عازف الناي
03-13-2023, 11:00 PM
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فرسولُنا نبي الله عليه الصلاة والسلام كان يضحك في المواضع التي يُضحَك منها، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: كان جُلُّ ضحكه التبسُّم؛ بل كلُّه التبسُّم... وكان يضحك مما يُضحَك منه، وقال العلامة السعدي رحمه الله: حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأدب الكامل والتعجب في موضعه، وألَّا يبلغ بهم الضحك إلا التبسُّم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جُلُّ ضحكه التبسُّم، وقال الإمام الغزالي رحمه الله: وكان أكثر الناس تبسُّمًا وضحكًا في وجوه أصحابه.
ولهذا فإن أولياء الله يضحكون مما يضحك منه، متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكثرون من ذلك، قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: أولياء الله في قلوبهم من إجلال الله وخشيته والرغبة فيما عنده ما يجعلهم لا يُكثرون من هذا؛ وإنما إنْ فعلوا فيكون على جهة الانبساط الوارد عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا أصل في أن الأولياء فيما يفعلون من فضول المباحات يتابعون النبي صلى الله عليه وسلم في أصول ما فعل، فيضحكون بعضًا من الوقت؛ لأنه ضحك صلى الله عليه وسلم وتبسَّم، ويفعلون بعض الأشياء التي فيها ترويح بما لا يكون قادحًا -وأشباه ذلك- بنيَّة الاقتداء ونية العمل، وهذا في بعض المباحات لا في كل المباحات، فالوليُّ لا بُدَّ أن يكون منزهًا عن فضول المباحات.
للسلف أقوال في الضحك، يسَّر الله الكريم فجمعتُ بعضًا منها، أسأل الله أن ينفع بها الجميع.
من آداب طلاب العلم وحملة القرآن وأولياء الله: قلة الضحك:
• قال علي رضي الله عنه: إذا تعلمتُم العلم فاكظموا عليه، ولا تخلطوه بضحك فتمجُّه القلوب.
• قال الإمام الآجري رحمه الله في كتابه "أخلاق حملة القرآن": قليل الضحك فيما يضحك منه الناس لسوء عاقبة الضحك.
• قال الخطيب البغدادي رحمه الله: يجب على طالب الحديث أن يتجنب اللعب والعبث والتبذُّل في المجالس بالسخف والضحك والقهقهة وكثرة التنادر.
• قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: أولياء الله يتنزهون عن فضول المباحات وليس كل مباح يأتونه؛ بل هناك مباحات لا تُناسبهم وإن كانت مباحة من الشرع؛ ولكن تناسب غيرهم من المسلمين، فالأولياء يتنزهون عن كثير من المباحات إمَّا من جهة الورع، وإمَّا من جهة ترك خوارم المروءة، وإمَّا من جهة أشياء قد يراها الوليُّ لا تناسبه، مثاله: كثرة المُزاح والضحك بأن يغلب هذا على المرء وإن كان مباحًا.
الضحك في محله وممَّا يضحك منه:
قال الله سبحانه وتعالى عن نبيِّه سليمان عليه السلام، عندما سمِعَ كلام النملة: ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا ﴾ [النمل: 19].
• قال الإمام البغوي رحمه الله: قال مقاتل: كان ضحك سليمان من قول النملة تعجُّبًا؛ لأن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجَّب وضحك.
• قال العلامة السعدي رحمه الله: الضحك في محله محمود، وهو دليل على حُسْن الخُلُق، ولين الجانب.
عدم التبسُّم في محله يدلُّ على شراسة الخلق:
• قال العلامة السعدي رحمه الله: عدم التبسُّم والعجب ممَّا يتعجب منه يدل على شراسة الخُلُق والجبروت.
الضحك في غير محله دليل على الجهل، وقلة العقل:
• قال علي رضي الله عنه: من الجهل.... الضحك من غير عجب.
• قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: ثلاث من فعلهن تعرَّض للمقت: الضحك من غير عجب.
• قال العلَّامة السعدي رحمه: الضحك.... في غير محله دليل على قلة العقل.
أضرار كثرة الضحك:
•قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: مَنْ كثُرَ ضحكُهُ استخف به.
•قال عامر بن قيس: رأيت نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وصحبتهم، فحدَّثوني: أن أكثر الناس ضحكًا في الدنيا أكثرهم بكاءً يوم القيامة.
• قال الحسن البصري رحمه الله: كثرة الضحك تُميتُ القلب.
• قال الإمام ابنُ حِبَّان البُسْتي رحمه الله: من علامات الحمق: سرعة الجواب، وترك التثبُّت، والإفراط في الضحك.
• قال الخطيب البغدادي رحمه الله: الضحك يضع من القَدْر، ويُزيل المروءة.
• قال الإمام ابن القيم رحمه الله: كثرة الضحك من خِفَّة الرُّوح، ونُقْصان العقل.
• قال العلامة صالح بن فوزان الفوزان: الذنوب والمعاصي، والغفلة عن ذكر الله، وأكل الحرام،... والضحك والمزاح، كل هذه الأمور من شأنها أن تُقسِّي القلوب.
الحذر من الضحك في مواطن لا ينبغي أن يُضحَك فيها:
• أبصر ابن مسعود رضي الله عنه رجلًا يضحك في جنازة، فقال: تضحك في جنازة؟! لا أُكلِّمُك أبدًا.
• عن قتادة رحمه الله قال: بلغنا أن أبا الدرداء رضي الله عنه، نظر إلى رجل يضحكُ في جنازةٍ، فقال: أما كان فيما رأيت من هول الموت ما يشغلك عن الضحك؟!
• قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ويُستحبُّ لِمُتَّبع الجنازة أن يكون مُتخشِّعًا مُتفكِّرًا في مآله، مُتَّعِظًا بالموت، وبما يصير إليه الميت، ولا يتحدَّث بأمور الدنيا، ولا يضحكُ.
الضحك في المقابر من قسوة القلوب:
قال الإمام الغزالي رحمه الله: اعلم أن الجنائز عبرة للبصير، وفيها تنبيه وتذكير، قال أسيد بن حضير: ما شهدت جنازة فحدَّثَتْنِي نفسي بشيء سوى ما هو مفعول به، وما هو صائر إليه، وقال الأعمش: كنا نشهد الجنائز، فلا ندري مَنْ نُعزِّي لحزن الجميع.
هكذا كان خوفهم عند الموت، والآن لا ننظر إلى جماعة يحضرون جنازة، إلا وأكثرهم يضحكون، ويلهون، ولا يتفكَّر واحد منهم إلا ما شاء الله في جنازة نفسه، وفي حاله إذا حمل عليها، ولا سبب لهذه الغفلة إلا قسوة القلب، بكثرة المعاصي والذنوب، حتى نسينا الله تعالى واليوم الآخر، والأهوال التي بين أيدينا.
إضحاك المهموم وتسليته:
قال الإمام النووي رحمه الله: الإنسان إذا رأى صاحبه مهمومًا حزينًا، يستحبُّ له أن يُحدِّثه بما يضحكه، أو يُشغِله، ويُطيِّب نفسه.
لا تضحك على الناس فقد تُبْتلى:
قال العلَّامة ابن القيم رحمه الله: مَنْ ضحِكَ من الناس ضُحِك منه.
التبسُّم، والضحك بلا قهقهة:
• قال وهيب بن الورد رحمه الله: الضحك الذي لا إسراف فيه: التبسُّم ولا يُسْمَعَنَّ لك صوت.
• قال الإمام ابن القيم رحمه الله: التبسُّم...من حُسْن الخُلُق، وكمال الإدراك.
• قال العلامة السعدي رحمه الله: القهقهة تدل على خِفَّة العقل، وسوء الأدب.
• قال العلامة محمد العثيمين رحمه الله: الضحك ثلاثة أنواع: ابتدائي ووسط وانتهائي؛ الابتدائي التبسُّم، والوسط الضَّحِك، والمنتهى القهقهة.
والقهقهة لا تليق بالإنسان العاقل الرزين، والتبسُّم هو أكثر ضحك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والضحك يكون من الأنبياء أحيانًا.
الحذر من الضَّحِك والاستهزاء بأولياء الله، فعاقبة ذلك وخيمة:
قال الله جل جلاله عن الكافرين طالبين الخروج من النار: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ [المؤمنون: 106، 107]، فيأتيهم الجواب من الله العزيز الحكيم بأنهم ماكثون في النار بسبب أعمالهم في الدنيا التي منها الضحك والسخرية بالمؤمنين ﴿ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾ [المؤمنون: 108 - 110].
قال الإمام ابن الجوزي: قال مقاتل: كان رؤوس كفار قريش - كأبي جهل، وعقبة، والوليد - قد اتخذوا فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كعمار، وبلال، وخباب، وصهيب، سخريًّا يستهزئون بهم ويضحكون منهم.
الضحك لعبًا ولهوًا قد يعقبه البكاء:
• قال ابن سيرين رحمه الله: ما كان ضحك قط إلا كان بعده بكاء، وقد شاهد الناس مِنْ تَغيُّر الدنيا بأهلها في أسرع ما يكون العجائب.
• قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: إن الدنيا لغرور حائل، وسرور آيل، بينما طالبها يضحك أبكته، ويفرح بسلامته أهلكته، فندم على زللـه إذ قدم على عمله، وبقي رهين خوفه ووجله، وود أن لو زيد ساعة في أجله، فما هو أسير في حفرته، وحسير في سفرته.
الحذر من الكذب من أجل إضحاك الناس:
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: العجيب أن بعض الناس يقول: الكذب ينقسم إلى قسمين: أبيض وأسود.
ونحن نقول: الكذب ينقسم إلى قسمٍ واحدٍ، وهُو الأسود، لا يوجد كذب أبيض إطلاقًا، هذا الذي قسمه إلى قسمين، قال: الأبيضُ هو الذي ليس به أكلُ مال لأحدٍ، ولا اعتداء على أحدٍ، كذب من أجل أن يضحك الناس، فعند هذا الرجل أنه أبيض، أمَّا إذا كذب ليأكل أموال الناس بالباطل، مثل رجل عنده حق لفلان، وطلبه صاحب الحق؛ لكن قال: ليس لك عندي شيء، يقول: هذا هو الكذب المحرم، أما الكذب الذي من أجل أن يضحك الناس فهذا ليس بمُحرَّم؛ لأنه أبيض.
سبحان الله أين البياض؟! والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((ويل لمن حدَّث فكذب لِيُضحك به القوم، ويل له، ثُم ويل له))؛ ولهذا نجد أولئك القوم الذين يأتون بالتمثيليات وغيرها من الأشياء الكذب واقعين في هذا، وهم لا يعلمون.
لا يضحك منك الشيطان:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ومن كيده [الشيطان] للإنسان: أنه يُورده الموارد التي يُخيل إليه أن فيها منفعته، ثم يُصدرُهُ المصادر التي فيها عطبه، ويتخلَّى عنه، ويُسلمه، ويقف يشمت به، ويضحك منه، فيأمره بالسرقة والزِّنا والقتل، ويدل عليه ويفضحه قال تعالى: ﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 48]، فإنه تراءى للمشركين عند خروجهم إلى بدر في صورة سراقة بن مالك، وقال: إني جار لكم من بني كنانة أن يقصدوا أهلكم وذراريكم بسوء، فلما رأى عدوَّ الله جنود الله من الملائكة نزلت لنصر رسوله فرَّ عنهم وأسلمهم، كما قال حسان:
دلاهم بغرور ثُم أسلمهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إن الخبيث لمن والاه غرَّار https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وكذلك فعل بالراهب الذي قتل المرأة وولدها، أمره بالزِّنا بها ثم بقتلها، ثم دل أهلها عليها، وكشف أمره لهم، ثم أمره بالسجود، فلما فعل فرَّ عنه وتركه.
من ضحك وفرح إذا ظفر بالذنب فيخشى عليه أن يحال بينه وبين التوبة:
• قال العلامة ابن القيم رحمه الله: من بنى أمره على ألَّا يعف عن ذنب، ولا يقدم خوفًا، ولا يدع لله شهوةً وهو فرح مسرور يضحك ظهرًا لبطن إذا ظفر بالذنب، فهذا الذي يُخافُ عليه أن يحال بينه وبين التوبة، ولا يُوفَّق لها.
• قال الحافظ ابن الجوزي رحمه الله: ضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب.
السخرية بالغير من أجل الضحك:
قال الإمام الغزالي رحمه الله: ومعنى السخرية: الاستهانة والتحقير، والتنبيه على العيوب والنقائض على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء.
لا تُضحك الذين يأكلون الطعام خوفًا عليهم من الشرق:
قال الشيخ عبدالقادر: من الأدب ألَّا يتكلم على الطعام بما يستقذر من الكلام، ولا بما يضحكهم خوفًا عليهم من الشرق.
وختامًا: فعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لو تعلمونَ ما أعلمُ لبكيْتُم كثيرًا، ولضحكتم قليلًا))، قال الإمام النووي رحمه الله: معناه: لو تعلمون من عظم انتقام الله تعالى من أهل الجرائم، وشدة عقابه، وأهوال القيامة، وما بعدها، كما علمت، وترون النار كما رأيت في مقامي هذا، وفي غيره، لبكيتم كثيرًا، ولقلَّ ضحككم لفكركم فيما علمتموه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: في حديث عائشة من الفوائد: الزجر عن كثرة الضحك، والحث على كثرة البكاء، والتحقُّق بما سيصير إليه المرء من الموت والفناء".
فأقِلَّ من الضحك في الدنيا، وأكثِرْ من ذكر الله لتدخُل الجنة وأنت تضحك، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن الذين ألسنتهم رطبة بذكر الله يدخل أحدهم الجنة وهو يضحك.
فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ (https://www.alukah.net/authors/view/home/14789/فهد-بن-عبدالعزيز-عبدالله-الشويرخ/)
شبكة الالوكة
فرسولُنا نبي الله عليه الصلاة والسلام كان يضحك في المواضع التي يُضحَك منها، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: كان جُلُّ ضحكه التبسُّم؛ بل كلُّه التبسُّم... وكان يضحك مما يُضحَك منه، وقال العلامة السعدي رحمه الله: حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الأدب الكامل والتعجب في موضعه، وألَّا يبلغ بهم الضحك إلا التبسُّم، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جُلُّ ضحكه التبسُّم، وقال الإمام الغزالي رحمه الله: وكان أكثر الناس تبسُّمًا وضحكًا في وجوه أصحابه.
ولهذا فإن أولياء الله يضحكون مما يضحك منه، متابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكثرون من ذلك، قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: أولياء الله في قلوبهم من إجلال الله وخشيته والرغبة فيما عنده ما يجعلهم لا يُكثرون من هذا؛ وإنما إنْ فعلوا فيكون على جهة الانبساط الوارد عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا أصل في أن الأولياء فيما يفعلون من فضول المباحات يتابعون النبي صلى الله عليه وسلم في أصول ما فعل، فيضحكون بعضًا من الوقت؛ لأنه ضحك صلى الله عليه وسلم وتبسَّم، ويفعلون بعض الأشياء التي فيها ترويح بما لا يكون قادحًا -وأشباه ذلك- بنيَّة الاقتداء ونية العمل، وهذا في بعض المباحات لا في كل المباحات، فالوليُّ لا بُدَّ أن يكون منزهًا عن فضول المباحات.
للسلف أقوال في الضحك، يسَّر الله الكريم فجمعتُ بعضًا منها، أسأل الله أن ينفع بها الجميع.
من آداب طلاب العلم وحملة القرآن وأولياء الله: قلة الضحك:
• قال علي رضي الله عنه: إذا تعلمتُم العلم فاكظموا عليه، ولا تخلطوه بضحك فتمجُّه القلوب.
• قال الإمام الآجري رحمه الله في كتابه "أخلاق حملة القرآن": قليل الضحك فيما يضحك منه الناس لسوء عاقبة الضحك.
• قال الخطيب البغدادي رحمه الله: يجب على طالب الحديث أن يتجنب اللعب والعبث والتبذُّل في المجالس بالسخف والضحك والقهقهة وكثرة التنادر.
• قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: أولياء الله يتنزهون عن فضول المباحات وليس كل مباح يأتونه؛ بل هناك مباحات لا تُناسبهم وإن كانت مباحة من الشرع؛ ولكن تناسب غيرهم من المسلمين، فالأولياء يتنزهون عن كثير من المباحات إمَّا من جهة الورع، وإمَّا من جهة ترك خوارم المروءة، وإمَّا من جهة أشياء قد يراها الوليُّ لا تناسبه، مثاله: كثرة المُزاح والضحك بأن يغلب هذا على المرء وإن كان مباحًا.
الضحك في محله وممَّا يضحك منه:
قال الله سبحانه وتعالى عن نبيِّه سليمان عليه السلام، عندما سمِعَ كلام النملة: ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا ﴾ [النمل: 19].
• قال الإمام البغوي رحمه الله: قال مقاتل: كان ضحك سليمان من قول النملة تعجُّبًا؛ لأن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجَّب وضحك.
• قال العلامة السعدي رحمه الله: الضحك في محله محمود، وهو دليل على حُسْن الخُلُق، ولين الجانب.
عدم التبسُّم في محله يدلُّ على شراسة الخلق:
• قال العلامة السعدي رحمه الله: عدم التبسُّم والعجب ممَّا يتعجب منه يدل على شراسة الخُلُق والجبروت.
الضحك في غير محله دليل على الجهل، وقلة العقل:
• قال علي رضي الله عنه: من الجهل.... الضحك من غير عجب.
• قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: ثلاث من فعلهن تعرَّض للمقت: الضحك من غير عجب.
• قال العلَّامة السعدي رحمه: الضحك.... في غير محله دليل على قلة العقل.
أضرار كثرة الضحك:
•قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: مَنْ كثُرَ ضحكُهُ استخف به.
•قال عامر بن قيس: رأيت نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وصحبتهم، فحدَّثوني: أن أكثر الناس ضحكًا في الدنيا أكثرهم بكاءً يوم القيامة.
• قال الحسن البصري رحمه الله: كثرة الضحك تُميتُ القلب.
• قال الإمام ابنُ حِبَّان البُسْتي رحمه الله: من علامات الحمق: سرعة الجواب، وترك التثبُّت، والإفراط في الضحك.
• قال الخطيب البغدادي رحمه الله: الضحك يضع من القَدْر، ويُزيل المروءة.
• قال الإمام ابن القيم رحمه الله: كثرة الضحك من خِفَّة الرُّوح، ونُقْصان العقل.
• قال العلامة صالح بن فوزان الفوزان: الذنوب والمعاصي، والغفلة عن ذكر الله، وأكل الحرام،... والضحك والمزاح، كل هذه الأمور من شأنها أن تُقسِّي القلوب.
الحذر من الضحك في مواطن لا ينبغي أن يُضحَك فيها:
• أبصر ابن مسعود رضي الله عنه رجلًا يضحك في جنازة، فقال: تضحك في جنازة؟! لا أُكلِّمُك أبدًا.
• عن قتادة رحمه الله قال: بلغنا أن أبا الدرداء رضي الله عنه، نظر إلى رجل يضحكُ في جنازةٍ، فقال: أما كان فيما رأيت من هول الموت ما يشغلك عن الضحك؟!
• قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ويُستحبُّ لِمُتَّبع الجنازة أن يكون مُتخشِّعًا مُتفكِّرًا في مآله، مُتَّعِظًا بالموت، وبما يصير إليه الميت، ولا يتحدَّث بأمور الدنيا، ولا يضحكُ.
الضحك في المقابر من قسوة القلوب:
قال الإمام الغزالي رحمه الله: اعلم أن الجنائز عبرة للبصير، وفيها تنبيه وتذكير، قال أسيد بن حضير: ما شهدت جنازة فحدَّثَتْنِي نفسي بشيء سوى ما هو مفعول به، وما هو صائر إليه، وقال الأعمش: كنا نشهد الجنائز، فلا ندري مَنْ نُعزِّي لحزن الجميع.
هكذا كان خوفهم عند الموت، والآن لا ننظر إلى جماعة يحضرون جنازة، إلا وأكثرهم يضحكون، ويلهون، ولا يتفكَّر واحد منهم إلا ما شاء الله في جنازة نفسه، وفي حاله إذا حمل عليها، ولا سبب لهذه الغفلة إلا قسوة القلب، بكثرة المعاصي والذنوب، حتى نسينا الله تعالى واليوم الآخر، والأهوال التي بين أيدينا.
إضحاك المهموم وتسليته:
قال الإمام النووي رحمه الله: الإنسان إذا رأى صاحبه مهمومًا حزينًا، يستحبُّ له أن يُحدِّثه بما يضحكه، أو يُشغِله، ويُطيِّب نفسه.
لا تضحك على الناس فقد تُبْتلى:
قال العلَّامة ابن القيم رحمه الله: مَنْ ضحِكَ من الناس ضُحِك منه.
التبسُّم، والضحك بلا قهقهة:
• قال وهيب بن الورد رحمه الله: الضحك الذي لا إسراف فيه: التبسُّم ولا يُسْمَعَنَّ لك صوت.
• قال الإمام ابن القيم رحمه الله: التبسُّم...من حُسْن الخُلُق، وكمال الإدراك.
• قال العلامة السعدي رحمه الله: القهقهة تدل على خِفَّة العقل، وسوء الأدب.
• قال العلامة محمد العثيمين رحمه الله: الضحك ثلاثة أنواع: ابتدائي ووسط وانتهائي؛ الابتدائي التبسُّم، والوسط الضَّحِك، والمنتهى القهقهة.
والقهقهة لا تليق بالإنسان العاقل الرزين، والتبسُّم هو أكثر ضحك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والضحك يكون من الأنبياء أحيانًا.
الحذر من الضَّحِك والاستهزاء بأولياء الله، فعاقبة ذلك وخيمة:
قال الله جل جلاله عن الكافرين طالبين الخروج من النار: ﴿ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ [المؤمنون: 106، 107]، فيأتيهم الجواب من الله العزيز الحكيم بأنهم ماكثون في النار بسبب أعمالهم في الدنيا التي منها الضحك والسخرية بالمؤمنين ﴿ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾ [المؤمنون: 108 - 110].
قال الإمام ابن الجوزي: قال مقاتل: كان رؤوس كفار قريش - كأبي جهل، وعقبة، والوليد - قد اتخذوا فقراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كعمار، وبلال، وخباب، وصهيب، سخريًّا يستهزئون بهم ويضحكون منهم.
الضحك لعبًا ولهوًا قد يعقبه البكاء:
• قال ابن سيرين رحمه الله: ما كان ضحك قط إلا كان بعده بكاء، وقد شاهد الناس مِنْ تَغيُّر الدنيا بأهلها في أسرع ما يكون العجائب.
• قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: إن الدنيا لغرور حائل، وسرور آيل، بينما طالبها يضحك أبكته، ويفرح بسلامته أهلكته، فندم على زللـه إذ قدم على عمله، وبقي رهين خوفه ووجله، وود أن لو زيد ساعة في أجله، فما هو أسير في حفرته، وحسير في سفرته.
الحذر من الكذب من أجل إضحاك الناس:
قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: العجيب أن بعض الناس يقول: الكذب ينقسم إلى قسمين: أبيض وأسود.
ونحن نقول: الكذب ينقسم إلى قسمٍ واحدٍ، وهُو الأسود، لا يوجد كذب أبيض إطلاقًا، هذا الذي قسمه إلى قسمين، قال: الأبيضُ هو الذي ليس به أكلُ مال لأحدٍ، ولا اعتداء على أحدٍ، كذب من أجل أن يضحك الناس، فعند هذا الرجل أنه أبيض، أمَّا إذا كذب ليأكل أموال الناس بالباطل، مثل رجل عنده حق لفلان، وطلبه صاحب الحق؛ لكن قال: ليس لك عندي شيء، يقول: هذا هو الكذب المحرم، أما الكذب الذي من أجل أن يضحك الناس فهذا ليس بمُحرَّم؛ لأنه أبيض.
سبحان الله أين البياض؟! والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((ويل لمن حدَّث فكذب لِيُضحك به القوم، ويل له، ثُم ويل له))؛ ولهذا نجد أولئك القوم الذين يأتون بالتمثيليات وغيرها من الأشياء الكذب واقعين في هذا، وهم لا يعلمون.
لا يضحك منك الشيطان:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: ومن كيده [الشيطان] للإنسان: أنه يُورده الموارد التي يُخيل إليه أن فيها منفعته، ثم يُصدرُهُ المصادر التي فيها عطبه، ويتخلَّى عنه، ويُسلمه، ويقف يشمت به، ويضحك منه، فيأمره بالسرقة والزِّنا والقتل، ويدل عليه ويفضحه قال تعالى: ﴿ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [الأنفال: 48]، فإنه تراءى للمشركين عند خروجهم إلى بدر في صورة سراقة بن مالك، وقال: إني جار لكم من بني كنانة أن يقصدوا أهلكم وذراريكم بسوء، فلما رأى عدوَّ الله جنود الله من الملائكة نزلت لنصر رسوله فرَّ عنهم وأسلمهم، كما قال حسان:
دلاهم بغرور ثُم أسلمهم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
إن الخبيث لمن والاه غرَّار https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وكذلك فعل بالراهب الذي قتل المرأة وولدها، أمره بالزِّنا بها ثم بقتلها، ثم دل أهلها عليها، وكشف أمره لهم، ثم أمره بالسجود، فلما فعل فرَّ عنه وتركه.
من ضحك وفرح إذا ظفر بالذنب فيخشى عليه أن يحال بينه وبين التوبة:
• قال العلامة ابن القيم رحمه الله: من بنى أمره على ألَّا يعف عن ذنب، ولا يقدم خوفًا، ولا يدع لله شهوةً وهو فرح مسرور يضحك ظهرًا لبطن إذا ظفر بالذنب، فهذا الذي يُخافُ عليه أن يحال بينه وبين التوبة، ولا يُوفَّق لها.
• قال الحافظ ابن الجوزي رحمه الله: ضحكك وأنت لا تدري ما الله صانع بك أعظم من الذنب.
السخرية بالغير من أجل الضحك:
قال الإمام الغزالي رحمه الله: ومعنى السخرية: الاستهانة والتحقير، والتنبيه على العيوب والنقائض على وجه يضحك منه، وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء.
لا تُضحك الذين يأكلون الطعام خوفًا عليهم من الشرق:
قال الشيخ عبدالقادر: من الأدب ألَّا يتكلم على الطعام بما يستقذر من الكلام، ولا بما يضحكهم خوفًا عليهم من الشرق.
وختامًا: فعن عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لو تعلمونَ ما أعلمُ لبكيْتُم كثيرًا، ولضحكتم قليلًا))، قال الإمام النووي رحمه الله: معناه: لو تعلمون من عظم انتقام الله تعالى من أهل الجرائم، وشدة عقابه، وأهوال القيامة، وما بعدها، كما علمت، وترون النار كما رأيت في مقامي هذا، وفي غيره، لبكيتم كثيرًا، ولقلَّ ضحككم لفكركم فيما علمتموه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: في حديث عائشة من الفوائد: الزجر عن كثرة الضحك، والحث على كثرة البكاء، والتحقُّق بما سيصير إليه المرء من الموت والفناء".
فأقِلَّ من الضحك في الدنيا، وأكثِرْ من ذكر الله لتدخُل الجنة وأنت تضحك، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن الذين ألسنتهم رطبة بذكر الله يدخل أحدهم الجنة وهو يضحك.
فهد بن عبدالعزيز عبدالله الشويرخ (https://www.alukah.net/authors/view/home/14789/فهد-بن-عبدالعزيز-عبدالله-الشويرخ/)
شبكة الالوكة