مشاهدة النسخة كاملة : مقاصد السنة النبوية (6) حفظ الأمن


حكاية ناي ♔
11-27-2023, 03:18 PM
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:
الأمن نعمة من نعم الله تعالى العظمى، وبتحققه يطمئن الإنسان على دينه، ونفسه، وعِرضه، وماله، ولا يمكن حفظ هذه الضروريات إلاَّ بكفِّ كلِّ أشكال الاعتداء عليها، وضبط الأمن بما يكفل حفظها؛ لذا كان الأمن من أهم مقاصد الشريعة المباركة بشقَّيها؛ الكتاب والسنة، وبالأمن يُحفظ النظام العام للأمة؛ ولذا كثرت الأحاديث النبوية التي تؤكد وتنشر ثقافة الأمن ومعانيه السامية في التعامل مع الناس، وتنهى عن الصفات الذميمة الجالبة للعداوة والبغضاء والمناقضة للأمن، وجاء تحريم الاعتداء على الآمنين في جميع الشرائع، فضلًا عن الشريعة الخاتمة، والسنة النبوية أولت موضوع الأمن عناية كبيرة؛ في تحديد مفهومه وأهميته في السِّلم والحرب، بين المسلمين وغير المسلمين، من المُستأمنين وغيرهم[1].

والأمن في الإسلام مقصدٌ هامٌّ من مقاصده؛ إذ بتحقُّقه تُعمَر الأرض، وتُبنى الحضارات، وتزدهر المجتمعات، وعلى مدار التاريخ البشري لم تقم حضارةٌ على الإطلاق إلاَّ في ظلِّ توفير الأمن، وقد جعل اللهُ نِعمةَ الأمن من النعم العظيمة التي يمتنُّ بها على عباده، قال تعالى: ﴿ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش: 4]، وقال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [القصص: 57].

والأمن لا يتحقَّق إلاَّ بتحقَّق خمسةِ مقاصد (حفظ الدِّين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال)، وقد سبق ذِكرُها مُستقِلَّة؛ إذ أنها تُمثِّل مُجتمِعَةً الوسائلَ والإجراءات التي إذا تمَّ تطبيقُها واقعًا عمليًّا في حياة الناس لكان الأمن نتيجة طبيعية، ذلك لأنَّ جميع الجرائم مَرَدُّها إمَّا إلى الدِّين أو الشهوة أو المال، وقد وضعت الشريعة ما يُمَكِّن من حفظ الدِّين ويحمي حريَّة الاعتقاد، ثمَّ حرَّمت الزنا وغيرَه ممَّا يتعلَّق بالتَّعدِّي على الأنساب والأعراض، ثم حرَّمت التَّعدِّي على الأموال وأكلَها بالباطل، وضَمِنَت حفظَ النفس وصيانتَها من القتل والتَّعدِّي فكان القصاص، ومن ثَمَّ إذا سُدَّت السُّبل والطرق إلى ارتكاب هذه الجرائم لِمَا وضعته الشريعة من إجراءات ورتَّبته من عقوبات في الدنيا والآخرة، فالأمن سوف يتحقَّق لأنَّ الناس سيأمنون على دينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم، وكأنَّ هذه المقاصد الخمسة إنما وُضِعَتْ لضمان أمن الناس وسلامتهم، وهذا من عظمة الشريعة الإسلامية وتكاملِها، واتِّساع نظرتِها.

تعريف الأمن:
الأمن لغة: نَقِيضُ الخوف، أو ضِدُّ الخوف؛ لأنهما لا يجتمعان أبدًا.

والأمن مصدر أمِن يأمن، أي: اطمأنَّ وزال خوفُه، وسكن قلبُه، وأمِن البلدُ: اطمأنَّ به أهلُه فهو آمِن وأمين، قال سبحانه: ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ﴾ [الدخان: 51][2].

الأمن اصطلاحًا: مما جاء في تعريفه: (الأمن: عدم توقُّع مكروهٍ في الزمان الآتي)[3]. ولا يخرج تعريف الأمن اصطلاحًا عن معناه اللغوي؛ فيرجع إلى الطمأنينة، والسِّلم، والإجارة، وطلب الحماية، عدم الخيانة، والحفظ، والدِّين، والقوة.

حقيقة الأمن:
يتَّضح من خلال التعريفات السابقة بأن حقيقة الأمن هي طمأنينة النفس، وسكينة القلب، وزوال الخوف، وبالتالي يُصبح له مفهوم شمولي مُتكامل يُحيط بكلِّ جوانب الأمن المختلفة، وصوره المُتعدِّدة، بما يُحقِّق مصالح كلِّ الناس التي يخافون عليها ويحرصون على حِفظها ورعايتها، بجلب النفع وتحقيقه، ودفع الضُّر وإزالته[4].

أهمية الأمن في حياة الناس:
الأمن مهم جدًا في حياة الناس، حيث بدونه يلحق الناس ضرر وحرج، وضيق وألم، وخوف واضطراب، واختلال توازن الحياة عمومًا، وهذا ما بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا)[5]. وجه الدلالة: دل الحديث على أهمية الأمن بأنواعه المختلفة؛ الأمن المادي، والأمن النفسي، والأمن الصِّحي، والأمن الغذائي في حياة الناس، وقدَّم الأمنَ بمعنى عدم الخوف من التَّعدِّي على غيره؛ لأنه أساس لتحقُّق غيره، وما عداه مُرتَّبٌ عليه.

والمراد: أنَّ (مَنْ جَمَعَ الله له بين عافيةِ بَدنِه، وأمْنِ قَلبِه حيث تَوَجَّه، وكفافِ عيشه بِقُوت يومه، وسلامةِ أهلِه، فقد جَمَعَ الله له جميعَ النِّعم التي مَنْ مَلَكَ الدنيا لم يحصل على غيرها، فينبغي ألاَّ يستقبل يومَه ذلك إلاَّ بِشُكرِها بأنْ يصرفها في طاعة المُنْعِم، لا في معصيةٍ، ولا يفتر عن ذِكره)[6].

وسائل المحافظة على الأمن في السنة النبوية:
لم تقتصر الشريعة على المقاصد الخمسة العليا التي من شأنها تحقيق الأمن وتوفير الأمان في المجتمع لكافَّة أفراده بصرف النظر عن الدِّين أو اللَّون أو العرق، وإنما زيادةً في الحرص على تحقيق الأمن جاءت السنة النبوية بِعِدَّة وسائل؛ لتحقيق مقصد المحافظة على الأمن، ومن أهم هذه الوسائل:
1- مراعاة حقوق الجيران، وتوفير الأمن لهم؛ وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ). قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قال: (الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ[7])[8]. فالنبي صلى الله عليه وسلم يؤكد على تحقيق نعمة الأمن والأمان بين الجيران، والأمر يصبح شنيعًا جدًا إذا أصبح الجار لا يأمن على نفسِه، ودينِه، وعرضِه، ومالِه من جاره. قال ابن بطال - رحمه الله: (هذا الحديث شديد في الحض على ترك أذى الجار، ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أكَّد ذلك بِقَسَمِه ثلاثَ مرات أنه: "لاَ يُؤْمِنُ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ"، ومعناه: أنه لا يؤمن الإيمان الكامل، ولا يبلغ أعلى درجاته مَنْ كان بهذه الصفة، فينبغي لكلِّ مؤمنٍ أنْ يحذر أذى جاره، ويرغب أن يكون في أعلى درجات الإيمان، وينتهي عمَّا نهاه الله ورسوله عنه، ويرغب فيما رَضِيَاه وحَضَّا العبادَ عليه)[9].

وقال صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)[10]. والحديث يؤكد على أنَّ من علامات ضعف الإيمان إيذاء الجيران. قال النووي - رحمه الله: (وفي معنى: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ" جوابان يجريان في كلِّ ما أشبه هذا: أحدهما: أنه محمولٌ على مَنْ يستحلُّ الإيذاءَ مع عِلمه بتحريمه، فهذا كافرٌ لا يدخلها أصلًا. والثاني: معناه جزاؤه ألاَّ يدخلها وقتَ دخول الفائزين إذا فُتِحَتْ أبوابها لهم، بل يؤخَّر، ثم قد يُجازى، وقد يُعفى عنه فيدخلها أوَّلًا، وإنما تأوَّلْنا هذين التأويلين؛ لأنَّا قدَّمنا أنَّ مذهب أهل الحق: أنَّ مَنْ مات على التوحيد مُصِرًّا على الكبائر، فهو إلى الله تعالى؛ إنْ شاء عفا عنه فأدخله الجنة أولًا، وإنْ شاء عاقَبَه، ثم أدخله الجنةَ)[11].

والجار في الإسلام لا يُقصد منه الجار المسلم فقط، وإنما أيضًا غير المسلم؛ إذ جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم للجار حقوقًا، وهكذا أعلى الإسلام من القيمة بصرف النظر عمَّن يستفيد منها، وهذا يؤدِّي إلى تحقيق قدرٍ من الأمن في محيط البيئة الصغيرة التي تشمل الشارع والحي والقرية، والتي يتألف منها المجتمع، فإذا تحقَّق الأمن في مستوياته الدنيا، فمِمَّا لا شكَّ فيه أن يتحقَّق في مستوياته العليا، فيحدث الأمن الاجتماعي التي يشمل المجتمع بأسره، فيتحقَّق مقصد الإسلام من وراء الدعوة إلى حقوق الجار، وكف الأذى عنه.

2- مراعاة حقوق الناس وعدم الاعتداء عليهم وعلى وأموالهم؛ وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)[12]. و(المعنى: إنَّ هذا هو المسلم الكامل[13]، كما تقول العرب: المال الإبل: أي: هي أفضل الأموال. والشِّعر زُهير، والجُود حاتم. والمراد: إنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده فهو الذي قام بحقوق الإسلام؛ لأنَّه عمل بمقتضى ما قال)[14]. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ)[15]. وفي رواية: (الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ)[16].

وهكذا تتَّسع الدَّائرة في التعامل، فتنتقل من الجار إلى غيره من أفراد المجتمع في كلِّ مكان، فكأنَّ الحديث مُوَجَّهٌ إلى المسلم أن يُراعي حرمة الدم والمال والنفس والعِرض لكلِّ أفراد المجتمع، والتعبيرُ بالناس لِيشملَ كلَّ الناس؛ مسلمهم وغير مسلمهم مِمَّن يُشاركونه البلد الذي يعيشون فيه، والوطن الذي ينعمون به، مُحقِّقًا بذلك قِيمَةَ المواطنة التي يتشدَّق بها المتشدِّقون، ولا سيما في الفترة الأخيرة من زمننا الذي نعيش فيه، وهذه الدعوة إلى احترام حقوق الآخَرِين وعدم التعدِّي عليها، يستفيد منها الفرد نفسه؛ إذ أنه مُكلَّفٌ فقط بكفِّ أذاه عن الآخَرين، وفي المقابل كَلَّف الحديثُ ملايين الناس بكفِّ أذاهم عنه، فهي مصلحةٌ مُشتركة يعود نفعها على الفرد والمجتمع، ولعلَّ أبرز ثمرتها وأعظمها هي نعمة الأمن والأمان.

3- التحذير من ترويع الناس، لاعِبًا أو جادًّا؛ ومما جاء في ذلك؛ عن عبد الرحمن بن أبي ليلي قال: حدَّثنا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَامَ رَجُلٌ منهم، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إلى حَبْلٍ معه، فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا)[17]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ لاَعِبًا أو جَادًّا، فَمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ؛ فَلْيَرُدَّهَا)[18]. وقال صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَشَارَ إِلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ؛ فَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ تَلْعَنُهُ حَتَّى يَدَعَهُ، وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ)[19]. قال النووي - رحمه الله: (فيه تأكيد حُرمة المسلم، والنهي الشديد عن ترويعه، وتخويفه، والتَّعَرُّض له بما قد يؤذيه، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وَإِنْ كَانَ أَخَاهُ لأَبِيهِ وَأُمِّهِ" مُبالغةٌ في إيضاح عموم النهي في كلِّ أحدٍ؛ سواء مَنْ يُتَّهم فيه، ومَنْ لا يُتَّهم، وسواء كان هذا هزلًا ولَعِبًا أم لا؛ لأنَّ ترويعَ المسلم حرام بكلِّ حال، ولأنَّه قد يسبقه السِّلاح، كما صرح به في الرواية الأخرى)[20]. ونصُّها: (لاَ يُشِيرُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيهِ بِالسِّلاَحِ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِي أَحَدُكُمْ، لَعَلَّ الشَّيْطَانَ يَنْزِعُ في يَدِهِ[21]، فَيَقَعُ فِي حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ[22])[23].

وهذا النهي النبوي، والتحذير المُبالغ فيه إنما يدلُّ على مدى اعتناء السنة النبوية بمقصد الأمن وبتحقيقه؛ حيث لم تكتفِ السُّنةُ النبوية ببيان العقاب وتحديده، وإنما قَطَعت الطُّرقَ والسُّبلَ الموصلة إليه ابتداءً؛ حسمًا لمادة الشر، ودفعًا لما قد يترتَّب عليه من مضار محتملَة تؤدي إلى ذهاب الأمن، وانتشار الفزع والخوف والفوضى في المجتمع، وما نراه اليوم من مظاهر سلبية تعرضها القنوات والفضائيات من ترويعٍ للآمنين، وتخويف بدعوى المرح والضحك، كلُّه ممَّا يُنافي آداب الإسلام، ويُخالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، الذي حَرَّم مجرَّد التخويف والترويع، ولو من باب المزاح والضحك.

كما أنَّ فيه ردًّا بالغًا على مَنْ يُحاولون إلصاقَ تُهمةِ الإرهاب بالإسلام والمسلمين، إذ كيف يدعو إلى الإرهابِ والقتل دِينٌ من مبادئه عدمُ الترويع والتخويفِ، ولو من باب المزاح والضحك؟ إنَّ المفارقةَ كبيرةٌ، والبونَ شاسعٌ، ونحن نرد، لا لِنَمحو تهمةً، وإنما لِنُبَيِّنَ سُخفَ تفكيرهم، وسوءَ نيَّاتهم، وسذاجةَ استدلالهم.

4- التحذير من إيذاء مشاعر الناس بالسب والازدراء، والتحقير؛ وفيه أحاديث كثيرة، منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ[24]، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)[25]. قال النووي - رحمه الله: (سَبُّ المسلم بغير حقٍّ حرامٌ بإجماع الأمة، وفاعِلُه فاسق؛ كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأمَّا قتاله بغير حق فلا يكفر به عند أهل الحق كفرًا يخرج به من الملة؛ كما قدمناه في مواضع كثيرة، إلاَّ إذا استحلَّه.

فإذا تقرر هذا؛ فقيل في تأويل الحديث أقوال: أحدها: أنه في المُستَحِل، والثاني: أن المراد كفر الإحسانِ والنِّعمةِ وأخوةِ الإسلام، لا كفر الجحود، والثالث: أنه يؤول إلى الكفر بشؤمه، والرابع: أنه كفِعل الكفار)[26].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَنَاجَشُوا، ولا تَبَاغَضُوا، ولا تَدَابَرُوا، ولا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا؛ الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لاَ يَظْلِمُهُ، ولا يَخْذُلُهُ، ولا يَحْقِرُهُ، التَّقْوَى هَا هُنَا، وَيُشِيرُ إلى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ)[27].

قال النووي - رحمه الله: (قوله: "بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ" فيه تحذيرٌ عظيم من ذلك؛ لأنَّ الله تعالى لم يحقره، إذ خلَقَه ورَزَقَه، ثم أحسن تقويمَ خَلْقِه، وسخَّر ما في السموات وما في الأرض جميعًا لأجله، وإنْ كان له ولغيره فله من ذلك حصَّة، ثم إنَّ الله سبحانه سمَّاه مسلمًا، ومؤمنًا، وعبدًا، وبلغ من أمره أنْ جعل الرسولَ منه إليه محمدًا صلى الله عليه وسلم، فمَنْ حقَّر مسلمًا من المسلمين، فقد حقَّر ما عظَّم الله عز وجل وكافِيهِ ذلك؛ فإنَّ من احتقار المسلم للمسلم ألاَّ يُسلِّم عليه إذا مرَّ، ولا يردَّ عليه السلام إذا بدأ به، ومنها: أن يراه دون أن يُدخله اللهُ الجنة، أو يُبْعِدَه من النار.

وأما ما ينقمه العاقلُ على الجاهل، والعدلُ على الفاسق، فليس ذلك احتقارٌ للمسلم، بل لِمَا اتَّصف به الجاهل من الجهل، والفاسق من الفسق، فمتى فارقَ ذلك راجَعَه إلى احتفالِه به، ورفْعِ قَدْرِه)[28].

وهناك أحاديث كثيرة تنشر ثقافة الأمن ومعانيه في التعامل بين الناس، فتدعو إلى إفشاء السلام، وإطعام الطعام، والتبسم في وجوه الناس ومصافحتهم، وتدعو إلى تفريج الكربات، والتيسير على المعسر، ومساعدة المحتاج، والتعاون على الخير، وتدعو إلى التَّحاب، والتراحم، والرفق بالضعيف، والتوقير للكبير، وصلة الأرحام، والتخلُّق بالأخلاق الفاضلة.

وتنهى عن أضداد هذه الصفات؛ من التهاجر، والتحاسد، والفظاظة، والتباغض، وسوء الظن، والغيبة، والنميمة، وتنهى عن كل الأخلاق القبيحة[29].

والمجتمع الذي تسود فيه مشاعر الحب والمودَّة والسلام والتواضع والاحترام وآداب التعامل، وتختفي عنه مظاهر الحقد والبغض والحسد والتفاخر والازدراء، هذا المجتمع بلا شكٍّ مجتمعٌ آمِن، يأمن فيه الفرد على نفسه وماله وعِرضه، ليس بقوة القانون وتشريع العقوبات فقط، وإنما بقوةٍ أُخرى لا تمتلكها الأنظمة المعاصرة، وهي قوة الخُلُق والوازع الدِّيني، فالأخلاق والآداب وما يوجد داخلَ كلِّ فردٍ من أفراد المجتمع من وازعٍ ديني يدفعان صاحبَهما إلى تطبيق هذه الأخلاق واقعًا عمليًّا، فَيُكَوِّن المجتمعَ الآمن، وهذا ليس من قبيل الترف الفكري أو التَّنظير الكلامي أو الكتابي الذي يصطدم مع الواقع، بل إنَّ التاريخ يُثبت صِدْقَ هذا الكلام في عصر النبوة والخلافة الراشدة، فإذا احتجَّ علينا بعضهم؛ بأنَّ هذا العصر هو عصر النبوة والصحابة - رضي الله عنهم -، قلنا لهم: كذلك وُجِدَ هذا المجتمع في عصور الازدهار وسيادة الحكم الإسلامي، وبعودة سريعة إلى كتب التاريخ نجد أنَّ الحدود التي أُقيمت على مدار أربعةِ قرونٍ في دولةٍ متراميةِ الأطراف لم تتجاوز أعدادًا قليلةً بالمقارنة إلى سعة الدولة وترامي أطرافها، وفي هذا دليلٌ على شيوع الأمن والاستقرار المرتبط بالتربية الأخلاقية للمجتمع المسلم.

وعليه؛ فإنَّ الخلل اليوم في المجتمعات الإسلامية سببه غياب الأمن فيها، ومرجعه في المقام الأوَّل يعود إلى ضعف التربية الإيمانية والأخلاقية، وتفلُّت المسلمين من هذا الالتزام الأخلاقي إلاَّ مَنْ رحم ربِّي.

5- تغليظ حرمة الدماء والأعراض والأموال في الإسلام؛ وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)[30]. وقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ؛ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا)[31]. و(المعنى: أنه في أيِّ ذنبٍ وقع، كان له في الدِّين والشَّرع مخرجٌ إلاَّ القتل، فإنَّ أمره صعب)[32]. ولذا قال عبدُ اللَّهِ بنُ عُمَرَ - رضي الله عنهما -: (إِنَّ مِنْ وَرَطَاتِ[33] الأُمُورِ التي لاَ مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فيها؛ سَفْكَ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ)[34].

وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا)[35]. وهو (محمولٌ على التعذيب بغير حقٍّ، فلا يدخل فيه التعذيب بحقِّ؛ كالقصاص، والحدود، والتَّعزير، ونحو ذلك)[36]. وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ من قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ)[37].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ)[38]؛ وذلك لِعِظَمِ القتل عند الله تعالى وشِدَّته. قال النووي - رحمه الله: (فيه تغليظ أمرِ الدماء، وأنها أوَّل ما يُقضى فيه بين الناس يوم القيامة؛ وهذا لِعِظَمِ أمرها، وكثيرِ خطرِها، وليس هذا الحديث مخالفًا للحديث المشهور في السنن: (أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ صَلاَتُهُ)[39]؛ لأنَّ هذا الحديث الثاني فيما بين العبد وبين الله تعالى، وأما حديث الباب فهو فيما بين العبادِ)[40].

6- منع الضَّرر والظلم بكل أشكاله وأصنافه؛ حفظًا للأنفس والأموال والأعراض وسائر مصالح الناس، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ ضَرَرَ، وَلاَ ضِرَارَ)[41]، عدَّ أهل العلم هذا الحديث من قواعد الدِّين العامة التي تدور عليها كثير من الكليات والجزئيات[42]، وفسَّروا الضرر والضِّرار بما يلي[43]:
أ- هما لفظان بمعنى واحد، تكلَّم بهما جميعًا على وجه التأكيد. قال بعضهم: الضرر عند أهل العربية الاسم، والضرار الفعل.

ب- الضَّرر: أنْ تضر غيرَك؛ لتنتفع بذلك، والضِّرار: أنْ تضرَّه من غير أنْ تنتفع.

ج- الضَّرر: هو الابتداء بالأذى، والضِّرار: هو الجزاء على الضرر. ولا ريب أنَّ جميع الاعتداء على الأشخاص والممتلكات العامة والخاصة داخلة في الضرر والضرار الذي حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم منه.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ ضَارَّ أَضَرَّ اللهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللهُ عَلَيْهِ)[44]. (مَنْ ضَارَّ) أي: مَنْ أدخل على مسلم؛ جارًا كان أو غيرَه مَضَرَّةً في ماله، أو نفسِه، أو عِرضِه بغير حق، (أَضَرَّ اللهُ بِهِ) أي: جازاه من جنس فِعله، وأدخل عليه المَضَرَّة (وَمَنْ شَاقَّ) المُشاقة: المُنازعة، أي: مَنْ نازع مُسلمًا ظُلمًا وتعدِّيًا، (شَاقَّ اللهُ عَلَيْهِ) أي: أنزل اللهُ سبحانه عليه المشقةَ جزاءً وفاقًا، والحديث فيه دليل على تحريم الضِّرار على أيِّ صفةٍ كانت[45].

7- مُعاقبة المعتدين على أمن الناس وأبدانهم وأموالهم وأعراضهم؛ فكل مَن تعدَّى على أموال الناس وأبدانهم وأعراضهم وتسبب في زعزعة الأمن؛ يُعاقب بعقوبات رادعة، ومنها:
أ- قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قُتِلَ له قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إِمَّا أَنْ يُفْدَى، وَإِمَّا أَنْ يُقْتَلَ)[46]. وجه الدلالة: (وَلِيُّ المقتول بالخيارين؛ إنْ شاء قتل القاتل، وإنْ شاء أخذ فداءَه، وهي الدِّية)[47]. فهذا (حضُّ وندبٌ لأولياء القتيل أنْ ينظروا خَيْرَ نَظرٍ: فإنْ كان القصاص خيرًا من أخذ الدِّية؛ اقتصوا ولم يقبلوا الدِّية، وإنْ كان أخذُ الدِّية أقربَ إلى الألفة، وقطع الضغائن بين المسلمين؛ فُعِلَتْ من غير جَبرِ القاتل على أخذِها منه)[48].

ب- وقوله صلى الله عليه وسلم: (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ)[49]. وجه الدلالة: أن المسلمين تتساوى دماؤهم في القصاص والديات، لا فرق بين عبد وحر، وذكر وأنثى، ووضيع وشريف؛ لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم سوَّى بينهم في الدِّماء، فوجب أن يكون حكمُهم فيما دون الدماء سواء[50].

الخلاصة: جاءت الشريعة الإسلامية مُحقِّقة لمقاصد، بها تنتظم حركةُ الحياة، ويَحدث التوازن والاعتدال في المجتمع، ويتحقَّق الأمن والاستقرار، فتزدهر المجتمعات، وتعمر الأرض على وفق مراد الله ومنهجه.

وجاءت هذه المقاصد مُستوعبة لِمَا يُحقِّق الهدف الأسمى من الحياة، وهو عبادة الله وعمارة الأرض، فكانت مقاصد: حفظ الدِّين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال هي المنوط بها تحقيق هذا الهدف الأسمى، وهذه المقاصد الخمسة يمكن دمجها جميعًا في عنوان جامع وشامل؛ وهو (الأمن)، فالأمن هو النتيجة الحتمية لتحقيقها، كما أنه الهدف الأساس من تشريعها.

والمتتبع لهذه المقاصد وما تضمَّنته من أحكامٍ يجد مدى الترابط والتسلسل المنطقي الذي يجمع بينها، كما يجد مدى استيعابها وشمولها لكلِّ ما يُحقِّق مصلحة الإنسان على المستوى الفردي والمستوى الجماعي، وكذا مصلحة المجتمع الإنساني الذي خلقه الله وكرَّمه، وبيَّن له المنهج والهدف والطريق، وبقي عليه أن يُحَكِّمَ عقلَه، ويفتحَ قلبه لنداء ربِّه، ودعوةِ نبيِّه؛ لِتُنقَذَ البشرية المُعذَّبة في ضَلالها، وبِضَلالِها وغيِّها.

وقد وقفت السنة النبوية شامخةً عالية، مُعلنةً هذه المقاصد، ومناديةً بتحقيقها لبني الإنسان في كلِّ زمان ومكان؛ فَبَسطَت الأحاديثَ التي سلكتْ كلَّ طريقٍ لتحقيق هذه المقاصد؛ فكان طريق الهداية والإرشاد والبيان؛ فبيَّنت المقاصد وأرشدت إليها، وحثَّت عليها، ودعت إليها.

وكان طريق الزجر والرَّدع؛ بأن رتَّبت الأحكام، وشَرَعت العقوبات الرادعة، والتي ينالها مَنْ يتعدَّى على هذه المقاصد، وتلك الحدود. وكان طريق الإغراء ومخاطبة الفطرة السليمة، والقلب العامر بالإيمان؛ بأن يستجيب لِمَا يحقِّق السعادة لنفسه ولبني الإنسان معتمدةً على هذا الرصيد الإيماني الذي امتلأت به قلوب أتباعه صلى الله عليه وسلم ومُحبِّيه.

وكان طريق التربية الخُلقية، والتزام الآداب الإسلامية؛ لتتحوَّل النظريات والمثاليَّات إلى واقعٍ معاش، ولِتُحَوَّلَ الإسلام إلى كائنٍ حيٍّ مُتحرِّك في قلب المجتمعات، فنجده في الشوارع والطرقات وفي المدارس والمستشفيات وفي المحال والوزارات، وفي كل مكان نجد السمت الإسلامي وما يتميَّز به من أدبٍ راقٍ، وخلق رفيع.

وهكذا يتحقَّق الأمن والاستقرار في المجتمعات، وليس هناك من سبيلٍ، ولا من طريقٍ إلاَّ الطريق الإسلامي، مهما شرَّقنا أو غرَّبنا، ومهما استوردنا من حلولٍ واستجلبنا من نظريات، والله غالب على أمره.

اعشق ملامحك
11-27-2023, 03:26 PM
بارك الله فيك
وجزاك الفردوس الاعلى ان شاء الله
دمت بحفظ الله ورعايته