عازف الناي
12-06-2022, 01:51 PM
1- أهمية التثبُّت في نقل الأخبار.
2- خطورة عدم التثبُّت في نقل الأخبار.
3- بواعث وأسباب الوقوع في نشر الأخبار والشائعات بلا تثبُّت.
4- المنهج الشرعي في التعامل مع الأخبار والشائعات.
الهدف من الخطبة:
التذكير بخطورة هذه الآفة وبيان تساهُل كثير من الناس في نقل الأخبار والشائعات بدون تثبُّت، مع بيان الآثار المترتبة عليها، والمنهج الشرعي الصحيح في علاجها.
مقدمة ومدخل للموضوع:
فإن من أخطر الآفات التي يجب على المسلم الحذر منها؛ العجلة في إشاعة ونشر الأخبار الكاذبة وعدم التثبُّت؛ حتى صارت وسائل الإعلام تتسابق للحصول على السبق كما يقولون، وتسمع دائمًا عبارات: (نبأ عاجل، انفراد، سبق صحفي.. وغيرها من العناوين) وكلها من أجل جذب أسماع وأبصار الناس لتلقي وقبول هذه الشائعات والأخبار الكاذبة، والترويج لها.
ولو أنَّ الناس تأدَّبُوا بآداب القرآن، لوجدوا هذا الإرشاد القرآني البليغ بضرورة التثبُّت من نشر ونقل الأخبار والمعلومات التي يسمعونها؛ فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]؛ أي: إنه إذا جاءكم من ينقل الأخبار فتبيَّنوا منه، وتثبَّتوا من الخبر، ولا تستعجلوا في قبوله، فقد يكون كاذبًا فتقعون في الإثم والخسارة والمؤاخذة.
قال العلَّامة السعدي رحمه الله: من الآداب التي على أولي الألباب التأدُّب بها واستعمالها، أنه إذا أخبرهم فاسق بنبأ؛ أي: خبر، أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثم.
جاء في سبب نزول هذه الآية: أن النبي صَلى الله عليه وسلم أرسل الوليد بن عقبة ليأتي بزكاة بني المصطلق، فخرج إليهم، فلما كان في منتصف الطريق خاف ورجع، وقد خرجوا له لاستقباله ومعهم الزكاة، فجاء إلى رسول الله صَلى الله عليه وسلم وقال: إنهم مُنِعوا الزكاة، فغضب رسول الله صَلى الله عليه وسلم، وحدَّث نفسه بغزوهم، فجاؤوا إليه وأخبروه بالحادثة؛ فأنزل الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [النساء: 94].
أيها المسلمون، عباد الله، إن هذه الآيات الكريمة ترسِم لنا منهجًا ربانيًّا عظيمًا في شأن تلقِّي الأخبار، فما أحوجنا أن نتعلَّمه! لا سيَّما في هذا الزمان الذي نرى فيه التسابُق على أشده لنقل الأخبار والأحداث ساعةً بساعةٍ؛ بل لحظةً بلحظةٍ، والكلُّ ينافس ويسابق لينال السبق، أو الانفراد كما يقولون، وما هي إلَّا دقائق معدودة في زمان الفضائيات ووسائل التواصُل الاجتماعي حتى تكون قد انتشرت هذه الشائعة، أو الخبر الكاذب في مشارق الأرض ومغاربها.
إن التثبُّت في نقل الأخبار لهو من صفات أصحاب العقول الحكيمة الرزينة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش والتسرُّع.
وكما قيل: التثبت فضيلة، والنقل من الناس بدون تثبُّت رذيلة، وقيل: إن التثبُّت دليلٌ على رجاحة العقل وسلامة التَّفكير، أما العجلة وعدم التثبُّت فدليل على نقص في العقل وخلل في التفكير.
وتأمَّل معي القصص القرآني والمنهج الرباني في التعامل مع الأخبار؛ فهذا سليمان عليه السلام يُعلِّمنا هذا الأدب العظيم في قصته مع الهدهد عندما جاءه بخبر ملكة سبأ: ﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 22- 24]، فكان الردُّ من سليمان عليه السلام: ﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27]؛ أي: سنبحث في الأمر لعلك تكون قد كذبت، أو أخطأت، أو وهمت، لعَلَّ في الأمر التباسًا وغموضًا.
وأثنى الله تعالى على خليله إبراهيم عليه السلام لاتِّصافه بهذا الأدب؛ وذلك عندما تبرَّأ من والده الكافر بعدما تبيَّن له كفره وعناده، وأقام عليه الحجة والبيِّنة، ﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ﴾ [التوبة: 114].
وتأمَّل معي أيضًا منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعامُل مع الأخبار والشائعات؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليقيم عليه الحدَّ، وأنه وقع في الفاحشة، فيتبيَّن رسول الله صَلى الله عليه وسلم أمره ثلاث مرات، يسأل عنه أصحابه يقول لهم: أتعلمون بعقله بأسًا تنكرون منه شيئًا؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفيَّ العقل، من صالحينا فيما نرى، حتى أمر به بعد الثالثة فرجم.
في رواية: ".. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبه جنون؟))، فأُخبِر أنه ليس بمجنون، فقال: ((أشربَ خمرًا؟))، فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أزنيتَ؟))، فقال: نعم، فأمَرَ به فرُجِم.
فهذا درس لنا في وجوب التثبُّت والتبيُّن قبل اتخاذ أيِّ قرارٍ قد يعود على المرء بالندامة نتيجة تهوُّره وعجلته.
وهذا أبوبكر الصديق رضي الله عنه الذي تخرَّج من هذه المدرسة النبويَّة الربانية؛ يُعلِّمنا درسًا عمليًّا في التثبُّت، وذلك بعد أن سمِعَ خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري أن الصِّدِّيق رضي الله عنه عندما جاءه خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كان في مكان من عوالي المدينة، فجاء إلى المدينة ووصل المسجد، ولم يُكلِّم أحدًا، ودخل إلى بيت عائشة ودخل حجرتها، ثم رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم مُسجًى وعليه بردة حبرة، فكشفها عن وجهه الشريف ثم قبَّله وقال: طِبْت حيًّا وميتًا.
مع أن خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان كالشمس في الظهيرة، ليس دونها سحاب، وكان يوجد الصفوة من الصحابة وبمقدوره أن يتأكَّد منهم؛ ومع ذلك يُعلِّمنا رضي الله عنه التثبُّت والتبيُّن من صِحَّة الأخبار.
الوقفة الثانية: مع خطورة نشر الأخبار والشائعات وعدم التثبُّت:
إن نشر الإشاعات والأخبار بلا تثبُّت له عواقب وخيمة وآثار سيئة وخيمة، فكم من خبر وفاة انتشر بخبر كاذب؟! وكم من امرأة طُلِّقت بخبر كاذب؟! وكم من زواج فشل بخبر كاذبٍ؟!
وكم من شركة انحلَّت بخبر كاذب؟! وكم من حربٍ قامت بخبر كاذب؟! وكم من تجارةٍ كسدت بخبر كاذب؟!
وتأمَّل معي هذه الأمثلة من عواقب سرعة نشر الأخبار والشائعات بلا تثبت: لما هاجر الصحابة من مكة إلى الحبشة، وكانوا فيها في أمانٍ، أُشِيعَ أنَّ كفار قريش في مكة قد أسلموا، فرجع بعض الصحابة من الحبشة، وتكبَّدوا عناء الطريق، حتى وصلوا إلى مكة ووجدوا الخبر مكذوبًا، فمنهم من رجع إلى الحبشة، ومنهم مَنْ بقي يُقاسي ألوانًا من الأذى والتعذيب، وكل ذلك بسبب الإِشاعة.
وفي غزوة أُحُد لما أُشيع بين الناس أن الذي قُتِل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لهذه الإشاعة بالغ الأثر في صفوف المسلمين حينها، فقد توقَّف بعضُهم عن القتال، وألقوا السيوف من أيديهم، وتحطَّمت معنويَّاتهم بسبب هذه الإِشاعة، وبعضهم هرب إلى المدينة، وبعضهم ترك القتال، حتى ثبَّتهم الله تعالى بأنس بن النضر، فقال لهم: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتِل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتِل رضي الله عنه.
ومن أشهر هذه الإشاعات وأخبثها (حادثة الإفك) التي أشاعها ونشرها المنافقون بين الناس، والتي اتُّهِمَت فيها عائشة رضي الله عنها بالفاحشة، وهي الطاهرة العفيفة، والتي تربت في بيت الطُّهْر والعِفَّة والنقاء والحياء؛ وذلك عندما تخلَّفت عن الرحلة وجاء بها صفوان رضي الله عنه، وكادت أن تمر لولا أن أحد المنافقين تكلَّم بكلمة واحدة: والله ما نجا منها ولا نجت، ثم تناقلتها الألسُن، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11]، ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15]، فخاض فيها بعض المسلمين، وتحدَّثوا فيها دون تثبُّت ولا تبيُّن؛ فشغلت المسلمين بالمدينة شهرًا كاملًا، وبَيْتُ النبوة في حزن وألم، والمجتمع الإسلامي في هَمٍّ وغَمٍّ، حتى جاء الوحي ببراءة عائشة رضي الله عنها.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا من عباده الأبرار الذين يتثبَّتون في نقل الأخبار.
مع وقفتنا الثالثة: بواعث وأسباب الوقوع في نشر الأخبار والشائعات بلا تثبُّت:
1- قد تكون لشهوة وحظ النفس.
2- وقد تكون نتيجة الفراغ؛ فإن الفراغ يولِّد الشائعات، وقديمًا كانوا يسمون مَن يجلس فارغًا: (بـالعاطل، البطَّال).
3- وقد تكون لكشف أسرار الآخرين.
4- وقد تكون للدعاية والترويج لأمرٍ أو حدثٍ مُعيَّنٍ.
5- وقد تكون لجذب الانتباه وحبِّ الشهرة.
أما وقفتنا الرابعة: فمع المنهج الشرعي في التعامل مع الشائعات والأخبار:
عباد الله، إن الذي ينبغي على المسلم فعله عند سماع الأخبار والإشاعات:
أولًا: أن يتقي الله تعالى في نفسه وفي كل ما يقول، وأن يتذكَّر أنه مسؤول، وأن الله تعالى سيُحاسبه على كل كلمةٍ يقولها، قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12]، وقال سبحانه: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وقال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36].
قال الـمُفسِّرون: لا تقل: رأيتُ ولم ترَ، وسمعتُ ولم تسمع، وعلمتُ ولم تعلم، فإنَّ الله تعالى سائلك عن ذلك كله.
ثانيًا: أن يطلب الدليل من الناقل، وعدم العجلة في الحكم على الآخرين، وإحسان الظنِّ بهم، قال الله تعالى: ﴿ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ﴾ [النور: 13].
كان عمر يقول لمن قال له كلامًا من باب المزيد من التثبُّت: والله لأوجعنَّ ظهرك وبطنك أو لتأتينَّ بمن يشهد لك على هذا؛ للتثبُّت، ورُوي عن علي رضي الله عنه: أن رجلًا سعى إليه برجل فقال له: يا هذا، نحن نسأل عما قلت، فإن كنت صادقًا مقتناك، وإن كنت كاذبًا عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك، فقال: أقلني يا أمير المؤمنين.
ورُوي عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية: ﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6]، وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية: ﴿ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11]، وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا.
ثالثًا: ألَّا يُحدِّث بكل ما يسمع، ولا ينشره؛ لأنه يفضي إلى الوقوع في الكذب؛ فالذي لا يتثبَّت لا بُدَّ وأن يقع في الكذب، فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كفى بالـمَرْءِ كذبًا أن يُحدِّث بكل ما سمِع))، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((بئس مطية الرجل زعموا))؛ أي: قول "زعموا كذا" أو "قالوا كذا"؛ فإذا سألته: هل سمعته منه؟ هل رأيته يفعله؟ يقول: لا؛ ولكن قالوا.
رابعًا: أفضل إجراء لوأْدِ الشائعة؛ هو عدم الخوض فيها؛ فإنه لو لم يتكلَّم كل واحد بمثل هذه الأخبار والشائعات لانطفأت وما كان لها أثرٌ، قال الله تعالى: ﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور: 12]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا ﴾ [النور: 16].
خامسًا: الحذر من الوعيد الشديد في حق الكذب عمومًا، وفي حق نشر الإشاعات والأخبار الكاذبة على وجه الخصوص، ففي صحيح البخاري عن سَمُرة بن جندب رضي الله عنه، في حديث الرؤيا، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((.... فانْطَلَقْنا، فأتَيْنا علَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفاهُ، وإذا آخَرُ قائِمٌ عليه بكَلُّوبٍ مِن حَدِيدٍ، وإذا هو يَأْتي أحَدَ شِقَّيْ وجْهِهِ فيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إلى قَفاهُ، ومَنْخِرَهُ إلى قَفاهُ، وعَيْنَهُ إلى قَفاهُ... ))، ثم قال: ((وأَمَّا الرَّجُلُ الذي أتَيْتَ عليه، يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إلى قَفَاهُ، ومَنْخِرُهُ إلى قَفَاهُ، وعَيْنُهُ إلى قَفَاهُ، فإنَّه الرَّجُلُ يَغْدُو مِن بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ...)).
ونختم بهذه القصة التي ذكرها ابن كثير رحمه الله في: (البداية والنهاية، حوادث سنة ثلاثمائة وأربع):
قال: وفي نصف هذه السنة اشتهر ببغداد أن حيوانًا يُقال له: الزرنب، (وهذا تأليف -كما يقولون- ليس هناك حيوان بهذه الصفة يُقال له: الزرنب)، وأنه يطوف بالليل يأكل الأطفال، ويعدو على النيام، فيقطع يد الرجل، أو ثدي المرأة وهي نائمة، فماذا حصل للعامة نتيجة هذه الإشاعة؟
قال ابن كثير: فجعل الناس يضربون على أسطحتهم على النحاس من الهواوين؛ لإحداث الأصوات الكبيرة؛ لينفروا الوحش بزعمهم، قال: حتى كانت بغداد بالليل ترتج من شرقها وغربها، واصطنع الناس لأولادهم مكبات من السعف، واغتنمت اللصوص هذه الفوضى، فكثرت النقوب في الجدران، ودخلوا البيوت، وأخذت الأموال، وما هدأت الإشاعة إلا لما أمر الخليفة: بأن يؤخذ حيوان من كلاب الماء فيصلب على جسر بغداد ليسكن الناس، ففعل ذلك فسكن الناس.
نسأل الله العظيم أن يُصلِح أحوالنا، وأن يرزقنا التأني والصِّدْق في الأقوال والأفعال.
رمضان صالح العجرمي (https://www.alukah.net/authors/view/home/16928/رمضان-صالح-العجرمي/)
شبكة الالوكة
2- خطورة عدم التثبُّت في نقل الأخبار.
3- بواعث وأسباب الوقوع في نشر الأخبار والشائعات بلا تثبُّت.
4- المنهج الشرعي في التعامل مع الأخبار والشائعات.
الهدف من الخطبة:
التذكير بخطورة هذه الآفة وبيان تساهُل كثير من الناس في نقل الأخبار والشائعات بدون تثبُّت، مع بيان الآثار المترتبة عليها، والمنهج الشرعي الصحيح في علاجها.
مقدمة ومدخل للموضوع:
فإن من أخطر الآفات التي يجب على المسلم الحذر منها؛ العجلة في إشاعة ونشر الأخبار الكاذبة وعدم التثبُّت؛ حتى صارت وسائل الإعلام تتسابق للحصول على السبق كما يقولون، وتسمع دائمًا عبارات: (نبأ عاجل، انفراد، سبق صحفي.. وغيرها من العناوين) وكلها من أجل جذب أسماع وأبصار الناس لتلقي وقبول هذه الشائعات والأخبار الكاذبة، والترويج لها.
ولو أنَّ الناس تأدَّبُوا بآداب القرآن، لوجدوا هذا الإرشاد القرآني البليغ بضرورة التثبُّت من نشر ونقل الأخبار والمعلومات التي يسمعونها؛ فقد قال سبحانه وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]؛ أي: إنه إذا جاءكم من ينقل الأخبار فتبيَّنوا منه، وتثبَّتوا من الخبر، ولا تستعجلوا في قبوله، فقد يكون كاذبًا فتقعون في الإثم والخسارة والمؤاخذة.
قال العلَّامة السعدي رحمه الله: من الآداب التي على أولي الألباب التأدُّب بها واستعمالها، أنه إذا أخبرهم فاسق بنبأ؛ أي: خبر، أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثم.
جاء في سبب نزول هذه الآية: أن النبي صَلى الله عليه وسلم أرسل الوليد بن عقبة ليأتي بزكاة بني المصطلق، فخرج إليهم، فلما كان في منتصف الطريق خاف ورجع، وقد خرجوا له لاستقباله ومعهم الزكاة، فجاء إلى رسول الله صَلى الله عليه وسلم وقال: إنهم مُنِعوا الزكاة، فغضب رسول الله صَلى الله عليه وسلم، وحدَّث نفسه بغزوهم، فجاؤوا إليه وأخبروه بالحادثة؛ فأنزل الله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [النساء: 94].
أيها المسلمون، عباد الله، إن هذه الآيات الكريمة ترسِم لنا منهجًا ربانيًّا عظيمًا في شأن تلقِّي الأخبار، فما أحوجنا أن نتعلَّمه! لا سيَّما في هذا الزمان الذي نرى فيه التسابُق على أشده لنقل الأخبار والأحداث ساعةً بساعةٍ؛ بل لحظةً بلحظةٍ، والكلُّ ينافس ويسابق لينال السبق، أو الانفراد كما يقولون، وما هي إلَّا دقائق معدودة في زمان الفضائيات ووسائل التواصُل الاجتماعي حتى تكون قد انتشرت هذه الشائعة، أو الخبر الكاذب في مشارق الأرض ومغاربها.
إن التثبُّت في نقل الأخبار لهو من صفات أصحاب العقول الحكيمة الرزينة، بخلاف العجلة فإنها من صفات أصحاب الرعونة والطيش والتسرُّع.
وكما قيل: التثبت فضيلة، والنقل من الناس بدون تثبُّت رذيلة، وقيل: إن التثبُّت دليلٌ على رجاحة العقل وسلامة التَّفكير، أما العجلة وعدم التثبُّت فدليل على نقص في العقل وخلل في التفكير.
وتأمَّل معي القصص القرآني والمنهج الرباني في التعامل مع الأخبار؛ فهذا سليمان عليه السلام يُعلِّمنا هذا الأدب العظيم في قصته مع الهدهد عندما جاءه بخبر ملكة سبأ: ﴿ فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [النمل: 22- 24]، فكان الردُّ من سليمان عليه السلام: ﴿ قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [النمل: 27]؛ أي: سنبحث في الأمر لعلك تكون قد كذبت، أو أخطأت، أو وهمت، لعَلَّ في الأمر التباسًا وغموضًا.
وأثنى الله تعالى على خليله إبراهيم عليه السلام لاتِّصافه بهذا الأدب؛ وذلك عندما تبرَّأ من والده الكافر بعدما تبيَّن له كفره وعناده، وأقام عليه الحجة والبيِّنة، ﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ﴾ [التوبة: 114].
وتأمَّل معي أيضًا منهج النبي صلى الله عليه وسلم في التعامُل مع الأخبار والشائعات؛ فقد روى مسلم في صحيحه عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليقيم عليه الحدَّ، وأنه وقع في الفاحشة، فيتبيَّن رسول الله صَلى الله عليه وسلم أمره ثلاث مرات، يسأل عنه أصحابه يقول لهم: أتعلمون بعقله بأسًا تنكرون منه شيئًا؟ فقالوا: ما نعلمه إلا وفيَّ العقل، من صالحينا فيما نرى، حتى أمر به بعد الثالثة فرجم.
في رواية: ".. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبه جنون؟))، فأُخبِر أنه ليس بمجنون، فقال: ((أشربَ خمرًا؟))، فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أزنيتَ؟))، فقال: نعم، فأمَرَ به فرُجِم.
فهذا درس لنا في وجوب التثبُّت والتبيُّن قبل اتخاذ أيِّ قرارٍ قد يعود على المرء بالندامة نتيجة تهوُّره وعجلته.
وهذا أبوبكر الصديق رضي الله عنه الذي تخرَّج من هذه المدرسة النبويَّة الربانية؛ يُعلِّمنا درسًا عمليًّا في التثبُّت، وذلك بعد أن سمِعَ خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري أن الصِّدِّيق رضي الله عنه عندما جاءه خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كان في مكان من عوالي المدينة، فجاء إلى المدينة ووصل المسجد، ولم يُكلِّم أحدًا، ودخل إلى بيت عائشة ودخل حجرتها، ثم رأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم مُسجًى وعليه بردة حبرة، فكشفها عن وجهه الشريف ثم قبَّله وقال: طِبْت حيًّا وميتًا.
مع أن خبر وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان كالشمس في الظهيرة، ليس دونها سحاب، وكان يوجد الصفوة من الصحابة وبمقدوره أن يتأكَّد منهم؛ ومع ذلك يُعلِّمنا رضي الله عنه التثبُّت والتبيُّن من صِحَّة الأخبار.
الوقفة الثانية: مع خطورة نشر الأخبار والشائعات وعدم التثبُّت:
إن نشر الإشاعات والأخبار بلا تثبُّت له عواقب وخيمة وآثار سيئة وخيمة، فكم من خبر وفاة انتشر بخبر كاذب؟! وكم من امرأة طُلِّقت بخبر كاذب؟! وكم من زواج فشل بخبر كاذبٍ؟!
وكم من شركة انحلَّت بخبر كاذب؟! وكم من حربٍ قامت بخبر كاذب؟! وكم من تجارةٍ كسدت بخبر كاذب؟!
وتأمَّل معي هذه الأمثلة من عواقب سرعة نشر الأخبار والشائعات بلا تثبت: لما هاجر الصحابة من مكة إلى الحبشة، وكانوا فيها في أمانٍ، أُشِيعَ أنَّ كفار قريش في مكة قد أسلموا، فرجع بعض الصحابة من الحبشة، وتكبَّدوا عناء الطريق، حتى وصلوا إلى مكة ووجدوا الخبر مكذوبًا، فمنهم من رجع إلى الحبشة، ومنهم مَنْ بقي يُقاسي ألوانًا من الأذى والتعذيب، وكل ذلك بسبب الإِشاعة.
وفي غزوة أُحُد لما أُشيع بين الناس أن الذي قُتِل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان لهذه الإشاعة بالغ الأثر في صفوف المسلمين حينها، فقد توقَّف بعضُهم عن القتال، وألقوا السيوف من أيديهم، وتحطَّمت معنويَّاتهم بسبب هذه الإِشاعة، وبعضهم هرب إلى المدينة، وبعضهم ترك القتال، حتى ثبَّتهم الله تعالى بأنس بن النضر، فقال لهم: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتِل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتِل رضي الله عنه.
ومن أشهر هذه الإشاعات وأخبثها (حادثة الإفك) التي أشاعها ونشرها المنافقون بين الناس، والتي اتُّهِمَت فيها عائشة رضي الله عنها بالفاحشة، وهي الطاهرة العفيفة، والتي تربت في بيت الطُّهْر والعِفَّة والنقاء والحياء؛ وذلك عندما تخلَّفت عن الرحلة وجاء بها صفوان رضي الله عنه، وكادت أن تمر لولا أن أحد المنافقين تكلَّم بكلمة واحدة: والله ما نجا منها ولا نجت، ثم تناقلتها الألسُن، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 11]، ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور: 15]، فخاض فيها بعض المسلمين، وتحدَّثوا فيها دون تثبُّت ولا تبيُّن؛ فشغلت المسلمين بالمدينة شهرًا كاملًا، وبَيْتُ النبوة في حزن وألم، والمجتمع الإسلامي في هَمٍّ وغَمٍّ، حتى جاء الوحي ببراءة عائشة رضي الله عنها.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا من عباده الأبرار الذين يتثبَّتون في نقل الأخبار.
مع وقفتنا الثالثة: بواعث وأسباب الوقوع في نشر الأخبار والشائعات بلا تثبُّت:
1- قد تكون لشهوة وحظ النفس.
2- وقد تكون نتيجة الفراغ؛ فإن الفراغ يولِّد الشائعات، وقديمًا كانوا يسمون مَن يجلس فارغًا: (بـالعاطل، البطَّال).
3- وقد تكون لكشف أسرار الآخرين.
4- وقد تكون للدعاية والترويج لأمرٍ أو حدثٍ مُعيَّنٍ.
5- وقد تكون لجذب الانتباه وحبِّ الشهرة.
أما وقفتنا الرابعة: فمع المنهج الشرعي في التعامل مع الشائعات والأخبار:
عباد الله، إن الذي ينبغي على المسلم فعله عند سماع الأخبار والإشاعات:
أولًا: أن يتقي الله تعالى في نفسه وفي كل ما يقول، وأن يتذكَّر أنه مسؤول، وأن الله تعالى سيُحاسبه على كل كلمةٍ يقولها، قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الانفطار: 10 - 12]، وقال سبحانه: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18]، وقال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36].
قال الـمُفسِّرون: لا تقل: رأيتُ ولم ترَ، وسمعتُ ولم تسمع، وعلمتُ ولم تعلم، فإنَّ الله تعالى سائلك عن ذلك كله.
ثانيًا: أن يطلب الدليل من الناقل، وعدم العجلة في الحكم على الآخرين، وإحسان الظنِّ بهم، قال الله تعالى: ﴿ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ﴾ [النور: 13].
كان عمر يقول لمن قال له كلامًا من باب المزيد من التثبُّت: والله لأوجعنَّ ظهرك وبطنك أو لتأتينَّ بمن يشهد لك على هذا؛ للتثبُّت، ورُوي عن علي رضي الله عنه: أن رجلًا سعى إليه برجل فقال له: يا هذا، نحن نسأل عما قلت، فإن كنت صادقًا مقتناك، وإن كنت كاذبًا عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك، فقال: أقلني يا أمير المؤمنين.
ورُوي عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية: ﴿ إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ﴾ [الحجرات: 6]، وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية: ﴿ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ﴾ [القلم: 11]، وإن شئت عفونا عنك؟ فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا.
ثالثًا: ألَّا يُحدِّث بكل ما يسمع، ولا ينشره؛ لأنه يفضي إلى الوقوع في الكذب؛ فالذي لا يتثبَّت لا بُدَّ وأن يقع في الكذب، فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كفى بالـمَرْءِ كذبًا أن يُحدِّث بكل ما سمِع))، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((بئس مطية الرجل زعموا))؛ أي: قول "زعموا كذا" أو "قالوا كذا"؛ فإذا سألته: هل سمعته منه؟ هل رأيته يفعله؟ يقول: لا؛ ولكن قالوا.
رابعًا: أفضل إجراء لوأْدِ الشائعة؛ هو عدم الخوض فيها؛ فإنه لو لم يتكلَّم كل واحد بمثل هذه الأخبار والشائعات لانطفأت وما كان لها أثرٌ، قال الله تعالى: ﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور: 12]، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا ﴾ [النور: 16].
خامسًا: الحذر من الوعيد الشديد في حق الكذب عمومًا، وفي حق نشر الإشاعات والأخبار الكاذبة على وجه الخصوص، ففي صحيح البخاري عن سَمُرة بن جندب رضي الله عنه، في حديث الرؤيا، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((.... فانْطَلَقْنا، فأتَيْنا علَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفاهُ، وإذا آخَرُ قائِمٌ عليه بكَلُّوبٍ مِن حَدِيدٍ، وإذا هو يَأْتي أحَدَ شِقَّيْ وجْهِهِ فيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إلى قَفاهُ، ومَنْخِرَهُ إلى قَفاهُ، وعَيْنَهُ إلى قَفاهُ... ))، ثم قال: ((وأَمَّا الرَّجُلُ الذي أتَيْتَ عليه، يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إلى قَفَاهُ، ومَنْخِرُهُ إلى قَفَاهُ، وعَيْنُهُ إلى قَفَاهُ، فإنَّه الرَّجُلُ يَغْدُو مِن بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ...)).
ونختم بهذه القصة التي ذكرها ابن كثير رحمه الله في: (البداية والنهاية، حوادث سنة ثلاثمائة وأربع):
قال: وفي نصف هذه السنة اشتهر ببغداد أن حيوانًا يُقال له: الزرنب، (وهذا تأليف -كما يقولون- ليس هناك حيوان بهذه الصفة يُقال له: الزرنب)، وأنه يطوف بالليل يأكل الأطفال، ويعدو على النيام، فيقطع يد الرجل، أو ثدي المرأة وهي نائمة، فماذا حصل للعامة نتيجة هذه الإشاعة؟
قال ابن كثير: فجعل الناس يضربون على أسطحتهم على النحاس من الهواوين؛ لإحداث الأصوات الكبيرة؛ لينفروا الوحش بزعمهم، قال: حتى كانت بغداد بالليل ترتج من شرقها وغربها، واصطنع الناس لأولادهم مكبات من السعف، واغتنمت اللصوص هذه الفوضى، فكثرت النقوب في الجدران، ودخلوا البيوت، وأخذت الأموال، وما هدأت الإشاعة إلا لما أمر الخليفة: بأن يؤخذ حيوان من كلاب الماء فيصلب على جسر بغداد ليسكن الناس، ففعل ذلك فسكن الناس.
نسأل الله العظيم أن يُصلِح أحوالنا، وأن يرزقنا التأني والصِّدْق في الأقوال والأفعال.
رمضان صالح العجرمي (https://www.alukah.net/authors/view/home/16928/رمضان-صالح-العجرمي/)
شبكة الالوكة