حكاية ناي ♔
07-04-2023, 03:43 PM
إنّ الحمد لله:
وكأني به يتحدث عن عهد مضى حينما كان جيرانه يتزاحمون عند أبوابه، ويتسابقون على صفوفه الأول، يتسابقون الفضل في رعايته وتطهيره وتنظيفه، يضج من داخله كخلايا النحل نشاطاً وحيوية فهذا يقرأ، وهنا حلقة، وذاك درسُ علم، مصابيحه لاتنطفئ، يَسعدُ بتفريغ الهموم وانشراح الصدور فيه، والخلوة بين جناباته.
إنه المسجد بيتٌ من بيوت الله تعالى في أرضه التي جعلها خالصة له وحده، فقال سبحانه: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا * وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴾ [الجن: 18، 19]. وهي أحب الأماكن إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى المؤمنين الصالحين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:أَحَبُّ الْبِلاَدِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلاَدِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقهَا. أخرجه مسلم[1]، بل إن المسجدَ بيتُ كلِّ مؤمنٍ وتقي، فقد رُوي عن أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " المسجد بيت كل تقي"[2].
يئِّن المسجد ويشتكي عندما تُهمل عمارته الحسيّة والمعنوية: فالحسيّة البنيان وحاجاته المتعلقة فيه، و المعنوية نشاطاته ودروسه وارتياده: قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [التوبة: 18].
قال الشيخ السعدي رحمه الله:" ثم ذكر من هم عمار مساجد اللّه فقال: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ﴾ [التوبة: 18] الواجبة والمستحبة، بالقيام بالظاهر منها والباطن. ﴿ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 177] لأهلها ﴿ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ [التوبة: 18] أي قصر خشيته على ربه، فكف عما حرم اللّه، ولم يقصر بحقوق اللّه الواجبة، فوصفهم بالإيمان النافع، وبالقيام بالأعمال الصالحة التي أُمُّها الصلاة والزكاة، وبخشية اللّه التي هي أصل كل خير، فهؤلاء عمار المساجد على الحقيقة وأهلها الذين هم أهلها، ﴿ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [التوبة: 18] و« عسى » من اللّه واجبة. وأمّا من لم يؤمن باللّه ولا باليوم الآخر، ولا عنده خشية للّه، فهذا ليس من عمار مساجد اللّه، ولا من أهلها الذين هم أهلها، وإن زعم ذلك وادعاه.اهـ[3].
يئِّن المسجد ويشتكي عندما يشتعل من حوله بالبيع والشراء والركض على الدنيا وقت إقامة الصلاة فيه، والله تعالى يقول: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾[النور: 36 - 38].
عن ابن مسعود أنه رأى قوماً من أهل السوق حيث نودي بالصلاة، تركوا بياعاتهم، ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه ﴿ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [النور: 37]، بل لم تكن الأسواق تفتح في المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم بعد الأذان تعظيماً لهذه الشعيرة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره: كانوا رجالاً يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما بأيديهم وقاموا إلى المساجد فصلوا. [4].
وكان هديه عليه الصلاة والسلام تنبيه الناس في الطريق وإقامتهم إلى الصلاة، كما روي عن مسلم بن أبي بكرة عن أبيه قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه و سلم لصلاة الصبح فكان لا يمر برجل إلا ناداه بالصلاة أو حركه برجله. رواه أبوداود[5].
وكان عمل الصحابة رضي الله عنهم عدم البيع وقت الصلاة، بل الانصراف من السوق وتركه والذهاب إلى المساجد فروى أحمد عن زيد بن خالد الجهني قال: كنا نصلى مع النبي صلى الله عليه و سلم المغرب ثم ننصرف إلى السوق[6].
يعني أنهم قطعوا الضرب في الأسواق عصراً بدخول وقت المغرب ثم انصرفوا إلى سوقهم مرة أخرى. وهكذا درج المسلمون على هذا الأمر حتى ظهرت نوابتُ متفيقهةٌ تقلل من أهمية الصلاة في المساجد، وتطالب بعدم إغلاقها وقت الصلاة.
يئِّن المسجد ويشتكي عندما يقصّر أهل الحي بارتياده والمكث فيه، ويعظم أنينه بتخلفهم عن صلاة الجماعة وهم جيرانه: والله تعالى يقول: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ﴾ [النساء: 102].
يا الله يصلون جماعة!! أمرٌ وهم في حال الخوف فكيف بمن جدار بيته قريب من جدار المسجد وهو آمن ٌ مطمئن ثم لا يحضر الجماعة؟! قال ابن المنذر: ففي أمر الله بإقامة الجماعة في حال الخوف: دليل على أن ذلك في حال الأمن أوجب[7].
ثم لنُصغِ إلى هذا الحديث الصحيح الذي تُذَّكرنا به جدران المسجد، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: " والذي نفسي بيده لقد هممتُ أن آمر بحطبٍ فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرْقاً سميناً، أو مِرْمَاتين حسنتين لشهد العشاء " رواه البخاري [8]. والعرْق: العظم. مرماتين: ما بين ظلفي الشاة من اللحم.والظّلف: الظفر.
وفي حديث آخر عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن اثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً يصلي بالناس ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار " رواه مسلم[9].
قال ابن المنذر رحمه الله: وفي اهتمامه بأن يحرق على قوم تخلفوا عن الصلاة بيوتهم: أبين البيان على وجوب فرض الجماعة، إذ غير جائز أن يحرِّق الرسول صلى الله عليه وسلم مَن تخلف عن ندب، وعما ليس بفرض اهـ[10].
أنّ المسجد وبكى فإلى الله المشتكى، أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية
الحمد لله:
يئِّن المسجد ويشتكي عندما يهجر الذكر وقراءة القران فيه، ويستبدل بكلام دنيوي صرف كبيع وشراء، بل ويعظم أنينه عندما يكون الكلام فيه محرماً كغيبة ونميمة. فقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك"[11] وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار.رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما[12].
يئِّن المسجد ويشتكي عندما يعبث صبيان أو سفهاء بمحتوياته أو يكتب على جدرانه ومرافقه كلاماً لايليق، والله تعالى يقول: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " ولو كان بيتٌ لأحدهم لما تجرأ على رمي ورقة بيضاء!
يئِّن المسجد ويشتكي عندما يُهمل بناؤه وتترك عمارته حسيّاً ومعنوياً ويستصغر شأنها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"من بنى مسجدا لله كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتاً في الجنة". رواه ابن ماجة وابن خزيمة وصححه الألباني[13].
أنّ المسجدُ وبكى فإلى الله المشتكى! ليست هذه حقوقه سوى طرفٍ منها.. فكن عبدالله من عُمّار المساجد وروادها والمحافظين عليها فإنها أطهر البقاع عسى الله أن يظلك في ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله، فإنّ منهم رجلٌ قلبه معلقٌ بالمساجد.
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلو عليه وسلموا تسليما
وكأني به يتحدث عن عهد مضى حينما كان جيرانه يتزاحمون عند أبوابه، ويتسابقون على صفوفه الأول، يتسابقون الفضل في رعايته وتطهيره وتنظيفه، يضج من داخله كخلايا النحل نشاطاً وحيوية فهذا يقرأ، وهنا حلقة، وذاك درسُ علم، مصابيحه لاتنطفئ، يَسعدُ بتفريغ الهموم وانشراح الصدور فيه، والخلوة بين جناباته.
إنه المسجد بيتٌ من بيوت الله تعالى في أرضه التي جعلها خالصة له وحده، فقال سبحانه: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا * وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴾ [الجن: 18، 19]. وهي أحب الأماكن إلى الله تعالى، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وإلى المؤمنين الصالحين، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:أَحَبُّ الْبِلاَدِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلاَدِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقهَا. أخرجه مسلم[1]، بل إن المسجدَ بيتُ كلِّ مؤمنٍ وتقي، فقد رُوي عن أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " المسجد بيت كل تقي"[2].
يئِّن المسجد ويشتكي عندما تُهمل عمارته الحسيّة والمعنوية: فالحسيّة البنيان وحاجاته المتعلقة فيه، و المعنوية نشاطاته ودروسه وارتياده: قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [التوبة: 18].
قال الشيخ السعدي رحمه الله:" ثم ذكر من هم عمار مساجد اللّه فقال: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ ﴾ [التوبة: 18] الواجبة والمستحبة، بالقيام بالظاهر منها والباطن. ﴿ وَآتَى الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 177] لأهلها ﴿ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ﴾ [التوبة: 18] أي قصر خشيته على ربه، فكف عما حرم اللّه، ولم يقصر بحقوق اللّه الواجبة، فوصفهم بالإيمان النافع، وبالقيام بالأعمال الصالحة التي أُمُّها الصلاة والزكاة، وبخشية اللّه التي هي أصل كل خير، فهؤلاء عمار المساجد على الحقيقة وأهلها الذين هم أهلها، ﴿ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [التوبة: 18] و« عسى » من اللّه واجبة. وأمّا من لم يؤمن باللّه ولا باليوم الآخر، ولا عنده خشية للّه، فهذا ليس من عمار مساجد اللّه، ولا من أهلها الذين هم أهلها، وإن زعم ذلك وادعاه.اهـ[3].
يئِّن المسجد ويشتكي عندما يشتعل من حوله بالبيع والشراء والركض على الدنيا وقت إقامة الصلاة فيه، والله تعالى يقول: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾[النور: 36 - 38].
عن ابن مسعود أنه رأى قوماً من أهل السوق حيث نودي بالصلاة، تركوا بياعاتهم، ونهضوا إلى الصلاة، فقال عبد الله: هؤلاء من الذين ذكر الله في كتابه ﴿ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [النور: 37]، بل لم تكن الأسواق تفتح في المدينة في عهده صلى الله عليه وسلم بعد الأذان تعظيماً لهذه الشعيرة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره: كانوا رجالاً يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما بأيديهم وقاموا إلى المساجد فصلوا. [4].
وكان هديه عليه الصلاة والسلام تنبيه الناس في الطريق وإقامتهم إلى الصلاة، كما روي عن مسلم بن أبي بكرة عن أبيه قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه و سلم لصلاة الصبح فكان لا يمر برجل إلا ناداه بالصلاة أو حركه برجله. رواه أبوداود[5].
وكان عمل الصحابة رضي الله عنهم عدم البيع وقت الصلاة، بل الانصراف من السوق وتركه والذهاب إلى المساجد فروى أحمد عن زيد بن خالد الجهني قال: كنا نصلى مع النبي صلى الله عليه و سلم المغرب ثم ننصرف إلى السوق[6].
يعني أنهم قطعوا الضرب في الأسواق عصراً بدخول وقت المغرب ثم انصرفوا إلى سوقهم مرة أخرى. وهكذا درج المسلمون على هذا الأمر حتى ظهرت نوابتُ متفيقهةٌ تقلل من أهمية الصلاة في المساجد، وتطالب بعدم إغلاقها وقت الصلاة.
يئِّن المسجد ويشتكي عندما يقصّر أهل الحي بارتياده والمكث فيه، ويعظم أنينه بتخلفهم عن صلاة الجماعة وهم جيرانه: والله تعالى يقول: ﴿ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ﴾ [النساء: 102].
يا الله يصلون جماعة!! أمرٌ وهم في حال الخوف فكيف بمن جدار بيته قريب من جدار المسجد وهو آمن ٌ مطمئن ثم لا يحضر الجماعة؟! قال ابن المنذر: ففي أمر الله بإقامة الجماعة في حال الخوف: دليل على أن ذلك في حال الأمن أوجب[7].
ثم لنُصغِ إلى هذا الحديث الصحيح الذي تُذَّكرنا به جدران المسجد، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: " والذي نفسي بيده لقد هممتُ أن آمر بحطبٍ فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرْقاً سميناً، أو مِرْمَاتين حسنتين لشهد العشاء " رواه البخاري [8]. والعرْق: العظم. مرماتين: ما بين ظلفي الشاة من اللحم.والظّلف: الظفر.
وفي حديث آخر عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن اثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً يصلي بالناس ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار " رواه مسلم[9].
قال ابن المنذر رحمه الله: وفي اهتمامه بأن يحرق على قوم تخلفوا عن الصلاة بيوتهم: أبين البيان على وجوب فرض الجماعة، إذ غير جائز أن يحرِّق الرسول صلى الله عليه وسلم مَن تخلف عن ندب، وعما ليس بفرض اهـ[10].
أنّ المسجد وبكى فإلى الله المشتكى، أقول قولي هذا وأستغفر الله.
الخطبة الثانية
الحمد لله:
يئِّن المسجد ويشتكي عندما يهجر الذكر وقراءة القران فيه، ويستبدل بكلام دنيوي صرف كبيع وشراء، بل ويعظم أنينه عندما يكون الكلام فيه محرماً كغيبة ونميمة. فقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك"[11] وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار.رواه الترمذي وأبو داود وغيرهما[12].
يئِّن المسجد ويشتكي عندما يعبث صبيان أو سفهاء بمحتوياته أو يكتب على جدرانه ومرافقه كلاماً لايليق، والله تعالى يقول: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " ولو كان بيتٌ لأحدهم لما تجرأ على رمي ورقة بيضاء!
يئِّن المسجد ويشتكي عندما يُهمل بناؤه وتترك عمارته حسيّاً ومعنوياً ويستصغر شأنها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"من بنى مسجدا لله كمفحص قطاة أو أصغر بنى الله له بيتاً في الجنة". رواه ابن ماجة وابن خزيمة وصححه الألباني[13].
أنّ المسجدُ وبكى فإلى الله المشتكى! ليست هذه حقوقه سوى طرفٍ منها.. فكن عبدالله من عُمّار المساجد وروادها والمحافظين عليها فإنها أطهر البقاع عسى الله أن يظلك في ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله، فإنّ منهم رجلٌ قلبه معلقٌ بالمساجد.
عباد الله: إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلو عليه وسلموا تسليما