مشاهدة النسخة كاملة : شرح حديث: (إنما الولاء لمن أعتق)


حكاية ناي ♔
11-04-2023, 01:55 PM
إنَّ الحمد لله تعالى، نَحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يَهْد الله فلا مُضِلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحْده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

أما بعدُ:
فسأتناول في هذا المقال جمْع شرْحٍ لحديث: ((إنما الولاء لمن أعتَق))، معتمدًا على قول كبار شُرَّاح الحديث.

أولاً: نص الحديث:
عن هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: جاءتني بَريرة، فقالت: كاتبتُ أهلي على تسع أواقٍ، في كل عام أُوقية، فأعينِيني، فقلت: إن أحبَّ أهلك أن أُعيدها لهم، ويكون ولاؤك لي فعَلت، فذهبت بَريرة إلى أهلها، فقالت لهم، فأبَوا ذلك عليها، فجاءت من عندهم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس، فقالت: إني قد عرَضت ذلك عليهم، فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمِع النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخْبَرت عائشة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((خُذيها واشتَرطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتَق))، ففعَلت عائشة، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: ((أما بعد، ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله، ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرطٍ، قضاء الله أحقُّ، وشرط الله أوثقُ، وإنما الولاء لمن أعتَق))؛ رواه البخاري في كتاب البيوع، باب إذا اشترط شروطًا في البيع لا تَحِلُّ.

قال الجوهري في الصِّحاح: والمُكاتبة والتكاتُب بمعنًى، والمُكاتَبُ: العبد يُكاتَب على نفسه بثمنه، فإذا سعى وأدَّاه، عُتِق.

جاء في معالِم السنن: "في خبر بَريرة دليلٌ على أن بيْع المكاتب جائز؛ وذلك لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أذِن لعائشة في ابتياعها، وهي إنما جاءتها للأداء، ولتَستعين بها في ذلك، ولا دلالة في الحديث على أنها كانت قد عجَزت عن أداء نجومها.
وتأوَّل الخبر مَن منَع من بيع المُكاتب على أن بَريرة قد رضِيت أن تُباع وأنَّ بيعها للعتق كان فسخًا للكتابة، ولَم يكن بيعها بيع مُكاتبة.
وزعم بعضُهم أنهم إنما باعوا نجوم كتابتها، واستدلَّ على ذلك بقول عائشة - رضي الله عنها - فإن أحبُّوا أن أقضي عنك كتابتك، وهذا لا يدلُّ على جواز بيع نجوم الكتابة، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيْع ما لم يُقبض ورِبْح ما لم يُضمن، ونجوم الكتابة غير مقبوضة وهي كالسَّلم، لا يجوز بيعه، وإنما معنى قضاء الكتابة هو الثمن الذي يُعطيهم على البيع عوضًا عن الرقبة.

والدليل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((ابْتاعي، فأعتِقي))، فدلَّ أن الأمر قد استقرَّ على البيع الذي هو العقد على الرقبة.

وقوله: ((إنما الولاء لمن أعتَق))، دليل على أنه لا ولاءَ لغير مُعتقٍ، وإن من أسلَم على يدي رجل لم يكن له ولاؤه؛ لأنه غير مُعتق، وكلمة "إنما" تعمل في الإيجاب والسلب جميعًا.

وقد توهَّم بعض الناس أن في قوله: ((ابتاعي، فأعتِقي)) خلفًا لِما اشتَرطوه على عائشة، وردَّ الحديث من أجل ذلك، وقال: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر بغرور الإنسان.

أخبَرني أبو رجاء الغنوي، حدثني أبي عن يحيى بن أكثم، أنه كان يقول ذلك في هذا الحديث.

قلت: وليس في الحديث شيء مما يُشبه معنى الغرور والخلف، وإنما فيه أن القوم كانوا قد رغِبوا في بيعها، فأجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأذِن لعائشة في إمضائه، وكانوا جاهلين بحُكم الدين في أن الولاء لا يكون إلاَّ لمُعتق، وطمِعوا أن يكون الولاء لهم بلا عتقٍ، فلمَّا عقَدوا البيع وزال ملكهم عنها، ثبَت ملك رَقبتها لعائشة، فأعْتَقتها وصار الولاء لها؛ لأن الولاء من حقوق العِتق وتوابعه، فلمَّا تنازَعوه، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبيَّن أن الولاء في قضية الشريعة، إنما هو لِمَن أعتَق وأن من شرَط شرطًا لا يوافق حُكم كتاب الله - عز وجل - فهو باطل.

وقوله: ((ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليستْ في كتاب الله))، يريد أنها ليست من حُكم كتاب الله تعالى وعلى موجب قضاياه، ولم يَرِد أنها ليست في كتاب الله مذكورًا، ولكن الكتاب قد أمَر بطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم.

واعلَم أن سُنته بيان له، وقد جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - الولاء لمن أعتَق، فكان ذلك منصرفًا إلى الكتاب ومضافًا إليه على هذا المعنى، والله أعلم.

وقد استدل الشافعي من هذا الحديث على أن بيع الرقبة بشرْط العتق جائز، وموضع هذا الدليل ليس بالبيِّن في صريح لفظ الحديث، وإنما هو مُستنبط من حُكمه، وذلك أن القوم لا يشترطون الولاء إلا وقد تقدَّمه شرْط العِتق، فثبَت أن هذا الشرط على هذا المعنى في العقد، والله أعلم".

قال ابن بطال: "المراد بكتاب الله هنا: حُكمه من كتابه أو سُنة رسوله، أو إجماع الأمة، وقال ابن خزيمة ليس في كتاب الله؛ أي: ليس في حكم الله جوازُه أو وجوبه؛ لأن كل مَن شرَط شرطًا لم يَنطق به الكتاب، يَبطُل؛ لأنه قد يُشترط في البيع الكفيل، فلا يَبطل الشرط، ويُشترط في الثمن شروطٌ من أوصافه أو من نجومه ونحو ذلك، فلا يبطل".

قال ابن دقيق العيد في إحكام الأحكام: "قد أكثر الناس من الكلام على هذا الحديث، وأفردوا التصنيف في الكلام عليه، وما يتعلق بفوائده، وبلغوا بها عددًا كثيرًا، ونذكر من ذلك عيونًا إن شاء الله تعالى، والكلام عليه من وجوه:
أحدها: "كاتبتُ": فاعلت من الكتابة، وهو العقد المشهور بين السيد وعبده، فإما أن يكون مأخوذًا من كتابة الخط، لِما أنه يَصحب هذا العقد الكتابةُ له فيما بين السيِّد وعبده، وإما أن يكون مأخوذًا من معنى الإلزام؛ كما في قوله تعالى: ﴿ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103].

كأن السيد ألزَم نفسه عِتْق العبد عند الأداء، والعبد ألزَم نفسه الأداء للمال الذي تكاتَبا عليه.

الثاني: اختلفوا في بيع المكاتب على ثلاثة مذاهب: المنع والجواز، والفرق بين أن يشتري للعِتق، فيَجوز، أو للاستخدام فلا، فأما من أجاز بيعه، فاستدلَّ بهذا الحديث، فإنه ثبَت أن بَريرة كانت مُكاتبة، وأما من منَع فيَحتاج إلى العُذر عنه، فمن العذر عنه ما قيل: إنه يجوز بيعه عند العجز عن الأداء، أو الضَّعف عن الكسْب، فقد يُحمَل الحديث على ذلك، ومن الاعتذارات: أن تكون عائشة اشتَرت الكتابة، لا الرقبة، وقد استُدِلَّ على ذلك بقولها في بعض الروايات: ((فإن أحبُّوا أن أقضي عنك كتابك))، فإنه يُشعِر بأن المُشترَى هو الكتابة لا الرقبة، ومن فرَّق بين شرائه للعتق وغيره، فلا إشكال عنده؛ لأنه يقول: أنا أُجيز بيعه للعِتق، والحديث موافق لما أقول.

قال الإمام بدر الدين العيني: "رُوِي هذا الحديث بوجوه مختلفة؛ منها: ما رواه ابن أبي ليلى عن هشام بن عُروة عن أبيه عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال: ((اشتري بَريرة، واشتَرطي لهم الولاء))، فهذا فيه عند البيع، وفيه شرط، وفيه وجه المطابقة، وبهذا استدلَّ ابن أبي ليلى: أن مَن اشترى شيئًا واشترَط شرطًا، فالبيع جائز والشرط باطلٍ، وفيه مذهب أبي حنيفة: أن البيع والشرط كلاهما باطلان، ومذهب ابن شبرمة كلاهما جائزان".

يقول الدكتور وجيه الشيمي: "والولاء من المحبة والنُّصرة؛ لذا جعله النبي لُحمة كلُحمة النَّسب، معنى: ((إنما الولاء لمن أعتَق))؛ أي: لا تكون هذه النُّصرة والمحبة والانتساب، إلا للذي أعتَق، بل إن الإسلام جعل الولاء سببًا من أسباب الميراث، فإذا مات الرجل وليس له أقاربُ أو زوجة، يَرثه مَن كان قد أعتَقه، وكان العرب قبل الإسلام يَبيعون الولاء أو يَهبونه، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك؛ لأنه كالنَّسب لا يجوز بيعه ولا هِبته.

وفي هذا الحديث جاءت بريرة - وكانت أَمَةً عند قومٍ - تطلب من السيدة عائشة أن تُعينها بالمال؛ حتى تَنال حريَّتها من سيِّدها عن طريق المكاتبة، وهي أقساط يدفعها العبد لسيده على مراحل نظيرَ حريَّته، لكن السيدة عائشة تَعرض عليها أن تَشتريها وتَعتقها، لكن سيِّدها يَشترط الولاء، ويَصل الأمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فبيَّن أن الحكم أنه لا ولاءَ إلا للمُعتق، ويَخطب في الناس مُعلِمًا إيَّاهم قاعدةَ وحُكم الإسلام في ذلك الأمر، ومَبدؤه في ذلك أنه لا يجوز اشتراط شرْطٍ ليس في كتاب الله، وهذا أصلٌ عظيم عند الفقهاء، فتأمَّل كيف استطاع النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يرسِّخ قاعدة فقهية اعتمَد عليها الفقهاء في كثيرٍ من المسائل، وخصوصًا في أبواب المعاملات".

صمتي شموخي
11-04-2023, 01:58 PM
بارك الله فيك
وجزاك الفردوس الاعلى ان شاء الله
دمت بحفظ الله ورعايته