مشاهدة النسخة كاملة : ضعف زيادة (وكل ضلالة في النار) رواية ودراية


حكاية ناي ♔
11-13-2023, 12:03 PM
الحمد لله، نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:

فإن خطبة الحاجة من السنن العظيمة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها من العلم والهدى ما لا يُحصى (من المضامين العقدية، والدرر البلاغية، والفوائد السلوكية، والحمد والثناء على رب البرية، وغير ذلك) ما يجعل المسلم الموفق حريصًا على فهمه والوقوف عليه.


وقد أثار انتباهي من قديم عبارةٌ لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يُضعِّف فيها زيادة (وكل ضلالة في النار) من ناحية المعنى، فقمت بالبحث عنها من ناحية السند، وفيما يلي خلاصة ما وقفت عليه فإن كان صوابًا فمن الله عز وجل وحده وله الحمد، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان:

أولًا: السند والرواية:

هذه الزيادة شاذة، والشاذ في عداد الواهي كما قال الذهبي في الموقظة، والشاذ لا تنفعه المتابعات والشواهد كما هو معروف؛ لأنه خطأ من أساسه.


قال الشيخ محمد عمرو عبداللطيف رحمه الله تعالى: "وشَرُّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"، هذا هو الثابت المحفوظ عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- عند مسلم وغيره كما رواه جمهور أصحاب جعفر بن محمد: عبدالوهاب الثقفي، وسليمان بن بلال، ووهيب بن خالد، ويحيى بن سعيد القطان، وعبدالعزيز بن محمد، ويحيى بن سليم وآخرون، ومقتضى صنيع مسلم أن يكون هو لفظ وكيع عن الثوري عن جعفر به، حيث أحال على رواية الثقفي وقال: "ثم ساق الحديث بمثل حديث الثقفي".


لكن رواه أحمد، وابن أبي عاصم عن وكيع بلفظ: "وكل محدثة بدعة" وجمع بينهما البيهقي.


وخالف جميع هؤلاء: عبدالله بن المبارك، فرواه عن الثوري عن جعفر به بلفظ: "وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار".


وهذه اللفظة تحاشاها الإمام مسلم في "صحيحه"، وكذلك ابن حبان، وأوردها ابن خزيمة في "صحيحه" بالتحويل مع رواية أنس بن عياض عن جعفر وقال: "ولفظ أنس بن عياض مخالف لهذا اللفظ".


وفي الحقيقة أن لفظ جمهور الرواة عن جعفر كذلك في هذه الزيادة وفي السياق نفسه.


وشيخ الإسلام -رحمه الله- وإن صحح لفظ النسائي بالزيادة في "إقامة الدليل على إبطال التحليل" من الفتاوى (3 / 58) كما في خطبة الحاجة للعلامة الألباني -رحمه الله- (ص 30)، فقد طعن في ثبوتها عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في "مجموع الفتاوى" (19 /191) فقال: "ولم يقل: وكل ضلالة في النار"، ثم شرع في بيان عدم صحة هذا المعنى.


ولولا أن الله عز وجل قيَّض لي أخًا كريمًا يسألني عن هذه اللفظة منذ عدة سنوات، ما تفطنت إلى شذوذها بعد التقصي التام لطرق هذا الحديث، وإن رُويتْ عن عمر وابن مسعود -رضوان الله عليهما- [أحاديث ومرويات في الميزان لمحمد عمرو عبداللطيف، ص5]، وقال في موضع آخر من هذه السلسلة: تعلم السبب في إعراضي عن اللفظة المشهورة جدًّا: "وكل ضلالة في النار"، وأنها شاذة ومعناها أيضًا غير صحيح؛ انتهى كلامه.


ولي بعض التنبيهات على كلامه رحمه الله تعالى:

الأول: قال أبو نعيم في المسند المستخرج على صحيح مسلم (1953): حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْعَسْكَرِيُّ عَسْكَرُ سُرَّ مَنْ رَأَى بِبَغْدَادَ، ثَنَا الْفِرْيَابِيُّ ثَنَا أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعُثْمَانُ قَالا: ثَنَا وَكيِعٌ عَنْ سُفْيَانَ ح وَأنبأ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ ثَنَا عُبَيْدُ بْنُ غَنَّامٍ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ ح وَثنا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَعْدَانَ ثَنَا سَالم بْنُ جُنَادَةَ ثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ جَعْفَرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ... وفيه: "وَكُلُّ ضَلالَةٍ فِي النَّارِ"، فالظاهر أن المخالفة من الثوري نفسه.


وقال محققو المسند: قلنا: وهذا الحرف "كل ضلالة في النار" لم يُرْوَ في هذا الحديث إلا من طريق عبدالله بن المبارك عن سفيان الثوري، وأما من غير حديث جابر فقد روي عن ابن مسعود موقوفًا عند اللالكائي في "شرح أصول الاعتقاد" (85)، والبيهقي ص 189، وإسناد البيهقي ضعيف، أما إسناد اللالكائي ففيه أيوب بن الوليد، وهو مترجم في "تاريخ بغداد" 7 /10، ولم يأثر الخطيب فيه جرحًا ولا تعديلًا.


الثاني: نصُّ كلام شيخ الإسلام في إبطال التحليل (3 /122) (نسختي) وفي غيرها أيضًا: "رواه النسائي بإسناد صحيح وزاد: "فكل بدعة في النار"؛ ا هـ.


فلم ينص على تصحيح هذه اللفظة وإنما ذكر أنها زيادة في الحديث، وهذا لا يلزم منه تصحيحها والله أعلم، وسيأتي تضعيفه لها من ناحية المعنى.


ثانيًا: المتن والدراية:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: "وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي خُطْبَةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ: "خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ" وَلَمْ يَقُلْ: وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ بَلْ يَضِلُّ عَنْ الْحَقِّ مَنْ قَصَدَ الْحَقَّ وَقَدْ اجْتَهَدَ فِي طَلَبِهِ فَعَجزَ عَنْهُ فَلَا يُعَاقَبُ وَقَدْ يَفْعَلُ بَعْضَ مَا أُمِرَ بِهِ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ، وَخَطَؤُهُ الَّذِي ضَلَّ فِيهِ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ مَغْفُورٌ لَهُ. وَكَثِيرٌ مِنْ مُجْتَهِدِي السَّلَفِ وَالْخَلَفِ قَدْ قَالُوا وَفَعَلُوا مَا هُوَ بِدْعَةٌ وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ بِدْعَةٌ؛ إمَّا لِأَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ ظَنُّوهَا صَحِيحَةً، وَإِمَّا لِآيَاتِ فَهِمُوا مِنْهَا مَا لَمْ يُرَدْ مِنْهَا، وَإِمَّا لِرَأْيٍ رَأَوْهُ وَفِي الْمَسْأَلَةِ نُصُوصٌ لَمْ تَبْلُغْهُمْ. وَإِذَا اتَّقَى الرَّجُلُ رَبَّهُ مَا اسْتَطَاعَ دَخَلَ فِي قَوْلِهِ: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286] وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ: "قَدْ فَعَلْت" وَبَسْطُ هَذَا لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ؛ [مجموع الفتاوى - (19 / 191)].


ولشيخ الإسلام ابن تيمية نظر دقيق في نقد متون الأحاديث لمعرفته الواسعة بالسنة وسعة اطِّلاعه عليها رواية ودراية؛ وقد قال عنه الذهبي كما في ذيل طبقات الحنابلة (2 /390): "كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث"، وكفى بها شهادة.


ومن تنبيهاته اللطيفة المهمة على متن خطبة الحاجة -ونذكره للمناسبة- قوله: "الْأَذْكَارُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا خُطْبَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ وَهِيَ الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ: هِيَ الَّتِي يُرْوَى عَنْ الشَّيْخِ عَبْدِالْقَادِرِ ثُمَّ أَبِي الْحَسَنِ الشاذلي أَنَّهَا جَوَامِعُ الْكَلَامِ النَّافِعِ. وَهِيَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ بَيْن أَمْرَيْنِ: أَمْرٍ يَفْعَلُهُ اللَّهُ بِهِ فَهِيَ نِعَمُ اللَّهِ الَّتِي تَنْزِلُ عَلَيْهِ فَتَحْتَاجُ إلى الشُّكْرِ، وَأَمْرٍ يَفْعَلُهُ هُوَ: إمَّا خَيْرٌ وَإِمَّا شَرٌّ، فَالْخَيْرُ يَفْتَقِرُ إلى مَعُونَةِ اللَّهِ لَهُ فَيَحْتَاجُ إلى الِاسْتِعَانَةِ وَالشَّرُّ يَفْتَقِرُ إلى الِاسْتِغْفَارِ لِيَمْحُوَ أَثَرَهُ. وَجَاءَ فِي حَدِيثِ ضِمَادٍ الأزدي: "الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ" فَقَطْ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ حَيْثُ قُسِّمَتْ نِصْفَيْنِ: نِصْفًا لِلرَّبِّ وَنِصْفًا لِلْعَبْدِ، فَنِصْفُ الرَّبِّ مُفْتَتَحٌ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ، وَنِصْفُ الْعَبْدِ مُفْتَتَحٌ بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِ، فَقَالَ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَقَدْ يُقْرَنُ بَيْنَ الْحَمْدِ وَالِاسْتِغْفَارِ كَمَا فِي الْأَثَرِ الَّذِي رَوَاهُ أَحْمَد فِي الزُّهْدِ "أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَلَى عَهْدِ الْحَسَنِ فَقِيلَ لَهُ: تَلَقَّيْنَا هَذِهِ الْخُطْبَةَ عَن الْوَالِدِ عَنْ وَالِدِهِ كَمَا يَقُولُهَا كَثِيرٌ مَنْ النَّاسِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا "فَأَمَّا نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ" فَفِي حَدِيثِ ضِمَادٍ وَ"نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ" فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَأَمَّا نَسْتَهْدِيهِ فَفِي فَاتِحَةِ الْكِتَابِ لِأَنَّ نِصْفَهَا لِلرَّبِّ وَهُوَ الْحَمْدُ وَنِصْفَهَا لِلْعَبْدِ وَهُوَ الِاسْتِعَانَةُ وَالِاسْتِهْدَاءُ وَلَيْسَ فِيهَا الِاسْتِغْفَارُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ الذَّنْبِ، وَالسُّورَةُ أَصْلُ الْإِيمَانِ، وَالْفَاتِحَةُ بَابُ السَّعَادَةِ الْمَانِعَةُ مِنْ الذُّنُوبِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت: 45]، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أزد شنوءة. وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ: إنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْت هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللَّهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ، قَالَ: فَلَقِيَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ وَإِنَّ اللَّهَ يَشْفِي عَلَى يَدَيَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ فَهَلْ لَك؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ" قَالَ: فَقَالَ أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِك هَؤُلَاءِ فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْت قَوْلَ الْكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ فَمَا سَمِعْت بِمِثْلِ كَلِمَاتِك هَؤُلَاءِ وَلَقَدْ بَلَغْت ناعوس الْبَحْرِ، قَالَ: فَقَالَ هَاتِ يَدَك أُبَايِعْك عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَبَايَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَلَى قَوْمِك، فَقَالَ: وَعَلَى قَوْمِي؛ رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَلِهَذَا اسْتُحِبَّتْ وَفُعِلَتْ فِي مُخَاطَبَةِ النَّاسِ بِالْعِلْمِ عُمُومًا وَخُصُوصًا: مِنْ تَعْلِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ فِي ذَلِكَ. وَمَوْعِظَة النَّاسِ وَمُجَادَلَتهمْ أَنْ يَفْتَتِحَ بِهَذِهِ الْخُطْبَةِ الشَّرْعِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وَكَانَ الَّذِي عَلَيْهِ شُيُوخُ زَمَانِنَا الَّذِينَ أَدْرَكْنَاهُمْ وَأَخَذْنَا عَنْهُمْ وَغَيْرِهِمْ يَفْتَتِحُونَ مَجْلِسَ التَّفْسِيرِ أَوْ الْفِقْهِ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَدَارِسِ وَغَيْرِهَا بِخُطْبَةِ أُخْرَى، مِثْلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ خَاتَمِ الْمُرْسَلِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَرَضِيَ اللَّهُ عَنَّا وَعَنْكُمْ وَعَنْ مَشَايِخِنَا وَعَنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ وَعَن السَّادَةِ الْحَاضِرِينَ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا رَأَيْت قَوْمًا يَخْطُبُونَ لِلنِّكَاحِ بِغَيْرِ الْخُطْبَةِ الْمَشْرُوعَةِ، وَكُلُّ قَوْمٍ لَهُمْ نَوْعٌ غَيْرَ نَوْعِ الْآخَرِينَ، فَإِنَّ حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ يَخُصَّ النِّكَاحَ وَإِنَّمَا هِيَ خُطْبَةٌ لِكُلِّ حَاجَةٍ فِي مُخَاطَبَةِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَالنِّكَاحُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ، فَإِنَّ مُرَاعَاةَ السُّنَنِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ وَالْعَادَاتِ هُوَ كَمَالُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَإِنَّهُ مَنْقُوصٌ مَرْجُوحٌ؛ إذْ خَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَوْلَهُ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ" هِيَ الْجَوَامِعُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ ذَكَرَ ذَلِكَ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَفَوَاتِحَهُ كَمَا فِي سُورَتَيْ " أَبِي" فَإِنَّ الِاسْتِهْدَاءَ يَدْخُلُ فِي الِاسْتِعَانَةِ وَتَكْرِيرَ نَحْمَدُهُ قَدْ اسْتُغْنِيَ بِهِ بِقَوْلِهِ: "الْحَمْد لِلَّهِ"، فَإِذَا فَصَلْت جَازَ كَمَا فِي دُعَاءِ الْقُنُوتِ: "اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك وَنَسْتَهْدِيك وَنَسْتَغْفِرُك وَنُؤْمِنُ بِك وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْك وَنُثْنِي عَلَيْك الْخَيْرَ كُلَّهُ وَنَشْكُرُك وَلَا نُكَفِّرُك، وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يفجرك". فَهَذِهِ إحْدَى سُورَتَيْ أَبِي. وَهِيَ مُفْتَتَحَةٌ بِالِاسْتِعَانَةِ الَّتِي هِيَ نِصْفُ الْعَبْدِ مَعَ مَا بَعْدَهَا مَنْ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَفِي السُّورَةِ الثَّانِيَةِ: "اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ، وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ، وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ، نَرْجُو رَحْمَتَك، وَنَخْشَى عَذَابَك، إنَّ عَذَابَك الْجَدَّ بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ". فَهَذَا مُفْتَتَحٌ بِالْعِبَادَةِ الَّتِي هِيَ نِصْفُ الرَّبِّ مَعَ مَا قَبْلَهَا من الْفَاتِحَةِ فَفِي سُورَتَي الْقُنُوتِ مُنَاسَبَةٌ لِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَفِيهِمَا جَمِيعًا مُنَاسَبَةٌ لِخُطْبَةِ الْحَاجَةِ وَذَلِكَ جَمِيعُهُ مِنْ فَوَاتِحِ الْكَلِمِ وَجَوَامِعِهِ وَخَوَاتِمِهِ.


وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا" فَإِنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ نَوْعَانِ: فَنَوْعٌ مَوْجُودٌ يُسْتَعَاذُ مِنْ ضَرَرِهِ الَّذِي لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ، وَنَوْعٌ مَفْقُودٌ يُسْتَعَاذُ مِنْ وُجُودِهِ؛ فَإِنَّ نَفْسَ وُجُودِهِ ضَرَرٌ، مِثَالُ الْأَوَّلِ: "أَعُوذُ بِاللَّهِ مِن الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" وَمِثْلُ الثَّانِي: ﴿ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ﴾ [المؤمنون: 97، 98] و "اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أزل". وَأَمَّا قَوْلُهُ: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾ [الفلق: 1 - 5] فَيَشْتَرِكُ فِيهِ النَّوْعَانِ فَإِنَّهُ يُسْتَعَاذُ مِنْ الشَّرِّ الْمَوْجُودِ أَلَّا يُضَرَّ، وَيُسْتَعَاذُ مِنْ الشَّرِّ الضَّارِّ الْمَفْقُودِ أَلَّا يُوجَدَ، فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: "وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا" يَحْتَمِلُ الْقِسْمَيْنِ: يَحْتَمِلُ نَعُوذُ بِاَللَّهِ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا شَرٌّ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ يُصِيبَنَا شَرُّهَا، وَهَذَا أَشَبَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.


وَقَوْلُهُ: "وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا" السَّيِّئَاتُ هِيَ عُقُوبَاتُ الْأَعْمَالِ كَقَوْلِهِ: ﴿ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا ﴾ [غافر: 45]، فَإِنَّ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ يُرَادُ بِهَا النِّعَمُ وَالنِّقَمُ كَثِيرًا كَمَا يُرَادُ بِهَا الطَّاعَاتُ وَالْمَعَاصِي وَإِنْ حُمِلَتْ عَلَى السَّيِّئَاتِ الَّتِي هِيَ الْمَعَاصِي فَيَكُونُ قَدْ اسْتَعَاذَ أَنْ يَعْمَلَ السَّيِّئَاتِ أَوْ أَنْ تَضُرَّهُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ أَشْبَهُ فَقَد اسْتَعَاذَ مِنْ عُقُوبَةِ أَعْمَالِهِ أَنْ تُصِيبَهُ وَهَذَا أَشْبَهُ.


فَيَكُونُ الْحَدِيثُ قَدْ اشْتَمَلَ عَلَى الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ الضَّرَرِ الْفَاعِلِيِّ وَالضَّرَرِ الغائي، فَإِنَّ سَبَبَ الضَّرَرِ هُوَ شَرُّ النَّفْسِ، وَغَايَتُهُ عُقُوبَةُ الذَّنْبِ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَدْ اسْتَعَاذَ مِن الضَّرَرِ الْمَفْقُودِ الَّذِي انْعَقَدَ سَبَبُهُ أَلَّا يَكُونَ، فَإِنَّ النَّفْسَ مُقْتَضِيَةٌ لِلشَّرِّ، وَالْأَعْمَالَ مُقْتَضِيَةٌ لِلْعُقُوبَةِ، فَاسْتَعَاذَ أَنْ يَكُونَ شَرَّ نَفْسِهِ، أَوْ أَنْ تَكُونَ عُقُوبَةَ عَمَلِهِ، وَقَدْ يُقَالُ: بَلْ الشَّرُّ هُوَ الصِّفَةُ الْقَائِمَةُ بِالنَّفْسِ الْمُوجِبَةِ لِلذُّنُوبِ وَتِلْكَ مَوْجُودَةٌ كَوُجُودِ الشَّيْطَانِ، فَاسْتَعَاذَ مِنْهَا أَنْ تَضُرَّهُ أَوْ تُصِيبَهُ كَمَا يُقَالُ: "أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" وَإِنْ حَمَلَ عَلَى الشُّرُورِ الْوَاقِعَةِ وَهِيَ الذُّنُوبُ مِنْ النَّفْسِ فَهَذَا قِسْمٌ ثَالِثٌ"؛ [مجموع الفتاوى - (18 / 285- 290)].


وهذا من التحقيق النادر الذي قلَّ أن تجده إلا عند شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.


وبالله التوفيق، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

بلسم الروح
11-13-2023, 12:05 PM
بارك الله فيك
وجزاك الفردوس الاعلى ان شاء الله
دمت بحفظ الله ورعايته