حكاية ناي ♔
11-23-2023, 11:12 AM
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فمن هدي القرآن للتي هي أقوم: هديه إلى أن الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع، وأن ينادى بالارتباط بها دون غيرها إنما هي دين الإسلام؛ لأنه هو الذي يربط بين أفراد المجتمع حتى يصير بقوة تلك الرابطة جميع المجتمع الإسلامي كأنه جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى، فربط الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك، ورجلك بساقك، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»[1]، ولذلك يكثر في القرآن العظيم إطلاق النفس، وإرادة الأخ تنبيهًا على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه، كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ﴾ [البقرة: 84]؛ أي: لا تخرجون إخوانكم، وقوله تعالى: ﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور: 12]؛ أي بإخوانهم على أصح التفسيرين، وقوله تعالى:﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]؛ أي: إخوانكم على أصح التفسيرين، وقوله تعالى:﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ ﴾ [البقرة: 188]؛ أي: لا يأكل أحدكم مال أخيه، إلى غير ذلك من الآيات، ولذلك ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»[2].
ومن الآيات الدالة على أن الرابطة الحقيقية هي الدين، وأن تلك الرابطة تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية: قوله تعالى: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22]؛ إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر، وقوله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71]، وقوله تعالى:﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10]، وقوله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 103]، إلى غير ذلك من الآيات.
فهذه الآيات وأمثالها تدل على أن النداء برابطة أخرى غير الإسلام كالعصبية المعروفة بالقومية: لا يجوز، ولا شك أنه ممنوع باجتماع المسلمين.
ومن أصرح الأدلة في ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه قال: باب قوله تعالى: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمَّعَها الله رسوله صلى الله عليه وسلم قال: «ما هذا؟»، فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ..»[3]؛ الحديث.
فقول هذا الأنصاري: يا للأنصار، وهذا المهاجري: يا للمهاجرين؛ هو النداء بالقومية العصبية بعينه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» يقتضي وجوب ترك النداء بها؛ لأن قوله: «دَعُوهَا» أمر صريح بتركها، والأمر المطلق يقتضي الوجوب على التحقيق كما تقرر في الأصول؛ لأن الله يقول: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، ويقول لإبليس: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ [الأعراف: 12]، فدل على أن مخالفة الأمر معصية، وقال تعالى عن نبيه موسى في خطابه لأخيه: ﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾ [طه: 93]، فأطلق اسم المعصية على مخالفة الأمر، وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36]، فدلت الآية على أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مانع من الاختيار، موجب للامتثال، لا سيما وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بالترك بقوله: «فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»، وحسبك بالنتن موجبًا للتباعد؛ لدلالته على الخبث البالغ.
فدل هذا الحديث الصحيح على أن النداء برابطة القومية مخالف لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن فاعله يتعاطى المنتن، ولا شك أن المنتن خبيث، والله تعالى يقول: ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ﴾ [النور: 26]، ويقول تعالى: ﴿ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ [الأعراف: 157].
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم السابق: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَة» دلالة على التَّحْرِيمِ، مَعَ أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ دَعْوَى الرَّجُلِ: «يَا لِبَنِي فُلَانٍ» مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ[4]، وَإِذَا صَحَّ بِذَلِكَ أَنَّهَا مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ»، وفي رواية في الصحيح: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، أوَ شَقَّ الْجُيُوبَ، أوَ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ»[5]، وذلك صريح في أن من دعا تلك الدعوى ليس منا، وهو دليل واضح على التحريم الشديد. قال أُبيٌّ: كنا نؤمر: «إِذَا الرَّجُلُ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ وَلَا تَكْنُوا»[6].
فانظر كيف سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك النداء «عَزَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ»، وأمر أن يقال للداعي به: «اعضض على هن أبيك»؛ أي: فرجه، وأن يصرح له بذلك ولا يعبر عنه بالكناية، فهذا يدل على شدة قبح هذا النداء، وشدة بغض النبي صلى الله عليه وسلم له.
واعلم أن رؤساء الدعاة إلى نحو هذه القومية العربية: أبو جهل، وأبو لهب، والوليد بن المغيرة، ونظراؤهم من رؤساء الكفرة.
وقد بيَّن تعالى تعصبهم لقوميتهم في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: ﴿ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104]، وقوله تعالى: ﴿ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 170] وأمثال ذلك من الآيات.
واعلم أنه لا خلاف بين العلماء - كما ذكرنا آنفًا - في منع النداء برابطة غير الإسلام؛ كالقوميات والعصبيات النسبية، ولا سيما إذا كان النداء بالقومية يقصد من ورائه القضاء على رابطة الإسلام وإزالتها بالكلية؛ فإن النداء بها حينئذ معناه الحقيقي أنه نداء إلى التخلي عن دين الإسلام، ورفض الرابطة السماوية رفضًا باتًّا، على أن يتعاض من ذلك روابط عصبية قومية، مدارها على أن هذا من العرب، وهذا منهم أيضًا مثلًا؛ فالعروبة لا يمكن أن تكون خلفًا من الإسلام، واستبدالها به صفقة خاسرة؛ فهي كما قال الراجز:
بَدَّلْتَ بِالْجُمَّةِ رَأْسًا أَزْعَرًا
وَبِالثَّنَايَا الوَاضِحَاتِ الدُّرْدُرَا
كَمَا اشْتَرَى المُسْلِمُ إِذْ تَنَصَّرَا
وقد علم في التاريخ حال العرب قبل الإسلام وحالهم بعده كما لا يخفى.
وقد بين الله تعالى في محكم كتابه أن الحكمة في جعله بني آدم شعوبًا وقبائل هي التعارف فيما بينهم، وليست هي أن يتعصب كل شعب على غيره، وكل قبيلة على غيرها؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، فاللام في قوله:﴿ لِتَعَارَفُوا ﴾ لام التعليل، والأصل لتتعارفوا، وقد حذفت إحدى التاءين، فالتعارف هو العلة المشتملة على الحكمة؛ لقوله: ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ﴾.
ونحن حين نصرِّح بمعنى النداء بالروابط العصبية والأوامر النسبية، ونقيم الأدلة على منع ذلك لا ننكر أن المسلم ربما انتفع بروابط نسبية لا تمت إلى الإسلام بصلة، كما نفع الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب، وقد بيَّن الله تعالى أن عطف ذلك العم الكافر على نبيه صلى الله عليه وسلم من منن الله عليه؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾ [الضحى: 6، 7]؛ أي: آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب.
ومن آثار هذه العصبية النسبية قول أبي طالب فيه صلى الله عليه وسلم:
وَاللَّهِ لَن يَصِلوا إِلَيكَ بِجَمعِهِم
حَتّى أُوَسَّدَ في التُرابِ دَفينا
وقد نفع الله بتلك العصبية النسبية شعيبًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ كما قال تعالى عن قومه:﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾ [هود: 91].
وقد نفع الله بها نبيه صالحًا أيضًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما أشار تعالى لذلك بقوله تعالى: ﴿ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [النمل: 49]، فقد دلت الآية على أنهم يخافون من أولياء صالح، ولذلك لم يفكروا أن يفعلوا به سوءًا إلا ليلًا خفية، وقد عزموا أنهم إن فعلوا به ذلك أنكروا وحلفوا لأوليائه أنهم ما حضروا ما وقع بصالح خوفًا منهم، ولمَّا كان لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا عصبية له في قومه ظهر فيه أثر ذلك، قال تعالى: ﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ [هود: 80]، وقد قدَّمنا هذا مستوفًى.
فيلزم الناظر في هذه المسألة أن يفرق بين الأمرين، ويعلم أن النداء بروابط القوميات لا يجوز على كل حال، ولا سيما إذا كان القصد بذلك القضاء على رابطة الإسلام، وإزالتها بالكلية بدعوى أنه لا يساير التطور الجديد، أو أنه جمودٌ وتأخُّر عن مسايرة ركب الحضارة؛ نعوذ بالله من طمس البصيرة، وأن منع النداء بروابط القوميات لا ينافي أنه ربما انتفع المسلم بنصرة قريبه الكافر بسبب العواطف النسبية، والأواصر العصبية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، كما وقع من أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ»[7]، ولكن تلك القرابات النسبية لا يجوز أن تجعل هي الرابطة بين المجتمع؛ لأنها تشمل المسلم والكافر، ومعلوم أن المسلم عدو الكافر؛ كما قال تعالى:﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [الحشر: 22].
والحاصل: أن الرابطة الحقيقية التي تجمع المفترق وتؤلف المختلف هي رابطة «لا إله إلا الله»، ألا ترى أن هذه الرابطة هي التي تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد واحد، وتجعله كالبنيان يشد بعضه بعضًا، عطفت قلوب حملة العرش ومن حوله من الملائكة على بني آدم في الأرض مع ما بينهم من الاختلاف قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [غافر: 7، 9].
فقد أشار تعالى إلى أن الرابطة التي ربطت بين حملة العرش ومن حوله، وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم، إنما هي الإيمان بالله عز وجل؛ لأنه قال عن الملائكة: ﴿ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾، فوصفهم بالإيمان، وقال عن بني آدم في استغفار الملائكة لهم: ﴿ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾، فوصفهم أيضًا بالإيمان، فدل ذلك على أن الرابطة بينهم هي الإيمان، وهو أعظم رابطة.
ومما يوضح لك أن الرابطة الحقيقية هي دين الإسلام قوله تعالى في أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾ [المسد: 3]، ويقابل ذلك بما لسلمان الفارسي من الفضل والمكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: «سَلمان مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ»[8].
لَقَد رَفَعَ الإِسلامُ سَلمانَ فارِسٍ
وَقَد وَضَعَ الشِركُ الشَريفَ أَبا لَهَب
وقد أجمع العلماء على أن الرجل إن مات، وليس له من القرباء إلا ابن كافر، أن إرثه يكون للمسلمين بأخوة الإسلام، ولا يكون لولده لصلبه الذي هو كافر، والميراث دليل القرابة، فدل ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من البنوة النسبية.
وبالجملة، فلا خلاف بين المسلمين أن الرابطة التي تربط أفراد أهل الأرض بعضهم ببعض، وتربط بين أهل الأرض والسماء - هي رابطة «لا إله إلا الله»، فلا يجوز البتة النداء برابطة غيرها، ومن والى الكفار بالروابط النسبية محبة لهم ورغبة فيهم، يدخل في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51]، وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [الأنفال: 73]، والعلم عند الله تعالى[9].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فمن هدي القرآن للتي هي أقوم: هديه إلى أن الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع، وأن ينادى بالارتباط بها دون غيرها إنما هي دين الإسلام؛ لأنه هو الذي يربط بين أفراد المجتمع حتى يصير بقوة تلك الرابطة جميع المجتمع الإسلامي كأنه جسد واحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى، فربط الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك، ورجلك بساقك، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»[1]، ولذلك يكثر في القرآن العظيم إطلاق النفس، وإرادة الأخ تنبيهًا على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه، كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ﴾ [البقرة: 84]؛ أي: لا تخرجون إخوانكم، وقوله تعالى: ﴿ لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ﴾ [النور: 12]؛ أي بإخوانهم على أصح التفسيرين، وقوله تعالى:﴿ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات: 11]؛ أي: إخوانكم على أصح التفسيرين، وقوله تعالى:﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِ ﴾ [البقرة: 188]؛ أي: لا يأكل أحدكم مال أخيه، إلى غير ذلك من الآيات، ولذلك ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»[2].
ومن الآيات الدالة على أن الرابطة الحقيقية هي الدين، وأن تلك الرابطة تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية: قوله تعالى: ﴿ لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [المجادلة: 22]؛ إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر، وقوله تعالى: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 71]، وقوله تعالى:﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10]، وقوله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [آل عمران: 103]، إلى غير ذلك من الآيات.
فهذه الآيات وأمثالها تدل على أن النداء برابطة أخرى غير الإسلام كالعصبية المعروفة بالقومية: لا يجوز، ولا شك أنه ممنوع باجتماع المسلمين.
ومن أصرح الأدلة في ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه قال: باب قوله تعالى: ﴿ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [المنافقون: 8].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جابر ابن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمَّعَها الله رسوله صلى الله عليه وسلم قال: «ما هذا؟»، فقالوا: كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ..»[3]؛ الحديث.
فقول هذا الأنصاري: يا للأنصار، وهذا المهاجري: يا للمهاجرين؛ هو النداء بالقومية العصبية بعينه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم : «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» يقتضي وجوب ترك النداء بها؛ لأن قوله: «دَعُوهَا» أمر صريح بتركها، والأمر المطلق يقتضي الوجوب على التحقيق كما تقرر في الأصول؛ لأن الله يقول: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]، ويقول لإبليس: ﴿ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ [الأعراف: 12]، فدل على أن مخالفة الأمر معصية، وقال تعالى عن نبيه موسى في خطابه لأخيه: ﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾ [طه: 93]، فأطلق اسم المعصية على مخالفة الأمر، وقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾ [الأحزاب: 36]، فدلت الآية على أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مانع من الاختيار، موجب للامتثال، لا سيما وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر بالترك بقوله: «فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»، وحسبك بالنتن موجبًا للتباعد؛ لدلالته على الخبث البالغ.
فدل هذا الحديث الصحيح على أن النداء برابطة القومية مخالف لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، وأن فاعله يتعاطى المنتن، ولا شك أن المنتن خبيث، والله تعالى يقول: ﴿ الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ ﴾ [النور: 26]، ويقول تعالى: ﴿ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ [الأعراف: 157].
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم السابق: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَة» دلالة على التَّحْرِيمِ، مَعَ أَنَّ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِهِ الثَّابِتَةِ فِي الصَّحِيحِ التَّصْرِيحَ بِأَنَّ دَعْوَى الرَّجُلِ: «يَا لِبَنِي فُلَانٍ» مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ[4]، وَإِذَا صَحَّ بِذَلِكَ أَنَّهَا مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ»، وفي رواية في الصحيح: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، أوَ شَقَّ الْجُيُوبَ، أوَ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ»[5]، وذلك صريح في أن من دعا تلك الدعوى ليس منا، وهو دليل واضح على التحريم الشديد. قال أُبيٌّ: كنا نؤمر: «إِذَا الرَّجُلُ تَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهَنِ أَبِيهِ وَلَا تَكْنُوا»[6].
فانظر كيف سمى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك النداء «عَزَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ»، وأمر أن يقال للداعي به: «اعضض على هن أبيك»؛ أي: فرجه، وأن يصرح له بذلك ولا يعبر عنه بالكناية، فهذا يدل على شدة قبح هذا النداء، وشدة بغض النبي صلى الله عليه وسلم له.
واعلم أن رؤساء الدعاة إلى نحو هذه القومية العربية: أبو جهل، وأبو لهب، والوليد بن المغيرة، ونظراؤهم من رؤساء الكفرة.
وقد بيَّن تعالى تعصبهم لقوميتهم في آيات كثيرة؛ كقوله تعالى: ﴿ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [المائدة: 104]، وقوله تعالى: ﴿ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 170] وأمثال ذلك من الآيات.
واعلم أنه لا خلاف بين العلماء - كما ذكرنا آنفًا - في منع النداء برابطة غير الإسلام؛ كالقوميات والعصبيات النسبية، ولا سيما إذا كان النداء بالقومية يقصد من ورائه القضاء على رابطة الإسلام وإزالتها بالكلية؛ فإن النداء بها حينئذ معناه الحقيقي أنه نداء إلى التخلي عن دين الإسلام، ورفض الرابطة السماوية رفضًا باتًّا، على أن يتعاض من ذلك روابط عصبية قومية، مدارها على أن هذا من العرب، وهذا منهم أيضًا مثلًا؛ فالعروبة لا يمكن أن تكون خلفًا من الإسلام، واستبدالها به صفقة خاسرة؛ فهي كما قال الراجز:
بَدَّلْتَ بِالْجُمَّةِ رَأْسًا أَزْعَرًا
وَبِالثَّنَايَا الوَاضِحَاتِ الدُّرْدُرَا
كَمَا اشْتَرَى المُسْلِمُ إِذْ تَنَصَّرَا
وقد علم في التاريخ حال العرب قبل الإسلام وحالهم بعده كما لا يخفى.
وقد بين الله تعالى في محكم كتابه أن الحكمة في جعله بني آدم شعوبًا وقبائل هي التعارف فيما بينهم، وليست هي أن يتعصب كل شعب على غيره، وكل قبيلة على غيرها؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]، فاللام في قوله:﴿ لِتَعَارَفُوا ﴾ لام التعليل، والأصل لتتعارفوا، وقد حذفت إحدى التاءين، فالتعارف هو العلة المشتملة على الحكمة؛ لقوله: ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ﴾.
ونحن حين نصرِّح بمعنى النداء بالروابط العصبية والأوامر النسبية، ونقيم الأدلة على منع ذلك لا ننكر أن المسلم ربما انتفع بروابط نسبية لا تمت إلى الإسلام بصلة، كما نفع الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعمه أبي طالب، وقد بيَّن الله تعالى أن عطف ذلك العم الكافر على نبيه صلى الله عليه وسلم من منن الله عليه؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾ [الضحى: 6، 7]؛ أي: آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب.
ومن آثار هذه العصبية النسبية قول أبي طالب فيه صلى الله عليه وسلم:
وَاللَّهِ لَن يَصِلوا إِلَيكَ بِجَمعِهِم
حَتّى أُوَسَّدَ في التُرابِ دَفينا
وقد نفع الله بتلك العصبية النسبية شعيبًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام؛ كما قال تعالى عن قومه:﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ ﴾ [هود: 91].
وقد نفع الله بها نبيه صالحًا أيضًا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، كما أشار تعالى لذلك بقوله تعالى: ﴿ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ [النمل: 49]، فقد دلت الآية على أنهم يخافون من أولياء صالح، ولذلك لم يفكروا أن يفعلوا به سوءًا إلا ليلًا خفية، وقد عزموا أنهم إن فعلوا به ذلك أنكروا وحلفوا لأوليائه أنهم ما حضروا ما وقع بصالح خوفًا منهم، ولمَّا كان لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لا عصبية له في قومه ظهر فيه أثر ذلك، قال تعالى: ﴿ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴾ [هود: 80]، وقد قدَّمنا هذا مستوفًى.
فيلزم الناظر في هذه المسألة أن يفرق بين الأمرين، ويعلم أن النداء بروابط القوميات لا يجوز على كل حال، ولا سيما إذا كان القصد بذلك القضاء على رابطة الإسلام، وإزالتها بالكلية بدعوى أنه لا يساير التطور الجديد، أو أنه جمودٌ وتأخُّر عن مسايرة ركب الحضارة؛ نعوذ بالله من طمس البصيرة، وأن منع النداء بروابط القوميات لا ينافي أنه ربما انتفع المسلم بنصرة قريبه الكافر بسبب العواطف النسبية، والأواصر العصبية التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، كما وقع من أبي طالب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إِنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ»[7]، ولكن تلك القرابات النسبية لا يجوز أن تجعل هي الرابطة بين المجتمع؛ لأنها تشمل المسلم والكافر، ومعلوم أن المسلم عدو الكافر؛ كما قال تعالى:﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ﴾ [الحشر: 22].
والحاصل: أن الرابطة الحقيقية التي تجمع المفترق وتؤلف المختلف هي رابطة «لا إله إلا الله»، ألا ترى أن هذه الرابطة هي التي تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد واحد، وتجعله كالبنيان يشد بعضه بعضًا، عطفت قلوب حملة العرش ومن حوله من الملائكة على بني آدم في الأرض مع ما بينهم من الاختلاف قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [غافر: 7، 9].
فقد أشار تعالى إلى أن الرابطة التي ربطت بين حملة العرش ومن حوله، وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم، إنما هي الإيمان بالله عز وجل؛ لأنه قال عن الملائكة: ﴿ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾، فوصفهم بالإيمان، وقال عن بني آدم في استغفار الملائكة لهم: ﴿ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ﴾، فوصفهم أيضًا بالإيمان، فدل ذلك على أن الرابطة بينهم هي الإيمان، وهو أعظم رابطة.
ومما يوضح لك أن الرابطة الحقيقية هي دين الإسلام قوله تعالى في أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ﴾ [المسد: 3]، ويقابل ذلك بما لسلمان الفارسي من الفضل والمكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيه: «سَلمان مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ»[8].
لَقَد رَفَعَ الإِسلامُ سَلمانَ فارِسٍ
وَقَد وَضَعَ الشِركُ الشَريفَ أَبا لَهَب
وقد أجمع العلماء على أن الرجل إن مات، وليس له من القرباء إلا ابن كافر، أن إرثه يكون للمسلمين بأخوة الإسلام، ولا يكون لولده لصلبه الذي هو كافر، والميراث دليل القرابة، فدل ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من البنوة النسبية.
وبالجملة، فلا خلاف بين المسلمين أن الرابطة التي تربط أفراد أهل الأرض بعضهم ببعض، وتربط بين أهل الأرض والسماء - هي رابطة «لا إله إلا الله»، فلا يجوز البتة النداء برابطة غيرها، ومن والى الكفار بالروابط النسبية محبة لهم ورغبة فيهم، يدخل في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [المائدة: 51]، وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾ [الأنفال: 73]، والعلم عند الله تعالى[9].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.