مشاهدة النسخة كاملة : مقاصد السنة النبوية (5) حفظ المال


حكاية ناي ♔
11-27-2023, 03:21 PM
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

أمَّا بعد:
كما هو شأن الإسلام دائمًا مع النزعات الفطرية للإنسان حيث يُبيح إشباعَها، ويُلبِّي مَطالبَها ضِمن الحدود المعقولة، مع التهذيب والترشيد حتى تستقيم حياته، ويتحقَّق الخيرُ له، ويبتعد عن الشر، كان هذا شأنه مع نزعَةِ حُبِّ التَّمَلُّك الأصلية في الإنسان، فقد أباح المُلكيةَ الفردية وشَرَع في ذات الوقت من النُّظم والتدابير ما يَتدارك الآثارَ الضَّارة التي قد تنجم عن طُغيان هذه النَّزعة من فقدانٍ للتوازن الاجتماعي، وتداولٍ للمال بين فئة قليلة من المجتمع، ومن النُّظم التي وضَعَها لأجل ذلك نُظُم الزكاة، والإرث، والضَّمان الاجتماعي، ومن ثم اعتَبَر الإسلامُ المالَ ضرورةً من ضروريات حياة الإنسان، لا غِنى له عنها، في قُوتِه، ولِباسِه، ومسكَنِه؛ فبالمال يُشبِعُ حاجاته الضَّرورية والحاجية والتحسينية، ومن أجل ذلك شَرَع من التشريعات والتوجيهات ما يُشجِّع على اكتسابه وتحصيله، ويَكفل صِيانتَه وحِفظَه وتنميتَه.

وقد حرصت السنة النبوية على المال وما في معناه أشدَّ الحرص، حتى جعلت حمايتَه وحفظَه وصيانتَه من مقاصدها العليا وأهدافها الأساسية، وذلك لما للمال من أهمية في حياة الفرد والمجتمع، فهو عمادٌ للحياة ومقوِّم من مقوماتها، ووسيلةٌ من وسائل العيش فيها، والمتتبِّع لأبواب الفقه وما تضمَّنته من أحكام في فقه المعاملات من عقودٍ وبيوعٍ ورهنٍ وغيرها، وكذا ما يرتبط بالمال من أحكام كالزكاة والميراث وغيرها يتبيَّن مدى اهتمام السنة النبوية بتحقيق هذا المقصد الضروري في حياة الإنسان بما يضمن استقراره وسعادته وأمنه، وقد أفاضت السنة النبوية في هذا الجانب إفاضة بالغة، حيث تضمَّنت الأحكام الخاصة بالأموال وبيَّنتها بصورة شاملة ومُستوعِبَة لكلِّ التَّفاصيل والجزئيات، ممَّا يدل على عظمة السنة النبوية في تعاطيها وتعاملها مع القضايا الجوهرية والمُلِحَّة في حياة الناس.

تعريف المال:
لم يُحدِّد الشارع الحكيم معنًى خاصًّا للمال، كما حدَّد معاني غيره من الألفاظ؛ كالصلاة، والزكاة، والحج، والرِّبا، والنِّكاح، بل تركه لعُرف الناس، ومن أحسن ما قيل في تعريف المال: "هو كلُّ ما مَلَكْتَه من جميع الأشياء، فكلُّ ما يقبَل المُلكَ فهو مالٌ سواء كان عَينًا أو منفَعَة"[1]. والمال في الإسلام مرتبط بأمرين؛ إمَّا بتحقيق مصالحَ نافعةٍ وجالبةٍ للخير، وإمَّا بجلب مفاسدَ ومضارٍّ تجرُّ إلى الشَّر، وذلك كما يلي:
أوَّلًا: المصالح المرتبطة بالمال:
تتعدَّد المصالح المرتبطة بالمال وتختلف باختلاف الزمان والمكان حسب احتياجات الناس ومطالبهم، ولكنها في كلِّ مظاهرها لا بد أن يُراعى فيها موافقتها للشرع الحكيم، وتبقى المصلحةُ العظمى والمقصودةُ من المال مرتبطةٌ بما يحقِّق لصاحبه السعادة في الآخرة، وهذا ما نريد أنْ نؤكِّدَ عليه ونُبيِّنَه، حيث إنَّ المصالح الدنيوية نسبية، فما يراه البعضُ مصلحة، قد يراه الآخرون مفسدة، أمَّا فيما يتعلَّق بالمصالح الأخروية، فهي ثابتة وواضحة، والمصالح الأخروية للمال تنحصر في ثلاثة أنواع[2]:
1- أنْ يُنفق على النَّفس في العبادة، أو في الاستعانة على العبادة؛ كالحج والعمرة، والجهاد، ونحو ذلك.

2- ما يَصرفه الإنسان على الناس، وهو أربعة أقسام: الصدقة، والمروءة[3]، ووِقاية العِرض[4]، وأُجرة الاستخدام.

3- ما يُصرف في أنواع الخيرات، فلا يختصُّ بإنسانٍ مُعيَّن؛ كبناء المساجد، والقناطر، والرباطات، والمستشفيات، ونحو ذلك من أنواع الخيرات.

ثانيًا: مفاسد المال ومضارُّه:
وكما تعدَّدت المصالح المرتبطة بالمال، تتعدَّد كذلك المفاسد والمضار المرتبطة به؛ ليصبح المال سلاحًا ذا حدَّين؛ حدٌّ نافع، وآخر ضار، ويصبح المال أكثر ضررًا وأكثر فسادًا إذا ارتبط بمفاسد تضرُّ الإنسان في آخرته؛ حيث إنَّ آفات المال ومضارَّه تنحصر كذلك في ثلاثة أمور[5]:
1- أنْ يجُرَّ إلى المعاصي، فإنَّ الشهوات مُتفاضلة، والعجز قد يحول بين المرء والمعصية، والمال نوع من القُدرة يُحرِّك داعية المعاصي، ونوازع الشهوة، وارتكاب الفجور، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء.

2- أن يجُرَّ إلى التَّنعُّم في المباحات، فيصير التَّنعُّم مألوفًا عنده، ومحبوبًا لا يصبر عنه، ويجرُّه إلى اقتحام الشُّبهات.

3- أنْ يُلهي إصلاحُ المال عن ذِكرِ الله تعالى، وكلُّ ما شغل العبدَ عن الله تعالى فهو خُسران؛ كما قال سبحانه: ﴿ أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ ﴾ [التكاثر: 1].

أسباب الحصول على المال: أسباب الحصول على الأموال تأتي من طريقين[6]:

الأول: المُصادفة والعَرض؛ كالمواريث عن الآباء والأقارب، والعرب تُسمِّيه المال التَّليد، ويُطلِق عليه الفقهاء: خلافة الشخص لغيره في المُلكية، ومنه الوصية.

الثاني: القصد والطلب، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- ما يؤخذ من يد الغير عن طريق المُغالبة والاقتدار عليه، على قانونٍ مُتعارف، ويُسمَّى مَغرمًا وجِباية، وهذا شأن الإمارة.

2- أنواع الاحتيال في الاكتساب، وهي أربعة أقسام: الفلاحة، والصناعة، والتجارة، وتربية الحيوان.

3- الاستيلاء على الأشياء المُباحة، وهي أربعة أنواع[7]:
أ- إحياء الموات.
ب- الاستيلاء على المعادن والكنوز، والحشيش والحطب، والأحجار، وسائر الجواهر في المعادن والبحار.
ج- الاستيلاء على الصيد.
د- حِيازة الأشياء المُباحة.

فالإسلام يُحِلُّ جميعَ أنواع الصناعات والحِرف الشريفة، ويُحل جميع أنواع التجارة واستثمار الأموال، ويُحل ما ينتج عن هذا كلِّه من ربح، ويجعله مُلكًا خالصًا لصاحب المال المستثمَر؛ بشرط أنْ يُخرِج الزكاة الواجبة شرعًا.

وإذا مَنَعَ الإسلامُ عملًا من وسائل الكسب يمنعه؛ لأنه يؤدي إلى الضَّرر حتمًا؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لاَ ضَرَرَ، وَلاَ ضِرَارَ)[8]، وبناءً عليه: حرَّم الإسلام التجارةَ في الخمر، والخنزير، ومَنَعَ التعامل بالربا، والمعاملات التي تنطوي على غشٍّ، أو رشوة، أو أكل أموال الناس بالباطل، واحتكار ضروريات الناس للتحكم في الأسعار[9].

مقاصد السُّنة النبوية في الأموال:
السنة النبوية لها مقاصد كثيرة في الأموال، وأهمُّ هذه المقاصد: الحث على تداول المال، والوضوح في التعامل المالي، والمحافظة على المال من الاعتداء. قال الشاطبي - رحمه الله: (وحِفظُ المالِ راجعٌ إلى مراعاة دخوله في الأملاك، وكتنميته أن لا يفي ومُكَمِّلُه دفعُ العوارض، وتلافي الأصل بالزَّجر، والحدِّ، والضَّمان، وهو في القرآن والسُّنة)[10].

المقصد الأول: الحثُّ على تداول المال. التَّداول في اللغة هو: التَّناقل، وتداولوا الشيء بينهم، أي: تناقلوه وقلَّبوه بين أيديهم وتناوبوه[11].

والمقصود به في الاصطلاح: أن يكون المال مُتداوَلًا بين أيدي الناس جميعًا ومُتحرِّكًا في شكل استهلاكٍ، أو استثمار، وبناء عليه: يكون المال حقًّا عامًّا للأمة عائدًا عليها بالغِنى عن الغير، فمِن شأن الشارع الحكيم أن يُنظِّم إدارته بأسلوب يحفظه مُوزَّعًا بين الأمة بقدر المُستطاع[12].

"الوسائل التَّشريعية" المُحقِّقة لمقصد التداول: الوسائل التَّشريعية التي شُرِعت لتحقيق هذا المقصد المهم، تفوق جميعَ ما أتت به النُّظم والمذاهب الاقتصادية في هذا الشأن، ومن أهمِّ الوسائل التشريعية: مَنْعُ كنز الأموال، ومنع التعامل بالربا، ومنع الاحتكار، ومنع المَيسِر، وبيانها كالآتي[13]:
الوسيلة الأُولى: مَنْع اكتناز الأموال: مَنَعَ الإسلامُ من اكتناز الأموال وتجميدها؛ لأنَّه يؤدِّي إلى إفساد التوازن المالي والتجاري والاقتصادي عامة، ويفسد معه التوازن الاجتماعي، ويجرُّ إلى مُحرَّمات ومحظورات، وقد ورد تحريم اكتناز الأموال في الكتاب والسنة؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ولاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَِنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ [التوبة: 34، 35]. ولا ريب أنه وعيدٌ شديدٌ ومُروِّع للكانزين.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لاَ يُؤَدِّي زَكَاتَهُ؛ إِلاَّ أُحْمِيَ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبَاهُ وَجَبِينُهُ، حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ؛ إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ)[14]. قال الطبري - رحمه الله: (الكنز في كلام العرب: كلُّ شيءٍ مجموعٌ بعضُه على بعض، في بطنِ الأرض كان، أو على ظهرِها)[15]. وقال النووي - رحمه الله: (واختلف السَّلف في المراد بالكنز المذكور، في القرآن والحديث؛ فقال أكثرهم: هو كلُّ مالٍ وجَبَتْ فيه الزكاة، فلم تُؤََدَّ، فأمَّا مالٌ أُخْرِجَت زكاتُه فليس بكنز)[16].

وافتراض الزكاة على المال فيه حثٌّ لصاحبه على تداوله واستثماره، إذ لو لم يفعل لكان المال في تناقص، والنقصان ينافي الحكمة من ادِّخاره، ومن ثَمَّ يكون صاحب المال بين ثلاثة أمور:
أوَّلها: أن يكنز المال ويدفع زكاته، ممَّا يؤدِّي إلى نقصانه والقضاء عليه، وهو في ذلك لا إثم عليه، ولكن يلحقه ضرر مُحقَّق، وهو نقصان ماله.

ثانيها: أنْ يكنز المال ولا يدفع زكاته، ومن ثَمَّ يتعرَّض للوعيد الشديد في حقِّ مانعي الزكاة في الدنيا والآخرة.

ثالثها: أن يستثمر المال في وجوهه المباحة، فيضمن زيادتَه ونماءه، فيتحقق مقصد الشريعة من تداول المال واستثماره، ثمَّ يدفع زكاته دون خوف من نقصان ماله. وهكذا تتَّضح لنا حِكْمةٌ بالغة من الزكاة بالإضافة إلى حِكَمِها الكثيرة والتي لا يعلمها كثير من الناس، تلك الحكمة هي الحث على استثمار المال الاستثمار الأمثل الذي يعود بالنفع على الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء.

الوسيلة الثانية: مَنْع التعامل بالرِّبا: من وسائل التشريع الإسلامي لتحقيق مقصد تداول الأموال تحريم التعامل بالرِّبا؛ لأنه يقتل مشاعر الشَّفقة والرحمة في قلب المُرابي؛ لأنه جعل نُصبَ عينيه تحصيل الأموال الطائلة، ولو أدَّى به الحال إلى قطع التَّواد والتَّراحم والإخاء والإيثار المأمور به شرعًا، وجاء تحريم الرِّبا صريحًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275]، وعن جَابِرٍ - رضي الله عنه - قال: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ، وَقَاَل: هُمْ سَوَاءٌ)[17]. قال النووي - رحمه الله: (هذا تصريحٌ بتحريم كتابة المُبايعةِ بين المُترابيين، والشَّهادةِ عليهما، وفيه تحريم الإعانة على الباطل)[18]. وحُرمة الرِّبا مُجمع عليها عند جميع العلماء، وإن اختلفوا فيما بينهم في حقيقته، أو عِلَّته، أو في جزئياته، وهو راجع إلى الاختلاف فيما ينطبق عليه النَّص المُحرَّم من الكتاب والسنة[19].

ومن الحكمة في تحريم الربا: أن له مضارًا أخلاقية، واجتماعية، واقتصادية ليس هذا مجال الاستطراد في بيانها، ومن أهم أخطار الربا: أنه يقتل حاسة العطف والتراحم والتعاون بين أفراد الأمة، ويفضي التعامل بالربا إلى ترك الزراعة والصناعة التي هي أصول المكاسب، وميادين الإنتاج، والاستثمار.

ويُكبَّل المُتعامِلُ به فلا يستطيع التَّقدُّم في مجال عمله؛ لأنه يجني على كلِّ فائدة مرجوة من وراء العمل، ومن ثَمَّ يصبح هذا الذي تعامل بالربا في حقيقة الأمر عبدًا عند المُرابي، يعمل له بلا أجر، فيؤثِّر على الأعمال ويُفضي إلى انهيارها، ومن ثَمَّ انهيار النظام الاقتصادي بكامله.

الوسيلة الثالثة: مَنْع الاحتكار: ربما يترك الناس التعامل بالربا، ويتَّجهون إلى ميادين الإنتاج المختلفة؛ في الزارعة والصناعة والتجارة، ولكن قد يجنح البعض منهم إلى حَبْسِ هذه المحاصيل أو السِّلع أو المصنوعات ومَنْعِها عن الأسواق؛ رغبةً في ارتفاع أسعارها، وهذا هو الاحتكار الممنوع شرعًا، والمُعَوِّق لمقصد التداول، ووصولِ منافع الأموال إلى الناس؛ لسدِّ ضرورياتهم، وحاجاتهم من الأمور المعيشية، بل قال ابن القيم - رحمه الله - عن هذا السُّلوك المشين: (هذا من البَغْي في الأرضِ، والفسادِ، والظلمِ الذي يُحْبَسُ به قَطْرُ السَّماء)[20].

ومن أجل ذلك حرَّم الإسلام احتكار السلع مِثْلَمَا حرم اكتناز الأموال، وشدَّد في منعه بالنسبة لأقوات الناس، والضروريات اللازمة لحياتهم. ومما جاء في تحريم الاحتكار:
1- قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ[21] [22]، وفي رواية: (لاَ يَحْتَكِرُ إِلاَّ خَاطِئٌ)[23].

2- قوله صلى الله عليه وسلم: (مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ فَهُوَ خَاطِئٌ)[24]. قال النووي - رحمه الله: (الحديث صريحٌ في تحريم الاحتكار، قال أصحابُنا: الاحتكار المُحَرَّم: هو الاحتكار في الأقوات خاصة، وهو أنْ يشتري الطعامَ في وقتِ الغَلاء للتجارة، ولا يبيعه في الحال، بل يدَّخِرُه؛ لِيَغْلو ثمنُه، فأمَّا إذا جاء من قريته أو اشتراه في وقتِ الرُّخص وادَّخره أو ابتاعه في وقتِ الغلاء لحاجته إلى أكلِه أو ابتاعَه ليبيعه في وقتِه، فليس باحتكارٍ، ولا تحريمَ فيه، وأمَّا غيرُ الأقوات فلا يحرم الاحتكار فيه بكلِّ حالٍ، هذا تفصيلُ مذهبِنا. قال العلماء: والحكمة في تحريم الاحتكار: دَفْعُ الضَّرَر عن عامَّة الناس، كما أجمع العلماءُ: على أنه لو كان عند إنسانٍ طعامٌ، واضطُّر الناسُ إليه، ولم يَجِدوا غيرَه، أُجْبِرَ على بيعه؛ دفْعًا للضَّرر عن الناس)[25].

الوسيلة الرابعة: مَنْع المَيْسِر: حرَّم الله تعالى المَيسِر[26]، ومما جاء في تحريمه في القرآن:
1- قوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [البقرة: 219]. وجه الدلالة: جعل الله تحريم المَيسر مقرونًا بتحريم الخمر، وبيَّن مضارَّهما ومفاسدهما. والمَيسر في الآية هو القِمار[27]؛ عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: (المَيْسِرُ: القِمَارُ)[28].


وممَّا ورد في سبب نزول الآية: عن أبي هُرَيْرَةَ قال: (حُرِّمَتِ الْخَمْرُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ؛ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ وَهُمْ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ، وَيَأْكُلُونَ الْمَيْسِرَ، فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهُمَا فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ... ﴾ إِلَى آخِرِ الآيَةِ)[29].

2- قوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90]. وجه الدلالة: مسمَّى الرجس واقع على الأربعة المذكورة، فكان الأمر للاجتناب مُتناولًا للكل.

3- قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ ﴾ [المائدة: 91]. وجه الدلالة: أنَّ الخمر والميسر سببان عظيمان في إثارة العداوة والبغضاء بين الناس، يُفضِيان إلى أحوال مذمومة؛ كالهرج والمرج والفتن، وهذا مضادٌّ لمصالح الناس ومقاصد الشرع[30].

ومما ورد في تحريم المَيسر في السُّنة:
1- عن عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو - رضي الله عنهما؛ (أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنِ الْخَمْرِ، وَالْمَيْسِرِ، وَالْكُوبَةِ[31]، وَالْغُبَيْرَاءِ[32])[33].

2- عن بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه؛ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدَشِيرِ[34] فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ في لَحْمِ خِنْزِيرٍ وَدَمِهِ)[35].

3- عن أبي مُوسَى الأشْعَرِيِّ - رضي الله عنه؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ[36]؛ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ)[37].

والخلاصة: أنَّ المَيسِرَ سُحتٌ باطل؛ لأنَّه اختطافٌ لأموال الناس بغير حقٍّ، وهو مُعتمِدٌ على اتِّباع الجهل، والحرص الشديد، وهو أُمنية باطلة، وركوب للغرر، وليس له دخل في التَّمدن والتَّطوُّر، فضلًا عن التَّآزر والتعاون، فإنْ سكتَ المغبون سكتَ على غيظٍ وخَيبة، وإنْ خاصَمَ خاصم فيما التزمه بنفسه، واقتحمَ فيه بقصده، والغابِنُ يَستلِذُّه المَيسِرُ، ويدعوه قليلُه إلى كثيرِه، ولا يدعه حِرصُه أنْ يُقلع عنه، وعمَّا قليلٍ تكون التِّرَةُ عليه، وتدور الدَّائرةُ عليه، وهل رأيتَ من أهل القِمار إلاَّ ما ذكرناه[38].

وبِمَنع المَيسر أُغلِق البابُ الذي تُبدَّد فيه الطاقات، وتُعطَّل فيه الأموال والأعمال، وتُجلب فيه العداوات والبغضاء، ويُصدُّ فيه عن ذِكر الله وعن الصلاة، وبتحريم المَيسر وجَّه الإسلامُ الطاقاتِ والأموالَ إلى أحسن طريقٍ ونِظامٍ لمصلحة الأفراد ومنافع الأمة[39].

المقصد الثاني: الوضوح في التعامل المالي:
المراد بالوضوح في التعامل المالي: أن تكون الأموال بعيدة عن مواطن المُنازعات، والخصومات، ولحوق الضَّرر بالناس، وفيه تسهيل لحفظها من الجحود، والنُّكران، ثم الضَّياع.

ولتحقيق هذا المقصد حث الإسلام على توثيق العقود، والمعاملات المالية؛ بالكتابة، والإشهاد، والرَّهن، ونحوها، والأمر بالكتابة والشهود أصله قديم قِدَم الإنسان على الأرض، أقرَّه الدِّين الحنيف منذ آدم - عليه السلام - إلى خاتم الأنبياء سيِّدنا ونبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن آدم - عليه السلام - لمَّا أتاه مَلَكُ الموتِ، وحان أجلُه، قال: (...فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ، فقال له آدَمُ: قَدْ عَجَّلْتَ؛ قَدْ كُتِبَ لِي أَلْفُ سَنَةٍ؟! قال: بَلَى، وَلَكِنَّكَ جَعَلْتَ لاِبْنِكِ دَاوُدَ سِتِّينَ سَنَةً، فَجَحَدَ؛ فَجَحَدَتْ ذُرِّيَّتُهُ، وَنَسِيَ؛ فَنَسِيَتْ ذُرِّيَّتُهُ - قال: فَمِنْ يَوْمِئِذٍ؛ أُمِرَ بِالْكِتَابِ وَالشُّهُودِ)[40]، وفيما يلي بيانٌ لِمَا أمَرَ به الإسلام من أهمية الوضوح في التعامل المالي:
أولًا: التَّوثيق بالكتابة:

الأدلة من القرآن: جاءت مشروعية توثيق الأموال بالكتابة في قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ [البقرة: 282]، فهذا إرشاد من الله تعالى لعباده المؤمنين إذا تعاملوا بمعاملات مؤجَّلة أنْ يكتبوها؛ ليكون ذلك أحفظَ لمقدارِها، وميقاتها، وأضبطَ للشاهد فيها.


وأُكِّد الأمر بالكتابة في قوله سبحانه: ﴿ ولاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ﴾ [البقرة: 282]. وهذا أيضًا من تمام الإرشاد، وهو الأمر بكتابة الحقِّ صغيرًا كان أو كبيرًا، فقال سبحانه: ﴿ ولاَ تَسْأَمُوا ﴾ أي: لا تمَلُّوا أنْ تكتبوا الحقَّ على أيِّ حالٍ كان من القِلَّة والكثرة إلى أجله.

ثم بَيَّن تبارك وتعالى الفائدةَ المرجوَّة من التَّوثيق بالكتابة فقال سبحانه: ﴿ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا ﴾ [البقرة: 282]. أي: هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحقِّ إذا كان مُؤجَّلًا هو أقسط عند الله، أي: أعدل وأقوم للشهادة، أي: أثبت للشاهد إذا وضَعَ خَطَّه ثم رآه تذَكَّر به الشهادةَ، لاحتمال أنه لو لم يكتبْه أنْ ينساه كما هو الواقع غالبًا، ولهذا قال سبحانه: ﴿ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا ﴾ أي: وأقرب إلى عدم الرِّيبة، بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه فيفصل بينكم بلا رِيبة[41].

الأدلة من السُّنة: عن ابنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ، وَهُمْ يُسْلِفُونَ بِالتَّمْرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلاَثَ، فقال: (مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ؛ فَفِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ) [42].

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: (أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّه اللهُ فِي كِتابِه، وَأَذِنَ فِيهِ، ثُمَّ َقَرَأَ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾)[43].

استحباب الكتابة:
الأمر بالكتابة في قوله تعالى: ﴿ فَاكْتُبُوهُ ﴾ محمول عند الجمهور على الإرشاد والنَّدب، لا على الوجوب[44]؛ بدليل: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم اشترى فَرَسًا من أعرابيٍّ إلى أجل مُسمًّى، ولم يكتبه[45]. وعَنْ الشعبي قال فِي هَذِهِ الآيَةِ: (﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ [البقرة: 282]، حَتَّى بَلَغَ هَذَا الْمَكَانَ: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ [البقرة:283] قَالَ: رَخَّصَ فِي ذَلِكَ، فَمَنْ شَاءَ أَنْ يَأْتَمِنَ صَاحِبَهُ فَلْيَأْتَمِنْهُ[46].

ثانيًا: التَّوثيق بالإشهاد:
قال الله تعالى: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى ﴾ [البقرة: 282]، وقال سبحانه: ﴿ وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ﴾ [البقرة: 282]. اتفق أهل العلم على قبول شهادة الرجال والنساء في المال، وما يُقصد به المال؛ كالأعيان، الدُّيون، والعقود المالية، ونحوها[47].

واشترط جمهور العلماء شرطين لقبول شهادة النساء في الأموال[48]:
1- عدم قبول شهادتهنَّ منفرادت، مهما بلغ عددهنَّ.
2- شهادة امرأتين تُقابل شهادةَ رجلٍ واحد.

يقول القرطبي - رحمه الله - معلِّلًا حِكمة قبول شهادة النساء مع الرجال في الأموال خاصة، دون سواها؛ من الحدود والقصاص، وغيرها ممَّا يطَّلع عليه الرجال غالبًا: (وإنَّما كان ذلك في الأموال دون غيرها؛ لأنَّ الأموال كَثَّرَ اللهُ أسبابَ توثيقِها؛ لكثرة جهات تحصيلها، وعموم البلوى بها وتكرُّرِها؛ فجعل فيها التَّوَثُّقَ تارةً بالكتْبَة، وتارةً بالإشهاد، وتارةً بالرَّهن، وتارةً بالضَّمان، وأدخل في جميع ذلك شهادةَ النِّساء مع الرجال)[49].


والشاهد: أنَّ الله تعالى شرع الإِشهاد؛ للمحافظة على حقوق الناس المالية، وحث عليه، وشَرَطَ فيه العدالة والرضا، وهذا ما يضمن وضوح المعاملات المالية، والبُعد بها عن مواطن الجحود والنكران، أو العوارض والنسيان.

ثالثًا: التَّوثيق بالرَّهن: الرَّهن: هو (احتباس العين وثيقةً بالحق؛ لِيُسْتَوفى الحقُّ من ثمَنِها أو من ثمَنِ منافعها عند تعذُّر أخذِه من الغريم)[50]. وأصل مشروعيَّته في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ﴾ [البقرة: 283].

والمعنى: (إنْ كنتم مسافرين، ﴿ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا ﴾ يكتب بينكم، ويَحْصُل به التَّوثيق، ﴿ فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ ﴾ أي: يقبضها صاحِبُ الحق، وتكون وثيقةً عنده حتى يأتيه حقُّه، ودلَّ هذا على أنَّ الرهن غيرُ المقبوضة لا يحصل منها التوثيق)[51].

والواقع العملي من حياة النبي صلى الله عليه وسلم ومعاملاته المالية يُترجِم أيضًا مشروعيَّة الرَّهن؛ عن عَائِشَةَ - رضي الله عنها (أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى طَعَامًا من يَهُودِيٍّ إلى أَجَلٍ، وَرَهَنَهُ دِرْعًا من حَدِيدٍ)[52]، وفي روايةٍ قالت عَائِشَةُ - رضي الله عنها: (تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلاَثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ)[53].

والخلاصة: أنَّ كثيرًا من الناس تنطوي نفوسهم على حُبِّ ظلم الآخرين إذا وجدوا إلى ذلك سبيلًا، ومن أجلِ سدِّ هذه الذريعة؛ جعل الله تعالى لصاحب المال حقَّ الكتابة، والإشهاد، وطلب الرَّهن، فهذه الإجراءات فيها صيانة لأموال الناس من الضياع، ولأخلاقهم من الفساد، ولدينهم من النقصان والخسران.

المقصد الثالث: المحافظة على المال من الاعتداء: هناك وسائل عدة للمحافظة على المال من الاعتداء، ومن أهمها وسيلتان:
1- المحافظة عليه "إيجادًا وتحصيلًا".
2- المحافظة عليه "بقاءً واستمرارا".

أولًا: وسائل المحافظة على المال "إيجادًا وتحصيلًا: للمحافظة على المال من جهة "الإيجاد والتحصيل"؛ شرع الإسلام الوسائل التالية:
1- الحثُّ على السعي لكسب الرِّزق، وتحصيل المعاش، فقد اهتمَّ الإسلام بالعمل وحثَّ عليه في تحصيل المعاش، وتحقيق مصالح الدنيا والآخرة، وحث كذلك على كسب الأموال باعتبارها قوام الحياة الإنسانية، واعتبر السَّعي لكسب المال - إذا توفَّرت النية الصالحة، وكان من الطرق المُباحة - ضربًا من ضروب العبادة، وطريقا للتقرب إلى الله؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ﴾ [المُلك: 15]، وقوله سبحانه: ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ [الجمعة: 10].

وممَّا ورد في السُّنة:
أ- وقوله صلى الله عليه وسلم: (لأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ)[54].

ب- وقوله صلى الله عليه وسلم: (أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ؛ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ على عِيَالِهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرَّجُلُ على دَابَّتِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ على أَصْحَابِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ). قال أبو قِلاَبَةَ: وَبَدَأَ بِالْعِيَالِ، ثُمَّ قال أبو قِلاَبَةَ: وَأَيُّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ على عِيَالٍ صِغَارٍ يُعِفُّهُمْ، أو يَنْفَعُهُمْ اللهُ بِهِ وَيُغْنِيهِمْ[55].

وكيف له أن يُنفق على عياله وليس لديه مال؟! ومن هنا جاء حثُّ الإسلام على كسب الرِّزق، وتحصيل المال الحلال؛ للإنفاق على الأهل، واعتبر ذلك من أفضل الأموال اكتسابًا وإنفاقًا.

2- رفَعَ منزِلةَ العمل، وأعلى من أقدارِ العُمَّال؛ وممَّا يدل عليه:
أ- قوله صلى الله عليه وسلم: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ - عليه السلام - كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ)[56].

ب- وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَا كَسَبَ الرَّجُلُ كَسْبًا أَطْيَبَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَمَا أَنْفَقَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ وَخَادِمِهِ؛ فَهُوَ صَدَقَةٌ)[57].

ج- وقوله صلى الله عليه وسلم: (أَعْطُوا الأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ)[58]، فهنا قرر النبيُّ صلى الله عليه وسلم كرامةَ العامل، وأوجب الوفاءَ بحقوقه المادية والمعنوية.

3- الحث على الاجتهاد والابتكار والإبداع في مجال الأعمال؛ ومن ذلك: ما جاء عَنْ عُرْوَةَ، قَالَ: (أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَى: أَنَّ الأَرْضَ أَرْضُ اللَّهِ، وَالْعِبَادَ عِبَادُ اللَّهِ، وَمَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، جَاءَنَا بِهَذَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِينَ جَاءُوا بِالصَّلَوَاتِ عَنْهُ)[59].

ثانيًا: وسائل المحافظة على المال "بقاءً واستمرارًا": للمحافظة على المال من جهة "البقاء والاستمرار"؛ شرع الإسلام الوسائل التالية:
1- ضَبَطَ التَّصرف في المال بحدود المصلحة العامة، ومن ثم حرَّم اكتساب المال بالوسائل غير المشروعة والتي تضر بالآخرين، وتخل بالتوازن الاجتماعي، وبكلِّ ما من شأنه يضر بمصالح الناس الدنيوية والأخروية؛ ولذا منع التعامل بالربا بأنواعه، ومنع المَيسر بأنواعه، ومنع الرِّشوة بأنواعه، ومن ذلك ما جاء عن عبد اللَّهِ بن عَمْرٍو - رضي الله عنهما - قال: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي)[60]. وفي روايةٍ: (لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي)[61].

أسباب تحريم الرِّشوة: حُرِّمت الرِّشوة؛ لأمرين:
الأول: أنها داخلة في أكل أموال الناس بالباطل، وأكل أموال الناس بالباطل محرَّم إجماعًا.

الثاني: أنها من أهم العوامل التي تُؤثِّر في مجرى العدل بين الناس، وتُغيِّر موازينه، وتُمهِّد للظلم في الأحكام، وإعطاء الحقوق لغير مستحقِّيها[62].

2- حرَّم الاعتداءَ على مال الغير؛ بالسرقة، أو السطو، أو التحايل؛ كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (كُلُّ الْمُسْلِمِ على الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)[63].

3- مَنَعَ إنفاقَ المال في الوجوه غير المشروعة، وحثَّ على إنفاقه في سبل الخير، وذلك مبني على قاعدة من أهم قواعد النظام الاقتصادي الإسلامي وهي أن المال مال الله، وأنَّ الفرد مُستخلَف فيه، ووكيل؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ [الحديد: 7]، وقال سبحانه:﴿ وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ ﴾ [ النور: 33]. ومن ثم كان على صاحب المال أن يتصرف في ماله في حدود ما رسمه له الشرع، فلا يجوز أن يُفتَن بالمال فيطغى بسببه؛ لأنَّ ذلك عامل فساد ودمار، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16]. ولا يجوز له أن يبذر في غير طائل، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ﴾ [الإسراء: 26، 27].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاَثًا؛ قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ)[64]. وفُسِّر إضاعة المال بأنه: إنفاق المال في الحرام. وقيل هو: الإسراف في الإنفاق وإن كان فيما يحل[65]. ولذلك (قال جمهور العلماء: يجب الحَجْر على كلِّ مُضيِّع لماله صغيرًا كان أو كبيرًا)[66].

4- دَعَا إلى تنمية المال واستثماره؛ حتى يؤدِّي وظيفته الاجتماعية، وبناءً عليه: حرَّم الإسلام حبسَ الأموال عن التداول؛ سواء كان ذلك بالاحتكار، أو بالاكتناز، أو بالتداول بين الأغنياء دون الفقراء.

وبهذه التشريعات كلِّها حَفِظَ الإسلامُ المالَ وصانَه عن الفساد؛ حتى يؤدي دورَه كقيمةٍ لا غِنَى عنها في حِفظ نظام الحياة الإنسانية، وتحقيق أهدافها الحضارية والإنسانية. شأنه في ذلك شأن كل المصالح السابقة التي تُمثِّل أساس الوجود الإنساني، وقِوام الحياة الإنسانية، ومركز الحضارة البشرية، والتي بدون مراعاتها وحِفْظِ نظامها يخرب العالم، وتستحيل الحياة الإنسانية، ويقف عطاؤها واستثمارها في هذا الوجود[67].

اعشق ملامحك
11-27-2023, 03:26 PM
جزاك الله خيـر
وبارك الله في جهودك
وأسال الله لك التوفيق دائما