حكاية ناي ♔
11-09-2023, 10:50 AM
ماذا المدينة؟
وهذا سؤالٌ يُراوِد الأذهان، وهو: لماذا اختار رسول الله - صلوات الله عليه وسلامه - المدينةَ مكانًا لهجرته؟
إنَّ بعض المستشرقين ومَن ورَد آبارهم الآسِنة السامَّة، يُدلُون بأسباب لا تتَّسع هذه العجالة لأنْ نُعاسِرهم الحسابَ عليها، فالقول بجودة تربة المدينة ووَفرة ثمارها، ليس مُبرِّرًا للهجرة إليها، فقد يكون الغِنَى والترف صارِفين عن سبيل الله، كما بيَّن القرآن في غير موضعٍ، والقول بوجود قَرابَة للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في المدينة يُجاب عليه بأنهم لن يكونوا أمسَّ رحمًا، ولا أقوى آصرةً من ذوي قرابته بمكة، وقد كان من عمِّه أبي لهب وأمثاله ما هو معروفٌ مشتهر.
لكنَّنا قبلَ أنْ نستمرَّ في سرد مثل هذه الأقوال وتفنيدها، ونُعاوِد النظر في السؤال القائل: لماذا اختار الرسول المدينة؟
ونقطة البدء في الإجابة:
إنَّ اختيار المدينة ليس من عند الرسول - صلوات الله عليه - بدايةً، وليس استجابةً لطلب نفرٍ من أصحابه، وليس رأيًا اقتَرَحه عليه إنسان، ولو أنَّ أهل مكَّة جميعًا أرادوا إخراجه، وقام أهلُ المدينة أجمعون بأسيافهم حرَّاسًا له وحماةً على طريقٍ ذلَّلوها تذليلاً، وفرَشُوها له بُسُطًا وورودًا - ما تحرَّك من مكانه شبرًا واحدًا، ما لم يَأذَن له ربُّ العالمين.
وإذًا؛ فإنَّ السُّؤال يجبُ أنْ يكون: لماذا اختارَ أحكَمُ الحاكمين المدينةَ مَهجرًا لخاتم أنبيائه ورسله؟
وكلُّ فعلٍ لله له حِكَم بالغات: منها ما يُدرَك بَداهةً، ومنها ما تَتفاوَت العقول في طلبه، ومنها ما تقصر عقول الخلائق عن إدراكه.
ومن بعض ما تُدرِكه عقولُنا في أسباب اختِيار المدينة ما يلي:
1- كلُّ ما ذكَرناه من (مقدمات الهِجرة وبَشائِرها) كانت أسبابًا صنَعَها الله لنبيِّه؛ لتكون المدينة دار هجرته، ومهجرًا لأصحابه.
2- كان من تقدير العليم لهذه الدعوة أنْ جعَل أعداءَها ألسنةً تُهيِّئ البيئة لها، وتفصيل ذلك: أنَّ اليهود كان إذا وقَع بينهم وبين أهل (يثرب) خِصام أو قتال كانوا يقولون لهم: "إنَّ نبيًّا مبعوثًا قد ظلَّ زمانه، سنتبعه ونقتلكم معه قتلَ عاد وإرم".
3- لما قدم بعض اليثربيِّين إلى مكَّة في موسم الحج قبلَ بَيْعة العقبة الأُولى، وسمعوا من الرسول ما يحدث من وحي الله إليه، التَفَت بعضُهم إلى بعضٍ وقالوا: "وتعلمون والله إنَّه لَلنبيُّ الذي توعَّدَكم به يهود فلا يسبقنكم إليه".
وأجابوا الرَّسولَ إلى ما دَعاهُم إليه من الإسلام، وقالوا: "إنَّا ترَكنا قومَنا، والقوم بينهم من العداوَة والشرِّ ما بينهم، فعسى أنْ يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فنَدعُوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدِّين، فإنْ يجمَعهم الله عليك فلا رجل أعز منك..."، وتتابعت الأسباب.
وما دمنا قد علمنا أنَّ الهجرة إلى المدينة كانت أمرًا من الله ووحيًا، فعلينا أنْ نتدبَّر قوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]، وقوله - سبحانه -: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ... ﴾ [القصص: 68].
الهجرة بين أسبابها الحقيقيَّة وسببها المباشر
يظنُّ بعض الناس أنَّ مُؤامَرة قريش على الرسول - صلوات الله عليه - كانَتْ هي الباعث الوحيد والسبب الفريد لهجرة الرسول نَجاةً بنفسه من كيد قريش ومكرها، ونحن نرفُض هذا للأسباب الآتية:
1- أنَّ المؤامرة المعروفة على حَياة الرسول لم تكن هي الأُولى طوال ثلاثة عشر عامًا، بل سبقَتْها مؤامرات ومُحاوَلات: لِخَنْقِه ساجدًا، ولتَحطِيم رأسه مصليًا، ولقتله في داره أو دار الأرقَم بن أبى الأرقَم كما حاوَل عمر بن الخطاب قبل أنْ يُسلِم، فلو كانت الهجرة نجاة بشخصه لنجا بنفسه بعد فشل محاولةٍ من هذه المحاولات.
2- أنَّ أقرب الناس إليه - وهو عمُّه أبو لهب - عالَنَه بالوعيد والتهديد في أوَّل سنوات الدعوة بقوله: "تبًّا لك - أي: هلاكًا لك - يا محمد، ألهذا جمعتنا؟!"، ولم يفتَّ هذا في عضده - صلَّى الله عليه وسلَّم.
3- كانت سنوات الحِصار الذي ضربَتْه قريش على الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأتباعه وعشيرته أنسَبَ السنوات للهجرة، لو أنَّ أمرَ الهجرة كان بيده - صلَّى الله عليه وسلَّم.
4- أنَّ الله - سبحانه - قد أخبره بأنَّ كلَّ مُؤامَرات المشرِكين في خُسران؛ لأنَّهم حين يَمكُرون به فإنَّ الله يَمكُر له ويَمكُر بهم، كما بيَّنَتْ ذلك فيما بعدُ آية الأنفال المدنية: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
5- أنَّ حياة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - رغم كلِّ المخاطر التي كانت تُحِيط به - لم تكن مُهدَّدة ألبتَّة لشيءٍ واحد جعَلَه في منعة منيعة، وعزَّةٍ كاثرة كاثرة، وثقةٍ ثابتة ثابتة، وأمنةٍ لا يأتيها الفزَع من بين يديها ولا من خلفها، هذا الشيء هو الذي جاءَ بيانُه في قول الله - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 67].
﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 32- 33].
﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8].
هذه الآيات وغيرها لا أقول: تتضمَّن فقط الوعدَ من الله - سبحانه - لرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالنصر والتأييد، بل إنَّ هذه الآيات قد نزَلت في المدينة وقد شاهَد من نصر الله له ما يجلُّ عن الوصف، وشاهد من خزي الله لأعدائه ما يَنشَرح له صدرُه، وهذه الآيات لو تدبَّرتها مليًّا لوجدتَ نفسَك أمام فتحٍ من الهداية، وكنوزٍ من الإيمان.
6- إنَّ المؤامرات، ومُحاوَلات قتْل الرسول لم تتوقَّف بعد الهجرة؛ فقد حاوَل يهود بنى النضير قتلَه بحجرٍ، ودسَّت له يهوديَّة من خيبر السم في شاة، ولم تكن جراحاته في (أحد) إلاَّ محاولة فاشلة لقتله - صلوات الله عليه، فدَتْه كلُّ نفس مؤمنة - إلى غير ذلك من المحاولات، فلو كان يُفكِّر في النجاة بشخصه لَهاجَر من المدينة أيضًا.
7- أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لأصحابه: ((قد أُخبِرت بدار هجرتكم وهى يثرب، فمَن أراد الخروجَ فليخرج إليها))، وهذا القول منه - صلوات الله وسلامه عليه -: ((قد أُخبِرت...)) يَقطَع لنا بأنَّ أمرَ المسلمين بالهجرة أمرٌ ربانيٌّ وتقديرٌ رحمانيٌّ.
8- بعد هذا الإذن السابق خرَج المسلمون إلى المدينة مُهاجِرين، وكان أكثرهم يكتم هجرته خوفًا من أذى المشركين، وهاجَر عمر - رضِي الله عنه - علانيةً، في مشهدٍ أرغَمَ الله به أنوف المشركين، ولم يَبْقَ في مكة إلاَّ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو بكر وعلي، أو معذَّب يمنَعُه السجن، أو مريض أثقَلَه مرضُه عن الخروج.
أمَّا أصحاب الأعذار فإنَّ أعذارهم منعَتْهم من الهجرة.
وأمَّا (أبو بكر) فاستَأذَن رسول الله فلم يأذَن له؛ لأنَّه يدَّخره لصحبته، كما قال له: ((لا تَعجَل؛ لعلَّ الله يجعل لك صاحبًا)).
وأمَّا (علي) فقد استَبقَاه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لمهمَّة.
وأمَّا الرسول - صلوات الله عليه - فقد علم أنَّه - ولا شكَّ - مهاجرٌ من أوَّل أيَّام الدعوة.. ولكن متى اليوم؟
لا بُدَّ من الأمر الذي يأتي به الوحي.
وهذا سؤالٌ يُراوِد الأذهان، وهو: لماذا اختار رسول الله - صلوات الله عليه وسلامه - المدينةَ مكانًا لهجرته؟
إنَّ بعض المستشرقين ومَن ورَد آبارهم الآسِنة السامَّة، يُدلُون بأسباب لا تتَّسع هذه العجالة لأنْ نُعاسِرهم الحسابَ عليها، فالقول بجودة تربة المدينة ووَفرة ثمارها، ليس مُبرِّرًا للهجرة إليها، فقد يكون الغِنَى والترف صارِفين عن سبيل الله، كما بيَّن القرآن في غير موضعٍ، والقول بوجود قَرابَة للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في المدينة يُجاب عليه بأنهم لن يكونوا أمسَّ رحمًا، ولا أقوى آصرةً من ذوي قرابته بمكة، وقد كان من عمِّه أبي لهب وأمثاله ما هو معروفٌ مشتهر.
لكنَّنا قبلَ أنْ نستمرَّ في سرد مثل هذه الأقوال وتفنيدها، ونُعاوِد النظر في السؤال القائل: لماذا اختار الرسول المدينة؟
ونقطة البدء في الإجابة:
إنَّ اختيار المدينة ليس من عند الرسول - صلوات الله عليه - بدايةً، وليس استجابةً لطلب نفرٍ من أصحابه، وليس رأيًا اقتَرَحه عليه إنسان، ولو أنَّ أهل مكَّة جميعًا أرادوا إخراجه، وقام أهلُ المدينة أجمعون بأسيافهم حرَّاسًا له وحماةً على طريقٍ ذلَّلوها تذليلاً، وفرَشُوها له بُسُطًا وورودًا - ما تحرَّك من مكانه شبرًا واحدًا، ما لم يَأذَن له ربُّ العالمين.
وإذًا؛ فإنَّ السُّؤال يجبُ أنْ يكون: لماذا اختارَ أحكَمُ الحاكمين المدينةَ مَهجرًا لخاتم أنبيائه ورسله؟
وكلُّ فعلٍ لله له حِكَم بالغات: منها ما يُدرَك بَداهةً، ومنها ما تَتفاوَت العقول في طلبه، ومنها ما تقصر عقول الخلائق عن إدراكه.
ومن بعض ما تُدرِكه عقولُنا في أسباب اختِيار المدينة ما يلي:
1- كلُّ ما ذكَرناه من (مقدمات الهِجرة وبَشائِرها) كانت أسبابًا صنَعَها الله لنبيِّه؛ لتكون المدينة دار هجرته، ومهجرًا لأصحابه.
2- كان من تقدير العليم لهذه الدعوة أنْ جعَل أعداءَها ألسنةً تُهيِّئ البيئة لها، وتفصيل ذلك: أنَّ اليهود كان إذا وقَع بينهم وبين أهل (يثرب) خِصام أو قتال كانوا يقولون لهم: "إنَّ نبيًّا مبعوثًا قد ظلَّ زمانه، سنتبعه ونقتلكم معه قتلَ عاد وإرم".
3- لما قدم بعض اليثربيِّين إلى مكَّة في موسم الحج قبلَ بَيْعة العقبة الأُولى، وسمعوا من الرسول ما يحدث من وحي الله إليه، التَفَت بعضُهم إلى بعضٍ وقالوا: "وتعلمون والله إنَّه لَلنبيُّ الذي توعَّدَكم به يهود فلا يسبقنكم إليه".
وأجابوا الرَّسولَ إلى ما دَعاهُم إليه من الإسلام، وقالوا: "إنَّا ترَكنا قومَنا، والقوم بينهم من العداوَة والشرِّ ما بينهم، فعسى أنْ يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فنَدعُوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدِّين، فإنْ يجمَعهم الله عليك فلا رجل أعز منك..."، وتتابعت الأسباب.
وما دمنا قد علمنا أنَّ الهجرة إلى المدينة كانت أمرًا من الله ووحيًا، فعلينا أنْ نتدبَّر قوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 216]، وقوله - سبحانه -: ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ... ﴾ [القصص: 68].
الهجرة بين أسبابها الحقيقيَّة وسببها المباشر
يظنُّ بعض الناس أنَّ مُؤامَرة قريش على الرسول - صلوات الله عليه - كانَتْ هي الباعث الوحيد والسبب الفريد لهجرة الرسول نَجاةً بنفسه من كيد قريش ومكرها، ونحن نرفُض هذا للأسباب الآتية:
1- أنَّ المؤامرة المعروفة على حَياة الرسول لم تكن هي الأُولى طوال ثلاثة عشر عامًا، بل سبقَتْها مؤامرات ومُحاوَلات: لِخَنْقِه ساجدًا، ولتَحطِيم رأسه مصليًا، ولقتله في داره أو دار الأرقَم بن أبى الأرقَم كما حاوَل عمر بن الخطاب قبل أنْ يُسلِم، فلو كانت الهجرة نجاة بشخصه لنجا بنفسه بعد فشل محاولةٍ من هذه المحاولات.
2- أنَّ أقرب الناس إليه - وهو عمُّه أبو لهب - عالَنَه بالوعيد والتهديد في أوَّل سنوات الدعوة بقوله: "تبًّا لك - أي: هلاكًا لك - يا محمد، ألهذا جمعتنا؟!"، ولم يفتَّ هذا في عضده - صلَّى الله عليه وسلَّم.
3- كانت سنوات الحِصار الذي ضربَتْه قريش على الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأتباعه وعشيرته أنسَبَ السنوات للهجرة، لو أنَّ أمرَ الهجرة كان بيده - صلَّى الله عليه وسلَّم.
4- أنَّ الله - سبحانه - قد أخبره بأنَّ كلَّ مُؤامَرات المشرِكين في خُسران؛ لأنَّهم حين يَمكُرون به فإنَّ الله يَمكُر له ويَمكُر بهم، كما بيَّنَتْ ذلك فيما بعدُ آية الأنفال المدنية: ﴿ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الأنفال: 30].
5- أنَّ حياة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - رغم كلِّ المخاطر التي كانت تُحِيط به - لم تكن مُهدَّدة ألبتَّة لشيءٍ واحد جعَلَه في منعة منيعة، وعزَّةٍ كاثرة كاثرة، وثقةٍ ثابتة ثابتة، وأمنةٍ لا يأتيها الفزَع من بين يديها ولا من خلفها، هذا الشيء هو الذي جاءَ بيانُه في قول الله - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 67].
﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 32- 33].
﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ [الصف: 8].
هذه الآيات وغيرها لا أقول: تتضمَّن فقط الوعدَ من الله - سبحانه - لرسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالنصر والتأييد، بل إنَّ هذه الآيات قد نزَلت في المدينة وقد شاهَد من نصر الله له ما يجلُّ عن الوصف، وشاهد من خزي الله لأعدائه ما يَنشَرح له صدرُه، وهذه الآيات لو تدبَّرتها مليًّا لوجدتَ نفسَك أمام فتحٍ من الهداية، وكنوزٍ من الإيمان.
6- إنَّ المؤامرات، ومُحاوَلات قتْل الرسول لم تتوقَّف بعد الهجرة؛ فقد حاوَل يهود بنى النضير قتلَه بحجرٍ، ودسَّت له يهوديَّة من خيبر السم في شاة، ولم تكن جراحاته في (أحد) إلاَّ محاولة فاشلة لقتله - صلوات الله عليه، فدَتْه كلُّ نفس مؤمنة - إلى غير ذلك من المحاولات، فلو كان يُفكِّر في النجاة بشخصه لَهاجَر من المدينة أيضًا.
7- أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لأصحابه: ((قد أُخبِرت بدار هجرتكم وهى يثرب، فمَن أراد الخروجَ فليخرج إليها))، وهذا القول منه - صلوات الله وسلامه عليه -: ((قد أُخبِرت...)) يَقطَع لنا بأنَّ أمرَ المسلمين بالهجرة أمرٌ ربانيٌّ وتقديرٌ رحمانيٌّ.
8- بعد هذا الإذن السابق خرَج المسلمون إلى المدينة مُهاجِرين، وكان أكثرهم يكتم هجرته خوفًا من أذى المشركين، وهاجَر عمر - رضِي الله عنه - علانيةً، في مشهدٍ أرغَمَ الله به أنوف المشركين، ولم يَبْقَ في مكة إلاَّ رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو بكر وعلي، أو معذَّب يمنَعُه السجن، أو مريض أثقَلَه مرضُه عن الخروج.
أمَّا أصحاب الأعذار فإنَّ أعذارهم منعَتْهم من الهجرة.
وأمَّا (أبو بكر) فاستَأذَن رسول الله فلم يأذَن له؛ لأنَّه يدَّخره لصحبته، كما قال له: ((لا تَعجَل؛ لعلَّ الله يجعل لك صاحبًا)).
وأمَّا (علي) فقد استَبقَاه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لمهمَّة.
وأمَّا الرسول - صلوات الله عليه - فقد علم أنَّه - ولا شكَّ - مهاجرٌ من أوَّل أيَّام الدعوة.. ولكن متى اليوم؟
لا بُدَّ من الأمر الذي يأتي به الوحي.