مشاهدة النسخة كاملة : الآداب الشرعية في الرد على الفرية


عازف الناي
10-04-2022, 02:46 PM
بسم الله
الآداب الشرعية في الرد على الفرية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله خير خلْق الله أجْمعين، وعلى آله وصحْبِه الأخيار الطَّاهرين.
وبعد:
فإنَّ هناك جملةً من الآداب الشرعيَّة التي ينبغي أن يُراعيها ويتمسَّك بها كلُّ مَن أراد أن يؤهِّل نفسه لإظهار الحق، والرَّدِّ على الافتراءات، وفضح الأباطيل والأكاذيب، والتصدِّي لأهلها، ومن هذه الآداب:
أوَّلاً: إخلاص النية لله - عزَّ وجلَّ -:
فإنَّ الرَّدَّ على الافتِراءات ما هو إلاَّ عمل تعبُّدي يفعله المؤمن تقرُّبًا لله تعالى وطلبًا لمرضاته، وكلُّ عمل صالح لا بدَّ له من نيَّة صالحة وخالصة لله - عزَّ وجلَّ - وقد قال رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يُصيبها أو إلى امرأةٍ ينكحُها، فهجرتُه إلى ما هاجر إليْه)).
فينبغي أن يحرص كلُّ مَن تصدَّى للرَّدِّ على الافتراءات على إخلاص نيَّته، وتعهُّدها وإصلاحها، بأن يجعل همَّه هو مرضاة الله لا غير، وليحْذَر مكْر الشَّيطان وكيْدَه به، فإنَّه ما يزال بالعبد حتَّى ينـزع الإخلاص من قلبه.
وربَّما يبدأ المؤمن عملَه بنيَّة صالحة ثمَّ يدبُّ في نفسه شركٌ خفي من حيث لا يدري، فتتحول نيَّته الصَّالحة إلى رغبة في الانتِصار للنفس، أو حرص على الشُّهرة وجذب أنظار الناس واهتمامهم، أو حبٍّ في الاستماع إلى عبارات الثَّناء والمدح، أو تحصيل مصالح دنيويَّة.
ولذلك؛ كان من الواجب مراجعة النية وتعهُّدها بشكل دائم، والحرص على إصلاحها في كلِّ وقت، مع سدِّ أيِّ ذريعة لرياء أو شرك خفي قد يؤدِّي لحبوط العمل.
قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((قال الله - تبارك وتعالى -: أنا أغنى الشركاء عن الشِّرْك، مَن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركَه)).
ثانيًا: الاستعانة بالله تعالى والافتقار له:
إنَّ العبد فقير إلى ربِّه ومولاه، ومهْما بلغ العبد من قوَّة في العلم والحجَّة والبيان، يبقَ مفتقرًا لمعونة الله تعالى وتثْبيته، وحسبُك في ذلك قول الله - عزَّ وجلَّ - مخاطبًا رسولَه خير البشر - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ﴾ [الإسراء: 74 - 75].
قال الشيخ السعدي - رحمه الله -: "وفي هذه الآيات دليلٌ على شدَّة افتقار العبد إلى تثبيت الله إيَّاه، وأنه ينبغي له أن لا يزال متملِّقًا لربِّه أن يثبته على الإيمان، ساعيًا في كل سبب موصل إلى ذلك؛ لأنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو أكمل الخلق؛ قال الله له: ﴿ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴾، فكيف بغيره؟!".
فليحذَرْ كلُّ مَن تصدَّى للرد على فرية أن تغرَّه كلمات الثَّناء، أو تعجبه انتصاراتُه وعلمه وحسن بيانِه، فيصيبه العُجب، ويتَّكل على نفسه فيوكله الله لها، فيحرم معونةَ ربِّه وتثبيته، فتزلّ قدمه ويضلّ فهْمه ويورد المهالك.
ثالثًا: طلب العلم الشرعي:
إنَّ الرَّدَّ على الافتِراءات فنٌّ له مقومات وأسس، أهمُّها العلم بكتاب الله وسنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بفهْم السَّلَف الصَّالح؛ لأنَّ الشبهات داء دواؤُه العلم الصَّحيح.
ويأتي في مقدمة العلوم التي يَجب تَحصيلها علمُ العقيدة والتَّوحيد، وعلوم القرآن والتَّفسير، وعلوم الحديث والسنَّة، والسيرة والتَّاريخ والفقه.
ومن علوم الآلات: علوم اللغة العربية المختلفة، من نحْوٍ وصرْف وبلاغة وبيان وغيرها، وكذلك عِلْم أصول الفقه الَّذي به تُعرف طرق التلقِّي والاستدلال، والجمع والتَّرجيح، ودلالات الألفاظ المختلفة.
ولا يشترط في الطالب أن يكون متعمقًا في كل العلوم الشرعيَّة، ولكن ينبغي أن يكون لديه إلمام كافٍ بهذه العلوم، ومعرفة جيِّدة بالمصادر والمراجع الرئيسة في كل علم، مع فهمٍ لمناهج مؤلِّفيها، بحيث يسهل عليه الرجوع لهذه المصادر عند الحاجة.
فمثلاً، لو كان الافتراء متعلِّقًا بمغالطة لغويَّة في معنى كلمة معيَّنة، فلا يشترط في المتصدِّي للافتراء أن يكون عالمًا بمعاني الكلِمات كلها، ولكن يكفي أن يكون لديْه القدرة على الرجوع للمعاجم وفهم منهجِها، والوصول للمعنى الصَّحيح من خلالها.
ومن المفيد أيضًا أن يكون لدى من يتصدَّى للرَّدِّ على افتراءات أتْباع ديانة أو مذهب معيَّن، أن يكون على دراية عامَّة بمذاهبهم ومعتقداتهم، فإنَّ ذلك نافع في إلزامهم بما يعتقدون، والاحتِجاج عليهم بما يؤمنون.
رابعًا: الرغبة في إظهار الحق:
يجب أن يكون هدف المناظر أو المحاور هو ظهورَ الحقِّ وبيانه ووصوله للناس، وإزهاق الباطل والقضاء عليه، سواء أتمَّ الله ذلك على يده أو على يد غيره، وسواء نطق لسانُه بهذا الحق، أو جاء ذلك على لسان خصمه.
قال النَّووي: "وقد صحَّ عن الشَّافعي - رحِمه الله تعالى - أنَّه قال: وددتُ أنَّ الخلق تعلَّموا هذا العلم على أن لا ينسب إليَّ حرف منه، وقال: ما ناظرت أحدًا قط على الغلبة، وددْت إذا ناظرت أحدًا أن يظهر الحقُّ على يديه، وقال: ما كلَّمت أحدًا قط إلا وددتُ أن يوفَّق ويسدَّد ويُعَان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ.
وإن تبيَّن للمناظر أنَّه قد وقع في خطأٍ، فيجب عليه أن يُسارع بالرجوع عنْه، ويقبل الحقَّ حيث كان، ومن أي شخص صدر عنْه، ولا يستحْيي أن يُعْلِن اعتذاره عن الخطأ ورجوعه عنْه، فإنَّ الرجوع إلى الحقِّ فضيلة، وكل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التَّوابون.
خامسًا: الثقة في قوة الحق:
إنَّ دين الإسلام هو الدين الحقُّ، والحق بطبيعتِه أبلج واضح، قادر على إزْهاق الباطل وإظهار ضعْفِه؛ لأنَّ الباطل ضعيف متلجْلج.
وعلى كلِّ مَن يتصدَّى للرَّدِّ على فرية أن يكون على تمام الثِّقة من قوَّة الحق الذي يحمِله ويدافع عنه، وليكُن على يقين أنَّ دين الإسلام لا يمكن أن تشوبه شائبة، أو تلحق به منقصة، أو يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه؛ لأنه الدين الكامل، والنعمة التامَّة، والشرعة المرضية من ربِّ العالمين، وحسْبُنا قول الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3].
ولذلك فالمناظر المؤمِن يكون مصدر قوَّته الرئيسي، وسبب انتِصاره الأساسي - بعد عون الله وتسديده - هو الحق ذاته الَّذي يحمله ويصدر عنْه.
ومهْما كثرت الافتراءات واستعصى بعضُها عليه في لحظات، فلا ينبغي أن يفتَّ ذلك في عضدِه أو يؤثِّر في ثقته في الحقِّ الذي يحمله أبدًا، بل عليْه أن يستحضر دومًا تقصيرَه وضعفه، وفي نفس الوقت يقينَه بالحق الذي يدافع عنْه.
فإذا عجز مناظر مسلم - مهما بلغت معارفه وقدراته - عن الرَّدِّ على افتِراء معيَّن، فهذا لا يعني صحَّة ذاك الافتراء، ولا يشوش على دين الإسلام قطّ، وإنَّما قد يرجع ذلك إلى ضعف في المناظر أو غفلة وتقصير منه، أو ربَّما أسباب أخرى خارجة عن إرادتِه وقدراته.
لكن المؤكَّد والذي ينبغي أن يكون يقينًا عند الجميع هو أنَّ الإسلام هو الحق، وأنَّ أيَّ افتراء يهدف إلى إلحاق نقص به هو باطل لا ريب فيه، فإن عجز شخص عن ردِّ الفرية لضعف فيه، فلن يعجز الآخرون، وإن انقطع مسلم في مجادلة، فلن ينقطع الجميع.
والحمد لله ربِّ العالمين الذي قيَّد لهذا الدين في كل زمان حفظةً من أهل العلم، ينفون عنه تحريف الجاهلين وانتِحال المبطلين وتأويل الغالين، ويردُّون على افتِراءات المرْجفين وادِّعاءات أعداء الدين.
سادسًا: الثبات على الحق وعدم التنازل عن جزء منه:
من أهداف المفْترين على الإسلام إصابة المسلمين بهزيمة نفسيَّة، وإلجاؤهم للتنازل عن بعض ثوابتهم ومبادئهم، وإشعارهم بأنَّها منقصة يجب التبرُّؤ منها.
وقد يقع البعض - ربَّما بحسن نية - في هذا الشَرَك الذي نصبه له أعداء الدين وهو لا يدْري، فيُفسِد من حيث أراد الإصلاح، ويتنازل عن بعض الحقِّ راغبًا في تحقيق انتِصار جزئي، والحقيقة أنَّها الهزيمة بعينها.
وعلى سبيل المثال، فإنَّ بعض الكتَّاب يتراجعون حين يتحدَّثون عن الافتِراءات المثارة حول الجِهاد في الإسلام، فيدَّعون أنَّ الجهاد لم يُشْرَع في الإسلام إلاَّ للدِّفاع عن النَّفس فقط، وهذا حقٌّ تكفله جميع القوانين الأرضيَّة.
والحقُّ أنَّ الجهاد في الإسلام نوعان: جهاد دفْع، وجهاد طلب، ولم يُشْرَع الجهاد للدِّفاع عن نفسه فقط، كما أنَّنا لا نعتني كثيرًا هل تقرُّ القوانين الأرضيَّة ما أقرَّه ربُّ العالمين وشرعه أم لا، فالحقُّ هو ما قال الله، لا ما قالت أهواء البشر وقوانينهم.
فجهاد الطَّلب له من الغايات العظيمة والأهداف السامية ما يجعل كلَّ مسلم يفخر بدينِه ويشعر بالشرف والسمو، ويكفي أنَّه وسيلة لتطْهير الأرض من ظلم الطَّواغيت، ولنُصْرة المستضْعفين وتحريرهم، ولإفْساح السَّبيل أمام الدُّعاة لتبْيين الحقِّ من الباطل والرشد من الغي.
سابعًا: العدل والإنصاف مع الخصم وإن تعدى:
الإسلام دين يدعو للعدل والإنصاف مع الجميع، ولا يحلُّ ظلم أحد من النَّاس مهما تعدَّى وظلم، ومهْما كنَّا له مبغِضين كارهين.
قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].
فيجب على مَن يتصدَّى للرَّدِّ على افتراء أن يعْدل وينصف مع خصمِه، فلا ينسب له قولاً لم يَقُله، ولا يحمِّل كلامَه ما لا يحتمله، ولا يجعل لازمَ مذهبِه مذهبًا له حتَّى يلتزمه ويقرّ به، ولا يأخذه بجريرة غيره، ولا يدَّعي عليه شيئًا بغير بيِّنة أو دليل، ولا يعتدي عليه بغير حقّ.
فالمؤمن يردُّ الباطل بالحق، ويدفع الظلم والبهتان بإقامة العدل والإنصاف، ولا يتعدَّى حدود الله بكذبٍ أو ظلم أو افتراء أو طعن بغير بيِّنة أو دليل.
ثامنًا: الرفق والتلطف مع الخصم المنصف المهذَّب:
الأصل في التعامُل مع المخالف أن يكون بالرفق واللين، وأن تتمَّ دعوتُه بالحكمة والموعظة الحسنة؛ حتَّى يمكن تجريده من التعصُّب والرَّغبة في الانتصار للنفس، وسد ذرائع العناد والكبر التي قد تدفعُه للإصرار على الباطل ورفض الحقِّ.
قال الله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [النحل: 125].
وقال النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((إنَّ الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينـزع من شيء إلا شانه)).
فإذا كان الخصم منصفًا ومهذَّبًا في طرْح سؤاله أو فريته، فينبغي على من يتصدَّى للرَّدِّ عليه أن ينتقي أجْمَل العبارات وأرقَّ الكلمات؛ فإنَّ الكلِمات الطيِّبة تفتح مغاليق القلوب، وليحرصْ على تقْريبه للحقِّ بكل سبيل، فيظهر له من حسن الخلق وكمال الأدب ما يناسب عظمة الإسلام، ويُبدي له من الحرص عليه والرَّغبة في هدايتِه وحب الخير له ما تسكُن به نفسُه ويطمئنُّ قلبه وتقرُّ عيْنه.
وليحذرْ من خطابِه بما ينفره أو يستفزُّه، أو يزيد تعصُّبه وعناده، كأن يهين معتقداتِه أو يسخر من مقدَّساته، أو يجرح مشاعره بكلمات قاسية وإن كانت حقًّا في ذاتها.
فإنَّ ذلك قد يكون سببًا في صدِّه عن الحقِّ، بل ربَّما يدفعه ذلك إلى ردِّ الإهانة بمثلِها أو بأكبر منها، فيسبّ الله تعالى أو رسولَه - صلَّى الله عليه وسلَّم.
قال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 108].
تاسعًا: الحزم والشدَّة مع المكابر المعاند الذي يسيء الأدب:
إذا كان الخصم من النَّوع المكابر المعاند، الذي يُسيء الأدب ويستهزئ بالمقدَّسات، ولا يحفظ حرْمة لدين أو خلق، ولا يُجْدي معه اللِّين والرفق - فلا بأسَ من استخدام الشدَّة معه والإغْلاظ عليْه، وإظهار البأس والقوَّة له، فكثيرًا ما تكون الشدَّة زاجرة لأمثاله، ودافعةً لهم لالتزام شيء من حسن الخلق، وقدْر من التأدُّب والانضباط.
ويجب أن يكون المناظر ذا شخصيَّة قويَّة حازمة، فلا يسمح بمقاطعته قبل أن يتمَّ كلامَه ويوصِّل فكرته كاملة، ولا يخضع لأيِّ محاولة تبتغي تشتيتَه أو استفزازَه أو إخراجه عن تركيزه، ولا يسكت على أيِّ تطاوُل أو خروج عن حدود الأدَب والخلق، بل يواجه كلَّ ذلك بصرامة وحزْم يلقي المهابة في قلب الخصْم.
عاشرًا: عدم الجلوس في مجالس الشتَّامين والمستهْزئين:
لا يجوز للمسلم أن يقعُد في مجلس يُسبُّ فيه الله ورسولُه - صلَّى الله عليه وسلَّم - أو يُكفر فيه ويُستهزأ بآيات الله، أو يُطعن في أعراض أمَّهات المؤمنين ويُقدح في صحابة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - فإنَّ وجود المسلم في مثل هذه المجالس منكرٌ عظيم وشرٌّ مستطير.
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 68].
وقال: ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴾ [النساء: 140].
وممَّا يؤسف له أنَّنا كثيرًا ما نجد بعض المسلمين يقْعدون في مثل هذه المجالس بحجَّة أنَّهم يردُّون على الافتِراءات ويدافعون عن مقدَّسات الدين.
والحقُّ أنَّ عملهم هذا ما زادهم إلاَّ ذلَّة وخزيًا؛ لأنَّ رضوان الله لا يطلب بمعصيته، ونُصرة الدين لا تكون إلاَّ بالانقياد والتَّسليم لأوامر الله، فلو أنصفوا أنفُسَهم واتَّقوا ربَّهم ما دخلوا تحت قوله تعالى: ﴿ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ ﴾.
فهل يظن هؤلاء أنَّهم أغير على الدِّين من رب العالمين؟! وهل يظنُّون أنَّهم أكثر قدرة على نصرة الدين من رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي نهاه الله تعالى عن حضور هذه المجالس فأطاع ربَّه، وانقاد لأمره وهو أقدر النَّاس على الرَّدِّ، وأجدرهم بالدفاع عن الدين؟!
الحادي عشر: عدم مجاراة المفترين في سوء أخلاقهم:
إذا أساء المفترون أدبَهم وتفحَّشوا في القول، فهذا ليس مبرِّرًا لمجاراتهم في سوء الأدب، وليس مسوغًا لمبادلتهم التفحُّش والسباب، فهم ليسوا قدوةً لنا حتَّى نتابعهم فيما يفعلون.
إنَّ قدوة المسلم وأسوته هو الرَّسول الكريم محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي قال الله تعالى فيه: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - هو أكمل النَّاس خلُقًا وأتمُّهم أدبًا وخيرهم هدْيًا، وحسْبُنا في ذلك قول الله تعالى له: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 3].
وعن عبدالله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: لم يكن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فاحشًا ولا متفحشًا، وكان يقول: ((إنَّ من خياركم أحسنكم أخلاقًا)).
ولذلك؛ فإنَّ من الواجب على من يتصدَّى للرَّدِّ على افتراءات الشتَّامين من المنصِّرين، وغيرهم من أعداء الدين، ألاَّ يجاريهم في سوء أدبِهم ويشابههم في انحِطاط أخلاقهم، فلا يبادلُهم السبابَ بالسباب والشَّتم بالشَّتم، ولا يردُّ عليهم الفحش بمثله؛ لأنَّه إن فعل ذلك خالفَ هدْيَ نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم - وساوى نفسَه بأولئك الشتَّامين، وصدق الشَّاعر إذ يقول:
إِذَا جَارَيْتَ فِي خُلُقٍ دَنِيئًا ♦♦♦ فَأَنْتَ وَمَنْ تُجَارِيهِ سَوَاءُ
وعن عائشة - رضي الله عنْها - قالت: أتى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أناسٌ من اليهود فقالوا: السَّام عليك يا أبا القاسم، قال: ((وعليكم))، قالتْ عائشة: قلت: بل عليْكم السَّام والذَّام، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا عائشة، لا تكوني فاحشة))، فقلت: ما سمعت ما قالوا؟ فقال: ((أوليْس قد رددتُ عليهم الذي قالوا، قلت: وعليكم)).
وفي لفظ أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مهْ يا عائشة، فإنَّ الله لا يحبُّ الفحش والتفحُّش)).
أحبُّ أن أنبِّه هنا إلى أنَّ أبلغ الرُّدود على إساءات هؤلاء هو الردُّ العلمي على افتراءاتهم، وإظهار تهافُتها وجهْل وكذب قائليها، مع بيان ما في معتقداتِهم من عوار، وما في مذاهبهم من مثالب وسوءات يندَى لها الجبين، بأسلوب علمي يبعد عن الإسفاف والتفحُّش.
الثاني عشر: دعاء الله للنفس وللخصم:
قال الله تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].
من جَميل الخلق أن يحرص كلُّ مَن يتصدَّى للرَّدِّ على فرية على أن يدعو الله دومًا أن يوفِّقه ويسدده، وأن يلهمه الصَّواب، ويعصمه من الزَّلل، وأن يؤتِيَه الحجَّة البالغة والبرهان السَّاطع، وأن يرزقه حسن البيان والبلاغة في الخِطاب، وأن ييسِّر له أمرَه ويشرح له صدره، ويغفِر له خطأه، ويرزُقَه الإخلاص، ويجعل عملَه مقبولاً مأجورًا، ويجعله من الهداة المهتدين.
وله في موسى - عليه السلام - أسوة حين قال: ﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ﴾ [طه: 25 - 28].
كما يحسن منه أن يدْعو لخصمه أن يهدِيَه الله إلى الصَّواب، ويشرح صدرَه للحق، وأن يقِيَه شرور الشَّياطين ومكايدهم؛ فإنَّ المؤمن يحب الهداية للنَّاس جميعًا ويرجو لهم الخير، وهداية رجُل واحد على يديْه أحبُّ إليه من الدنيا وما فيها.
قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((والله، لأن يُهدى بك رجلٌ واحد خيرٌ لك من حمر النعَم)).
وفي النهاية، نسأل الله أن يحسِّن خُلُقَنا كما حسَّن خَلْقنا، وأن يرزقنا حسن الأدب وجميل الخصال ونبيل الخلال، ونسأله العوْن والتَّيسير والتَّوفيق والسداد، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبدِه ورسولِه محمَّد خير الأنام، وعلى آله وصحْبِه ومن تبعهم بإحسان.
البخاري: 1، ومسلم: 3530.
مسلم: 5300.

تفسير السعدي: ص415، 416.

المجموع شرح المهذب: 1/54.

مسلم: 4698.

البخاري: 3295، ومسلم: 4285.

البخاري: 2718، ومسلم: 4028.

البخاري: 2724، ومسلم: 4423.

حكاية ناي ♔
10-04-2022, 03:26 PM
جزاك الله خير

أمير المحبه
11-17-2022, 09:27 PM
جزاك الله خيرا
يعطيك العافيه يارب
اناار الله قلبكك بالايمــــــــان
وجعل ماقدمت في ميزان حسناتكـ
لكـ شكري وتقديري

همس الورد
11-19-2022, 05:32 PM
جزاك الله خير الجزاء ونفع بك
وألبسك لباس التقوى والغفران وجعلك ممن يظلهم اللَّه
في يوم لا ظل إلاظله وعمر الله قلبك بالايمان

يحيى الشاعر
12-04-2022, 06:53 PM
..





جزَآك آللَه خَيِرا
علىَ طرحكَ الرٍآَئع وَآلقيَم
وًجعله فيِ ميِزآن حسًنآتكْ
وًجعلَ مُستقرَ نَبِضّكْ
الفًردوسَ الأعلى
دمت بحفظ الله
http://www.nalwrd.com/vb/upload/4121nalwrd.gif