مشاهدة النسخة كاملة : تأملات في قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (10)


حكاية ناي ♔
11-23-2023, 11:13 AM
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.



أما بعد:

فمن هدي القرآن للتي هي أقوم: هديه إلى حل المشاكل العالمية بأقوم الطرق وأعدلها، ونحن دائمًا في المناسبات نبين هدي القرآن العظيم إلى حل ثلاث مشكلات، هي من أعظم ما يعانيه العالم في جميع المعمورة ممن ينتمي إلى الإسلام، تنبيهًا بها على غيرها:

المشكلة الأولى: هي ضعف المسلمين في أقطار الدنيا في العَدد والعِدد عن مقاومة الكفار، وقد هدى القرآن العظيم إلى حل هذه المشكلة بأقوم الطرق وأعدلها؛ فبين أن علاج الضعف عن مقاومة الكفار، إنما هو بصدق التوجه إلى الله تعالى، وقوة الإيمان به والتوكل عليه؛ لأن الله قوي عزيز، قاهر لكل شيء، فمن كان من حزبه على الحقيقة لا يمكن أن يغلبه الكفار ولو بلغوا من القوة ما بلغوا.



فمن الأدلة المبينة لذلك:

أن الكفار لما ضربوا على المسلمين ذلك الحصار العسكري العظيم في غزوة الأحزاب المذكور في قوله تعالى: ﴿إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾ [الأحزاب: 10]، كان علاج ذلك هو ما ذكرنا، فانظر شدة هذا الحصار العسكري وقوة أثره في المسلمين، مع أن جميع أهل الأرض في ذلك الوقت مقاطعوهم سياسة واقتصادًا، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن العلاج الذي قابلوا به هذا الأمر العظيم، وحلوا به هذه المشكلة العظمى، هو ما بيَّنه تعالى في سورة الأحزاب بقوله: ﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 22].



فهذا الإيمان الكامل، وهذا التسليم العظيم لله تعالى ثقة به وتوكلًا عليه، هو سبب حل هذه المشكلة العظمى.



وقد صرح الله تعالى بنتيجة هذا العلاج بقوله تعالى: ﴿وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ [الأحزاب: 25 - 27].



وهذا الذي نصرهم الله به على عدوهم ما كانوا يظنونه، ولا يحسبون أنهم ينصرون به وهو الملائكة والريح؛ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 9]، ولما علم تعالى من أهل بيعة الرضوان الإخلاص الكامل، ونوَّه عن إخلاصهم بالاسم المبهم الذي هو الموصول في قوله: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: 18]؛


أي: من الإيمان والإخلاص.. كان من نتائج ذلك ما ذكره الله تعالى في قوله: ﴿وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾ [الفتح: 21]، فصرح تعالى في هذه الآية بأنهم لم يقدروا عليها، وأن الله تعالى أحاط بها فأقْدَرهم عليها، وذلك من نتائج قوة إيمانهم وشدة إخلاصهم.



فدلت الآية على أن الإخلاص لله وقوة الإيمان به هو السبب لقدرة الضعيف على القوي وغلبته له: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة: 249] وقوله تعالى ﴿لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا ﴾ [الفتح: 21]، فعل في سياق النفي، والفعل في سياق النفي من صيغ العموم على التحقيق، كما تقرر في الأصول ووجهه ظاهر؛ لأن الفعل الصناعي -أعني الذي يسمى في الاصطلاح فعل الأمر أو الفعل الماضي أو الفعل المضارع - ينحل عند النحويين وبعض البلاغيين عن مصدر وزمن، كما أشار له في الخلاصة بقوله:
المصدَرُ اسمُ ما سِوَى الزمانِ مِنْ
مَدلولَي الفعلِ كأَمْنٍ مِنْ أَمِنْ



وعند جماعة من البلاغيين ينحل عن مصدر وزمن ونسبة، وهذا هو الظاهر كما حرره بعض البلاغيين، في بحث الاستعارة التبعية.



فالمصدر إذًا كامن في مفهوم الفعل إجماعًا، فيتسلط النفي الداخل على الفعل على المصدر الكامن في مفهومه، وهو في المعنى نكرة؛ إذ ليس له سبب يجعله معرفة، فيؤول إلى معنى النكرة في سياق النفي، وهي من صيغ العموم.



فقوله: ﴿لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا﴾ [الفتح: 21]، في معنى: لا قدرة لكم عليها، وهذا يعم سلب جميع أنواع القدرة؛ لأن النكرة في سياق النفي تدل على عموم السلب وشموله لجميع الأفراد الداخلة تحت العنوان، كما هو معروف في محله.



وبهذا تعلم أن جميع أنواع القدرة عليها مسلوب عنهم، ولكن الله تعالى أحاط بها فأقدرهم عليها، لما علم من الإيمان والإخلاص في قلوبهم: ﴿وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [الصافات: 173].



المشكلة الثانية: هي تسليط الكفار على المؤمنين بالقتل والجراح، وأنواع الإيذاء، مع أن المسلمين على الحق، والكفار على الباطل.



وهذه المشكلة استشكلها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأفتى الله تعالى فيها، وبين السبب في ذلك بفتوى سماوية تتلى في كتابه تعالى.



وذلك أنه لما وقع ما وقع بالمسلمين يوم أحد، فقتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، ومثل بهما، وقتل غيرهما من المهاجرين، وقتل سبعون رجلًا من الأنصار، وجرح صلى الله عليه وسلم، وشقت شفته، وكسرت رباعيته، وشج صلى الله عليه وسلم.



استشكل المسلمون ذلك وقالوا: كيف ينال منا المشركون؟ ونحن على الحق وهم على الباطل؟! فأنزل الله قوله تعالى: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران: 165].



وقوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾، فيه إجمال بينه تعالى بقوله: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 152].



ففي هذه الفتوى السماوية بيان واضح؛ لأن سبب تسليط الكفار على المسلمين هو فشل المسلمين، وتنازعهم في الأمر، وعصيانهم أمره صلى الله عليه وسلم، وإرادة بعضهم الدنيا مقدمًا لها على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أوضحنا هذا في سورة «آل عمران»، ومن عرف أصل الداء عرف الدواء، كما لا يخفى.



المشكلة الثالثة: هي اختلاف القلوب الذي هو أعظم الأسباب في القضاء على كيان الأمة الإسلامية، لاستلزامه الفشل، وذهاب القوة والدولة؛ كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 64]، وقد أوضحنا معنى هذه الآية في سورة «الأنفال».



فترى المجتمع الإسلامي اليوم في أقطار الدنيا، يُضمر بعضهم لبعض العداوة والبغضاء، وإن جامل بعضهم بعضًا، فإنه لا يخفى على أحد أنها مجاملة، وأن ما تنطوي عليه الضمائر مخالف لذلك.



وقد بيَّن تعالى في سورة «الحشر» أن سبب هذا الداء الذي عمت به البلوى إنما هو ضعف العقل؛ قال تعالى: ﴿تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى﴾ [الحشر: 14]، ثم ذكر العلة لكون قلوبهم شتى بقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ﴾ [الحشر: 14]، ولا شك أن داء ضعف العقل الذي يصيبه فيضعفه عن إدراك الحقائق، وتمييز الحق من الباطل، والنافع من الضار، والحسن من القبيح، لا دواء له إلا إنارته بنور الوحي؛ لأن نور الوحي يحيا به من كان ميتًا، ويضيء الطريق للمتمسك به؛ فيريه الحق حقًّا والباطل باطلًا، والنافع نافعًا، والضار ضارًّا؛ قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 122]، وقال تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 257]، ومن أخرج من الظلمات إلى النور أبصر الحق؛ لأن ذلك النور يكشف له عن الحقائق فيريه الحق حقًّا، والباطل باطلًا، وقال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الملك: 22]، وقال تعالى: ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾ [فاطر: 19 - 22]، وقال تعالى: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [هود: 24]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الإيمان يكسب الإنسان حياة بدلًا من الموت الذي كان فيه، ونورًا بدلًا من الظلمات التي كان فيها.



وهذا النور العظيم يكشف الحقائق كشفًا عظيمًا؛ كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [النور: 35]، ولما كان تتبع جميع ما تدل عليه هذه الآية الكريمة من هدي القرآن للتي هي أقوم يقتضي تتبع جميع القرآن وجميع السنة؛ لأن العمل بالسنة من هدي القرآن للتي هي أقوم؛ لقوله تعالى: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: 7]، وكان تتبُّع جميع ذلك غير ممكن في هذا الكتاب المبارك، اقتصرنا على هذه الجمل التي ذكرنا من هدي القرآن للتي هي أقوم تنبيهًا بها على غيرها، والعلم عند الله تعالى[1].



والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

بلسم الروح
11-23-2023, 11:19 AM
جزاك الله خير الجزاء
دمت برضى الله وحفظه ورعايته