مشاهدة النسخة كاملة : مقاصد السنة النبوية (4) حفظ النسل


حكاية ناي ♔
11-27-2023, 03:20 PM
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

معنى النَّسْل في اللغة:
الولد، ونَسَلَ نَسْلاً من باب ضرب: كثر نَسْلُه، وتناسلوا: توالدوا[1]، ويراد به في الشَّرع: الولد والذُّرية التي تعقب الآباء وتخلفهم.

وحِفظُ النوع الإنساني على الأرض بواسطة التناسل؛ لذا جعل الله تعالى الزواج سنةً في عباده، وآيةً من آياته العظيمة الدالة على عظمته، وقد وضع الله تعالى في الذَّكر والأنثى دوافعَ طبيعية ونوازعَ فِطرية تكفل للنوع الإنساني البقاء والاستمرار، منذ عهد آدم وحواء إلى وقتنا الحاضر، بل إلى أن يأذن الله سبحانه بفناء العالَم، ويرث الأرض ومَنْ عليها، وعزَّز تلك الدوافع والنوازع بضوابط وقواعد تكفل للنَّسل أحسن السُّبل، وأسلم الطُّرق، وأكرمها في الوجود والاستمرار.

وحب البقاء، والشوق إلى دوام الحياة فِطرةٌ بشرية تجعل النفوسَ نزَّاعة إلى الخلف؛ لأنها ترى فيه امتداداً لحياتها، وقد كفلت الشريعة الإسلامية حفظ النسل، وجعلت حفظ النسل مقصداً من مقاصدها التي يُراد تحقيقها بتطبيقها، إذ أنَّ حفظ النسل قد أُحيط بسياجٍ من تشريعاتٍ متعددةٍ ومتنوعة، تَقصد جميعها إلى تحقيق هذا المقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية.

أمَّا عن ترتيبه في جملة المقاصد، فهو يمثِّل المقصد الرابع بعد حفظ الدِّين والنفس والعقل، وبذلك يحتل درجةً رفيعة ومنزلةً متقدِّمة حيث إنَّ حفظ الدِّين هو المقصد الأوَّل الذي من أجله خلق الله الخلق، ثمَّ حفظ النفس وهي الوعاء، ثمَّ حفظ العقل، وهو جزءٌ لا يتجزَّأ عن النفس، ثمَّ حفظ النسل، وهو نتاج المقصد الثاني والثالث، فبدون تحقُّق هذين المقصدين لا يمكن بأيِّ حال تحقيق مقصدِ حِفْظِ النفس.

والإسلام حرص كلَّ الحرص على الإنسان، ذلك الكائن الكريمُ على الله تعالى، الذي خلقه وكرَّمه، وأودع فيه من آياته، ومن أجله خلق الكونَ وما فيه وسخَّره له؛ لذا قدَّمته الشريعة الإسلامية الإلهية على الماديات، فكانت المقاصد الأربعة، وآخِرُها حفظ النسل متمركزة حول الإنسان، ثمَّ جاء مقصد حفظ المال وما في معناه من الممتلكات المختلفة تالياً، وهكذا يتقدَّم مقصد حفظ النسل على المادة والمال، فتتَّضح مكانته وتبرز أهميته في الشريعة الإسلامية.

وسائل المحافظة على النَّسْل:
من أجل تحقيق هذا المقصد العظيم، شرع الإسلامُ المبادئ والتشريعات التالية:
الوسيلة الأولى: الإيجاد وتحقيق المصالح:
فحفظ النسل في الشريعة الإسلامية مرتبط بقضية جوهرية وأساسية، وهي قضية وجود هذا النسل، حيث وضعت الشريعة الإسلامية منهجاً واضحاً ومحدَّداً، يتمثَّل في نظام النكاح الإسلامي؛ ليكون الطريقَ الشرعي الوحيد الذي يوجد منه النسل، وهذا المنهج يتضمَّن عدة محاور، وهي:
أوَّلاً: مشروعية النِّكاح: شرع الإسلامُ النِّكاح، ورغَّب فيه، واعتبره الطريقَ الفِطري النظيف، الذي يلتقي فيه الرجل بالمرأة، لا بدوافع غرِيزيَّة محضة، ولكن بالإضافة إلى تلك الدوافع، يلتقيان من أجل تحقيق هدف سامٍ نبيل؛ هو حفظ النوع الإنساني، وابتغاء الذرية الصالحة التي تعمر العالَم، وتبني الحياة الإنسانية، وتتسلَّم أعباء الخلافة في الأرض؛ لتسلمها إلى مَنْ يخلُف بعدها حتى يستمر العطاء الإنساني، وتزدهر الحضارة الإنسانية، في ظِلِّ المبادئ النبيلة، والقيم الفاضلة.

والنِّكاح: هو (عَقْدٌ بين الزَّوْجَيْنِ يَحِلُّ بِهِ الْوَطْءُ)[2]، واتَّفق العلماء: على أنَّ النكاح في حالة التَّوَقان والخوف من الوقوع في الحرام واجب، وأما في حالة الاعتدال فقال الجمهور: بأنه مندوب[3].

مقاصد الزواج الأصلية والتَّبعِيَّة: الزواج له مقصد أصلي، ومقاصد أخرى تبعيَّة مُكمِّلة للمقصد الأصلي، وهي على النحو التالي:

المقصد الأصلي للزواج: المحافظة على النَّسل، وحِفْظُه من الانقطاع:
الله تعالى خلق الشهوة في الرجل والمرأة كقوَّةٍ دافِعة، وقاهرة في كِلا الطَّرفين؛ كي تكون سبباً تجعل كُلاًّ منهما يتطلع إلى لقاء الآخَر بوازع طبيعي قاهر، ولا يختلف عن وازع الأكل والشرب إلاَّ بالاعتبار، والمصلحة الأصلية لمشروعية الزواج هي المحافظة على النسل إيجاداً وإبقاءً، لذا أجمع العلماء: على أنَّ المحافظة على النسل من المقاصد الضرورية الخمسة، وعلى هذا فإنَّ فكرة تحديد النسل، ومحاربة تعدد الزوجات، تُناقِضُ قصد الشارع الحكيم إنْ كانت مبدأً عاماً لحياة الأمة الإسلامية، وأما في حالة الضرورة الخاصة فإنَّ ذلك يُقدَّر بقدرها، ويخضع لأحكامها.

التوصل إلى الولد بالزواج يكون قُربةً من أربعة أوجه:
1- موافقة محبَّة الله بالسعي في تحصيل الولد؛ لإبقاء جنس الإنسان.

2- نيل محبة النبي صلى الله عليه وسلم في تكثير أُمَّته من بين الأمم؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأُمَمَ)[4].

3- الانتفاع بدعاء الولد الصالح بعده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاَثَةٍ؛ إِلاَّ مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ)[5].

4- حصول الشفاعة بموت الولد الصغير إذا مات قبله؛ لقوله صلى الله عليه وسلم - للنساء: (مَا مِنْكُنَّ مِنِ امْرَأَةٍ تُقَدِّمُ بين يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاَثَةً إِلاَّ كَانُوا لَهَا حِجَابًا مِنَ النَّارِ)، فقالت امْرَأَةٌ: وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، فقال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ، وَاثْنَيْنِ)[6].

المقاصد التَّبعيَّة للزواج أربعة[7]:
الأول: التَّحصُّن من الشيطان، ودَفْعُ غوائلِ الشهوة، وغَضُّ البصر، وحِفظُ الفرج؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: (يا مَعْشَرَ الشَّبَاب! مَنِ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لُهُ وِجَاءٌ)[8]، والنِّكاح بقصد دفع غَائلة الشهوة مُهِمٌّ في الدِّين؛ لأنَّ الشهوة إذا غلبت، ولم تُقاومها قوى التَّقوى جرَّت إلى اقتحام الفواحش.

الثاني: النكاح بقصد ترويح النفس وإيناسها، بالمجالسة، والنظر والملاعبة؛ إراحةً للقلب، وتقويةً له على العبادة؛ لما جاء عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ - رضي الله عنه -؛ أنَّه تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثَيِّبًا، فقال له رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يا جَابِرُ! تَزَوَّجْتَ؟) قال: قلتُ: نَعَمْ، قال: (فَبِكْرٌ أَمْ ثَيِّبٌ؟) قال: قلتُ: بَلْ ثَيِّبٌ، يا رَسُولَ اللَّهِ! قال: (فَهَلاَّ جَارِيَةً تُلاَعِبُهَا وَتُلاَعِبُكَ)، أو قال: (تُضَاحِكُهَا وَتُضَاحِكُكَ)[9]. والنفس - بطبعها - ملول، وهي عن الحق نفور؛ لأنه على خلاف طبعها، فلو كُلِّفَتْ المداومة بالإكراه على ما يُخالفها جمحت وثابت، وإذا رُوِّحَتْ باللَّذات في بعض الأوقات قوِيت ونشَطَت، وفي الاستئناس بالنِّساء من الاستراحة، ما يزيل الكربَ، ويُرَوِّح القلب.

الثالث: النكاح بقصد تفريغ القلب عن مشاغل تدبير المنزل، والتكلف بشغل الطبخ، والكنس، وتنظيف الأواني ونحو ذلك من الأعمال المنزلية، والمرأة الصالحة لزوجها المُصلِحة لبيتها عونٌ على الدِّين، ومتاع في الدنيا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ)[10].

الرابع: النكاح بقصد مجاهدة النفس، ورياضتها بالرعاية والقيام بحقوق الزوجة، والصبر على أخلاق النساء، واحتمال الأذى منهن، والسعي في إصلاحهنَّ وإرشادهنَّ، والاجتهاد في كسب الحلال لأجلهنَّ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)[11]، وقال صلى الله عليه وسلم: (اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لم يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ)[12]. (والمعنى: أوصيكم بهنَّ خيراً، فاقبلوا وصِيَّتي فيهنَّ؛ فإنهنَّ خُلِقْنَ من ضِلَعٍ، واستُعير الضِلَع للعِوَج أي: خُلِقْنَ خَلْقًا فيه اعوجاج، فكأنهنَّ خُلِقن من أصلٍ مُعْوَجٍّ، فلا يتهيأ الانتفاع بهنَّ إلاَّ بِمُداراتهنَّ، والصَّبر على اعوجاجهنَّ)[13].

ثانياً: تحريم قطع النسل وقتل الولد: حرَّمت الشريعة الإسلامية قطع النسل، والتبتُّل، والاختصاء وغيرها من طرق قطع النسل، ومن أدلة ذلك: ما جاء عن سَعْدِ بْنِ أَبِى وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - قال: (رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ التَّبَتُّلَ[14]، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ لاَخْتَصَيْنَا[15])[16]. كما حرَّمت الشريعة الإسلامية الاعتداء على النسل في مراحله المختلفة، بدءاً بمرحلة الجنين وحتى يمكنه الدفاع عن نفسه وإدراك ما يضرُّه وما ينفعه، ومن أدلة ذلك: قوله تعالى: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 31].

ثالثاً: تحقيق مصالح هذا النسل: إذ أنَّ مقصد حفظ النسل يُناط به عمارة الأرض، وبناء الحضارة، وقيام النهضة، ومن ثَمَّ فيجب رعاية هذا النسل والحفاظ عليه، وتعهُّده بما يُحقِّق مصلحته من توفير مطالبه الأساسية من المأكل والملبس والمشرب وتوفير الرعاية الصحية اللازمة له، ومن أدلة ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ)[17]. وكذلك تعليمه وتأديبه ليكون عضواً نافعاً لأمَّته، ومن أدلة ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم: (الرَّجُلُ رَاعٍ في أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا)[18].

الوسيلة الثانية: المحافظة على النسل بدفع المفاسد:
كلُّ شرعٍ حكيم إذا فتح باباً لجلب مصلحة، لا بدَّ له من أنْ يسدَّ بقية الأبواب التي تُعارِض هذا الباب، وقد مضى في الوسيلة الأُولى: وهو (مشروعية النكاح) الذي جعله الله تعالى وسيلةً لإنجاب النسل، ووسيلة صالحة لرعايته، والقيام بتربيته تربيةً صالحة، فكان لا بدَّ من قفل جميع الاتجاهات التي تُناقضه أو تُعارضه، لذا حرَّم الله تعالى الزنا تحريماً مؤبَّداً مع وصفه بأنه أسوأ سبيل؛ لأنه يُعارض السبيل المستقيم، وأوعد فاعليه بالعقاب الأليم في الآخرة، وشرع له أشدَّ الزواجر بالرجم أو الجلد مائة جلدة[19]، قال ابن القيم - رحمه الله: (وَلَمَّا كان الزِّنا من أُمَّهَاتِ الْجَرَائِمِ وكبائرِ الْمَعَاصِي؛ لِمَا فيه من اختلاط الأنْسَابِ الذي يَبْطُلُ معه التَّعَارُفُ وَالتَّنَاصُرُ على إحْيَاءِ الدِّينِ، وفي هذا هَلاَكُ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، فَشَاكَلَ في مَعَانِيهِ أو في أَكْثَرِهَا الْقَتْلَ، الذي فيه هَلاَكُ ذلك، فَزُجِرَ عنه بِالْقِصَاصِ لِيَرْتَدِعَ عن مِثْلِ فِعْلِهِ مَنْ يَهُمُّ بِهِ، فَيَعُودُ ذلك بِعِمَارَةِ الدُّنْيَا وَصَلاَحِ الْعَالَمِ، الْمُوَصِّلِ إلَى إقَامَةِ الْعِبَادَاتِ، الْمُوَصِّلَةِ إلَى نَعِيمِ الآخِرَةِ)[20].

وجريمة الزِّنا لا يقوم عليها المؤمن إلاَّ في حالة ضعفٍ شديدٍ في الإيمان؛ كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، ولا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ...)[21]. قال النووي - رحمه الله: (هذا الحديث مما اختلف العلماءُ في معناه، فالقول الصحيح الذي قاله المُحقِّقون: أنَّ معناه: لا يفعل هذه المعاصي، وهو كاملُ الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تُطلق على نفيِ الشيء، ويراد نفيُ كمالِه)[22].

المقصود الأصلي من تحريم الزِّنا المحافظة على النسل: إنَّ المقصود الأساس من تحريم الزِّنى هو المحافظة على النَّسْل، والذي يُعتبر من المصالح الضرورية التي لم تُفرِّط فيها شريعة من الشرائع، وأمَّا تحريم القذف وما يترتب على فِعله من حدٍّ فهو من باب حماية الأعراض، وحرصاً من الشارع الحكيم على عدم إشاعة الفاحشة على ألسنة الناس.

ولا خلاف بين العلماء: في تحريم الزِّنا، وأنه من الكبائر، وحرمته ثابتة بالكتاب والسنة والإجماع؛ (لأنَّ المُزاحة على الأبضاع تُفضي إلى اختلاط الأنساب، المُفضي إلى انقطاع التعهُّد من الآباء، المُفضي إلى انقطاع النسل، وارتفاع النوع الإنساني من الوجود)[23].

عقوبة الزنا في الدنيا والآخرة:
جعل الشارع الحكيم لكل جريمة خطيرة عقوبتين: عقوبة دنيوية، وعقوبة أخروية.

عقوبة الزنا في الدنيا: مما جاء في عقوبة الزنا في الدنيا: حدُّ الزِّنا، والحدُّ لغة: هو المنع، وسُمِّيت عقوبات المعاصي حدوداً؛ لأنها تمنع العاصي من العود إلى تلك المعصية التي حُدَّ لأجلها في الغالب. وعُرِّف الحدُّ اصطلاحاً: بأنه عقوبة مُقدَّرة لأجل حقِّ الله تعالى، فيخرج التعزير؛ لعدم تقديره، والقصاص؛ لأنه حقُّ الآدمي[24]. وحكمة الحدود: زجر النفوس، وصيانة الأرواح، والأعراض، والأموال، والعقول[25]. وعقوبة الزنا في الدنيا: إمَّا أن تكون رجماً بالحجارة، أو جلداً بالسوط؛ لأنَّ الزاني إمَّا أن يكون ثيِّباً مُحصَناً[26]، أو بكراً غير مُحصَن[27].

الأدلة:
1- قوله تعالى: ﴿ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النور: 2].

2- قوله صلى الله عليه وسلم: (خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قد جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً: الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ، جَلْدُ مِائَةٍ، وَنَفْيُ سَنَةٍ، وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ، جَلْدُ مِائَةٍ، وَالرَّجْمُ)[28].

3- قوله صلى الله عليه وسلم: (وَاغْدُ يا أُنَيْسُ! على امْرَأَةِ هذا، فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا، فَغَدَا عَلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا)[29]. وجه الدلالة: أوجب الله تعالى العقوبةَ على الزناة من غيرِ أنْ تأخذ وُلاةَ الأمر رأفةٌ في دين الله، وهو حدُّ الزنا بأنْ يُرجم الزاني المُحْصن بالحجارة حتى يموت، وغير المُحصن يُجلد مائة جلدة، ويُغرَّب عاماً عند الجمهور[30].

حكمة التفريق بين عقوبة "البِكر" و"الثيب": قال ابن القيم - رحمه الله - في حكمة التفريق بين عقوبة البكر والثَّيب: (إنَّ لِلزَّانِي حَالَتَيْنِ؛ إحْدَاهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا قد تَزَوَّجَ، فَعَلِمَ ما يَقَعُ بِهِ من الْعَفَافِ عن الْفُرُوجِ الْمُحَرَّمَةِ، وَاسْتَغْنَى بِهِ عنها، وَأَحْرَزَ نَفْسَهُ عن التَّعَرُّضِ لِحَدِّ الزِّنا، فَزَالَ عُذْرُهُ من جَمِيعِ الْوُجُوهِ في تَخَطِّي ذلك إلَى مُوَاقَعَةِ الْحَرَامِ، وَالثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ بِكْرًا لم يَعْلَمْ ما عَلِمَهُ الْمُحْصَنُ، ولاَ عَمِلَ ما عَمِلَهُ فحصل له من الْعُذْرِ بَعْضَ ما أَوْجَبَ له التَّخْفِيفَ فَحُقِنَ دَمُهُ، وَزُجِرَ بِإِيلامِ جَمِيعِ بَدَنِهِ، بِأَعْلَى أَنْوَاعِ الْجَلْدِ رَدْعًا على الْمُعَاوَدَةِ لِلاسْتِمْتَاعِ بِالْحَرَامِ، وَبَعْثًا له على الْقَنَعِ بِمَا رَزَقَهُ اللَّهُ من الْحَلالِ. وَهَذَا في غَايَةِ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ جَامِعٌ لِلتَّخْفِيفِ في مَوْضِعِهِ، وَالتَّغْلِيظُ في مَوْضِعِهِ)[31].

عقوبة الزنا في الآخرة: مِمَّا جاء في عقوبة الزنا في الآخرة: حديث سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ - رضي الله عنه - في الرؤيا الطويلة التي رآها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، والشاهد منها: ما جاء في عقوبة الزناة والزواني، وفيها قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا على مِثْلِ التَّنُّورِ، فإذا فيه لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ، قال: فَاطَّلَعْنَا فيه، فإذا فيه رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وإذا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فإذا أَتَاهُمْ ذلك اللَّهَبُ ضَوْضَوْا[32]... وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ في مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ؛ فَإِنَّهُمْ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي)[33].

وفي رواية: (فَانْطَلَقْنَا إلى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ، أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ، وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ، يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فإذا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا، حتى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا، فإذا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيْهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ... وَالَّذِي رَأَيْتَهُ في الثَّقْبِ فَهُمْ الزُّنَاةُ)[34].

الوسيلة الثالثة: المبادئ الخُلقية المُتمِّمة:
لا بدَّ من إحاطة العلاقة بين الذكر والأنثى بمجموعة من المبادئ والآداب الأخلاقية، والتي تضمن تحقيق الأهداف السامية لهذه العلاقة، وتستبعد الممارسات الفوضوية للعلاقات بين الجنسين؛ رفعاً لدواعي الزنا، وحمايةً للأعراض، وستراً للعورات، وهذه المبادئ تُعتَبر مكمِّلة لتحريم الزِّنا، وسدًّا للتَّذرُّع إليه، ومما حرمته الشريعة لذلك:
1- تحريم الدُّخول على الناس في بيوتهم بدون استئذان: فالبيوت في الإسلام لها حرمة عظيمة؛ حيث لا يجوز دخولها دون استئذان أصحابها، والسلام عليهم: قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النور: 27]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الاسْتِئْذَانُ ثَلاَثٌ، فَإِنْ أُذِنَ لَكَ، وَإِلاَّ فَارْجِعْ)[35].

2- تحريم الاختلاء بالمرأة الأجنبية: وإنْ كانت ملتزمة باللِّباس الساتر، إلاَّ بوجود أحد محارمها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ؛ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ)[36]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ؛ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ)[37]. وفي غير حالات الضرورة القصوى؛ يحرم على الرجل الاختلاء بالمرأة الأجنبية.

3- وجوب غضِّ الأبصار: فعن طريق إيجاب غَضِّ بصرِ الذَّكر عن الأنثى، والأنثى عن الذكر، يقطع الإسلامُ الطريقَ على وسائل الإثارة في النفس البشرية، وفيه عدَّة أحاديث، منها:
أ- عن جَرِيرِ بنِ عبدِ اللَّهِ - رضي الله عنه - قال: (سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ نَظَرِ الْفُجَاءَةِ؟ فَأَمَرَنِي أَنْ أَصْرِفَ بَصَرِي)[38].

ب- قوله صلى الله عليه وسلم: (يَا عَلِيُّ! لاَ تُتْبِعْ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ؛ فَإِنَّ لَكَ الأُولَى، وَلَيْسَتْ لَكَ الآخِرَةُ)[39]. والمعنى: (لا تجعلْ نظرتَك إلى الأجنبية تابعة لنظرتك الأُولى التي تقع بغتةً، وليست لك النَّظرة الآخِرة؛ لأنَّها تكون عن قَصْدٍ واختيارٍ؛ فتأثم بها، أو تُعاقب)[40].

ج- عن سَهْلِ بن سَعْدٍ - رضي الله عنه - قال: اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَمَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى[41] يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فقال: (لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ؛ إِنَّمَا جُعِلَ الاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ)[42]. قال ابن الجوزي - رحمه الله: الحديث يدل على أنَّ مَن اطَّلع في بيتِ إنسانٍ؛ بحيث ينظر إلى عورته أو حرمته، فله أنْ يرمي عينه، فإنْ فقأها؛ فلا ضمانَ عليه)[43]. ويشهد له: قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ؛ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ)[44].

4- تحريم التَّبرُّج بالقول أو الفِعل: نهى الله تعالى عن إبداء المرأة زينتها لغير زوجها ومحارمها، وحرَّم التَّبرُّجَ، سواء كان في القول أو الفعل؛ لأنَّ فيه إثارةً وإغراءً للرجال ولفتاً لأنظارهم، وفيه عدة آيات كريمات، منها:
أ- قوله تعالى: ﴿ ولاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ إلى قوله تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} ﴾ [النور: 31]. فالآية الكريمة تنهى عن إبداء الزينة لغير الأزواج والمحارم وما يُلحق بهما، ودلَّت على وجوب ستر المرأة لجميع بدنها، ما عدا الوجه والكفَّين على خلافٍ مشهورٍ بين العلماء، ودلَّت على نهي النساء عن التبرُّج بالفِعل؛ بضرب الأرجُل؛ ليُعلم ما يُخفين من الزينة.

ب- قوله تعالى: ﴿ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفًا ﴾ [الأحزاب: 32]؛ لأنَّ اللِّين بالقول قد يكون سبباً في طَمَعِ مرضى القلوب بِدَاءِ الفواحش.

ج- قوله تعالى: ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى ﴾ [الأحزاب: 33]. فهذه الآية الكريمة وإنْ نزلتْ في نساءِ النبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ أنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب. والتَّبرُّج: هو إظهار الزِّينة؛ ليُنظَر إليهنَّ، فإنَّ ذلك من أقبح الأمور. قال مَعْمَرُ بنُ المُثنَّى - رحمه الله: (التَّبَرُّجُ: أَنْ تُخْرِجَ مَحَاسِنَهَا)[45].

د- قوله تعالى: ﴿ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ﴾ [النور: 60]. فبإيجاب اللِّباس الساتر بمواصفاتٍ خاصة يُحارِب التشريعُ أسبابَ الفتنه.

عيوني تضمك
11-27-2023, 03:26 PM
جزاك الله خير الجزاء
دمت برضى الله وحفظه ورعايته