مشاهدة النسخة كاملة : أبو طلحة وبيرحاء


حكاية ناي ♔
08-26-2023, 12:21 PM
عن أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه أنّه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: يقول الله تبارك وتعالى في كتابه: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران: 92] [1] وإنّ أحب أموالي إليّ بَيْرُحاء، وكانت حديقة يدخلها النبي صلى الله عليه وسلم، ويستظل بها، ويشرب من مائها، فهي إلى الله عز وجل، وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال صلى الله عليه وسلم: بخ يا أبا طلحة، ذاك مال رابح، ذاك ما رابح، قبلناه منك، ورددناه عليك، فاجعله في الأقربين، فتصدّق به أبو طلحة على ذوي رَحِمِه[2].

من فوائد الحديث:
1- الصدقة على الأقارب فيها أجران: أجر الصدقة، وأجر القرابة.
2- بيرحاء بستان وكانت بساتين المدينة تدعى بالآبار التي فيها أي البستان الذي فيه بيرحاء أضيف البير الى حاء. وقيل هو: (حائط يُسمّى بهذا الاسم، وليس اسم بئر) [3].
3- استحباب النفقة مما يُحبّ الإنسان، وهو الأفضل.
4- مشاورة أهل الفضل، والعلم في كيفية الإنفاق والتصرف في المال وغيره.
5- جواز أن يتصدّق المسلم بداره أو أرضه لله سبحانه، أو للفقراء، ونحو ذلك.
6- قوله صلى الله عليه وسلم: " بَخٍ " كلمة تقال لتفخيم الأمر، والإعجاب به.
7- قوله صلى الله عليه وسلم: "ذلك مال رابح" من الربح، أي ذو ربح، وقيل: هو فاعل بمعنى مفعول، أي: مال مربوح به.
8- قوله: (فتصدّق به أبو طلحة على ذوي رحِمه) أي: أقاربه، ومنهم: أُبّي بن كعب،وحسّان بن ثابت وأخيه، أو ابن أخيه شداد بن أوس،ونبيط بن جابر، فباع حسان حصّته من معاوية بمئة ألف درهم. وهذا يدل على أن أبا طلحة ملّكهم الحديقة المذكورة، ولم يوقفها عليهم، إذ لو وقفها عليهم ما ساغ لحسان أن يبيعها.
9- ويحتمل أن يقال: شرط أبو طلحة عليهم لما وقفها عليهم، أنّ من احتاج إلى بيع حصته منهم جاز له بيعها. وقد قال بجواز هذا الشرط علي رضي الله عنه، ومالك وغيرهما. [4]
10- وقد اختلف العلماء في الأقارب، فقال أبو حنيفة: القرابة كل ذي رحم محرم من قبل الأب أو الأم، ولكن يبدأ بقرابة الأب قبل الأم، وقال أبو يوسف ومحمد: من جمعهم أب منذ الهجرة من قبل أب أو أم من غير تفصيل، زاد زفر: ويقدم من قرب منهم، وهي رواية عن أبي حنيفة أيضا. وأقل من يدفع إليه ثلاثة، وعند محمد اثنان، وعند أبي يوسف واحد، ولا يصرف للأغنياء عندهم إلا أن يشترط ذلك.
وقالت الشافعية والمالكية: القريب من اجتمع في النسب سواء قرب أو بعد، مسلما كان أو كافرا، غنيا كان أو فقيرا، ذكرا كان أو أنثى، وارثا أو غير وارث، محرما أو غير محرم. وقالوا: إن وجد جمع محصورون أكثر من ثلاثة استوعبوا، وقيل: يقتصر على ثلاثة، وإن كانوا غير محصورين. وقال أحمد في القرابة مثلهما، إلا أنه أخرج الكافر. وفي رواية عنه: القرابة كل من جمعه مع الموصي الأب الرابع إلى ما هو أسفل منه.

11- أن الوقف لا يحتاج في انعقاده إلى قبول الموقوف عليه.
12- صحّة الصدقة المطلقة، ثم يعينها المتصدق لمن يريد.
13- إجماع أئمة الفتوى على أنه لا تنفذ الهبات والصدقات بالقول حتى يقبضها الذي ملكها. [5]
14- البرّ هنا: الجنة. قاله ابن عباس رضي الله عنهما وغيره. وعن مقاتل: التقوى. وقال غيره: الثواب.[6] وقيل: البِرّ هو الخير الكثير. [7]
15- فضل الكفاف على ما سواه؛ لأنه أمسك رضي الله عنه بعض ماله.
16- اعتبار الصحابة رضي الله عنهم بالقرآن، واتباعهم له، وتطبيقهم لما فيه. [8]
17- كان هذا البستان المبارك قبالة المسجد النبوي، وقريبا منه.
18- قوله سبحانه: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ ﴾، أي لا تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير، أو لن تنالوا بر الله الذي هو الرحمة والرضا والجنة. [9]
19- أن ينفق من أطيب ماله ومما يحب من ماله، وهناك فرق بين الأطيب وبين الذي يحب، الغالب أن الإنسان لا يحب إلا أطيب ماله، لكن أحياناً يتعلق قلبه بشيء من ماله وليس أطيب ماله فإذا أنفق من الطيب الذي هو محبوب لعامة الناس ومما يحبه هو بنفسه وإن لم يكن من الطيب؛ كان ذلك دليلاً على أنه صادق فيما عامل الله به.
20- إنّ الذي تُقدّمه من مالك هو الذي يبقى لك يوم القيامة. [10]
21- قوله: (بِرّها) أي: أجرها وثوابها، وقوله: (ذُخْرها) أي: أدّخرها لانتفع بها وقت حاجتي إليها. وهو يوم القيامة وسائر أوقات الشدائد.
22- الحثّ على النفقة، والصدقة في سبيل الله. [11]
23- أن الصدقة على الأقارب وضعفاء الأهلين أفضل منها على سائر الناس. [12]
24- قال ابن بطال: ذهب مالك إلى صحة الوقف، وإن لم يعين مصرفه، ووافقه أبو يوسف ومحمد والشافعي في قول. قال ابن القصار: وجهه أنه إذا قال: وقف أو صدقة، فإنما أراد به البر والقرابة، وأولى الناس ببره أقاربه، ولاسيما إذا كانوا فقراء، وهو كمن أوصى بثلث ماله، ولم يعين مصرفه، فإنه يصح ويصرف في الفقراء. والقول الآخر للشافعي إن الوقف لا يصح حتى يعين جهة مصرفه، وإلا فهو باق على ملكه. وقال بعض الشافعية: إن قال: وقفته، وأطلق، فهو محل الخلاف، وإن قال: وقفته لله، خرج عن ملكه جزما. ودليله قصة أبي طلحة هذه.
25- استدل بالحديث الجمهور في أن من أوصى أن يُفَرّق ثلث ماله حيث يَرى الوصيّ صحّت وصيته، ويفرّقه الوصيّ في سبل الخير، ولا يأكل منه شيئا ولا يعطي منه وارثا للميت.
26- جواز تصدّق الحي في غير مرض بأكثر من ثلث ماله، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يستفصل أبا طلحة عن قدر ما تصدق به.
27- جواز إضافة حب المال إلى الرجل الفاضل العالم، ولا نقص عليه في ذلك. وقد أخبر الله تعالى عن الإنسان ﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ﴾ [العاديات: 8] [13]، والخير هنا هو: المال.
28- جواز اتخاذ الحوائط والبساتين.
29- دخول أهل العلم والفضل في الحوائط والبساتين، والاستظلال بظلها، والأكل من ثمرها، والراحة والتنزه فيها. وقد يكون ذلك مستحبا يترتب عليه الأجر، إذا قصد به إجمام النفس من تعب العبادة، وتنشيطها للطاعة.
30- كَسْبُ العقار مباحٌ إذا كان حلالا. ولا يُسبّب مَذلّة، وصَغارا.
31- إباحة الشرب من دار الصديق، ولو لم يكن حاضرا، إذا علم طيب نفسه.
32- إباحة استعذاب الماء، وتفضيل بعضه على بعض.
33- التمسك بالعموم، لأن أبا طلحة فهم من قوله تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ تتناول ذلك بجميع أفراده، فلم يقف حتى يرد عليه البيان عن شيء بعينه، بل بدر إلى إنفاق ما يحبه، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
34- استدل به لما ذهب إليه مالك من أن الصدقة تصح بالقول من قبل القبض، فإن كانت لمعين استحق المطالبة بقبضها، وإن كانت لجهة عامة خرجت عن ملك القائل، وكل هذا مالم يظهر مراد المُتصدق، فإن ظهر اتبع ما أراده.
35- جواز تولي المُتصدق قَسْمَ صَدَقَته.
36- جواز أخذ الغني من صدقة التطوع إذا حصل له بغير مسألة.
37- استدل به على مشروعية الحبس والوقف، خلافا لمن منع ذلك وأبطله.
38- جواز زيادة الصدقة في التطوع على قدر نصاب الزكاة، لأن هذا الحائط مشهور أن ربعه يحصل للواحد منه أكثر من ذلك.
39- الآية تضمنت الحث على الإنفاق من المحبوب، فترقى هو إلى إنفاق أحب المحبوب، فصوب صلى الله عليه وسلم رأيه، وشكر عن ربه فعله، ثم أمره أن يخص بها أهله، وكنى عن رضاه بذلك بقوله: "بخ".
40- أن الوقف يتم بقول الواقف: جعلت هذا وقفا.
41- أنّه لا يجب الاستيعاب في الصدقة لكل الأقارب.
42- لا يعتبر في القرابة من يجمعه والواقف أب معين لا رابع ولا غيره؛ لأن أبيا إنما يجتمع مع أبي طلحة في الأب السادس.
43- أنه يجوز أن يقال: إن الله تعالى يقول، كما يجوز أن يقال: إن الله تعالى قال، خلافا لما قاله مطرف بن عبد الله الشخير، إذ قال: لا يقال الله تعالى يقول، إنما يقال: قال الله، أو الله عز وجل قال. وكأنه ذُهِل عن قوله عز وجل: ﴿ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾ [الأحزاب: 4].[14]
45- المعروف من كلام العرب أنّ كلّ ما يُتَمَوّل ويُملك فهو مال. يؤيّده قوله تعالى: ﴿ وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ﴾، فإنه يتناول كلّ ما يملكه الإنسان. [15]
46- إنّ الصدقة إذا كانت جزلة [16] مدح صاحبها بها وغبط؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "بخ ذلك مال رابح" فَسَلاّه بما يناله من ربح الآخرة، وما عوّضه الله فيها عما عجله في الدنيا الفانية.
47- إنّ الوكالة لا تتم إلا بقبول الوكيل لها، فللوكيل أن يقبل، وله أن يردّ.
48- إنّ التماس الماء العذب لا ينافي الزهد، ولا يدخل في الترفه المكروه. ولأنّه صلى الله عليه وسلم كان يشرب الماء العذب، ويُؤْثِرُه على غيره من المياه.
49- أنّه صلى الله عليه وسلم هو الأسوة، وهو القدوة في أقواله، وأفعاله.
50- لا بأس باستعذاب الأطعمة، وجميع المآكل، وأنّ ذلك من أفعال الصالحين. ولو أراد سبحانه، أن لا يُؤكل لذيذ المطاعم؛ لم يخْلُقها لعباده، ولما امتنّ بها عليهم. بل أراد منهم سبحانه، أكلها، والتلذذ بها، ومقابلتها منهم بالشكر الجزيل عليها. قال أهل التفسير في قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [المائدة: 87][17] [المائدة: 87] أنها أنزلت فيمن حرم على نفسه لذيذ المطاعم.
51- قال بعض العلماء: هذا الحديث أصل في الشرب من ماء الجباب بغير ثمن. [18]
52- ما فيه من تأليف القلوب بين الأقارب، لأنّ الجفوة غالبا تحصل من القريب، إذا رأى قريبه أغنى منه، وأفضل حالا.
53- الاستجابة السريعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
54- الصحابة رضي الله عنهم، يأتون طواعية، واختيارا من تلقاء أنفسهم، لتقديم أنفسهم، وأموالهم رخيصة لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
55- فقه الصحابة رضي الله عنهم، وفهمهم لكلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.
56- كرمُ هذا الصحابي رضي الله عنه.
57- حديقة، وظلٌّ، وماء عذبٌ، متعة من مُتع الدنيا، ونعمة عظيمة من نِعم الله التي لا تحصى.
58- محبّة الإنسان للخضرة، والماء، والظلّ.
59- بذل الغالي والنفيس في سبيل رفعة هذا الدين.
60- ليكن لك بصمة واضحة في مجتمعك، فإذا كان عندك شيء فلا تتوانى، ولا تتردد في تقديمه، وبذله. ولا تنتظر أحداً يطلب منك بذله، وتقديمه.
61- كلّ ما تقدّمه لا يضيع عند الله، قال سبحانه: ﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 110]. [19]
62- أثبت النبي صلى الله عليه وسلم قبول هذه الصدقة من الصحابي.
63- حرص الصحابة رضي الله عنهم على التواصل، والتكاتف بين أفراد المجتمع، بلغة الحب، والإخاء، مما له الأثر الكبير في تماسك المجتمع، وبنائه.
64- القرآن نور وهداية، يستنير المسلم به في حياته، ويهديه إلى الطريق المستقيم.
65- هذا الحديث عظيم، فلم يتجاوز الستّة أسطر، ومع ذلك فهو مليء بالدروس، والفوائد، والعبر.

احساس
08-26-2023, 12:22 PM
جزاك الله خير الجزاء
دمت برضى الله وحفظه ورعايته