حكاية ناي ♔
11-09-2023, 10:44 AM
رى هل كان التأريخ بالهجرة كما جرى في عهد عمر (رضي الله عنه) وحياً؟ أم كان ثمرة العقل العمري الألمعي الجبار؟ ذلك الذي بلغ من الشفافية والعبقرية أن نزل وحي السماء يوافق رأيه في غير مرة.
الحقيقة أن الإجابة غير يقينية، وقد تكون غير مفيدة على المستوى العملي، رغم أن السؤال يمثل إغراء نظرياً مثيراً لعقول الفلاسفة والمنظرين، لأن ذلك القرار حمل المسلمين -على مدى القرون التالية- لأن يقفوا كل عام أمام حادث الهجرة يتأملونه ويستنطقونه، وفي كل مرة يعطيهم ذات الحدث الواحد دروسا تبدو بلا نهاية.
(1)
كان قيام الدولة الإسلامية ضرورة شرعية، وضرورة تاريخية أيضاً، فعلى المستوى الشرعي كان لابد لرسالة الله الأخيرة للبشر على هذه الأرض أن تستكمل فصولها لتخبرهم كيف يديرون حياتهم في دولة، وكيف ينظمون لأنفسهم طرق السياسة والإدارة والحرب والقانون. فكان لابد من وجود صورة للدولة الإسلامية والتي هي بمثابة النموذج الذي يظل يُلهم الناس ويحثهم على الارتفاع لمثاله وتقليده. وهذه صورة لا يستفيد منها المسلمون وحدهم بل هي كذلك من وسائل الدعوة لكل العالمين، فإن تحقيق الفكرة للنجاح على الأرض يدفع ويُغري من لم يقتنع بالفكرة ذاتها إلى أن يقتنع بها حين يرى آثارها وثمارها.
وذلك قانون تاريخي لا يُجادل فيه، فكل فكرة في التاريخ لم تستطع صناعة دولة ماتت في مهدها أو في صباها، أو ظلت –في أحسن الأحوال- حلما يراود الخيال، وينفر منه الواقعيون، ويطرحه السياسيون والقادة وصناع التاريخ.
فكان لابد للرسالة الخاتمة أن تُنشيء الدولة لتحقق ثمرة الفكرة، ولتثبت الفكرة أنها عملية قادرة على الحياة وقابلة للتطبيق، بل هي النموذج الأمثل والأنجح من بين كل الأفكار. هذا على مستوى الضرورة الشرعية.
وأما على مستوى الضرورة التاريخية، فيبدو الأمر واضحاً لو حاولنا تخيل مسار التاريخ الإنساني بدون الرسالة الإسلامية، إن الصورة تبدو كارثية بكل الوجوه، فإن القفزة الحضارية التي صنعها المسلمون وضعت بصمتها على كل التاريخ الإنساني وعلى مختلف أنشطة السلوك الإنساني حتى ليبدو المفكر الإنجليزي الكبير مونتجمري وات مذهولاً إذ يقول "إننا لنجد شيئًا لا يكاد العقل يصدقه، وبالتالي فهو أمر يخلب اللبَّ، حين نقرأ عن كيف تحوَّلت الحضارات القديمة في الشرق الأوسط إلى حضارة إسلامية"[1]، هذا مع اعتراف المستشرق الإنجليزي الشهير ألفريد جيوم بأن تأثير الحضارة الإسلامية لم تدرك أبعاده بشكل كامل إلى الآن، يقول: " وعندما ترى ضوءَ النهار جميعُ الموادِّ النفيسة المختزنة في مكتبات أوربا، فسيتضح لنا أن التأثير العربي الباقي في الحضارة الوسيطة لهو أعظم بكثير مما عُرِفَ عنه حتى الآن"[2].
(2)
حيث كانت الدولة الإسلامية ضرورة شرعية وتاريخية، فإن مسار سيرة النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) كان مسار رجل يبحث عن القلوب ليهديها ويعطيها الإيمان، وكان في ذات الوقت مسار رجل يبحث عن الأرض لإقامة الدولة. فالمرحلة المكية كانت غرساً للعقيدة الإسلامية في النفوس ونشراً لهذا النوع الجديد من الوعي ولهذه النظرة الجديدة إلى الإنسان والناس والكون وطبيعة الحياة وهدف الوجود.
ولكنها – بزاوية نظر أخرى- كانت أيضاً مرحلة البحث عن الأرض التي تقوم فيها الدولة الإسلامية، ويبدو هذا الهدف (البحث عن أرض لإقامة الدولة) واضحاً في كل خطوات النبي (صلى الله عليه وسلم)، فمبكراً جداً كان حريصاً على إيمان سادات قريش وكبرائها، وكان حرصه عظيماً إلى الحد الذي عوتب فيه (صلى الله عليه وسلم) بقرآن يصفه بأنه "يقتل نفسه" من الغم لعدم إيمانهم، قال تعالى {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف : 6]، {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء : 3].
ثم عوتب (صلى الله عليه وسلم) حين عبس لأعمى شغله عن جلسة مع كبار القوم، فنزل قول الله تعالى {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس : 5 - 10].
ولكن اللافت للنظر، والجدير بالتأمل والاعتبار، أنه (صلى الله عليه وسلم) وقد واجه إصرارهم على ما هم فيه واستكبارهم عن الإيمان، لم يقعد جالساً منتظراً أن يحول الله قلب أحدهم إلى الإيمان، أو منتظراً تغير الظروف والأحوال وموازين القوى في مكة، بل جدّ في البحث بعدما بدا أن الأحوال في مكة لا تبشر بخير في المدى المنظور.
فكان أن خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى الطائف –وهي القوة المنافسة لقريش في الجزيرة - باحثاً عن هذه الأرض وعن هذه الحماية التي تمكنه من الانطلاق في دعوة الناس إلى الإسلام، وحين وُوجه هناك بأقسى مما توقع فأُوذي وأُهين وهو الكريم النسب والخلق وبعد أن تجاوز الخمسين (صلى الله عليه وسلم) –بأبي وأمي ونفسي- لم يقعد ولم ينتظر، بل لقد وسع دائرة البحث حتى كان يعرض نفسه (وكم توحي هذه العبارة بالإصرار على الهدف، كما توحي بالهوان على الناس) على القبائل في موسم الحج. وكان شعار هذه الفترة معبراً عن طبيعة الهدف "ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي"[3].
وذكر أصحاب السِيَر أسماء خمس عشرة قبيلة[4] كلها رفض دعوته، حتى أعثره الله في آخر الأمر على النفر الستة من يثرب، فأيده الله بهم.
وأخيراً تحقق الهدف، ووجدت الأرض التي تستعد لإقامة دولة الفكرة، دولة الإسلام.
وعبر بيعتي العقبة الصغرى والكبرى، وسفارة مصعب بن عمير –الذي جمع بين علم يستوعب به الرسالة ودبلوماسية يستوعب بها الواقع وأهداف المرحلة- تم الإعداد لدولة الإسلام في المدينة، وفي هذه اللحظة انتهت المرحلة المكية وبدأت المرحلة المدنية.
(3)
إن مما يلفت النظر هو أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل بالحد الأدنى من شروط إقامة الدولة في المدينة، وقبل بأدنى درجات الحماية والنصرة، وهي الحماية داخل المدينة فقط[5]، ففي بيعة العقبة الثانية كان النص يقول "وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم"[6]. فعبّر عن الحماية داخل المدينة بلفظ "تمنعوني".
ومن ثم حين خرج (صلى الله عليه وسلم) لاعتراض عير لقريش في بدر فكان أن الله قد قدّر أن يفلت العير وتصير الثلة القليلة أمام جيش قريش وعن غير استعداد، احتاج النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى ما نستطيع أن نسميه "بيعة جديدة" تشمل بند "القتال والنصرة خارج المدينة" وهو ما وافق عليه الأنصار على لسان سيدهم سعد بن معاذ.
وهذا دليل آخر يثبت ضعف رواية تفاوض النبي (صلى الله عليه وسلم) مع بني شيبان والتي تقول بأنهم قبلوا حمايته (صلى الله عليه وسلم) فيما يخص جهة العرب، أما من جهة الفرس فإنهم لا يستطيعون، وحينها قال (صلى الله عليه وسلم) "إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه"[7].
إن السيرة تثبت أن المرحلة المكية كانت مرحلة غرس العقيدة والإيمان، ولكنها كانت أيضاً وفي الوقت ذاته مرحلة البحث عن "استقلال" أو عن "أرض تقوم عليها الدولة".
(4)
فالهجرة تتويج لحركة النبي (صلى الله عليه وسلم) الفعالة طوال المرحلة المكية، وهو درس ينبغي أن يستوعبه المسلمون، لا سيما القائمون على الإصلاح والنهضة في الأوطان الإسلامية، ولم يعد من المفيد أن يركز كثير من العلماء والدعاة على سبب ضعف التربية وقلة الوعي لدى الشعوب العربية والإسلامية، ولذا يسيرون في طريق تكثيف الدروس المعنية بتعليم العقيدة (وفرق كبير بين التعليم النظري والتشرب الروحي) أو دروس الرقائق والروحانيات.
ونجد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يأخذ أصحابه بالرفق واللين، مع المثابرة على الصبر، وهو جانب روحاني عظيم فى التربية الإيمانية نكاد نفتقده اليوم، وقد أتى خباب بن الأرت (رضي الله عنه) وبدا منه جزع لما لحقه من تعذيب شديد وكان أن غضب النبي لما بدا من خباب وقال قولته الشهيرة: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون"[8].
كما أن عمار بن ياسر وأمه سمية وصهيب والمقداد (رضي الله عنهم جميعا) لم يتحملوا التعذيب الشديد فنطقوا بكلمة الكفر، كما في حديث ابن مسعود قال: "كان أول من أظهر إسلامه سبعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد. فأما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فمنعه الله بعمه أبي طالب. وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه. وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس. فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا. إلا بلال"[9].
وأتى عمار للنبي حزيناً فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان قال: إن عادوا فعد"[10].
ثم نزل فيه قول الله عز وجل يستثنيه من العذاب {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل : 106].
ولم ير النبي (صلى الله عليه وسلم) في أزمة الرسالة وقتها أن هذا بسبب أن بعض من أصحابه –كخباب وعمار- لم ينجح في اختبار الثبات والصمود، وبالتالي فتلك الفئة ما زالت في حاجة لمزيد من التربية والاحتضان والرعاية.
لم يعتمد النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا التفسير، ولم يعتبر أن هذا هو سبب تأخر النصر والتمكين، بل تعامل مع الأمر تعامل الطبيب الذي أعطى دواء مراً لخباب ورفض أن يتخلى عن صفة الصبر، وأعطى دواء آخر لعمار الذي أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. ثم استمر (صلى الله عليه وسلم) في مسيرته لمعالجة سبب الأزمة الحقيقية وهو عدم "الاستقلال" في أرض تعيش عليها الفكرة الإسلامية في أمان، وفيها تثمر.
(5)
والهجرة درس في البحث عن الحل العملي الواقع، الذي يهتم بتغيير الواقع أكثر مما يهتم بـ "الاتهامات الإعلامية" –لو صح التعبير- التي تستطيع التشويش وإثارة المشكلات لمن يهتم لها كثيراً، وأكاد أتخيل أن الهجرة النبوية لو تسلط عليها إعلام مثل إعلام العصر الحالي، فسيستطيع رميها بكل نقيصة، وحينها ستتحول إلى "الهروب الكبير" و"التخلي عن مشكلات الوطن" و"لقد ترك محمد المسلمين الضعاف في مكة يعذبون وذهب ليعيش ملكاً منعماً في المدينة" وإنه "يمارس من المدينة جهاد الميكروفونات والمستضعفون في مكة يعذبون". إن "الهروب إلى المدينة دليل على الفشل في مواجهة المشكلات الداخلية" وهو كذلك "استعانة بالدول الأجنبية"... إلخ.
ستتحول الهجرة المجيدة إلى "خيانة عظمى" لو تسلط عليها مثل إعلام العصر الحالي، الذي يُدار معظمه -سراً أو علناً- من القوى التي تعادي الأمة وتفترسها وتريدها عاجزة ضعيفة بلا جهاد ولا مقاومة ولا ذاتية ولا هوية.
ولابد من حسن التصرف والتعامل مع الإعلام من قبل العلماء والمجاهدين والقائمين على الإصلاح، وهذا الجانب يحتوي خللاً كبيرًا.
غير أن الأهم من المهارة الإعلامية لدى حركات المقاومة والإصلاح ألا تعيش تحت "القصف الإعلامي المتواصل" لخطواتها وحركاتها ومشاريعها، خصوصاً وأن رضا الناس غاية لا تدرك، فكيف لو كان هؤلاء الناس (الإعلام) –في معظمهم- لا يرضون عن المجاهدين ولا المصلحين إلا أن يتبعوا ملتهم، وهي غربية أو أمريكية أو إسرائيلية؟
لقد كان الواجب العملي والحل الواقعي أن يهاجر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة ثم يعود بجيش يحرر المستضعفين من المسلمين في مكة، لا أن تتوقف الحياة في سبيل "الواجب الأخلاقي الذي يقتضي –على الأقل- مشاركة القائد للمستضعفين الذين يعذبون بسببه في المحنة لا تركهم في الأسر والبحث عن نعيم الملك في المدينة".
(6)
والهجرة، أيضاً، درس في البحث عن الحل الجوهري، وترك الحلول الجزئية التوفيقية أو التلفيقية التي تعطل المسيرة الإصلاحية وتمتص حماستها وزخمها وتعمل على حصارها أو تخديرها أو تنويمها.
ويبدو هذا الدرس عظيماً في كل العصور وأمام كل المشكلات، إلا أنه في "عصر المفاوضات" يبدو أشد عظمة وأكثر إبهاراً، فكم من الثورات التي قامت بها الشعوب العربية والإسلامية دخلت في نفق الحلول التوفيقية، فوضعت على طاولة المفاوضات حتى انتهت وتلاشت.
إن المرء ليتذكر كثيراً من هذه الثورات بحسرة، كما يتذكر وبحسرة أشد كثيراً من الخِدَع التي انطلت على مجاهدين وثائرين وإصلاحيين حتى اغتالت أحلامهم وأحلام شعوبهم وأتباعهم، والأمثلة كثيرة ولا أشك أن من يتأمل التاريخ والواقع سيخرج بالكثير من هذه الأمثلة.
إن سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) تخبر أنه لم يرض أبداً بحل توفيقي طوال مرحلة الاستضعاف، لكنه ربما فاوض وبحث عن حلول وسطى في المرحلة المدنية، وذلك بالرغم من أن هذه الحلول التوفيقية كانت تتسع يوما بعد يوم، ويزيد فيها الإغراء بعد كل نجاح إسلامي يتحقق.
لقد بدأت منذ أن عُرض عليه أن يعبد إلههم عاماً ويعبدون إلهه عاماً، ولئن كان هذا عرض مرفوض حتى في وجدان قارئ هذه السطور الآن بعد 1431 سنة، فإن العروض تطورت حتى وصلت إلى ذروتها مع عتبة بن أبي ربيعة "يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد شرفاً شرفناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئي تراه ولا تستطيع أن ترده عن نفسك طلبنا لك الطبيب وبذلنا فيه أموالنا حتى يبرئك منه ... "[11].
والحقيقة أن هذا العرض بالملك والنفوذ والسيادة لا يزال يبدو مغرياً بعد 1431 سنة، فقط إذا وضع القاريء نفسه مكان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) المستضعف في مكة، الحريص على إيمان السادة والكبراء، الباحث عن حماية ونصرة.
غير أنه (صلى الله عليه وسلم) رفض كل حل يخمد حماسة المؤمنين أو يعكر صفاء الفكرة، وظل يجاهد ويؤذى ثم يجاهد ويؤذى، حتى أقام الدولة الحق بالحق. ولو أن هذا الدرس وعاه أبناء الأمة لما وجدنا واحداً يكتب رحلة حياته -التي فشلت- في مذكرات بعنوان "الحياة مفاوضات".
(7)
والهجرة دليل على أن ثمة حل لكل مشكلة، وإني لأحاول أن أتصور نبي الله (صلى الله عليه وسلم) يجلس وهو في عمر الخمسين، بعد عشر سنوات من الجهاد والأذى يستعرض كيف قام بالدعوة منذ سنين وكيف أوذي وكيف عذب هو وأصحابه، وكيف حوصر في شعب أبي طالب حتى كادوا أن يهلكوا من الجوع، ثم كيف ذهب إلى الطائف وعاد منها مُهانا، ثم كيف يعرض نفسه على القبائل فترده القبائل كلها كأنما دبروا هذا بليل.
ثم أتصوره وهو عازم لم يثنه كل هذا، وما يزال يحاول ويجاهد، ويبحث عن أرض تقله وعن بشر يحمونه، حتى يُظفره الله بنفر الأنصار الذين كانوا بداية النصر والتأييد {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال : 62].
وهنا يكمن الدرس، إن لكل مشكلة حلاً، لكن لا يصل إلى هذا الحل إلا من أخذ في البحث والتقصي واجتهد، قد يتعثر مرة ومرات لكنه سيجده. في سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) كلها لم توجد مشكلة لم يكن ثمة حل لها. وحيث إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قدوة للمسلمين جميعاً، فذلك دليل على أن المسلمين قادرون على إيجاد الحل لكل مشكلاتهم لو اقتدوا بالنبي وتعلموا منه (صلى الله عليه وسلم).
صحيحٌ، قد يكون الحل صعباً، وهي صعوبة تبلغ أن يقف النبي ناظراً خلفه إلى مكة التي يعانقها الليل ويقول دامعاً "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"[12].
ولكن الذي أعثره على الحل يقول له {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص : 85]، وقد حصل ودخل النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى مكة فاتحاً ومتواضعاً. فمن ذا الذي يرد أمر الله وهو غالب على أمره؟؟
ـــــــــــــــــــــ
[1] مونتجمري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية، ترجمة حسين أحمد أمين، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى - القاهرة، مصر، 1403 هـ=1983م. ص19.
[2] ألفريد جيوم: الفلسفة وعلم الكلام، دراسة منشورة في كتاب (تراث الإسلام) بإشراف توماس أرنولد، تعريب جرجيس فتح الله، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية - بيروت، 1972م. ص401.
[3] رواه أبو داود (4734) والترمذي (2925) وقال: حديث غريب صحيح، وابن ماجه (201) وأحمد (15229) والحاكم (4220) وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في التعليق على أصحاب السنن، وقال شعيب الأرناؤوط في التعليق على مسند أحمد: صحيح على شرط البخاري.
[4] يرجع أصحاب السير في أسماء القبائل وعددها إلى الواقدي، وهو حجة في مثل هذه الأخبار وإن كان متروكا في الحديث.
[5] د. أكرم ضياء العمري: السيرة النبوية الصحيحة، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة السادسة 1415 هـ = 1994م. ص358.
[6] رواه أحمد (14496) وابن حبان (6274) والحاكم (4251) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد جامع لبيعة العقبة ولم يخرجاه وصححه الذهبي، وقال شعيب الأرناؤوط في التعليق على مسند أحمد وصحيح ابن حبان: إسناده صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني. انظر: السلسلة الصحيحة (63).
[7] وهي جزء من حديث طويل يحكي قصة دعوة النبي مفصلة مع كل قبيلة. رواه الديلمي (897، 7920) وأبو نعيم في معرفة الصحابة (5747) وقال السيوطي في جامع الأحاديث (جمع الجوامع): ابن إسحاق فى المبتدأ ، والعقيلى فى الضعفاء ، وأبو نعيم ، والبيهقى معا فى الدلائل ، والخطيب فى المتفق والمفترق ، قال العقيلى : ليس لهذا الحديث بطوله وألفاظه أصل ولا يروى من وجه يثبت إلا شىء يروى فى مغازى الواقدى وغيره مرسل. وضعفه الألباني. انظر: السلسة الضعيفة (6457).
[8] رواه البخاري (3416).
[9] رواه ابن ماجه (150) وحسنه الألباني.
[10] رواه البيهقي (18215) والحاكم (3362)، وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وخالفهما الشيخ الألباني في تخريجه لأحاديث كتاب (فقه الشيرة) للشيخ محمد الغزالي في كون الحديث على شرط الشيخين، ولكنه صحح نزول الآية في عمار لطريق أخرى ساقها ابن جرير الطبري في تفسيره. انظر: هامش ص81 من كتاب فقه السيرة. طبعة دار الشروق.
[11] رواه أبو يعلى (1818)، وابن إسحاق في السيرة، وحسن سنده الألباني في تحقيقه لفقه السيرة للغزالي. انظر: هامش ص84.
[12] رواه الترمذي (3925) وقال حديث حسن غريب صحيح، وابن ماجه (3108) وأحمد (18737) والحاكم (4270) وقال: على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في التعليق على الترمذي وابن ماجه، وقال شعيب الأرناؤوط في التعليق على مسند أحمد: إسناده صحيح.
الحقيقة أن الإجابة غير يقينية، وقد تكون غير مفيدة على المستوى العملي، رغم أن السؤال يمثل إغراء نظرياً مثيراً لعقول الفلاسفة والمنظرين، لأن ذلك القرار حمل المسلمين -على مدى القرون التالية- لأن يقفوا كل عام أمام حادث الهجرة يتأملونه ويستنطقونه، وفي كل مرة يعطيهم ذات الحدث الواحد دروسا تبدو بلا نهاية.
(1)
كان قيام الدولة الإسلامية ضرورة شرعية، وضرورة تاريخية أيضاً، فعلى المستوى الشرعي كان لابد لرسالة الله الأخيرة للبشر على هذه الأرض أن تستكمل فصولها لتخبرهم كيف يديرون حياتهم في دولة، وكيف ينظمون لأنفسهم طرق السياسة والإدارة والحرب والقانون. فكان لابد من وجود صورة للدولة الإسلامية والتي هي بمثابة النموذج الذي يظل يُلهم الناس ويحثهم على الارتفاع لمثاله وتقليده. وهذه صورة لا يستفيد منها المسلمون وحدهم بل هي كذلك من وسائل الدعوة لكل العالمين، فإن تحقيق الفكرة للنجاح على الأرض يدفع ويُغري من لم يقتنع بالفكرة ذاتها إلى أن يقتنع بها حين يرى آثارها وثمارها.
وذلك قانون تاريخي لا يُجادل فيه، فكل فكرة في التاريخ لم تستطع صناعة دولة ماتت في مهدها أو في صباها، أو ظلت –في أحسن الأحوال- حلما يراود الخيال، وينفر منه الواقعيون، ويطرحه السياسيون والقادة وصناع التاريخ.
فكان لابد للرسالة الخاتمة أن تُنشيء الدولة لتحقق ثمرة الفكرة، ولتثبت الفكرة أنها عملية قادرة على الحياة وقابلة للتطبيق، بل هي النموذج الأمثل والأنجح من بين كل الأفكار. هذا على مستوى الضرورة الشرعية.
وأما على مستوى الضرورة التاريخية، فيبدو الأمر واضحاً لو حاولنا تخيل مسار التاريخ الإنساني بدون الرسالة الإسلامية، إن الصورة تبدو كارثية بكل الوجوه، فإن القفزة الحضارية التي صنعها المسلمون وضعت بصمتها على كل التاريخ الإنساني وعلى مختلف أنشطة السلوك الإنساني حتى ليبدو المفكر الإنجليزي الكبير مونتجمري وات مذهولاً إذ يقول "إننا لنجد شيئًا لا يكاد العقل يصدقه، وبالتالي فهو أمر يخلب اللبَّ، حين نقرأ عن كيف تحوَّلت الحضارات القديمة في الشرق الأوسط إلى حضارة إسلامية"[1]، هذا مع اعتراف المستشرق الإنجليزي الشهير ألفريد جيوم بأن تأثير الحضارة الإسلامية لم تدرك أبعاده بشكل كامل إلى الآن، يقول: " وعندما ترى ضوءَ النهار جميعُ الموادِّ النفيسة المختزنة في مكتبات أوربا، فسيتضح لنا أن التأثير العربي الباقي في الحضارة الوسيطة لهو أعظم بكثير مما عُرِفَ عنه حتى الآن"[2].
(2)
حيث كانت الدولة الإسلامية ضرورة شرعية وتاريخية، فإن مسار سيرة النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) كان مسار رجل يبحث عن القلوب ليهديها ويعطيها الإيمان، وكان في ذات الوقت مسار رجل يبحث عن الأرض لإقامة الدولة. فالمرحلة المكية كانت غرساً للعقيدة الإسلامية في النفوس ونشراً لهذا النوع الجديد من الوعي ولهذه النظرة الجديدة إلى الإنسان والناس والكون وطبيعة الحياة وهدف الوجود.
ولكنها – بزاوية نظر أخرى- كانت أيضاً مرحلة البحث عن الأرض التي تقوم فيها الدولة الإسلامية، ويبدو هذا الهدف (البحث عن أرض لإقامة الدولة) واضحاً في كل خطوات النبي (صلى الله عليه وسلم)، فمبكراً جداً كان حريصاً على إيمان سادات قريش وكبرائها، وكان حرصه عظيماً إلى الحد الذي عوتب فيه (صلى الله عليه وسلم) بقرآن يصفه بأنه "يقتل نفسه" من الغم لعدم إيمانهم، قال تعالى {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف : 6]، {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء : 3].
ثم عوتب (صلى الله عليه وسلم) حين عبس لأعمى شغله عن جلسة مع كبار القوم، فنزل قول الله تعالى {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس : 5 - 10].
ولكن اللافت للنظر، والجدير بالتأمل والاعتبار، أنه (صلى الله عليه وسلم) وقد واجه إصرارهم على ما هم فيه واستكبارهم عن الإيمان، لم يقعد جالساً منتظراً أن يحول الله قلب أحدهم إلى الإيمان، أو منتظراً تغير الظروف والأحوال وموازين القوى في مكة، بل جدّ في البحث بعدما بدا أن الأحوال في مكة لا تبشر بخير في المدى المنظور.
فكان أن خرج النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى الطائف –وهي القوة المنافسة لقريش في الجزيرة - باحثاً عن هذه الأرض وعن هذه الحماية التي تمكنه من الانطلاق في دعوة الناس إلى الإسلام، وحين وُوجه هناك بأقسى مما توقع فأُوذي وأُهين وهو الكريم النسب والخلق وبعد أن تجاوز الخمسين (صلى الله عليه وسلم) –بأبي وأمي ونفسي- لم يقعد ولم ينتظر، بل لقد وسع دائرة البحث حتى كان يعرض نفسه (وكم توحي هذه العبارة بالإصرار على الهدف، كما توحي بالهوان على الناس) على القبائل في موسم الحج. وكان شعار هذه الفترة معبراً عن طبيعة الهدف "ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي"[3].
وذكر أصحاب السِيَر أسماء خمس عشرة قبيلة[4] كلها رفض دعوته، حتى أعثره الله في آخر الأمر على النفر الستة من يثرب، فأيده الله بهم.
وأخيراً تحقق الهدف، ووجدت الأرض التي تستعد لإقامة دولة الفكرة، دولة الإسلام.
وعبر بيعتي العقبة الصغرى والكبرى، وسفارة مصعب بن عمير –الذي جمع بين علم يستوعب به الرسالة ودبلوماسية يستوعب بها الواقع وأهداف المرحلة- تم الإعداد لدولة الإسلام في المدينة، وفي هذه اللحظة انتهت المرحلة المكية وبدأت المرحلة المدنية.
(3)
إن مما يلفت النظر هو أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل بالحد الأدنى من شروط إقامة الدولة في المدينة، وقبل بأدنى درجات الحماية والنصرة، وهي الحماية داخل المدينة فقط[5]، ففي بيعة العقبة الثانية كان النص يقول "وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم"[6]. فعبّر عن الحماية داخل المدينة بلفظ "تمنعوني".
ومن ثم حين خرج (صلى الله عليه وسلم) لاعتراض عير لقريش في بدر فكان أن الله قد قدّر أن يفلت العير وتصير الثلة القليلة أمام جيش قريش وعن غير استعداد، احتاج النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى ما نستطيع أن نسميه "بيعة جديدة" تشمل بند "القتال والنصرة خارج المدينة" وهو ما وافق عليه الأنصار على لسان سيدهم سعد بن معاذ.
وهذا دليل آخر يثبت ضعف رواية تفاوض النبي (صلى الله عليه وسلم) مع بني شيبان والتي تقول بأنهم قبلوا حمايته (صلى الله عليه وسلم) فيما يخص جهة العرب، أما من جهة الفرس فإنهم لا يستطيعون، وحينها قال (صلى الله عليه وسلم) "إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه"[7].
إن السيرة تثبت أن المرحلة المكية كانت مرحلة غرس العقيدة والإيمان، ولكنها كانت أيضاً وفي الوقت ذاته مرحلة البحث عن "استقلال" أو عن "أرض تقوم عليها الدولة".
(4)
فالهجرة تتويج لحركة النبي (صلى الله عليه وسلم) الفعالة طوال المرحلة المكية، وهو درس ينبغي أن يستوعبه المسلمون، لا سيما القائمون على الإصلاح والنهضة في الأوطان الإسلامية، ولم يعد من المفيد أن يركز كثير من العلماء والدعاة على سبب ضعف التربية وقلة الوعي لدى الشعوب العربية والإسلامية، ولذا يسيرون في طريق تكثيف الدروس المعنية بتعليم العقيدة (وفرق كبير بين التعليم النظري والتشرب الروحي) أو دروس الرقائق والروحانيات.
ونجد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يأخذ أصحابه بالرفق واللين، مع المثابرة على الصبر، وهو جانب روحاني عظيم فى التربية الإيمانية نكاد نفتقده اليوم، وقد أتى خباب بن الأرت (رضي الله عنه) وبدا منه جزع لما لحقه من تعذيب شديد وكان أن غضب النبي لما بدا من خباب وقال قولته الشهيرة: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين وما يصده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون"[8].
كما أن عمار بن ياسر وأمه سمية وصهيب والمقداد (رضي الله عنهم جميعا) لم يتحملوا التعذيب الشديد فنطقوا بكلمة الكفر، كما في حديث ابن مسعود قال: "كان أول من أظهر إسلامه سبعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد. فأما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فمنعه الله بعمه أبي طالب. وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه. وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس. فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا. إلا بلال"[9].
وأتى عمار للنبي حزيناً فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان قال: إن عادوا فعد"[10].
ثم نزل فيه قول الله عز وجل يستثنيه من العذاب {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل : 106].
ولم ير النبي (صلى الله عليه وسلم) في أزمة الرسالة وقتها أن هذا بسبب أن بعض من أصحابه –كخباب وعمار- لم ينجح في اختبار الثبات والصمود، وبالتالي فتلك الفئة ما زالت في حاجة لمزيد من التربية والاحتضان والرعاية.
لم يعتمد النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا التفسير، ولم يعتبر أن هذا هو سبب تأخر النصر والتمكين، بل تعامل مع الأمر تعامل الطبيب الذي أعطى دواء مراً لخباب ورفض أن يتخلى عن صفة الصبر، وأعطى دواء آخر لعمار الذي أكره وقلبه مطمئن بالإيمان. ثم استمر (صلى الله عليه وسلم) في مسيرته لمعالجة سبب الأزمة الحقيقية وهو عدم "الاستقلال" في أرض تعيش عليها الفكرة الإسلامية في أمان، وفيها تثمر.
(5)
والهجرة درس في البحث عن الحل العملي الواقع، الذي يهتم بتغيير الواقع أكثر مما يهتم بـ "الاتهامات الإعلامية" –لو صح التعبير- التي تستطيع التشويش وإثارة المشكلات لمن يهتم لها كثيراً، وأكاد أتخيل أن الهجرة النبوية لو تسلط عليها إعلام مثل إعلام العصر الحالي، فسيستطيع رميها بكل نقيصة، وحينها ستتحول إلى "الهروب الكبير" و"التخلي عن مشكلات الوطن" و"لقد ترك محمد المسلمين الضعاف في مكة يعذبون وذهب ليعيش ملكاً منعماً في المدينة" وإنه "يمارس من المدينة جهاد الميكروفونات والمستضعفون في مكة يعذبون". إن "الهروب إلى المدينة دليل على الفشل في مواجهة المشكلات الداخلية" وهو كذلك "استعانة بالدول الأجنبية"... إلخ.
ستتحول الهجرة المجيدة إلى "خيانة عظمى" لو تسلط عليها مثل إعلام العصر الحالي، الذي يُدار معظمه -سراً أو علناً- من القوى التي تعادي الأمة وتفترسها وتريدها عاجزة ضعيفة بلا جهاد ولا مقاومة ولا ذاتية ولا هوية.
ولابد من حسن التصرف والتعامل مع الإعلام من قبل العلماء والمجاهدين والقائمين على الإصلاح، وهذا الجانب يحتوي خللاً كبيرًا.
غير أن الأهم من المهارة الإعلامية لدى حركات المقاومة والإصلاح ألا تعيش تحت "القصف الإعلامي المتواصل" لخطواتها وحركاتها ومشاريعها، خصوصاً وأن رضا الناس غاية لا تدرك، فكيف لو كان هؤلاء الناس (الإعلام) –في معظمهم- لا يرضون عن المجاهدين ولا المصلحين إلا أن يتبعوا ملتهم، وهي غربية أو أمريكية أو إسرائيلية؟
لقد كان الواجب العملي والحل الواقعي أن يهاجر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة ثم يعود بجيش يحرر المستضعفين من المسلمين في مكة، لا أن تتوقف الحياة في سبيل "الواجب الأخلاقي الذي يقتضي –على الأقل- مشاركة القائد للمستضعفين الذين يعذبون بسببه في المحنة لا تركهم في الأسر والبحث عن نعيم الملك في المدينة".
(6)
والهجرة، أيضاً، درس في البحث عن الحل الجوهري، وترك الحلول الجزئية التوفيقية أو التلفيقية التي تعطل المسيرة الإصلاحية وتمتص حماستها وزخمها وتعمل على حصارها أو تخديرها أو تنويمها.
ويبدو هذا الدرس عظيماً في كل العصور وأمام كل المشكلات، إلا أنه في "عصر المفاوضات" يبدو أشد عظمة وأكثر إبهاراً، فكم من الثورات التي قامت بها الشعوب العربية والإسلامية دخلت في نفق الحلول التوفيقية، فوضعت على طاولة المفاوضات حتى انتهت وتلاشت.
إن المرء ليتذكر كثيراً من هذه الثورات بحسرة، كما يتذكر وبحسرة أشد كثيراً من الخِدَع التي انطلت على مجاهدين وثائرين وإصلاحيين حتى اغتالت أحلامهم وأحلام شعوبهم وأتباعهم، والأمثلة كثيرة ولا أشك أن من يتأمل التاريخ والواقع سيخرج بالكثير من هذه الأمثلة.
إن سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) تخبر أنه لم يرض أبداً بحل توفيقي طوال مرحلة الاستضعاف، لكنه ربما فاوض وبحث عن حلول وسطى في المرحلة المدنية، وذلك بالرغم من أن هذه الحلول التوفيقية كانت تتسع يوما بعد يوم، ويزيد فيها الإغراء بعد كل نجاح إسلامي يتحقق.
لقد بدأت منذ أن عُرض عليه أن يعبد إلههم عاماً ويعبدون إلهه عاماً، ولئن كان هذا عرض مرفوض حتى في وجدان قارئ هذه السطور الآن بعد 1431 سنة، فإن العروض تطورت حتى وصلت إلى ذروتها مع عتبة بن أبي ربيعة "يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تريد شرفاً شرفناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئي تراه ولا تستطيع أن ترده عن نفسك طلبنا لك الطبيب وبذلنا فيه أموالنا حتى يبرئك منه ... "[11].
والحقيقة أن هذا العرض بالملك والنفوذ والسيادة لا يزال يبدو مغرياً بعد 1431 سنة، فقط إذا وضع القاريء نفسه مكان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) المستضعف في مكة، الحريص على إيمان السادة والكبراء، الباحث عن حماية ونصرة.
غير أنه (صلى الله عليه وسلم) رفض كل حل يخمد حماسة المؤمنين أو يعكر صفاء الفكرة، وظل يجاهد ويؤذى ثم يجاهد ويؤذى، حتى أقام الدولة الحق بالحق. ولو أن هذا الدرس وعاه أبناء الأمة لما وجدنا واحداً يكتب رحلة حياته -التي فشلت- في مذكرات بعنوان "الحياة مفاوضات".
(7)
والهجرة دليل على أن ثمة حل لكل مشكلة، وإني لأحاول أن أتصور نبي الله (صلى الله عليه وسلم) يجلس وهو في عمر الخمسين، بعد عشر سنوات من الجهاد والأذى يستعرض كيف قام بالدعوة منذ سنين وكيف أوذي وكيف عذب هو وأصحابه، وكيف حوصر في شعب أبي طالب حتى كادوا أن يهلكوا من الجوع، ثم كيف ذهب إلى الطائف وعاد منها مُهانا، ثم كيف يعرض نفسه على القبائل فترده القبائل كلها كأنما دبروا هذا بليل.
ثم أتصوره وهو عازم لم يثنه كل هذا، وما يزال يحاول ويجاهد، ويبحث عن أرض تقله وعن بشر يحمونه، حتى يُظفره الله بنفر الأنصار الذين كانوا بداية النصر والتأييد {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال : 62].
وهنا يكمن الدرس، إن لكل مشكلة حلاً، لكن لا يصل إلى هذا الحل إلا من أخذ في البحث والتقصي واجتهد، قد يتعثر مرة ومرات لكنه سيجده. في سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) كلها لم توجد مشكلة لم يكن ثمة حل لها. وحيث إن النبي (صلى الله عليه وسلم) قدوة للمسلمين جميعاً، فذلك دليل على أن المسلمين قادرون على إيجاد الحل لكل مشكلاتهم لو اقتدوا بالنبي وتعلموا منه (صلى الله عليه وسلم).
صحيحٌ، قد يكون الحل صعباً، وهي صعوبة تبلغ أن يقف النبي ناظراً خلفه إلى مكة التي يعانقها الليل ويقول دامعاً "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت"[12].
ولكن الذي أعثره على الحل يقول له {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص : 85]، وقد حصل ودخل النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى مكة فاتحاً ومتواضعاً. فمن ذا الذي يرد أمر الله وهو غالب على أمره؟؟
ـــــــــــــــــــــ
[1] مونتجمري وات: فضل الإسلام على الحضارة الغربية، ترجمة حسين أحمد أمين، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى - القاهرة، مصر، 1403 هـ=1983م. ص19.
[2] ألفريد جيوم: الفلسفة وعلم الكلام، دراسة منشورة في كتاب (تراث الإسلام) بإشراف توماس أرنولد، تعريب جرجيس فتح الله، دار الطليعة للطباعة والنشر، الطبعة الثانية - بيروت، 1972م. ص401.
[3] رواه أبو داود (4734) والترمذي (2925) وقال: حديث غريب صحيح، وابن ماجه (201) وأحمد (15229) والحاكم (4220) وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وصححه الألباني في التعليق على أصحاب السنن، وقال شعيب الأرناؤوط في التعليق على مسند أحمد: صحيح على شرط البخاري.
[4] يرجع أصحاب السير في أسماء القبائل وعددها إلى الواقدي، وهو حجة في مثل هذه الأخبار وإن كان متروكا في الحديث.
[5] د. أكرم ضياء العمري: السيرة النبوية الصحيحة، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة السادسة 1415 هـ = 1994م. ص358.
[6] رواه أحمد (14496) وابن حبان (6274) والحاكم (4251) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد جامع لبيعة العقبة ولم يخرجاه وصححه الذهبي، وقال شعيب الأرناؤوط في التعليق على مسند أحمد وصحيح ابن حبان: إسناده صحيح على شرط مسلم، وصححه الألباني. انظر: السلسلة الصحيحة (63).
[7] وهي جزء من حديث طويل يحكي قصة دعوة النبي مفصلة مع كل قبيلة. رواه الديلمي (897، 7920) وأبو نعيم في معرفة الصحابة (5747) وقال السيوطي في جامع الأحاديث (جمع الجوامع): ابن إسحاق فى المبتدأ ، والعقيلى فى الضعفاء ، وأبو نعيم ، والبيهقى معا فى الدلائل ، والخطيب فى المتفق والمفترق ، قال العقيلى : ليس لهذا الحديث بطوله وألفاظه أصل ولا يروى من وجه يثبت إلا شىء يروى فى مغازى الواقدى وغيره مرسل. وضعفه الألباني. انظر: السلسة الضعيفة (6457).
[8] رواه البخاري (3416).
[9] رواه ابن ماجه (150) وحسنه الألباني.
[10] رواه البيهقي (18215) والحاكم (3362)، وقال حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي. وخالفهما الشيخ الألباني في تخريجه لأحاديث كتاب (فقه الشيرة) للشيخ محمد الغزالي في كون الحديث على شرط الشيخين، ولكنه صحح نزول الآية في عمار لطريق أخرى ساقها ابن جرير الطبري في تفسيره. انظر: هامش ص81 من كتاب فقه السيرة. طبعة دار الشروق.
[11] رواه أبو يعلى (1818)، وابن إسحاق في السيرة، وحسن سنده الألباني في تحقيقه لفقه السيرة للغزالي. انظر: هامش ص84.
[12] رواه الترمذي (3925) وقال حديث حسن غريب صحيح، وابن ماجه (3108) وأحمد (18737) والحاكم (4270) وقال: على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في التعليق على الترمذي وابن ماجه، وقال شعيب الأرناؤوط في التعليق على مسند أحمد: إسناده صحيح.