حكاية ناي ♔
11-16-2023, 10:24 AM
تكلَّمْنا في حلقات ماضية عن ذِكْر اللَّه عزَّ وجلَّ كيف أمَرَنا اللَّه تعالى بالإكثار منه، وأثنى على أهلِه، وجعله أفضلَ العمل وأرضاه عند المليك المقتدر، وبيَّن أنَّ الملائكة تتبع مجالسَه، وأنَّه العاصم من الشيطان الرجيم، وأنَّ الغفلة عن ذِكْر اللَّه عزَّ وجلَّ مواتٌ للقلوب التي علاَها الران ُوالصدأ، وغَلَّفَتْها القسوة، فصار النِّفاق منهاجًا لها.
ثم تحدَّثْنا عن ارتباط العبادات بذكْر اللَّه عز وجل فالصلاة تُقام لذكْر اللَّه تعالى والحج يقوم على ذِكْره، وتعظيم شعائره.
وها نحن - بفضل اللَّه وعونه ومدده وتوفيقه - نتحدَّث عن أنواع الذكْر وأقسامه:
أولاً: ذكر اللَّه - تبارك وتعالى - بأسمائه الحُسنى وبصفاتِه العليا، والثناء عليه بهما، وتنزيهه وتقديسه عمَّا لا يليق به تبارك وتعالى وهذا إمَّا بإنشاء الثناء عليه سبحانه تسبيحًا وتحميدًا وتكبيرًا، وإمَّا بالإخبار عنه سبحانه بأحكام أسمائِه وصفاته.
مثال الأول: قولُ الذاكر: سبحان اللَّه، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّه، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله.
وأمثال هذه الكلمات التي هي مِن أحبِّ الكلام إلى اللَّه عز وجل بل هي أحبُّ إلى الذاكر ممَّا طلعتْ عليه الشمس؛ لأنَّها تمحو الذنوب وإن عَظُمت، وتُثقل الموازينَ يوم القيامة؛ ففي الصحيح عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أحبُّ الكلام إلى اللَّه عز وجل بعدَ القرآن: سبحان اللَّه، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّه، والله أكبر، لا يضرُّك بأيهنَّ بدأت))؛ رواه مسلم.
((لَأَنْ أقولَ: سبحان اللَّه، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّه، والله أكبر، أحبُّ إليَّ مما طلعتْ عليه الشمس))؛ رواه مسلم.
((مَن قال: سبحان اللَّه وبحمده، في اليوم مائةَ مرَّة - حُطَّت خطاياه، وإن كانت مثلَ زبد البحر))؛ متفق عليه.
((كلمتانِ خفيفتان على اللِّسان، ثقيلتانِ في الميزان، حبيبتانِ إلى الرحمن: سبحان اللَّه وبحمدِه، سبحان اللَّه العظيم))؛ متفق عليه.
ومثل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((والحمد لله تملأ الميزان))؛ مسلم.
وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم لأمِّ هانئ: ((سبِّحي اللَّه مائةَ تسبيحة؛ فإنَّها تعدل مائةَ رقبة تعتقينها، واحمدي اللَّه مائةَ تحميدة، تعدل مائةَ فرس مسرجة تحملين عليها في سبيل اللَّه، وكَبِّري اللَّه مائةَ تكبيرة، فإنها تعدل مائةَ بدنة مقلَّدة متقبَّلة، وهلِّلي اللَّه مائةَ تهليلة تملأ ما بين السماء والأرض، ولا يُرفع لأحدٍ عملٌ إلاَّ أن يأتيَ بمثل ما أتيتِ به))؛ رواه أحمد، وحسنه المنذري، وحسَّنه الألباني في "الصحيحة" (3/303).
ومثل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي موسى الأشعري: ((لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله كنزٌ من كنوز الجنة))؛ متفق عليه.
ويلحقُ بهذه الكلمات قولُ الذاكر: أستغفر اللَّه، وإنَّا لله وإنا إليه راجعون، عند المصيبة، وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل، وغيرها كثيرٌ يُردِّدها الذاكر لله كثيرًا، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
وأفضل هذا النوع من الذِّكْر ما كان جامعًا للثناء والمدح، مثل قول الذاكر: ((سبحان اللَّه وبحمده، عددَ خَلقِه، وزِنةَ عرشه، ورِضا نفسه، ومدادَ كلماته))، فهذا أفضلُ من مجرَّد قولك: سبحان اللَّه وبحمده، فقط، وهذا هو الذِّكْر المضاعف الثواب.
وقد روى مسلم في صحيحه عن جويرية رضي الله عنها: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم خرج من عندها بُكرةً حين صلَّى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضْحى وهي جالسة، فقال: ((ما زِلْتِ على الحال التي فارقتُكِ عليها؟)) قالت: نعم، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لقد قلتُ بعدَك أربعَ كلمات، ثلاثَ مرَّات، لو وُزِنتْ بما قلتِ منذُ اليوم لوزنتهن: سبحان اللَّه وبحمده، عددَ خَلقِه، ورِضا نفسه، وزِنةَ عرشه، ومدادَ كلماته)).
وفي المسند عن أبي أمامة: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مَرَّ به، وهو يحرِّك شفتيه، فقال: ماذا تقول يا أبا أمامة؟ قال: أذْكُر ربي، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ألاَ أُخبرك بأفضلَ مِن ذكْر اللَّيْل مع النهار، والنَّهار مع اللَّيل، أن تقول: سبحان اللَّه عددَ ما خلق، وسبحان اللَّه مِلءَ ما خَلَق، وسبحان اللَّه عددَ ما في الأرض والسَّماء، وسبحان اللَّه مِلءَ ما في الأرض والسماء، وسبحان اللَّه عددَ ما أحصى كتابَه، وسبحان اللَّه عددَ كل شيء، وسبحان اللَّه مِلءَ كل شيء، والحمدُ لله مثل ذلك))؛ صحيح الجامع (2615).
قال الشوكانيُّ رحمه اللَّه: "صحَّح حديثَ أبي أمامة هذا باعتبار البعض من طرقه ثلاثةُ أئمَّة: ابن حبان والحاكم وابن خزيمة، وحسَّنه المنذري والهيثمي".
ومثال الثاني: الإخبارُ عن الربِّ - سبحانه وتعالى - بأحكام أسمائه وصفاته، مثل قولك: اللَّه يسمع أصواتَ عباده، ويرى أعمالهم، ولا يخفَى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأنه - سبحانه - يفرح بتوبةِ عبده، وأنَّه يرضى لعباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، وأن يعتصموا بحبل اللَّه جميعًا ولا يتفرَّقوا، وأن يُناصِحوا مَن ولَّى اللَّه أمرهم، وأنه يكره لهم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال، وأنَّه يحب أولياءه، ويُبغض أعداءه، وأحبُّ الناس إليه - سبحانه - أنفعُهم للناس، وأحبُّ العمل إليه إدخالُ السرور على المسلمين، وقضاء حوائجهم، وأنَّه - سبحانه - استوى على عرْشه، وأنَّه ينزل إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة فينادي: هل مِن تائب فأتوبَ عليه، هل مِن سائل فأعطيَه.... إلخ.
والقرآن الكريم، والحديث الشريف مملوءانِ بنماذجَ لا تُحصَى من هذا النوع المتضمن للثناءِ على اللَّه - سبحانه - بما أثنى به على نفسِه، وبما أثنى به عليه أعلمُ الخلق به محمَّد - صلوات ربي وسلامه عليه - وأهل الحقِّ يُثبتون لله تعالى هذا من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ويَتعبَّدون لله تعالى بذِكْر هذه العبارات والكلمات، والوقوف على ما تتضمَّنه من معاني الكلمات لذي الجلال والإكرام، ويرون هذا كلَّه من ذِكْر اللَّه تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا إنشاءً وإخبارًا عن اللَّه، ثناءً ومدحًا، وتسبيحًا وتحميدًا وتمجيدًا، والله - سبحانه وتعالى - يحبُّ هذا من عبده، ويُثني به عليه بين ملائكتِه؛ كما وردَ في الحديث الصحيح في فضل فاتحة الكتاب، فإذا قال العبد: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، قال اللَّه تعالى: ((أثنى عليَّ عبدي))، فإذا قال العبد: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾، قال اللَّه تعالى: ((مَجَّدني عبدي))، فإذا قال العبد: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، قال اللَّه - تعالى -: ((هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل))، فإذا قال العبد: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ﴾، قال اللَّه تعالى: ((هذا لعبدي))؛ الحديث رواه مسلم.
ثانيًا: ذِكْرُ اللَّه - تعالى - بذكْر أمرِه ونهيه وأحكامِ شَرْعه علمًا وعملاً، ودعوة وتعليمًا:
وهذا على أقسام: منها:
ذِكر أوامره ونواهيه، وأحكام شرعه علمًا وتعليمًا، بالإخبار عنه - سبحانه - أنه أَمَر بكذا، ونهى عن كذا، وأحبَّ كذا، وكره كذا، وأباح كذا، وتدارُسُ ذلك في دروس العلم بالحلال والحرام، وهي بهذه المثابة من مجالس الذِّكْر كما قال عطاء بن أبي رباح وغيره من السلف: "مجالس الذِّكْر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تُصلِّي وتصوم، وتنكح وتطلق، وتحج وتعتمر، وتبيع وتشتري".
وكان أحد أئمَّة السلف في حلقة مع الناس يتذاكرون العلم، فقال لهم شاب: قولوا: سبحان اللَّه والحمد لله، فقال الرجل: وَيْحكَ، في أيِّ شيء كنَّا إذًا؟!
ومنها: ذِكْر أوامر الربِّ ونواهيه عملاً، عند تنفيذها وتطبيقها بالمبادرة إلى الصلاة في أوقاتها، وتحقيق أركانها وشروطها، والحِرْص على الطُّمأنينة والخشوع فيها، وكذا في الصوم والحج، والبيع والشراء، وسائر العبادات والمعاملات، فذكْر أمر اللَّه ونهيه شيء، وذكْره عند أمرِه ونهيه بالانقياد والامتثال شيءٌ آخر، وبهما يُحقِّق العبدُ حقيقةَ التقوى بأن يعبدَ اللَّه على نور من اللَّه، يرجو ثوابه ويخشى عقابه، ويسارع في مرضاته - سبحانه.
ويدخل في هذا النَّوْع ذكْرُ الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، علمًا وعملاً، وذكْر الموت، وذكْر الجنة والنار.
فإنَّ العبد إذا أكثر من ذكْر الموت والاستعداد له، وذكْر الجنة والنار والثواب والعقاب كان ذلك أدْعَى إلى إحسانِ العمل وإتقانه، وكَفِّ النفس عن شهواتها، وقد صحَّ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((اذكر الموت في صلاتِك، فإنَّ العبد إذا ذَكَر الموت في صلاتِه، فإنَّه حريٌ أن يحسن صلاتَه، وصلِّ صلاةَ رجل لا يظنُّ أنَّه يصلِّي صلاةً غيرها))؛ صحيح الجامع.
ثالثًا: ذِكر اللَّه - تعالى - بذكْر آلائه وإنعامه، ومواقع فضله:
وهذا يكون أولاً بمعرفة النِّعم، ومعرفة صاحِب النِّعم، ثم بشُكر المنعم على سابغ نِعمِه علمًا وعملاً.
قال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53].
وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 24].
وقد جعل المولى - تبارك وتعالى - لذلك عبودية خاصَّة هي الشُّكر؛ قال تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾، وقال - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78].
وقال تعالى: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
وأركان الشكر: الاعتراف بالنِّعْمة باطنًا، والتحدُّث بها ظاهرًا، وتصريفها فيما يُرضي مُسْدِيها وواهبها.
وقد كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقوم من اللَّيْل حتى تتفطر قدماه، فقيل له: هوِّن على نفسك، تفعل هذا وقد غفر اللَّه لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفَلاَ أكون عبدًا شكورًا)).
وقد أوصى حبيبَه معاذَ بن جبل، وأوصانا أن نقول دُبرَ كلِّ صلاة: ((اللهمَّ أعنَّا على ذِكْرك وشُكرك وحُسْن عبادتك)).
رابعًا: ذكر اللَّه عزَّ وجلَّ عند الابتلاء بالمصائب:
ويكون ذلك بالاسترجاعِ والصبر والرِّضا بالقضاء؛ قال تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 45 - 46].
وقال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 152 - 157].
فالمؤمنُ يجمع بين دوام الذِّكْر لله عز وجل وشكره على سابِغِ نِعمه، والصبر على قضائه وبلائه، فيقودُه ذلك إلى مقام الرِّضا بالله، والرضا عن اللَّه، وفي الحديث الصحيح يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمرَه كلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلاَّ للمؤمن، إنْ أصابه سَرَّاءُ شَكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَه ضرَّاءُ صَبَر فكان خيرًا له))؛ رواه مسلم.
وفي الصحيح أيضًا يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ذاقَ طَعْمَ الإيمان مَن رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - نبيًّا))؛ رواه مسلم.
خامسًا: ذِكْر اللَّه عز وجل عندَ المعصية:
والمعاصي لا تقع من العبدِ المؤمن إلاَّ حال الغَفلة؛ قال – تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 15]، ثم ساق قصَّة إغواء الشيطان لأبناء آدم وزوجِه، وكيف أنَّه وسوس لهما، وكَذَب عليهما، وغرَّهما؛ ﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه: 120 - 122].
والشاهدُ من الآيات أنَّ الشيطان يسلك مع بني آدم نفسَ السبيل الذي سَلَكه مع آدم، وأنَّ الإنسان الذي عَرَف ربَّه وآمن به لا يقع في الذنوب، إلاَّ في حال الغَفْلة عن اللَّه، وعن ذِكر اللَّه عز وجل وفي حالة من الاغترار، وغلبة الشَّهْوة وتمكُّنها منه، فلو ذَكَر اللَّه عز وجل قبلَ المعصية لخاف، ولو ذَكَر أمرَه ونهيه، ووعْدَه ووعيده لانزجر، ولكنَّه نسي وغفل عن ذكْر ربه تحت وطأة ووسوسة الشيطان وغوايته، وشهوات النفس الأمَّارة بالسوء، والاغترار باللَّذة العاجلة، والشهوة المسيطرة، فوَقَع في الذنب، وسقط في شَرَك الشيطان ومصايده، ولكنَّه مع ذلك إذا ذَكَر ربَّه، فأسرع إليه لاجئًا إليه تائبًا، فإن اللَّه عزَّ وجلَّ يتوب عليه، كما تاب مِن قبل على أبيه آدم، ويبدل اللَّه بعدَ التوبة سيئاتِه حسناتٍ فضلاً منه ورحمة؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 68 - 71].
واللهُ سبحانه هو الذي ألهمَهم ذِكْرَه، وتاب عليهم؛ ليتوبوا، ثم قَبِل منهم تَوباتِهم، وغَسَل ذنوبَهم، وبدَّلهم حسناتٍ فضلاً منه؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 117- 118].
وقد رَبَط اللَّه سبحانه بين الذِّكْر والاستغفار في سلوك عباد اللَّه المؤمنين المسارعين إلى مرضاته؛ فقال: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِين ﴾ [آل عمران: 133 - 136
ثم تحدَّثْنا عن ارتباط العبادات بذكْر اللَّه عز وجل فالصلاة تُقام لذكْر اللَّه تعالى والحج يقوم على ذِكْره، وتعظيم شعائره.
وها نحن - بفضل اللَّه وعونه ومدده وتوفيقه - نتحدَّث عن أنواع الذكْر وأقسامه:
أولاً: ذكر اللَّه - تبارك وتعالى - بأسمائه الحُسنى وبصفاتِه العليا، والثناء عليه بهما، وتنزيهه وتقديسه عمَّا لا يليق به تبارك وتعالى وهذا إمَّا بإنشاء الثناء عليه سبحانه تسبيحًا وتحميدًا وتكبيرًا، وإمَّا بالإخبار عنه سبحانه بأحكام أسمائِه وصفاته.
مثال الأول: قولُ الذاكر: سبحان اللَّه، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّه، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله.
وأمثال هذه الكلمات التي هي مِن أحبِّ الكلام إلى اللَّه عز وجل بل هي أحبُّ إلى الذاكر ممَّا طلعتْ عليه الشمس؛ لأنَّها تمحو الذنوب وإن عَظُمت، وتُثقل الموازينَ يوم القيامة؛ ففي الصحيح عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أحبُّ الكلام إلى اللَّه عز وجل بعدَ القرآن: سبحان اللَّه، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّه، والله أكبر، لا يضرُّك بأيهنَّ بدأت))؛ رواه مسلم.
((لَأَنْ أقولَ: سبحان اللَّه، والحمد لله، ولا إله إلا اللَّه، والله أكبر، أحبُّ إليَّ مما طلعتْ عليه الشمس))؛ رواه مسلم.
((مَن قال: سبحان اللَّه وبحمده، في اليوم مائةَ مرَّة - حُطَّت خطاياه، وإن كانت مثلَ زبد البحر))؛ متفق عليه.
((كلمتانِ خفيفتان على اللِّسان، ثقيلتانِ في الميزان، حبيبتانِ إلى الرحمن: سبحان اللَّه وبحمدِه، سبحان اللَّه العظيم))؛ متفق عليه.
ومثل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((والحمد لله تملأ الميزان))؛ مسلم.
وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم لأمِّ هانئ: ((سبِّحي اللَّه مائةَ تسبيحة؛ فإنَّها تعدل مائةَ رقبة تعتقينها، واحمدي اللَّه مائةَ تحميدة، تعدل مائةَ فرس مسرجة تحملين عليها في سبيل اللَّه، وكَبِّري اللَّه مائةَ تكبيرة، فإنها تعدل مائةَ بدنة مقلَّدة متقبَّلة، وهلِّلي اللَّه مائةَ تهليلة تملأ ما بين السماء والأرض، ولا يُرفع لأحدٍ عملٌ إلاَّ أن يأتيَ بمثل ما أتيتِ به))؛ رواه أحمد، وحسنه المنذري، وحسَّنه الألباني في "الصحيحة" (3/303).
ومثل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي موسى الأشعري: ((لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله كنزٌ من كنوز الجنة))؛ متفق عليه.
ويلحقُ بهذه الكلمات قولُ الذاكر: أستغفر اللَّه، وإنَّا لله وإنا إليه راجعون، عند المصيبة، وحسبنا اللَّه ونعم الوكيل، وغيرها كثيرٌ يُردِّدها الذاكر لله كثيرًا، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
وأفضل هذا النوع من الذِّكْر ما كان جامعًا للثناء والمدح، مثل قول الذاكر: ((سبحان اللَّه وبحمده، عددَ خَلقِه، وزِنةَ عرشه، ورِضا نفسه، ومدادَ كلماته))، فهذا أفضلُ من مجرَّد قولك: سبحان اللَّه وبحمده، فقط، وهذا هو الذِّكْر المضاعف الثواب.
وقد روى مسلم في صحيحه عن جويرية رضي الله عنها: أنَّ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم خرج من عندها بُكرةً حين صلَّى الصبح، وهي في مسجدها، ثم رجع بعد أن أضْحى وهي جالسة، فقال: ((ما زِلْتِ على الحال التي فارقتُكِ عليها؟)) قالت: نعم، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لقد قلتُ بعدَك أربعَ كلمات، ثلاثَ مرَّات، لو وُزِنتْ بما قلتِ منذُ اليوم لوزنتهن: سبحان اللَّه وبحمده، عددَ خَلقِه، ورِضا نفسه، وزِنةَ عرشه، ومدادَ كلماته)).
وفي المسند عن أبي أمامة: أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم مَرَّ به، وهو يحرِّك شفتيه، فقال: ماذا تقول يا أبا أمامة؟ قال: أذْكُر ربي، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ألاَ أُخبرك بأفضلَ مِن ذكْر اللَّيْل مع النهار، والنَّهار مع اللَّيل، أن تقول: سبحان اللَّه عددَ ما خلق، وسبحان اللَّه مِلءَ ما خَلَق، وسبحان اللَّه عددَ ما في الأرض والسَّماء، وسبحان اللَّه مِلءَ ما في الأرض والسماء، وسبحان اللَّه عددَ ما أحصى كتابَه، وسبحان اللَّه عددَ كل شيء، وسبحان اللَّه مِلءَ كل شيء، والحمدُ لله مثل ذلك))؛ صحيح الجامع (2615).
قال الشوكانيُّ رحمه اللَّه: "صحَّح حديثَ أبي أمامة هذا باعتبار البعض من طرقه ثلاثةُ أئمَّة: ابن حبان والحاكم وابن خزيمة، وحسَّنه المنذري والهيثمي".
ومثال الثاني: الإخبارُ عن الربِّ - سبحانه وتعالى - بأحكام أسمائه وصفاته، مثل قولك: اللَّه يسمع أصواتَ عباده، ويرى أعمالهم، ولا يخفَى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأنه - سبحانه - يفرح بتوبةِ عبده، وأنَّه يرضى لعباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا، وأن يعتصموا بحبل اللَّه جميعًا ولا يتفرَّقوا، وأن يُناصِحوا مَن ولَّى اللَّه أمرهم، وأنه يكره لهم قيل وقال، وكثرة السؤال وإضاعة المال، وأنَّه يحب أولياءه، ويُبغض أعداءه، وأحبُّ الناس إليه - سبحانه - أنفعُهم للناس، وأحبُّ العمل إليه إدخالُ السرور على المسلمين، وقضاء حوائجهم، وأنَّه - سبحانه - استوى على عرْشه، وأنَّه ينزل إلى السماء الدنيا كلَّ ليلة فينادي: هل مِن تائب فأتوبَ عليه، هل مِن سائل فأعطيَه.... إلخ.
والقرآن الكريم، والحديث الشريف مملوءانِ بنماذجَ لا تُحصَى من هذا النوع المتضمن للثناءِ على اللَّه - سبحانه - بما أثنى به على نفسِه، وبما أثنى به عليه أعلمُ الخلق به محمَّد - صلوات ربي وسلامه عليه - وأهل الحقِّ يُثبتون لله تعالى هذا من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، ويَتعبَّدون لله تعالى بذِكْر هذه العبارات والكلمات، والوقوف على ما تتضمَّنه من معاني الكلمات لذي الجلال والإكرام، ويرون هذا كلَّه من ذِكْر اللَّه تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا إنشاءً وإخبارًا عن اللَّه، ثناءً ومدحًا، وتسبيحًا وتحميدًا وتمجيدًا، والله - سبحانه وتعالى - يحبُّ هذا من عبده، ويُثني به عليه بين ملائكتِه؛ كما وردَ في الحديث الصحيح في فضل فاتحة الكتاب، فإذا قال العبد: ﴿ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴾، قال اللَّه تعالى: ((أثنى عليَّ عبدي))، فإذا قال العبد: ﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾، قال اللَّه تعالى: ((مَجَّدني عبدي))، فإذا قال العبد: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾، قال اللَّه - تعالى -: ((هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل))، فإذا قال العبد: ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ ﴾، قال اللَّه تعالى: ((هذا لعبدي))؛ الحديث رواه مسلم.
ثانيًا: ذِكْرُ اللَّه - تعالى - بذكْر أمرِه ونهيه وأحكامِ شَرْعه علمًا وعملاً، ودعوة وتعليمًا:
وهذا على أقسام: منها:
ذِكر أوامره ونواهيه، وأحكام شرعه علمًا وتعليمًا، بالإخبار عنه - سبحانه - أنه أَمَر بكذا، ونهى عن كذا، وأحبَّ كذا، وكره كذا، وأباح كذا، وتدارُسُ ذلك في دروس العلم بالحلال والحرام، وهي بهذه المثابة من مجالس الذِّكْر كما قال عطاء بن أبي رباح وغيره من السلف: "مجالس الذِّكْر هي مجالس الحلال والحرام، كيف تُصلِّي وتصوم، وتنكح وتطلق، وتحج وتعتمر، وتبيع وتشتري".
وكان أحد أئمَّة السلف في حلقة مع الناس يتذاكرون العلم، فقال لهم شاب: قولوا: سبحان اللَّه والحمد لله، فقال الرجل: وَيْحكَ، في أيِّ شيء كنَّا إذًا؟!
ومنها: ذِكْر أوامر الربِّ ونواهيه عملاً، عند تنفيذها وتطبيقها بالمبادرة إلى الصلاة في أوقاتها، وتحقيق أركانها وشروطها، والحِرْص على الطُّمأنينة والخشوع فيها، وكذا في الصوم والحج، والبيع والشراء، وسائر العبادات والمعاملات، فذكْر أمر اللَّه ونهيه شيء، وذكْره عند أمرِه ونهيه بالانقياد والامتثال شيءٌ آخر، وبهما يُحقِّق العبدُ حقيقةَ التقوى بأن يعبدَ اللَّه على نور من اللَّه، يرجو ثوابه ويخشى عقابه، ويسارع في مرضاته - سبحانه.
ويدخل في هذا النَّوْع ذكْرُ الوعد والوعيد، والثواب والعقاب، علمًا وعملاً، وذكْر الموت، وذكْر الجنة والنار.
فإنَّ العبد إذا أكثر من ذكْر الموت والاستعداد له، وذكْر الجنة والنار والثواب والعقاب كان ذلك أدْعَى إلى إحسانِ العمل وإتقانه، وكَفِّ النفس عن شهواتها، وقد صحَّ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((اذكر الموت في صلاتِك، فإنَّ العبد إذا ذَكَر الموت في صلاتِه، فإنَّه حريٌ أن يحسن صلاتَه، وصلِّ صلاةَ رجل لا يظنُّ أنَّه يصلِّي صلاةً غيرها))؛ صحيح الجامع.
ثالثًا: ذِكر اللَّه - تعالى - بذكْر آلائه وإنعامه، ومواقع فضله:
وهذا يكون أولاً بمعرفة النِّعم، ومعرفة صاحِب النِّعم، ثم بشُكر المنعم على سابغ نِعمِه علمًا وعملاً.
قال تعالى: ﴿ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ﴾ [النحل: 53].
وقال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴾ [إبراهيم: 24].
وقد جعل المولى - تبارك وتعالى - لذلك عبودية خاصَّة هي الشُّكر؛ قال تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾، وقال - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78].
وقال تعالى: ﴿ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ [إبراهيم: 7].
وأركان الشكر: الاعتراف بالنِّعْمة باطنًا، والتحدُّث بها ظاهرًا، وتصريفها فيما يُرضي مُسْدِيها وواهبها.
وقد كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقوم من اللَّيْل حتى تتفطر قدماه، فقيل له: هوِّن على نفسك، تفعل هذا وقد غفر اللَّه لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر؟! فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفَلاَ أكون عبدًا شكورًا)).
وقد أوصى حبيبَه معاذَ بن جبل، وأوصانا أن نقول دُبرَ كلِّ صلاة: ((اللهمَّ أعنَّا على ذِكْرك وشُكرك وحُسْن عبادتك)).
رابعًا: ذكر اللَّه عزَّ وجلَّ عند الابتلاء بالمصائب:
ويكون ذلك بالاسترجاعِ والصبر والرِّضا بالقضاء؛ قال تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [البقرة: 45 - 46].
وقال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ * وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 152 - 157].
فالمؤمنُ يجمع بين دوام الذِّكْر لله عز وجل وشكره على سابِغِ نِعمه، والصبر على قضائه وبلائه، فيقودُه ذلك إلى مقام الرِّضا بالله، والرضا عن اللَّه، وفي الحديث الصحيح يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((عجبًا لأمر المؤمن إنَّ أمرَه كلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلاَّ للمؤمن، إنْ أصابه سَرَّاءُ شَكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَه ضرَّاءُ صَبَر فكان خيرًا له))؛ رواه مسلم.
وفي الصحيح أيضًا يقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ذاقَ طَعْمَ الإيمان مَن رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - نبيًّا))؛ رواه مسلم.
خامسًا: ذِكْر اللَّه عز وجل عندَ المعصية:
والمعاصي لا تقع من العبدِ المؤمن إلاَّ حال الغَفلة؛ قال – تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ﴾ [طه: 15]، ثم ساق قصَّة إغواء الشيطان لأبناء آدم وزوجِه، وكيف أنَّه وسوس لهما، وكَذَب عليهما، وغرَّهما؛ ﴿ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ﴾ [طه: 120 - 122].
والشاهدُ من الآيات أنَّ الشيطان يسلك مع بني آدم نفسَ السبيل الذي سَلَكه مع آدم، وأنَّ الإنسان الذي عَرَف ربَّه وآمن به لا يقع في الذنوب، إلاَّ في حال الغَفْلة عن اللَّه، وعن ذِكر اللَّه عز وجل وفي حالة من الاغترار، وغلبة الشَّهْوة وتمكُّنها منه، فلو ذَكَر اللَّه عز وجل قبلَ المعصية لخاف، ولو ذَكَر أمرَه ونهيه، ووعْدَه ووعيده لانزجر، ولكنَّه نسي وغفل عن ذكْر ربه تحت وطأة ووسوسة الشيطان وغوايته، وشهوات النفس الأمَّارة بالسوء، والاغترار باللَّذة العاجلة، والشهوة المسيطرة، فوَقَع في الذنب، وسقط في شَرَك الشيطان ومصايده، ولكنَّه مع ذلك إذا ذَكَر ربَّه، فأسرع إليه لاجئًا إليه تائبًا، فإن اللَّه عزَّ وجلَّ يتوب عليه، كما تاب مِن قبل على أبيه آدم، ويبدل اللَّه بعدَ التوبة سيئاتِه حسناتٍ فضلاً منه ورحمة؛ كما قال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 68 - 71].
واللهُ سبحانه هو الذي ألهمَهم ذِكْرَه، وتاب عليهم؛ ليتوبوا، ثم قَبِل منهم تَوباتِهم، وغَسَل ذنوبَهم، وبدَّلهم حسناتٍ فضلاً منه؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 117- 118].
وقد رَبَط اللَّه سبحانه بين الذِّكْر والاستغفار في سلوك عباد اللَّه المؤمنين المسارعين إلى مرضاته؛ فقال: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِين ﴾ [آل عمران: 133 - 136