حكاية ناي ♔
11-23-2023, 11:03 AM
من قوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾[البقرة: 284 - 286].
1- إثبات أن لله - عز وجل - وحده بلا شريك جميع ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وتفرده بالربوبية خلقًا وملكًا وتدبيرًا؛ لقوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾.
2- وجوب إخلاص العبادة لله وحده؛ لأنه الإله المعبود وحده بحق، ولتفرده- عز وجل- بكمال الربوبية؛ الخلق والملك والتدبير، وهذا يستلزم إفراده بالألوهية؛ لقوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾.
3- عموم ملك الله- عز وجل- وسعته وعظمته، مما يدل على عظمة ربوبية الله- عز وجل- وألوهيته، وكمال صفاته.
4- اختيار القرآن الكريم لأحسن التعابير، وأعلاها؛ لقوله تعالى ﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ بذكر السماوات بالجمع والأرض بالإفراد.
وهكذا جاء في القرآن كله- والحكمة - وﷲ أعلم - للثقل في جمع أرض وهو «أرضين» وإلا فهي سبع أرضين، كما دلت عليه الأدلة الأخرى من الكتاب والسنة.
5- إحاطة علم الله- عز وجل- بجميع أعمال العباد، ما أظهروه منها، وما أضمروه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾؛ أي: يعلمه ويحاسبكم عليه فمن لازم محاسبته لهم أن يكون عالمًا بأعمالهم.
6- وجوب مراقبة الله- عز وجل- والحذر من مخالفته في السر والعلن؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ الآية، وهذه الآية محكمة غير منسوخة؛ لأنها خبر من الله، والأخبار لا تنسخ.
7- محاسبة العباد على ما يبدون مما في أنفسهم أو يخفونه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾.
ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»[1].
أما ما أبدوه وأظهروه مما في أنفسهم بقول أو بفعل، فلا إشكال في محاسبتهم عليه.
وأما ما أخفوه فله حالان:
الحالة الأولى: أن يكون من حديث النفس ووساوسها التي لا يستطيع الإنسان لها دفعًا، بل هي خارجة عن الاستطاعة والوسع، فهذا لا يحاسب عليه، وإن حوسب عليه فلا يؤاخذ به، وليس داخلًا تحت قوله: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾؛ لأن الله لا يكلف الإنسان ما لا يستطيع، كما قال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾، وقال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾ [الطلاق: 7]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: «وجدتموه»؟ قال: «ذاك صريح الإيمان»[2].
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، قال: «تلك محض الإيمان»[3].
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة»[4].
والحالة الثانية: أن يهم الإنسان بالمعصية، ويعزم عليها، ثم يتركها، وهذا هو المحاسب، والمثاب أو المعاقب.
فإن تركها لله - عز وجل - فهو مثاب مغفور له، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة، فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة»[5].
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرائي»[6].
وإن تركها لعجزه عنها، وعدم وصوله إليها، مع الحرص عليها، والعزم على فعلها وتمنيها، فهو معاقب بقدر ما وقع في نفسه، ما لم يعف الله عنه.
كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»[7].
وكما في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه في حديثه الطويل الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «وعبد رزقه الله مالًا، ولم يرزقه علمًا فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًا فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالًا، ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء»[8].
وإن تركها لا لله، ولا لعجزه عنها، وإنما لعزوف نفسه عنها، فهذا لا يثاب ولا يعاقب؛ لأن الأعمال بالنيات كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى»[9].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال الله: إذاهمَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرًا»[10].
وفي رواية: «قال الله: إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة»[11].
وعلى هذا أيضًا يحمل ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها، ما لم تكلم، أو تعمل»[12].
فهذا محمول على ما حدثت به الأنفس مما لم يحصل العزم عليه، فهذا لا مؤاخذة عليه، ما لم يتكلم به أو يعمل.
وبهذا يتضح أن الآية: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ محكمة غير منسوخة، وأنها فيما هم به الإنسان وعزم عليه- كما سبق.
وليست في حديث النفس، فتكون منسوخة - كما قيل - بقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾؛ لأن حديث النفس لا يدخل تحت وسع الإنسان وطاقته فلا يرد التكليف به.
وما جاء من الأحاديث والآثار في نسخها[13] فهو محمول على إزالة ما وقع في فهم بعض الصحابة رضي الله عنهم أن في الآية: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ تكليف ما لا يطاق، وهو المؤاخذة بحديث النفس، فأنزل الله الآية: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ لإزالة هذا المفهوم، وليس ذلك بنسخ للآية.
وأيضًا لبيان أن المحاسبة لا تستلزم المعاقبة، عن علي بن أبي طلحة- عن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾، فإنها لم تنسخ، لكن إذا اجتمع الخلائق يوم القيامة يقول: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله: ﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ يقول: يخبركم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، وهو قوله: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾، وهو قوله: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 225]؛ أي: من الشك والنفاق»[14].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية[15]: «فإن قوله: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ﴾ الآية، إنما تدل على أن الله يحاسب بما في النفوس، لا على أنه يعاقب على كل ما في النفوس».
وقال ابن القيم: «وللنسخ معنى آخر وهو النسخ من أفهام المخاطبين ما فهموه مما لم يرده، ولا دل اللفظ عليه، وإن أوهمه، كما أطلق الصحابة النسخ على قوله: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، قالوا: نسخها قوله: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، فهذا نسخ من الفهم، لا نسخ للحكم الثابت، فإن المحاسبة لا تستلزم العقاب في الآخرة، ولا في الدنيا أيضًا، ولهذا عمهم بالمحاسبة، ثم أخبر بعدها أنه يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، ففهم المؤاخذة التي هي المعاقبة من الآية تحميل لها فوق وسعها، فرفع هذا المعنى من فهمه بقوله: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286] »[16].
قال ابن كثير[17]: «أي: هو وإن حاسب وسأل، لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما ما لا يمكن دفعه من وسوسة النفس وحديثها، فهذا لا يكلف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان».
8- أن المحاسبة لا تستلزم المعاقبة؛ لقوله تعالى: ﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾.
9- مغفرة الله - عز وجل - لمن يشاء بفضله، ما دون الشرك، وتعذيبه من يشاء بعدله؛ لقوله تعالى: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾.
10- إثبات المشيئة التامة لله- عز وجل- المقرونة بالحكمة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾.
11- إثبات قدرة الله- عز وجل- التامة على كل شيء، وتأكيد ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
وفي هذا رد على من أخرج شيئًا من المقدورات عن خلقه وقدرته كالفلاسفة والقدرية المجوسية وغيرهم.
12- ثناء الله- عز وجل- على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وشهادته- عز وجل- له ولهم بإيمانهم بما أنزل الله إليه، وبه وبملائكته وكتبه ورسله، وعدم تفريقهم بين أحد من رسله، وسمعهم وطاعتهم، وسؤالهم مغفرته وإقرارهم بأن إليه- عز وجل- وحده المصير؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ الآية.
13- إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم، وأنه مكلف كغيره من أفراد الأمة، بالإيمان بما أنزل إليه من ربه، والعمل به، مع تبليغه؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ﴾، وهذا يتضمن الشهادة له صلى الله عليه وسلم بالإيمان وصدق الرسالة.
14- أن القرآن كلام الله - عز وجل - أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 102]، وقال تعالى: ﴿ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الواقعة: 80].
وفي هذا كله رد على المعتزلة القائلين بخلق القرآن.
15- أن السنة منزلة من عند الله؛ لأن قوله: ﴿ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ﴾ يشمل القرآن والسنة، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [النساء: 113].
16- إثبات علو الله عز وجل؛ لأن الإنزال يكون من أعلى؛ لقوله تعالى: ﴿ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ﴾، فله - عز وجل - علو الذات، وعلو الصفات.
17- تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم- وتكريمه بإضافة اسم الرب إلى ضميره، وربوبيته - عز وجل - له الربوبية الخاصة، بل خاصة الخاصة؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ رَبِّهِ ﴾.
18- أن من شرط صحة الإيمان متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: والمؤمنون آمنوا اتباعًا له صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به»[18].
19- وجوب الإيمان بالله، وبما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وبملائكته، وكتبه، ورسله، وبكل ما أخبر الله - عز وجل - به في كتبه، وعلى ألسنة رسله، ومن ذلك الإيمان باليوم الآخر، والقدر وغير ذلك من الغيبيات؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾.
20- تشريف الله - عز وجل - لملائكته وكتبه ورسله بإضافتهم إليه- عز وجل- بقوله ﴿ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾.
21- لا يجوز التفريق في الإيمان بين أحد من رسل الله- عز وجل- بل يجب الإيمان بهم جميعًا؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ ومن فرق بينهم فليس بمؤمن، بل هو كافر.
كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [النساء: 150، 151].
22- أن من صفات المؤمنين حقًا السمع والطاعة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾، فجمعوا بين التصديق بالقلب واللسان، والانقياد بالجوارح، بين الإيمان الظاهر والباطن.
23- جمع المؤمنين حقًّا بين الإحسان بالإيمان والعمل الصالح، وبين الخوف من الله- عز وجل- وطلب مغفرته والافتقار إليه؛ لقولهم: ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾.
24- إثبات ربوبية الله- عز وجل- الخاصة للمؤمنين، وتوسلهم بها بقولهم: ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾، وقولهم: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾.
25- إثبات أن إلى الله - عز وجل - وحده المصير والمرجع يوم القيامة، كما أن إليه- عز وجل- مرجع الأمور والأحكام كلها في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾.
26- رحمة الله- عز وجل- بعباده، حيث لا يكلف نفسًا فوق وسعها وطاقتها؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وقد قيل: إن هذه الآية ناسخة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ﴾ الآية (284) من هذه السورة، وتقدم بيان أن هذه الآية محكمة؛ لأنها خبر، والأخبار لا تنسخ، وإنما غاية ما في ذلك أن بعض الصحابة فهموا من الآية ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ الآية محاسبتهم على حديث النفس، مما لا يستطيع الإنسان له دفعًا. فنسخ الله- عز وجل- وأزال هذا المفهوم بقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾[19].
27- سماحة الدين الإسلامي، ويسر أحكامه ومراعاته أحوال المكلفين، فلا يوجب على المريض ما يوجبه على الصحيح، ولا يوجب على المسافر ما يوجبه على المقيم، ولا يوجب على العاجز ما يوجبه على القادر، وهكذا.
28- إثبات وتقرير القاعدة الشرعية: أنه لا واجب مع العجز؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾.
فإذا عجز الإنسان عن الواجب وليس له بدل سقط عنه، فمثلًا الحج واجب، بل ركن من أركان الإسلام على المستطيع، فإذا عجز الإنسان عن الحج ببدنه وماله سقط عنه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97].
وإن كان الواجب له بدل وجب الانتقال إلى بدله، فإن عجز عن بدله سقط، فمثلًا كفارة الجماع في نهار رمضان عتق رقبة، فإذا لم يجد، فعليه صيام شهرين متتابعين، فإذا لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكينًا، فإن لم يستطع سقطت؛ لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: «بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: «مالك»؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها»؟ قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين»؟ قال: لا، قال: «فهل تجد إطعام ستين مسكينًا»؟ قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما نحن على ذلك أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيه تمر- والعَرَق: المكتل، قال: «أين السائل»؟ فقال: أنا، قال: «خذ هذا فتصدق به»، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: «أطعمه لأهلك»[20].
29- إثبات وتقرير القاعدة الشرعية «أنه لا محرم مع الضرورة، وأن الضرورات تبيح المحظورات»، فالميتة مثلًا محرمة؛ كما قال تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ﴾ [المائدة: 3]، لكنها تباح عند الضرورة كما إذا لم يجد الإنسان ما يسد به رمقَه غيرها؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 3].
30- إثبات الاختيار للإنسان فيما يفعل ويكتسب، وأنه ليس مجبورًا على فعله؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾.
وفي هذا رد على الجبرية الذين يزعمون أن لا اختيار للإنسان[21].
31- أن منفعة التكليف وثمرته للمكلفين، رحمة من الله لهم، وهو سبحانه غني عنهم وعن كسبهم وأعمالهم؛ لقوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾.
32- أن لكل نفس ثواب وجزاء عملها لا ينقص منه شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 39].
ومن ذلك ما كان الإنسان سببًا في كسبه وسعيه كدعاء ولده له ونحو ذلك؛ لأن ولده من كسبه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «وإن أولادكم من كسبكم»[22].
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»[23].
وعن جرير بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء»[24].
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا»[25].
كما أن دعاء المسلمين له وتصدقهم عنه داخل ضمن ما كان هو سببًا فيه؛ لأنه بإيمانه صار منهم، فشمله دعاؤهم وصدقاتهم.
33- أن على كل نفس ما عملت من سوء وشر، ولا تحمل نفس وزر أخرى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: 164]، لكن الإنسان يؤاخذ بما كان سببًا في فعله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء»[26].
34- أن كسب الخير غنم للنفس؛ لقوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾، وأن اكتساب الشر غرم عليها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾.
كما قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10].
وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو، فمعتق نفسه أو موبقها»[27].
35- كمال عدل الله - عز وجل - حيث يحاسب كل نفس بما كسبت.
36- الترغيب بكسب الحسنات، والترهيب من اكتساب السيئات.
37- الرد على الخوارج ومن تبعهم القائلين بأن مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾، ولم يجعل اكتسابه مبطلًا لكسبه- كما يقولون[28].
38- أن من أعظم ما يتوسل به في الدعاء من صفات الله- عز وجل- الربوبية؛ لهذا توسل المؤمنون بقولهم: ﴿ ربنا ﴾ في ثلاثة مواضع في هذه الآية، وهكذا كان جل دعاء الرسل عليهم السلام وأتباعهم بالتوسل بها.
39- إثبات ربوبية الله- عز وجل- الخاصة للمؤمنين؛ لقولهم: ﴿ ربنا ﴾.
40- إرشاد الله عز وجل للمؤمنين للدعاء بهذه الدعوات الجامعة واستجابته لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ﴾.
ولهذا قال عز وجل كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «قد فعلت» وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «نعم».
41- عدم المؤاخذة والمعاقبة في النسيان والخطأ والجهل؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه قال- عز وجل: «قد فعلت»، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نعم».
فإذا ترك الإنسان واجبًا أو ارتكب محظورًا نسيانًا أو خطأ أو جهلًا فلا عقوبة عليه ولا إثم. وفي الحديث: «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه»[29].
فإن كان النسيان أو الخطأ والجهل في ارتكاب محظور فلا عقوبة عليه ولا تبعة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه»[30].
ومثل هذا لو ارتكب الإنسان أي محظور كان، ناسيًا أو مخطئًا وجاهلًا، كمحظورات الإحرام وغيرها فلا شيء عليه.
وإن كان النسيان أو الخطأ والجهل في ترك واجب فلا عقوبة عليه، لكن عليه فعل هذا الواجب ما دام في وقته، أو قضاؤه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك»[31].
ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يعذر المسيء في صلاته لجهله، بل قال له عدة مرات: «ارجع فصل فإنك لم تصل»[32].
فإن فات وقت الواجب، ولا يمكن قضاؤه لزم تقديم فديته إن كان له فدية، كمن ترك المبيت بمزدلفة، أو بمنى، أو رمي الجمار- وفات وقته لزمته الفدية.
أما حقوق الخلق فإنها لا تسقط بالنسيان والخطأ والجهل.
كما يلزم أيضًا في قتل الخطأ دفع الكفارة حقًا لله عز وجل.
42- فضل الله- عز وجل- على هذه الأمة المحمدية برفع الآصار والأغلال عنها، وعدم تحميلها ما لا تطيق من الأحكام الكونية والشرعية، فلم يؤاخذهم بحديث النفس، والنسيان، والخطأ، وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾.
وفي الحديث القدسي: «قال الله: قد فعلت»، وفي لفظ: «قال: نعم»[33].
43- تكليف من قبلنا من الأمم- وبخاصة أهل الكتاب بالآصار والأغلال والتكاليف الثقيلة؛ بسبب تكذيبهم وعنادهم وتشديدهم على أنفسهم؛ لقوله تعالى: (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا).
44- تميز الأشياء بضدها، فبمقارنة ما خص الله به هذه الأمة من التيسير والتخفيف بما حمله على من قبلها من الآصار والأغلال يظهر عظم فضل الله عليها؛ ولهذا قال: (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا).
45- ينبغي سؤال الله- عز وجل- العافية، وأن لا يحملنا ما لا طاقة لنا به؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ فالعافية لا يعدلها شيء.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية».
46- ينبغي سؤال الله - عز وجل - العفو والتجاوز عما يحصل منا من تقصير وتفريط بحقوقه- عز وجل- وسؤاله المغفرة والتجاوز عما اقترفناه من الذنوب، وأن يرحمنا برحمته الواسعة، فيما يستقبل، فيحفظنا من التفريط في حقه، ومن المعاصي والذنوب.
47- ضعف الإنسان وشدة حاجته إلى ربه في أمور دينه ودنياه، فطاقته وقدرته محدودة، وهو معرّض للنسيان والخطأ والجهل، وهو أحوج ما يكون إلى عفو الله- عز وجل- عن تقصيره، ومغفرته لذنوبه، ورحمته له، مما يوجب عليه التعلق بربه، والالتجاء إليه على الدوام.
48- إثبات ولاية الله- عز وجل- الخاصة للمؤمنين، وأنه لا مولى لهم سواه؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾.
49- جمع المؤمنين بين التوسل بربوبية الله - عز وجل - لهم في أول دعائهم بقولهم: ﴿ رَبَّنَا ﴾، والتوسل بولايته لهم في آخر دعائهم بقولهم: ﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾ وهذا من أعظم أسباب الاستجابة.
50- يجب على المؤمنين الاستعانة بالله، وطلب النصر منه على الكافرين، مع بذل الأسباب بالجهاد بالحجة والقلم واللسان، والسيف والسنان؛ لقوله تعالى: ﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾.
51- فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الأمم قبلها حيث خصها الله بالحنيفية السمحة، ورفع عنها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم قبلها، وعفا عنها، وغفر لها، ورحمها، ونصرها.
1- إثبات أن لله - عز وجل - وحده بلا شريك جميع ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما، وتفرده بالربوبية خلقًا وملكًا وتدبيرًا؛ لقوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾.
2- وجوب إخلاص العبادة لله وحده؛ لأنه الإله المعبود وحده بحق، ولتفرده- عز وجل- بكمال الربوبية؛ الخلق والملك والتدبير، وهذا يستلزم إفراده بالألوهية؛ لقوله تعالى: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾.
3- عموم ملك الله- عز وجل- وسعته وعظمته، مما يدل على عظمة ربوبية الله- عز وجل- وألوهيته، وكمال صفاته.
4- اختيار القرآن الكريم لأحسن التعابير، وأعلاها؛ لقوله تعالى ﴿ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾ بذكر السماوات بالجمع والأرض بالإفراد.
وهكذا جاء في القرآن كله- والحكمة - وﷲ أعلم - للثقل في جمع أرض وهو «أرضين» وإلا فهي سبع أرضين، كما دلت عليه الأدلة الأخرى من الكتاب والسنة.
5- إحاطة علم الله- عز وجل- بجميع أعمال العباد، ما أظهروه منها، وما أضمروه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾؛ أي: يعلمه ويحاسبكم عليه فمن لازم محاسبته لهم أن يكون عالمًا بأعمالهم.
6- وجوب مراقبة الله- عز وجل- والحذر من مخالفته في السر والعلن؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ الآية، وهذه الآية محكمة غير منسوخة؛ لأنها خبر من الله، والأخبار لا تنسخ.
7- محاسبة العباد على ما يبدون مما في أنفسهم أو يخفونه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾.
ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»[1].
أما ما أبدوه وأظهروه مما في أنفسهم بقول أو بفعل، فلا إشكال في محاسبتهم عليه.
وأما ما أخفوه فله حالان:
الحالة الأولى: أن يكون من حديث النفس ووساوسها التي لا يستطيع الإنسان لها دفعًا، بل هي خارجة عن الاستطاعة والوسع، فهذا لا يحاسب عليه، وإن حوسب عليه فلا يؤاخذ به، وليس داخلًا تحت قوله: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ﴾؛ لأن الله لا يكلف الإنسان ما لا يستطيع، كما قال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾، وقال تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ﴾ [الطلاق: 7]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: «وجدتموه»؟ قال: «ذاك صريح الإيمان»[2].
وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، قال: «تلك محض الإيمان»[3].
وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة»[4].
والحالة الثانية: أن يهم الإنسان بالمعصية، ويعزم عليها، ثم يتركها، وهذا هو المحاسب، والمثاب أو المعاقب.
فإن تركها لله - عز وجل - فهو مثاب مغفور له، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تعالى قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بيَّن ذلك، فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن همَّ بسيئة، فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة»[5].
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «وإن تركها فاكتبوها له حسنة، إنما تركها من جرائي»[6].
وإن تركها لعجزه عنها، وعدم وصوله إليها، مع الحرص عليها، والعزم على فعلها وتمنيها، فهو معاقب بقدر ما وقع في نفسه، ما لم يعف الله عنه.
كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار» قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»[7].
وكما في حديث أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه في حديثه الطويل الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وفيه: «وعبد رزقه الله مالًا، ولم يرزقه علمًا فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًا فهذا بأخبث المنازل، وعبد لم يرزقه الله مالًا، ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته، فوزرهما سواء»[8].
وإن تركها لا لله، ولا لعجزه عنها، وإنما لعزوف نفسه عنها، فهذا لا يثاب ولا يعاقب؛ لأن الأعمال بالنيات كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى»[9].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قال الله: إذاهمَّ عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرًا»[10].
وفي رواية: «قال الله: إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة، فإن عملها كتبتها عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، وإذا هم بسيئة فلم يعملها لم أكتبها عليه، فإن عملها كتبتها سيئة واحدة»[11].
وعلى هذا أيضًا يحمل ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها، ما لم تكلم، أو تعمل»[12].
فهذا محمول على ما حدثت به الأنفس مما لم يحصل العزم عليه، فهذا لا مؤاخذة عليه، ما لم يتكلم به أو يعمل.
وبهذا يتضح أن الآية: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ محكمة غير منسوخة، وأنها فيما هم به الإنسان وعزم عليه- كما سبق.
وليست في حديث النفس، فتكون منسوخة - كما قيل - بقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾؛ لأن حديث النفس لا يدخل تحت وسع الإنسان وطاقته فلا يرد التكليف به.
وما جاء من الأحاديث والآثار في نسخها[13] فهو محمول على إزالة ما وقع في فهم بعض الصحابة رضي الله عنهم أن في الآية: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ تكليف ما لا يطاق، وهو المؤاخذة بحديث النفس، فأنزل الله الآية: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ لإزالة هذا المفهوم، وليس ذلك بنسخ للآية.
وأيضًا لبيان أن المحاسبة لا تستلزم المعاقبة، عن علي بن أبي طلحة- عن ابن عباس رضي الله عنهما ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾، فإنها لم تنسخ، لكن إذا اجتمع الخلائق يوم القيامة يقول: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله: ﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ﴾ يقول: يخبركم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، وهو قوله: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾، وهو قوله: ﴿ لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 225]؛ أي: من الشك والنفاق»[14].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية[15]: «فإن قوله: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ ﴾ الآية، إنما تدل على أن الله يحاسب بما في النفوس، لا على أنه يعاقب على كل ما في النفوس».
وقال ابن القيم: «وللنسخ معنى آخر وهو النسخ من أفهام المخاطبين ما فهموه مما لم يرده، ولا دل اللفظ عليه، وإن أوهمه، كما أطلق الصحابة النسخ على قوله: ﴿ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 284]، قالوا: نسخها قوله: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [البقرة: 286]، فهذا نسخ من الفهم، لا نسخ للحكم الثابت، فإن المحاسبة لا تستلزم العقاب في الآخرة، ولا في الدنيا أيضًا، ولهذا عمهم بالمحاسبة، ثم أخبر بعدها أنه يغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء، ففهم المؤاخذة التي هي المعاقبة من الآية تحميل لها فوق وسعها، فرفع هذا المعنى من فهمه بقوله: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 286] »[16].
قال ابن كثير[17]: «أي: هو وإن حاسب وسأل، لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه، فأما ما لا يمكن دفعه من وسوسة النفس وحديثها، فهذا لا يكلف به الإنسان، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان».
8- أن المحاسبة لا تستلزم المعاقبة؛ لقوله تعالى: ﴿ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾.
9- مغفرة الله - عز وجل - لمن يشاء بفضله، ما دون الشرك، وتعذيبه من يشاء بعدله؛ لقوله تعالى: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾.
10- إثبات المشيئة التامة لله- عز وجل- المقرونة بالحكمة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾.
11- إثبات قدرة الله- عز وجل- التامة على كل شيء، وتأكيد ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
وفي هذا رد على من أخرج شيئًا من المقدورات عن خلقه وقدرته كالفلاسفة والقدرية المجوسية وغيرهم.
12- ثناء الله- عز وجل- على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وشهادته- عز وجل- له ولهم بإيمانهم بما أنزل الله إليه، وبه وبملائكته وكتبه ورسله، وعدم تفريقهم بين أحد من رسله، وسمعهم وطاعتهم، وسؤالهم مغفرته وإقرارهم بأن إليه- عز وجل- وحده المصير؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ الآية.
13- إثبات رسالته صلى الله عليه وسلم، وأنه مكلف كغيره من أفراد الأمة، بالإيمان بما أنزل إليه من ربه، والعمل به، مع تبليغه؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ﴾، وهذا يتضمن الشهادة له صلى الله عليه وسلم بالإيمان وصدق الرسالة.
14- أن القرآن كلام الله - عز وجل - أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ [النحل: 102]، وقال تعالى: ﴿ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الواقعة: 80].
وفي هذا كله رد على المعتزلة القائلين بخلق القرآن.
15- أن السنة منزلة من عند الله؛ لأن قوله: ﴿ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ﴾ يشمل القرآن والسنة، كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ﴾ [النساء: 113].
16- إثبات علو الله عز وجل؛ لأن الإنزال يكون من أعلى؛ لقوله تعالى: ﴿ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ ﴾، فله - عز وجل - علو الذات، وعلو الصفات.
17- تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم- وتكريمه بإضافة اسم الرب إلى ضميره، وربوبيته - عز وجل - له الربوبية الخاصة، بل خاصة الخاصة؛ لقوله تعالى: ﴿ مِنْ رَبِّهِ ﴾.
18- أن من شرط صحة الإيمان متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: والمؤمنون آمنوا اتباعًا له صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به»[18].
19- وجوب الإيمان بالله، وبما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وبملائكته، وكتبه، ورسله، وبكل ما أخبر الله - عز وجل - به في كتبه، وعلى ألسنة رسله، ومن ذلك الإيمان باليوم الآخر، والقدر وغير ذلك من الغيبيات؛ لقوله تعالى: ﴿ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾.
20- تشريف الله - عز وجل - لملائكته وكتبه ورسله بإضافتهم إليه- عز وجل- بقوله ﴿ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ﴾.
21- لا يجوز التفريق في الإيمان بين أحد من رسل الله- عز وجل- بل يجب الإيمان بهم جميعًا؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ ومن فرق بينهم فليس بمؤمن، بل هو كافر.
كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ﴾ [النساء: 150، 151].
22- أن من صفات المؤمنين حقًا السمع والطاعة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ﴾، فجمعوا بين التصديق بالقلب واللسان، والانقياد بالجوارح، بين الإيمان الظاهر والباطن.
23- جمع المؤمنين حقًّا بين الإحسان بالإيمان والعمل الصالح، وبين الخوف من الله- عز وجل- وطلب مغفرته والافتقار إليه؛ لقولهم: ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾.
24- إثبات ربوبية الله- عز وجل- الخاصة للمؤمنين، وتوسلهم بها بقولهم: ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا ﴾، وقولهم: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾.
25- إثبات أن إلى الله - عز وجل - وحده المصير والمرجع يوم القيامة، كما أن إليه- عز وجل- مرجع الأمور والأحكام كلها في الدنيا والآخرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾.
26- رحمة الله- عز وجل- بعباده، حيث لا يكلف نفسًا فوق وسعها وطاقتها؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾، وقد قيل: إن هذه الآية ناسخة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ ﴾ الآية (284) من هذه السورة، وتقدم بيان أن هذه الآية محكمة؛ لأنها خبر، والأخبار لا تنسخ، وإنما غاية ما في ذلك أن بعض الصحابة فهموا من الآية ﴿ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ الآية محاسبتهم على حديث النفس، مما لا يستطيع الإنسان له دفعًا. فنسخ الله- عز وجل- وأزال هذا المفهوم بقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾[19].
27- سماحة الدين الإسلامي، ويسر أحكامه ومراعاته أحوال المكلفين، فلا يوجب على المريض ما يوجبه على الصحيح، ولا يوجب على المسافر ما يوجبه على المقيم، ولا يوجب على العاجز ما يوجبه على القادر، وهكذا.
28- إثبات وتقرير القاعدة الشرعية: أنه لا واجب مع العجز؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾.
فإذا عجز الإنسان عن الواجب وليس له بدل سقط عنه، فمثلًا الحج واجب، بل ركن من أركان الإسلام على المستطيع، فإذا عجز الإنسان عن الحج ببدنه وماله سقط عنه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ﴾ [آل عمران: 97].
وإن كان الواجب له بدل وجب الانتقال إلى بدله، فإن عجز عن بدله سقط، فمثلًا كفارة الجماع في نهار رمضان عتق رقبة، فإذا لم يجد، فعليه صيام شهرين متتابعين، فإذا لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكينًا، فإن لم يستطع سقطت؛ لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: «بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله، هلكت، قال: «مالك»؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها»؟ قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين»؟ قال: لا، قال: «فهل تجد إطعام ستين مسكينًا»؟ قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما نحن على ذلك أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعَرَق فيه تمر- والعَرَق: المكتل، قال: «أين السائل»؟ فقال: أنا، قال: «خذ هذا فتصدق به»، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله، فوالله ما بين لابتيها - يريد الحرتين - أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: «أطعمه لأهلك»[20].
29- إثبات وتقرير القاعدة الشرعية «أنه لا محرم مع الضرورة، وأن الضرورات تبيح المحظورات»، فالميتة مثلًا محرمة؛ كما قال تعالى: ﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ﴾ [المائدة: 3]، لكنها تباح عند الضرورة كما إذا لم يجد الإنسان ما يسد به رمقَه غيرها؛ كما قال تعالى: ﴿ فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 3].
30- إثبات الاختيار للإنسان فيما يفعل ويكتسب، وأنه ليس مجبورًا على فعله؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾.
وفي هذا رد على الجبرية الذين يزعمون أن لا اختيار للإنسان[21].
31- أن منفعة التكليف وثمرته للمكلفين، رحمة من الله لهم، وهو سبحانه غني عنهم وعن كسبهم وأعمالهم؛ لقوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾.
32- أن لكل نفس ثواب وجزاء عملها لا ينقص منه شيء؛ لقوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾ [النجم: 39].
ومن ذلك ما كان الإنسان سببًا في كسبه وسعيه كدعاء ولده له ونحو ذلك؛ لأن ولده من كسبه، كما قال صلى الله عليه وسلم: «وإن أولادكم من كسبكم»[22].
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»[23].
وعن جرير بن عبدالله رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة، فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء»[24].
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا»[25].
كما أن دعاء المسلمين له وتصدقهم عنه داخل ضمن ما كان هو سببًا فيه؛ لأنه بإيمانه صار منهم، فشمله دعاؤهم وصدقاتهم.
33- أن على كل نفس ما عملت من سوء وشر، ولا تحمل نفس وزر أخرى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: 164]، لكن الإنسان يؤاخذ بما كان سببًا في فعله، كما قال صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده، كتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء»[26].
34- أن كسب الخير غنم للنفس؛ لقوله تعالى: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾، وأن اكتساب الشر غرم عليها؛ لقوله تعالى: ﴿ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾.
كما قال تعالى: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 9، 10].
وقال صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو، فمعتق نفسه أو موبقها»[27].
35- كمال عدل الله - عز وجل - حيث يحاسب كل نفس بما كسبت.
36- الترغيب بكسب الحسنات، والترهيب من اكتساب السيئات.
37- الرد على الخوارج ومن تبعهم القائلين بأن مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار؛ لأن الله تعالى قال: ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾، ولم يجعل اكتسابه مبطلًا لكسبه- كما يقولون[28].
38- أن من أعظم ما يتوسل به في الدعاء من صفات الله- عز وجل- الربوبية؛ لهذا توسل المؤمنون بقولهم: ﴿ ربنا ﴾ في ثلاثة مواضع في هذه الآية، وهكذا كان جل دعاء الرسل عليهم السلام وأتباعهم بالتوسل بها.
39- إثبات ربوبية الله- عز وجل- الخاصة للمؤمنين؛ لقولهم: ﴿ ربنا ﴾.
40- إرشاد الله عز وجل للمؤمنين للدعاء بهذه الدعوات الجامعة واستجابته لهم؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ﴾.
ولهذا قال عز وجل كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما: «قد فعلت» وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «نعم».
41- عدم المؤاخذة والمعاقبة في النسيان والخطأ والجهل؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه قال- عز وجل: «قد فعلت»، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «نعم».
فإذا ترك الإنسان واجبًا أو ارتكب محظورًا نسيانًا أو خطأ أو جهلًا فلا عقوبة عليه ولا إثم. وفي الحديث: «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه»[29].
فإن كان النسيان أو الخطأ والجهل في ارتكاب محظور فلا عقوبة عليه ولا تبعة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه»[30].
ومثل هذا لو ارتكب الإنسان أي محظور كان، ناسيًا أو مخطئًا وجاهلًا، كمحظورات الإحرام وغيرها فلا شيء عليه.
وإن كان النسيان أو الخطأ والجهل في ترك واجب فلا عقوبة عليه، لكن عليه فعل هذا الواجب ما دام في وقته، أو قضاؤه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك»[31].
ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يعذر المسيء في صلاته لجهله، بل قال له عدة مرات: «ارجع فصل فإنك لم تصل»[32].
فإن فات وقت الواجب، ولا يمكن قضاؤه لزم تقديم فديته إن كان له فدية، كمن ترك المبيت بمزدلفة، أو بمنى، أو رمي الجمار- وفات وقته لزمته الفدية.
أما حقوق الخلق فإنها لا تسقط بالنسيان والخطأ والجهل.
كما يلزم أيضًا في قتل الخطأ دفع الكفارة حقًا لله عز وجل.
42- فضل الله- عز وجل- على هذه الأمة المحمدية برفع الآصار والأغلال عنها، وعدم تحميلها ما لا تطيق من الأحكام الكونية والشرعية، فلم يؤاخذهم بحديث النفس، والنسيان، والخطأ، وغير ذلك؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾.
وفي الحديث القدسي: «قال الله: قد فعلت»، وفي لفظ: «قال: نعم»[33].
43- تكليف من قبلنا من الأمم- وبخاصة أهل الكتاب بالآصار والأغلال والتكاليف الثقيلة؛ بسبب تكذيبهم وعنادهم وتشديدهم على أنفسهم؛ لقوله تعالى: (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا).
44- تميز الأشياء بضدها، فبمقارنة ما خص الله به هذه الأمة من التيسير والتخفيف بما حمله على من قبلها من الآصار والأغلال يظهر عظم فضل الله عليها؛ ولهذا قال: (كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا).
45- ينبغي سؤال الله- عز وجل- العافية، وأن لا يحملنا ما لا طاقة لنا به؛ لقوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ فالعافية لا يعدلها شيء.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية».
46- ينبغي سؤال الله - عز وجل - العفو والتجاوز عما يحصل منا من تقصير وتفريط بحقوقه- عز وجل- وسؤاله المغفرة والتجاوز عما اقترفناه من الذنوب، وأن يرحمنا برحمته الواسعة، فيما يستقبل، فيحفظنا من التفريط في حقه، ومن المعاصي والذنوب.
47- ضعف الإنسان وشدة حاجته إلى ربه في أمور دينه ودنياه، فطاقته وقدرته محدودة، وهو معرّض للنسيان والخطأ والجهل، وهو أحوج ما يكون إلى عفو الله- عز وجل- عن تقصيره، ومغفرته لذنوبه، ورحمته له، مما يوجب عليه التعلق بربه، والالتجاء إليه على الدوام.
48- إثبات ولاية الله- عز وجل- الخاصة للمؤمنين، وأنه لا مولى لهم سواه؛ لقوله تعالى: ﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾.
49- جمع المؤمنين بين التوسل بربوبية الله - عز وجل - لهم في أول دعائهم بقولهم: ﴿ رَبَّنَا ﴾، والتوسل بولايته لهم في آخر دعائهم بقولهم: ﴿ أَنْتَ مَوْلَانَا ﴾ وهذا من أعظم أسباب الاستجابة.
50- يجب على المؤمنين الاستعانة بالله، وطلب النصر منه على الكافرين، مع بذل الأسباب بالجهاد بالحجة والقلم واللسان، والسيف والسنان؛ لقوله تعالى: ﴿ فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾.
51- فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الأمم قبلها حيث خصها الله بالحنيفية السمحة، ورفع عنها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم قبلها، وعفا عنها، وغفر لها، ورحمها، ونصرها.