حكاية ناي ♔
11-27-2023, 03:34 PM
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًّا عن أمته، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].
من تفكر في كتاب الله عز وجل، وجد ارتباطًا وثيقًا بين الإيمان والابتلاء، ولا تزال الاختبارات الإلهية تنزل بالمؤمن بين حين وآخر، وأمام الاختبارات الإلهية تنقسم ردة فعل الناس إلى أقسام، وهنا تأملت في كتاب الله مع كل بلاء ينزل: ما حال الناس؟ ما ردة فعلهم؟ كيف يتعاملون مع هذا البلاء؟ سأرحل معكم في ثلاث قصص من القرآن، وهناك تدركون معي التفاوت الذي يحصل بين كل حالة وحالة عندما ينزل البلاء على الإنسان.
الوقفة الأولى: من أرض اليمن ومن مأرب ومن مملكة سبأ، والقصة المشهورة في سورة سبأ التي يعرفها الصغير والكبير، البلدة الطيبة والنعيم العظيم الذي كانوا يعيشون فيه... وبتعبير القرآن: ﴿ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ﴾ [سبأ: 15]، لكن النتيجة كانت باختصار ﴿ فَأَعْرَضُوا ﴾ [سبأ: 16]، وكانت نتيجة الإعراض عقوبة الله جل في علاه، والعقوبة أن يذهب الماء الذي أحيا لهم الأرض، وإذهابه بسلسلة فئران ينهون تلك المملكة، ولم يكن هذا فقط حالهم، بل إن الله منَّ عليهم بأنهم ﴿ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [سبأ: 18]؛ وهي الشام ﴿ قُرًى ظَاهِرَةً ﴾ [سبأ: 18]، فكانت بين الشام واليمن قرًى متتالية، ﴿ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾ [سبأ: 18]؛ يسير الإنسان بأمن لا يخاف؛ لأنه بين قرية وأخرى، كل هذا كانت نتيجته إعراضًا، فبدلهم الله بالنعيم عقابًا وشتاتًا وهلاكًا، ولم يذكر القرآن في هذه القصة عودةً وإنابة، بل ختمت الآيات بـ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [سبأ: 19]، فهل صبروا؟ وهل شكروا؟ الذي يظهر من سياق الآيات أن أولئك عاشوا في بغي، واستمروا في بغيهم بعد نزول البلاء عليهم، كما أن الله شتتهم في الأرض شَذَرَ مَذَرَ، كما هو معروف في قصتهم.
من هنا ننتقل مباشرةً إلى مصر؛ لنرى ما تعرضوا له من الظلم والتعالي: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، إنه فرعون، وعندما يطبق عليهم البلاء ويقع عليهم الرجز المتوالي: الطوفان، والدم، والقُمَّل، وغير ذلك - يقولون لموسى: ﴿ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الأعراف: 134]، البلاء نزل فأعلنوا التوبة، فعندما انكشف البلاء: ﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ﴾ [الأعراف: 135]، إنها صورة بشرية مع الابتلاءات الإلهية، ينزل البلاء فيكون نوعًامن السكينة الوقتية والعودة الوقتية، فإذا رُفِعَ البلاء، رجع الإنسان مرةً أخرى إلى حالته الأولى من الكفر والعناد مع فاطر الأرض والسماء.
وأما القصة الثالثة، فمرة أخرى أعود بكم إلى أرض اليمن وإلى ضروان على بعد ستة أميال من صنعاء، وأصحاب الجنة الذين ورثوا عن أبيهم جنةً، كان أبوهم الرجل الصالح يقسم من هذه الجنة للفقراء والمساكين، أما الأبناء فإنهم ورثوا المال، ولم يرثوا الدين والخلق والقيم والمبادئ؛ ﴿ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ﴾ [القلم: 17]، وينهون العلاقة مع الفقراء والمساكين، لكن أراد الله أمرًا فجعلها ﴿ كَالصَّرِيمِ ﴾ [القلم: 20]، ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ﴾ [القلم: 26 - 28]، هنا ﴿ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ﴾ [القلم: 29 - 32]،إنها صورة أخرى للتعامل مع الابتلاء، انكسار... خضوع... بكاء... تذلل بين يدي الله جل في علاه، درس عظيم من الابتلاء يقرب إلى فاطر الأرض والسماء.
أسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلني ويجعلكم ويجعل من يسمعنا لاحقًا من أولئك الذين يتعاملون مع البلاء قربًا من فاطر الأرض والسماء، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، فيا لفوز المستغفرين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد:
فيا إخوتي في الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عندما ينزل البلاء على أقوام أيًّا كان ذلك البلاء في صحة، أو في مال، أو في ولد، أو في ضيق عيش - فإن الناس ينقسمون أمام البلاء إلى ثلاثة أقسام، تأملوها معي جيدًا، ثم أنزلوا أنفسكم على هذه الثلاثة: أي واحد منها أنت ذلك الرجل؟
القسم الأول: أصحاب التسخط، الذين يعترضون ويتسخطون ويتألمون، تراهم في أقوالهم وأفعالهم يتأففون ينزعجون، كل كلماتهم تدل على أنهم غير راضين بقضاء الله عليهم، أولئك جمعوا الشرين، ووقعوا في الإثمين، فلا بلاء الدنيا صفا لهم، ولا أجر الآخرة كُتب لهم.
أما القسم الثاني: الذين يصبرون فلا يتأففون ولا يتسخطون، لكنهم ربما لا يحتسبون الأجر عند الله، لا يتسخطون فيسكتون، لكن الواحد فيهم لا يستشعر أن هذا رفعُ منزلةٍ عند المولى جل في علاه، فلا يحتسب وإنما يصبر، فحال أولئك أنه تكفر خطاياهم، وأما ثبوت أجر إضافي لهم فمحلُّ نظر عند العلماء؛ لأن الأصل أن الإنسان يحتسب، وهذه هي المرتبة الثالثة العليا والعظمى، نزل البلاء - أيًّا كان البلاء - فصبرٌ بلا تأفف ولا تسخط ولا جَزَع، وأيضًا احتساب أن كل شيء نزل عليَّ هو أجر عند الله أحتسبه عند الله، فيستشعر معنى الاحتساب؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمًّى، فلتصبر، ولتحتسب))؛ [متفق عليه].
حتى هذه المرتبة الثالثة التي هي أعلى المراتب ينقسم فيها الناس إلى ثلاثة أقسام:
الأول: صابر، محتسب، كاره للبلاء، وهذه الطبيعية، وكل الناس ربما يعيشون هذه المرحلة، وهذا طبيعي أن يكون الإنسان كارهًا للبلاء، فيؤجرون وتكفر سيئاتهم، لكن المرتبة الأعظم: صابر، محتسب، راضٍ، وحال أولئك مثل الذي يتناول الدواء المرَّ ويرضى عن تناوله؛ لأنه يعلم ما بعده من الشفاء، فهناك رضًا مع المرارة، رضًا قلبي، فهذه مرتبة أعلى وأعظم؛ قال عنها عليه الصلاة والسلام: ((فمن رضي فله الرضا، ومن سخِط فله السخط))؛ [حسنه الألباني].
أما المرتبة الأخيرة العليا العظمى التي نسعى إليها، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم جميعًا منها: أن يكون الإنسان صابرًا محتسبًا فرِحًا بالبلاء، فرحًا بالبلاء! أمر عجيب! كيف أفرح بالبلاء؟! لو أصيب أحد أفراد أسرتي بداءٍ مثل مرض عصرنا اليوم، أو نزلت عليه كارثة مالية أو وظيفية أو أسرية، أيُفرَح بالبلاء؟! ثمة أقوامٌ يفرحون بالبلاء، ويعتبرون البلاء منزلةً عليا عندما يتذكرون أن منزلة الحب مع الله ارتبطت بالبلاء، تأمل معي هذه الآية، فأولئك الذين يعرفون حب البلاء قالوا: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾ [التوبة: 51]، لم يقولوا: علينا، قالوا: لنا، كأنها ميزة أُهديت إليهم: ﴿ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾، ولم يقولوا: علينا؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((ولأحدهم كان أشد فرحًا بالبلاء من أحدكم بالعطاء))؛ [صححه الألباني]، والذي يوصلنا إلى هذه المنزلة نية صادقة، ثم صبر ومصابرة ومثابرة، ثم دعاء واستمرار، فإذا وصلت إليها، هانت كل الدنيا بين يديك، أسأل الله أن يمنَّ عليَّ وعليكم ببلوغ هذه المنزلة.
ألا وصلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير؛ فإن الله أمركم بذلك في كتابه قائلًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، فجزاه الله عنا خير ما جزى نبيًّا عن أمته، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فيا عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله: ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 281].
من تفكر في كتاب الله عز وجل، وجد ارتباطًا وثيقًا بين الإيمان والابتلاء، ولا تزال الاختبارات الإلهية تنزل بالمؤمن بين حين وآخر، وأمام الاختبارات الإلهية تنقسم ردة فعل الناس إلى أقسام، وهنا تأملت في كتاب الله مع كل بلاء ينزل: ما حال الناس؟ ما ردة فعلهم؟ كيف يتعاملون مع هذا البلاء؟ سأرحل معكم في ثلاث قصص من القرآن، وهناك تدركون معي التفاوت الذي يحصل بين كل حالة وحالة عندما ينزل البلاء على الإنسان.
الوقفة الأولى: من أرض اليمن ومن مأرب ومن مملكة سبأ، والقصة المشهورة في سورة سبأ التي يعرفها الصغير والكبير، البلدة الطيبة والنعيم العظيم الذي كانوا يعيشون فيه... وبتعبير القرآن: ﴿ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ ﴾ [سبأ: 15]، لكن النتيجة كانت باختصار ﴿ فَأَعْرَضُوا ﴾ [سبأ: 16]، وكانت نتيجة الإعراض عقوبة الله جل في علاه، والعقوبة أن يذهب الماء الذي أحيا لهم الأرض، وإذهابه بسلسلة فئران ينهون تلك المملكة، ولم يكن هذا فقط حالهم، بل إن الله منَّ عليهم بأنهم ﴿ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ﴾ [سبأ: 18]؛ وهي الشام ﴿ قُرًى ظَاهِرَةً ﴾ [سبأ: 18]، فكانت بين الشام واليمن قرًى متتالية، ﴿ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾ [سبأ: 18]؛ يسير الإنسان بأمن لا يخاف؛ لأنه بين قرية وأخرى، كل هذا كانت نتيجته إعراضًا، فبدلهم الله بالنعيم عقابًا وشتاتًا وهلاكًا، ولم يذكر القرآن في هذه القصة عودةً وإنابة، بل ختمت الآيات بـ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴾ [سبأ: 19]، فهل صبروا؟ وهل شكروا؟ الذي يظهر من سياق الآيات أن أولئك عاشوا في بغي، واستمروا في بغيهم بعد نزول البلاء عليهم، كما أن الله شتتهم في الأرض شَذَرَ مَذَرَ، كما هو معروف في قصتهم.
من هنا ننتقل مباشرةً إلى مصر؛ لنرى ما تعرضوا له من الظلم والتعالي: ﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ﴾ [النازعات: 24]، إنه فرعون، وعندما يطبق عليهم البلاء ويقع عليهم الرجز المتوالي: الطوفان، والدم، والقُمَّل، وغير ذلك - يقولون لموسى: ﴿ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الأعراف: 134]، البلاء نزل فأعلنوا التوبة، فعندما انكشف البلاء: ﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ﴾ [الأعراف: 135]، إنها صورة بشرية مع الابتلاءات الإلهية، ينزل البلاء فيكون نوعًامن السكينة الوقتية والعودة الوقتية، فإذا رُفِعَ البلاء، رجع الإنسان مرةً أخرى إلى حالته الأولى من الكفر والعناد مع فاطر الأرض والسماء.
وأما القصة الثالثة، فمرة أخرى أعود بكم إلى أرض اليمن وإلى ضروان على بعد ستة أميال من صنعاء، وأصحاب الجنة الذين ورثوا عن أبيهم جنةً، كان أبوهم الرجل الصالح يقسم من هذه الجنة للفقراء والمساكين، أما الأبناء فإنهم ورثوا المال، ولم يرثوا الدين والخلق والقيم والمبادئ؛ ﴿ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ﴾ [القلم: 17]، وينهون العلاقة مع الفقراء والمساكين، لكن أراد الله أمرًا فجعلها ﴿ كَالصَّرِيمِ ﴾ [القلم: 20]، ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ﴾ [القلم: 26 - 28]، هنا ﴿ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ * قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ﴾ [القلم: 29 - 32]،إنها صورة أخرى للتعامل مع الابتلاء، انكسار... خضوع... بكاء... تذلل بين يدي الله جل في علاه، درس عظيم من الابتلاء يقرب إلى فاطر الأرض والسماء.
أسأل الله العلي العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلني ويجعلكم ويجعل من يسمعنا لاحقًا من أولئك الذين يتعاملون مع البلاء قربًا من فاطر الأرض والسماء، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، فيا لفوز المستغفرين.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛ أما بعد:
فيا إخوتي في الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عندما ينزل البلاء على أقوام أيًّا كان ذلك البلاء في صحة، أو في مال، أو في ولد، أو في ضيق عيش - فإن الناس ينقسمون أمام البلاء إلى ثلاثة أقسام، تأملوها معي جيدًا، ثم أنزلوا أنفسكم على هذه الثلاثة: أي واحد منها أنت ذلك الرجل؟
القسم الأول: أصحاب التسخط، الذين يعترضون ويتسخطون ويتألمون، تراهم في أقوالهم وأفعالهم يتأففون ينزعجون، كل كلماتهم تدل على أنهم غير راضين بقضاء الله عليهم، أولئك جمعوا الشرين، ووقعوا في الإثمين، فلا بلاء الدنيا صفا لهم، ولا أجر الآخرة كُتب لهم.
أما القسم الثاني: الذين يصبرون فلا يتأففون ولا يتسخطون، لكنهم ربما لا يحتسبون الأجر عند الله، لا يتسخطون فيسكتون، لكن الواحد فيهم لا يستشعر أن هذا رفعُ منزلةٍ عند المولى جل في علاه، فلا يحتسب وإنما يصبر، فحال أولئك أنه تكفر خطاياهم، وأما ثبوت أجر إضافي لهم فمحلُّ نظر عند العلماء؛ لأن الأصل أن الإنسان يحتسب، وهذه هي المرتبة الثالثة العليا والعظمى، نزل البلاء - أيًّا كان البلاء - فصبرٌ بلا تأفف ولا تسخط ولا جَزَع، وأيضًا احتساب أن كل شيء نزل عليَّ هو أجر عند الله أحتسبه عند الله، فيستشعر معنى الاحتساب؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمًّى، فلتصبر، ولتحتسب))؛ [متفق عليه].
حتى هذه المرتبة الثالثة التي هي أعلى المراتب ينقسم فيها الناس إلى ثلاثة أقسام:
الأول: صابر، محتسب، كاره للبلاء، وهذه الطبيعية، وكل الناس ربما يعيشون هذه المرحلة، وهذا طبيعي أن يكون الإنسان كارهًا للبلاء، فيؤجرون وتكفر سيئاتهم، لكن المرتبة الأعظم: صابر، محتسب، راضٍ، وحال أولئك مثل الذي يتناول الدواء المرَّ ويرضى عن تناوله؛ لأنه يعلم ما بعده من الشفاء، فهناك رضًا مع المرارة، رضًا قلبي، فهذه مرتبة أعلى وأعظم؛ قال عنها عليه الصلاة والسلام: ((فمن رضي فله الرضا، ومن سخِط فله السخط))؛ [حسنه الألباني].
أما المرتبة الأخيرة العليا العظمى التي نسعى إليها، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم جميعًا منها: أن يكون الإنسان صابرًا محتسبًا فرِحًا بالبلاء، فرحًا بالبلاء! أمر عجيب! كيف أفرح بالبلاء؟! لو أصيب أحد أفراد أسرتي بداءٍ مثل مرض عصرنا اليوم، أو نزلت عليه كارثة مالية أو وظيفية أو أسرية، أيُفرَح بالبلاء؟! ثمة أقوامٌ يفرحون بالبلاء، ويعتبرون البلاء منزلةً عليا عندما يتذكرون أن منزلة الحب مع الله ارتبطت بالبلاء، تأمل معي هذه الآية، فأولئك الذين يعرفون حب البلاء قالوا: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾ [التوبة: 51]، لم يقولوا: علينا، قالوا: لنا، كأنها ميزة أُهديت إليهم: ﴿ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا ﴾، ولم يقولوا: علينا؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((ولأحدهم كان أشد فرحًا بالبلاء من أحدكم بالعطاء))؛ [صححه الألباني]، والذي يوصلنا إلى هذه المنزلة نية صادقة، ثم صبر ومصابرة ومثابرة، ثم دعاء واستمرار، فإذا وصلت إليها، هانت كل الدنيا بين يديك، أسأل الله أن يمنَّ عليَّ وعليكم ببلوغ هذه المنزلة.
ألا وصلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير؛ فإن الله أمركم بذلك في كتابه قائلًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].