاثة بيوت: بيت للملك فيه كنوزه وذخائره وجواهره، وبيت للعبد فيه كنوز العبد وذخائره وجواهره، وليس فيه جواهر الملك وذخائره، وبيت خالٍ صفر لا شيء فيه، فجاء اللص ليسرق من أحد البيوت، فمن أيها يسرق؟ فإن قلت: من البيت الخالي، كان محالًا؛ لأن البيت الخالي ليس فيه شيء يُسرَق، وإن قلت: يسرق من بيت الملك، كان ذلك كالمستحيل الممتنع، فإن عليه من الحرس...ما لا يستطيع اللص الدنو منه، كيف وحارسه الملك نفسه؟! فلم يبق للصِّ إلا البيت الثالث، فهو الذي يشُنُّ عليه الغارة.
فليتأمل اللبيب هذا المثال حق التأمُّل، ولينزله على القلوب، فإنها على منواله؛ [كتاب: الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب].
وقال رحمه الله: انقسام القلوب إلى صحيح وسقيمٍ وميت: القلب الصحيح هو القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلَّا مَن أتى الله به...وهو الذي قد سلم من كل شهوة تُخالِف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غير رسوله.
القلب الصحيح: هو الذي هَمُّه كله في الله، حبه كله له، وقصده له، وبدنه له، وأعماله له، ونومه له، ويقظته له، وحديثه والحديث عنه أشهى إليه من كل حديث، وأفكاره تحوم على مراضيه ومحابِّه.
القلب الثاني: الميت الذي لا حياة به، فهو لا يعرف ربَّه، ولا يعبده بأمره، وما يحبُّه ويرضاه؛ بل هو واقف مع شهواته ولذَّاته، ولو كان فيها سخط ربِّه وغضبه.... الهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائسه، والغفلة مركبه...الدنيا تسخطه وترضيه.
القلب الثالث: له حياة وبه علة، فله مادتان تمده، هذه مرة، وهذه أخرى، وهو لِما غلب عليه منهما، ففيه من محبة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له والتوكُّل عليه ما هو مادة حياته، وفيه من محبَّة الشهوات والحسد والكِبْر والعُجْب...ما هو مادة هلاكه؛ [كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان].
الطرق التي يُصاب منها القلب:
جماع الطرق والأبواب التي يصاب منها القلب وجنوده أربعة، فمن ضبطها وعدلها، وأصلح مجاريها، وصرفها في محالها اللائقة بها - ضبطت وحفظت جوارحه ولم يشمت به عدوُّه؛ وهي: الحرص والشهوة والغضب والحسد.
فهذه الأربعة هي أصول مجامع طرق الشر والخير، وكما هي طرق إلى العذاب السرمدي، فهي طريق إلى النعيم الأبدي؛ [كتاب: التبيان في أيمان القرآن].
صدأُ القلب، وجلاؤه:
وصدأُ القلب بأمرين: بالغفلة، والذنب، وجلاؤه بشيئين: بالاستغفار والذكر، فمن كانت الغفلة أغلب أوقاته كان الصدأ متراكبًا على قلبه، وصدؤه بحسب غفلته، وإذا صدئ القلب لم تنطبع فيه صور المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل؛ لأنه لما تراكم عليه الصدأ أظلم، فلم تظهر فيه صور الحقائق كما هي عليه.
فإذا تراكم عليه الصدأ واسودَّ، وركبه الرانُ، فسد تصوُّره وإدراكه، فلا يقبل حقًّا، ولا ينكر باطلًا، وهذا أعظم عقوبات القلب، وأصل ذلك من الغفلة، واتِّباع الهوى، فإنهما يطمسان نور القلب، ويُعميان بصَرَه، قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]؛ [كتاب: الوابل الصيب ورافع الكلم الطيب].
فرح القلب وابتهاجه:
ابتهاج القلب وسروره وفرحه بالله وأسمائه وصفاته وكلامه ورسوله ولقائه أفضلُ ما يعطاه؛ بل هو أجل عطاياه، والفرح في الآخرة بالله ولقائه بحسب الفرح به ومحبَّته في الدنيا، فالفرح بالوصول إلى المحبوب يكون على حسب قوة المحبَّة وضعفها، فهذا شأن فرح القلب.
وله فرح آخر، وهو فرحه بما مَنَّ الله به عليه من معاملته والإخلاص له والتوكُّل عليه والثقة به وخوفه ورجائه، وكلما تمكَّن في ذلك قوي فرحُه وابتهاجه؛ [كتاب: الروح].
القلب المطمئن:
قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، فإن طمأنينة القلب سكونه واستقراره بزوال القلق والانزعاج والاضطراب عنه، وهذا لا يتأتَّى بشيء سوى ذكر الله البتة، وأما ما عداه فالطمأنينة إليه وبه غرور، والثقة به عجز.
قضى الله سبحانه وتعالى قضاءً لا مردَّ له: أن من اطمأنَّ إلى شيء سواه أتاه القلق والانزعاج والاضطراب من جهته، كائنًا مَن كان؛ بل لو اطمأنَّ العبد إلى علمه وحاله وعمله سُلِبه وزايَلَه.
وقد جعل الله سبحانه نفوس المطمئنين إلى سواه أغراضًا لسهام البلاء، ليُعلِم عباده وأولياءه أن المتعلق بغيره مقطوع، والمطمئن إلى سواه عن مصالحه ومقاصده مصدود وممنوع.
وها هنا سِرٌّ لطيفٌ يجب التنبيه عليه والتنبيه له، والتوفيق له بيد من أزِمَّة التوفيق بيديه، وهو أن الله سبحانه جعل لكل عضو من أعضاء الإنسان كمالًا إن لم يحصل له وإلا فهو في قلق واضطراب وانزعاج بسبب فقد كماله الذي جُعل له مثاله...جَعَلَ كمال القلب ونعيمه وسروره ولذته وابتهاجه في معرفته سبحانه وإرادته، ومحبته، والإنابة إليه، والإقبال عليه، والشوق إليه، والأنس به، فإذا عدم القلبُ ذلك كان أشد عذابًا واضطرابًا من العين التي فقدت النور الباصر، ومن اللسان الذي فقد قوة الكلام والذوق، ولا سبيل له إلى الطمأنينة بوجه من الوجوه، ولو نال من الدنيا وأسبابها ومن العلوم ما نال، إلا بأن يكون الله وحده هو محبوبه وإلهه ومعبوده وغاية مطلوبه، ويكون هو وحده مستعانه على تحصيل ذلك؛ [كتاب: الروح].
القلب السليم:
قال تعالى: ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89] فهذا هو السليم من الآفات التي تعتري القلوب المريضة، من مرض الشبهة التي تُوجِب اتِّباع الظن، ومرض الشهوة التي توجب اتباع ما تهوى الأنفس، فالقلب السليم: الذي سَلِم من هذا وهذا؛ [كتاب: الروح].
وقال رحمه الله: القلب السليم الذي لا ينجو من عذاب الله إلا مَن أتى الله به هو القلب الذي...قد سلَّم لربِّه، وسلَّم لأمره، ولم تبق فيه منازعة لأمره، ولا معارضة لخبره، فهو...لا يريد إلا الله، ولا يفعل إلا ما أمره الله، فالله وحده غايته وأمره وشرعهُ ووسيلته وطريقته، لا تعترضه شبه تحول بينه وبين تصديق خبره؛ لكن لا تمر عليه إلا وهي مُجتازة، تعلم أنه لا قرار لها فيه، ولا شهوة تحول بينه وبين متابعة رضاه، ومتى كان القلب كذلك فهو سليم من الشرك، وسليم من البدع، وسليم من الغي، وسليم من الباطل، وكلُّ الأقوال التي قيلت في تفسيره فذلك ينتظمها؛ [كتاب: مفتاح دار السعادة].
وقال: قد أثنى الله تعالى على خليله بسلامة قلبه فقال: ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الصافات: 83، 84]، والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغِلِّ والحقد والحسد والشُّحِّ والكِبْر وحب الدنيا، فهذا القلب السليم في جنة معجَّلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي الجنة يوم المعاد، ولا تتم له سلامتُه مطلقًا حتى يسلم من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تُخالِف السُّنَّة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد والإخلاص، وهذه الخمسة حُجُب عن الله وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة تتضمَّن أفرادًا لا تنحصر؛ [كتاب الداء والدواء].
القلب الرقيق:
رقَّة القلب...ناشئة من صفة الرحمة التي هي كمال، والله إنما يرحم من عباده الرحماء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرقَّ الناس قلبًا،... فرقَّةُ القلب رحمة ورأفة.
والقلب...إذا أشرق فيه نور الإيمان واليقين بالوعد، وامتلأ مِن محبَّة الله وإجلاله رقَّ وصارت فيه الرأفةُ والرحمةُ، فتراه رقيقًا رحيمًا، رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، يرحم النملة في جُحْرها، والطير في وكْرِها، فضلًا عن بني جنسه، فهذا أقرب القلوب من الله تعالى، قال أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالعيال.
والله سبحانه إذا أراد أن يرحم عبدًا أسكن في قلبه الرأفة والرحمة، وإذا أراد أن يُعذِّبه نزع من قلبه الرحمة والرأفة، وأبدله بهما الغلظة والقسوة؛ [كتاب: الروح].
أبغض القلوب إلى الله:
أبغض القلوب إلى الله: القلب القاسي، قال تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الزمر: 22]، وقال: ﴿ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ﴾ [البقرة: 74]؛ [كتاب: الروح].
عبودية القلب:
مَن تأمَّل الشريعة في مصادرها ومواردها علم ارتباط أعمال القلب بأعمال الجوارح، وأنها لا تنفع بدونها، وأن أعمال القلوب أفرض على العبد من أعمال الجوارح، وهل يُميَّزُ المؤمن عن المنافق إلا بما في قلب واحد منهما من الأعمال التي ميَّزت بينهما، وهل يُمكن أحد الدخول في الإسلام إلا بعمل قلبه قبل جوارحه، وعبودية القلب أعظمُ من عبودية الجوارح وأكبر وأدوم، فهي واجبة في كل وقت؛ [كتاب: بدائع الفوائد].
خشوع القلب:
الفرق بين خشوع الإيمان وخشوع النفاق:
إن خشوع الإيمان هو خشوع القلب لله بالتعظيم والإجلال والوقار والمهابة والحياء، فينكسر القلب لله كسرة ملتئمة من الوجل والخجل والحب والحياء، وشهود نعم الله، وجناياته هو، فيخشع القلب لا محالة، فيتبعه خشوعُ الجوارح.
وأمَّا خشوع النفاق، فيبدو على الجوارح تصنُّعًا وتكلُّفًا، والقلب غير خاشع، وكان بعض الصحابة يقول: أعوذ بالله من خشوع النفاق، قيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن يُرى الجسد خاشعًا، والقلب غير خاشع؛ [كتاب: الروح].
القلب القاسي:
الجبال أخبر عنها فاطِرُها وبارِيها أنه لو أنزل عليها كلامه لخشعت ولتصدَّعَتْ من خشيته، فيا عجبًا من مضغةِ لَحْمٍ أقسى من هذه الجبال! تسمع آيات الله تُتْلى عليها، ويُذكرُ الرب تبارك وتعالى، فلا تلينُ ولا تخشع، ولا تُنيب، فليس بمُستنكر لله عز وجل ولا يخالف حكمته أن يخلق لها نارًا تُذيبها إذا لم تلِن لكلامه وذكر زواجره ومواعظه.
فمن لم يلِن لله في هذه الدنيا قلبه، ولم ينب إليه، ولم يُذبه بحبِّه والبكاء من خشيته، فليتمتع قليلًا، فإن أمامه المُلين الأعظم، وسيُرَدُّ إلى عالم الغيب والشهادة فيرى ويعلم؛ [كتاب: مفتاح دار السعادة].
وقال رحمه الله: ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب والبعد عن الله.
• خلقت النار لإذابة القلوب القاسية.
• إذا قسا القلب قحطت العين.
• قسوة القلب من أربعة أشياء إذا جاوزت قدر الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام، والمخالطة؛ [كتاب: الفوائد].
أمراض القلب:
القلب يعترضهُ مرضان يتواردان عليه، إذا استحكما فيه كان هلاكه وموته، وهما: مرض الشهوات، ومرض الشبهات، وهذان أصلُ داء الخلق إلَّا مَن عافاه الله.
وقد ذكر الله تعالى هذين المرضين في كتابه: أما مرض الشبهات، وهو أصعبهما وأقتلهما للقلب، ففي قوله تعالى في حقِّ المنافقين: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [البقرة: 10]، وأمَّا مرض الشهوة، ففي قوله: ﴿ يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ﴾ [الأحزاب: 32]؛ أي: لا تَلِنَّ بالكلام فيطمعَ الذي في قلبه فجورٌ وزِنا.
وللقلب أمراض أُخَر مِن: الرياء، الكِبْر، والعُجْب، والحسد، والفخر، والخُيلاء، وحبِّ الرياسة والعلوِّ في الأرض، هذه الأمراض كلُّها متولدة عن الجهل، ودواؤها العلم.
فأمراض القلوب أصعبُ من أمراض الأبدان؛ لأن غاية مرض البدن أن يُفضي بصاحبه إلى الموت، وأمَّا مرضُ القلب فيُفضي بصاحبه إلى الشقاء الأبدي، ولا شفاء لهذا المرض إلا بالعلم؛ ولهذا سمى الله تعالى كتابه شفاءً لأمراض الصدور، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 57]، فحاجة القلب إلى العلم ليست كالحاجة إلى التنفُّس في الهواء بل أعظم.
وبالجملة، فالعلم للقلب مثل الماء للسَّمك إذا فقده مات؛ [كتاب: مفتاح دار السعادة].
وقال رحمه الله: القلب إذا مرض بالشهوات لم تنجع فيه المواعظ؛ [كتاب: الروح].
وقال رحمه الله: قد يمرض القلب ويشتد مرضه، ولا يعرف به صاحبه؛ لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها؛ بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته، وعلامة ذلك أنه لا تُؤلِمه جراحات القبائح، ولا يُوجِعه جهله بالحق وعقائده الباطلة.
القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء من الشُّبْهة أو الشهوة، حيث لا يقدر على دفعهما إذا وردا عليه، والقلب الصحيح القوي يطرقه أضعاف ذلك، وهو يدفعه بقوَّته وصحَّتِه.
مرض القلب...نوع لا يتألم به صاحبه في الحال...كمرض الجهل، ومرض الشبهات والشكوك، ومرض الشهوات، وهذا النوع هو أعظم النوعين ألمًا؛ ولكن لفساد القلب لا يحس بالألم...وهذا أخطر المرضين وأصعبهما، وعلاجه إلى الرسل وأتباعهم، فهم أطباء هذا المرض.
كما أن القلب قد يتألم بما يتألم به البدن، ويشقى بما يشقى به البدن، فكذلك البدن يتألم كثيرًا بما يتألم به القلب، ويُشقيه ما يُشقيه؛ [إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان].
العين مرآة للقلب:
جعل سبحانه العينين... مرآتين للقلب، يظهر فيهما ما هو مُودَع فيه من الحب والبغض، والخير والشر، والبلادة والفطنة، والزيغ والاستقامة.
فيُستدل بأحوال العين على أحوال القلب، وهو أحد أنواع الفراسة الثلاثة، وهي: فراسة العين والأذن والقلب، فهما- أي: العينان - مرآة لما في القلب...ولذلك يستدل بأحوال العين على أحوال القلب من رضاه وغضبه، وحبه وبغضه، ونفرته وقُربِه؛ [كتاب: التبيان في أيمان القرآن].
غِنى القلب:
غِنى القلب: "سلامته من السبب"؛ أي: من الفقر إلى السبب، وشهوده، والاعتماد عليه، والركون إليه، والثقة به، فمن كان معتمدًا على سبب، غنيًّا به، واثقًا به، لم يطلق عليه اسم "الغني"؛ لأنه فقير إلى الوسائط؛ بل لا يُسمَّى صاحبه غنيًّا إلا إذا سلم من علة السبب استغناءً بالمسبب، بعد الوقوف على رحمته وتصرُّفه وحسن تدبيره؛ فلذلك يصير صاحبه غنيًّا بتدبير الله عز وجل.
فمن كمُلت له السلامة مِن عِلَّة الأسباب، ومِن عِلَّة المنازعة للحكم، بالاستسلام له، والمسالمة أي بالانقياد لحكمه...حصل الغِنى للقلب بوقوفه على حسن تدبيره ورحمته وحكمته....ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر، وهو مخاصمة الخَلْق بعد الخلاص من منازعة الربِّ، فإن مخاصمة الخَلْق دليلٌ على فقره إلى الأمر الذي وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة، ومَن كان فقيرًا إلى حظٍّ من الحظوظ يسخط لفوته، ويخاصم الخلق عليه، لا يُطلَق عليه اسم الغني حتى يسلم الخلق من خصومته لكمال تفويضه إلى وليِّه وقيُّومِه ومتولِّي تدبيره.
فمتى سلم العبد مِن عِلَّة فقره إلى السبب، ومِن عِلَّة منازعته لأحكام الله عز وجل، ومِن عِلَّة مخاصمته للخَلْق على حظوظ استحق أن يكون غنيًّا بتدبير مولاه، مفوضًا إليه، لا يفتقر قلبه إلى غيره، ولا يسخط شيئًا من أحكامه، ولا يُخاصِم عبادَه إلَّا في حقوق ربِّه، فتكون مخاصمته لله وبالله، ومحاكمته إلى الله، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في استفتاح صلاة الليل: ((اللهُمَّ لك أسلَمْتُ وبِكَ آمنْتُ، وعليكَ توكَّلتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ))؛ [كتاب: طريق الهجرتين وباب السعادتين].
القلب الميت المظلم:
القلب الميت المظلم الذي لم يعقل عن الله ولا انقاد لما بُعث به رسولُه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يصف سبحانه هذا الضرب من الناس بأنهم أموات غير أحياء، وبأنهم في الظلمات لا يخرجون منها؛ ولهذا كانت الظلمة مستولية عليهم من جميع جهاتهم، فقلوبهم مظلمة ترى الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق، وأعمالهم مظلمة، وأقوالهم مظلمة، وأحوالهم كلها مظلمة، وقبورهم ممتلئة عليهم ظلمة؛ [كتاب: اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية].
القلب الحي المستنير:
القلب الحي المستنير هو الذي عقل عن الله، وفهِم عنه، وأذعن وانقاد لتوحيده ومتابعة ما بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ [كتاب: اجتماع الجيوش الإسلامية على حرب المعطلة والجهمية].
القلب خُلِق لمعرفة فاطِره ومحبَّتِه وتوحيده والسرور به:
القلب خُلِقَ لمعرفة فاطره ومحبَّته وتوحيده والسرور به والابتهاج بحبه، والرِّضا عنه، والتوكُّل عليه، والحب فيه، والبغض فيه، والموالاة فيه، ودوام ذكره، وأن يكون أحبَّ إليه من كل ما سواه، وأرجى عنده من كل ما سواه، وأجلَّ في قلبه من كل ما سواه؛ [كتاب: زاد المعاد في هدي خير العباد].
القلب الزجاجي:
وأصحُّ القلوب: القلب الرقيق الصافي الصلب، فهو يرى الحقَّ من الباطل بصفائه، ويقبله ويؤثره برقته، ويحفظه ويحارب عدوَّه بصلابته، وهذا القلب الزجاجي، فإن الزجاجة جمعت بين الأوصاف الثلاثة؛ [كتاب: الروح].
من أنفع الأمور للقلب:
قصر الأمل: العلم بقرب الرحيل، وسرعة انقضاء مدَّة الحياة، وهو من أنفع الأمور للقلب، فإنه يبعثه على...انتهاء الفرص...ويثير ساكن عزماته إلى دار البقاء، ويحثُّه على قضاء جهاز سفره وتدارُك الفارط، ويزهده في الدنيا، ويُرغِّبه في الآخرة؛ [كتاب: مدارج السالكين في منازل السائرين].
حال القلب مع الملك والشيطان:
إذا تأمَّلْتَ حال القلب مع الملك والشيطان رأيت أعجب العجائب؛ فهذا يلمُّ به مرةً، وهذا يلمُّ به مرةً، فإذا ألمَّ به الملَكُ حدث من لمته الانفساح والانشراح، والنور والرحمة، والإخلاص والإنابة، ومحبة الله وإيثاره على ما سواه، وقصر الأمل، والتجافي عن دار البلاء والامتحان والغرور، فلو دامت له تلك الحالة، لكان في أهنأ عيش وألذه وأطيبه؛ ولكن تأتيه لَمَّة الشيطان، فتُحدِث له من الضيق والظلمة، والهَمِّ والغَمِّ والخوف، والسخط على المقدور، والشك في الحق، والحرص على الدنيا وعاجلها، والغفلة عن الله ما هو من أعظم عذاب القلب.
ثم للناس في هذه المحنة مراتب لا يُحصيها إلَّا الله عز وجل: فمنهم من تكون لمَّة الملك أغلب عليه من لمَّة الشيطان وأقوى، فإذا ألم به الشيطان وجد من الألم والضيق والحصر وسوء الحال بحسب ما عنده من حياة القلب، فيُبادر إلى مَحْوِ تلك اللَّمَّة، ولا يدعها تستحكم؛ فيصعب تداركها، ومنهم مَن تكون لَمَّة الشيطان أغلب عليه من لَمَّة الملك وأقوى...فيموت القلب فلا يحس بما ناله الشيطان، مع أنه غاية العذاب والألم والضيق والحصر؛ ولكن سُكْر الشهوة والغفلة حَجَبَ عنه الإحساسَ بذلك المؤلم؛ [كتاب: التبيان في أيمان القرآن].
القلب ومعرفته بأسماء الله عز وجل وصفاته:
ليست حاجة الأرواح قطُّ إلى شيءٍ أعظم منها إلى معرفة بارئها وفاطرها، ومحبَّته وذكره، والابتهاج به، وطلب الوسيلة إليه والزُّلفى عنده، ولا سبيل إلى هذا إلَّا بمعرفة أوصافه وأسمائه، فكلما كان العبدُ بها أعلم، كان بالله أعرف، وله أطلب، وإليه أقرب، وكلما كان لها أنكر، كان بالله أجهل، وإليه أكره، ومنه أبعد.
والله تعالى ينزل العبد من نفسه حيث يُنزلُه العبدُ من نفسه، فمن كان لِذِكر أسمائه وصفاته مُبغضًا، وعنها معرضًا، نافرًا ومنفرًا، فالله له أشدُّ بغضًا، وعنه أعظم إعراضًا، وله أكبرُ مقتًا، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب ذكر الأسماء والصفات قوته وحياتهُ، ونعيمه وقُرة عينه، لو فارقه ذكرها ومحبتها ساعة لاستغاث: ((يا مُقلِّبَ القلوبِ، ثَبِّتْ قلبي على دينك))، والقلب الثاني: قلب مضروب بسياط الجهالة، فهو عن معرفة ربِّه ومحبَّته مصدود، وطريق معرفة أسمائه وصفاته كما أُنزلت عليه مسدود، قد قمَّشَ شُبهًا من الكلام الباطل، وارتوى من ماءٍ آجن غير طائل، تعجُّ منه آياتُ الصفات وأحاديثها إلى الله عجيجًا، وتضجُّ منه إلى مُنزلها ضجيجًا ممَّا يُسمُّونه تحريفًا وتعطيلًا، مُزجى البضاعة من العلم النافع الموروث عن خاتم الرسل والأنبياء؛ لكنه مليء بالشكوك والشُّبَه والجِدال؛ [كتاب: الكافية الشافعية في الانتصار للفرقة الناجية].
قلب العاصي:
لو فتَّش العاصي عن قلبه لوجد حشوه المخاوف والانزعاج والقلق والاضطراب؛ وإنما يواري عنه شهودَ ذلك سُكْرُ الغفلة والشهوة، فإن للشهوة سُكرًا يزيد على سكر الخمر، وكذلك الغضب له سكر أعظم من سكر الشراب؛ ولهذا ترى العاشق والغضبان يفعل ما لا يفعله شارب الخمر؛ [كتاب: الروح].
القرآن شفاء لأمراض القلب:
أنفع الأغذية: غذاء الإيمان، وأنفع الأدوية: دواء القرآن، وكل منهما فيه الغذاء والدواء، قال الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ﴾ [يونس: 57]، وجماع أمراض القلب...أمراض الشبهات والشهوات، والقرآن شفاء للنوعين... ولكن ذلك موقوف على فهمه ومعرفة المراد منه.
القرآن...شفاؤه لمرض الشهوات...بما فيه من الحكمة والموعظة الحسنة، بالترغيب والترهيب والتزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة، والأمثال والقصص التي فيها أنواع العبر والاستبصار فيرغب القلب السليم إذا أبصر ذلك فيما ينفعه في معاشه ومعاده.
القرآن مزيل للأمراض الموجبة للإرادات الفاسدة، فيصلح القلب، فتصلح إرادته، ويعود إلى فطرته التي فُطِرَ عليها، فتصلح أفعاله الاختيارية الكسبية... فيتغذى القلب من الإيمان والقرآن بما يُزكِّيه ويُقوِّيه، ويُؤيِّده ويُفرحُه، ويسُرُّه ويُنشِّطه؛ [كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان].
زكاة القلب:
القلب إذا تخلَّص من الذنوب بالتوبة فقد استفرغ من تخليطه، فتخلَّصت قوة القلب وإرادته للخير، فاستراح من تلك الجواذب الفاسدة والمواد الرديئة، زكا ونما، وقوي واشتد، وجلس على سرير ملكه، ونفذ حكمه في رعيته، فسمعت له وأطاعت.
القلب لا سبيل له إلى زكاته إلَّا بعد طهارته كما قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ﴾ [النور: 30]، فجعل الزكاة بعد غضِّ البصر وحفظ الفرج؛ [إغاثة اللهفان].
من علامات صحة القلب:
• كلما صحَّ القلب من مرضه ترحل إلى الآخرة، وقرب منها، حتى يصير من أهلها، وكلما مرض القلب واعتل آثر الدنيا واستوطنها، حتى يصير من أهلها.
• من علامات صحة القلب: ألَّا يفتر عن ذكر ربِّه، ولا يسأم من خدمته، ولا يأنس بغيره، إلا بمن يدله عليه، ويُذكر به، ويذاكره بهذا الأمر...وإذا فاته وِرْده وجد لفواته ألمًا أعظم من تألُّم الحريص بفوات ماله وفقده.
• ومن علامات صحة القلب: أنه لا يزال يضرب على صاحبه، حتى ينيب إلى الله، ويخبت إليه، ويتعلَّق به تعلُّق المحبِّ المضطرِّ إلى محبوبه؛ لذا لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برِضاه وقُرْبه والأُنْس به.
• ومن علامات صحته: أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همُّه وغمُّه بالدنيا، واشتدَّ عليه خروجه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقُرة عينه وسرور قلبه.
• ومنها: أن يكون أشحَّ بوقته أن يذهب ضائعًا من أشد الناس شُحًّا بماله.
• ومنها: أن يكون اهتمامُه بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة والمتابعة والإحسان، ويشهد مع ذلك مِنَّة الله عليه فيه، وتقصيره في حق الله؛ [كتاب: إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان].
وفي الختام يقول طبيب القلوب العلامة ابن القيم رحمه الله: القلب يمرضُ كما يمرض البدن، وشفاؤهُ في التوبة والحمية، ويصدأُ كما تصدأ المرآةُ وجلاؤهُ الذكر، ويعرى كما يعرى الجسم وزينته التقوى، ويجوعُ ويظمأُ كما يجوع البدن، وطعامه وشرابه المعرفةُ والمحبة والتوكل والإنابة والخدمةُ؛ [كتاب: الفوائد].
فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ (https://www.alukah.net/authors/view/home/14789/فهد-بن-عبدالعزيز-عبدالله-الشويرخ/)
شبكة الالوكة