حكاية ناي ♔
11-27-2023, 03:39 PM
إنَّ الحمدَ لله، نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُهُ ورسُولُهُ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَنْ تَبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا، أما بعدُ:
فاتقوا الله عبادَ الله حق التقوى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
عباد الله، طوبى للعبد الصالح فكل خطوةٍ يخطوها في الخير مسطورةٌ مسجلةٌ، فالملائكة بها مُوكَّلةٌ، وإلى تدوينها مسارعة، تأملوا هذا الخبر عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟"، قَالَ: أَنَا، قَالَ: "رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أوَّلُ"؛ رواه البخاري.
حريٌّ بمن سمع هذا الخبر أن يبتدر كل طاعة فيسارع إليها، ويقبل عليها، ويفرح بها، فإن هذه الآثار محصيةٌ مكتوبةٌ له عند ربه، وغدًا سيفرح بها أعظم الفرح، قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [يس: 12]، قال السعدي رحمه الله: "وهي آثار الخير وآثار الشر، التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرًا، من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدًا، أو محلًّا من المحال التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تُكتَب له" [1].
قال قتادة: لو كان الله تعالى مُغفلًا شيئًا من شأنك يا بن آدم، أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله، حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله أو من معصيته، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله، فليفعل.
ها هو النبي صلى الله عليه وسلم يحث بني سلمة رضي الله عنهم على الاستكثار من آثار الخير؛ فعن جَابِرِ بْنِ عبدالله رضي الله عنهما؛ قَالَ: خَلَتِ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، فَأَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إلى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُمْ: "إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ"، قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ: "يَا بَنِي سَلِمَةَ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثارُكم، ديارَكم تُكتبْ آثارُكم"؛ رواه مسلم.
عباد الله، تأملوا هذا الخبر عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: تُوُفِّيَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَا لَيْتَهُ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْلِدِهِ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ: لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا تُوُفِّيَ فِي غَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إلى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ، فِي الْجَنَّةِ"؛ رواه النسائي وابن حبان وحسَّنه الألباني.
• هكذا هي الآثار الصالحة ترفع صاحبها في أعالي الجنان، فينبغي للعبد أن يستكثر من الحسنات، ويسارع إلى الصالحات، وليعلم أن كل عمل صالح ولو قل إذا صاحَبَه الإخلاص وموافقة السنة، فإن الله يضاعفه لصاحبه وينميه، قال تعالى: ﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ﴾ [المزمل: 20]، قال السعدي رحمه الله: "وليعلم أن مثقال ذرة من الخير في هذه الدار، يقابله أضعاف أضعاف الدنيا، وما عليها في دار النعيم المقيم، من اللذات والشهوات، وأن الخير والبر في هذه الدنيا، مادة الخير والبر في دار القرار، وبذره وأصله وأساسه، فوا أسفاه على أوقات مضت في الغفلات! و وا حسرتاه على أزمان تقضت بغير الأعمال الصالحات! و وا غوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها، ولم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها منها! فلك اللهم الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك"[2].
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات والمسارعة إليها والفرح بها، اللهم وفقنا لعمل الصالحات، واجعلها من الآثار الباقية يا حي يا قيوم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إلى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أما بعد:
عباد الله، من أعظم الآثار التي يعملها العبد ما يستمر أجرها مع العبد حال حياته وبعد مماته؛ ولذا كان من دعاء إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾ [الشعراء: 84]، قال ابن كثير رحمه الله: أي: واجعل لي ذكرًا جميلًا بعدي أذكر به، ويقتدى بي في الخير، وقد خَلَّفَ عليه السلام من الآثار والذكر الحسن ما يبقى إلى قيام الساعة، فنبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم يقتفي أثر إبراهيم عليه السلام، ويسير على مِلَّته؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [النحل: 123]، وكذلك أمته من بعده: ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [آل عمران: 95].
عباد الله، أبواب الخيرات والصالحات والآثار المتعدية كثيرة متعددة، فطوبى لمن ابتدرها، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْخَيْرَ خَزَائِنُ، وَلِتِلْكَ الْخَزَائِنِ مَفَاتِيحُ، فَطُوبَى لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ، مِغْلَاقًا لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لَلشَّرِّ، مِغْلَاقًا لِلْخَيْرِ»؛ رواه ابن ماجه وحسَّنه الألباني.
ومن تلك الأعمال والآثار ما رواه أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ"؛ رواه الترمذي وصححه الألباني.
فما أعظم أن يعتني العبد بهذه الأعمال! فيوقف أو يشارك في الأوقاف ولو بالقليل، ويساهم في نشر العلم وتعليمه، وأعظمه تعليم القرآن وتعليم سورة الفاتحة لمن لا يحسنها، والبذل في تعليم القرآن، ومن ذلك العناية بتربية الأبناء والصبر عليهم والمبادرة إلى تعليمهم الدين؛ كالوضوء والصلاة والقرآن والآداب، فكل ذلك حسنات باقية للعبد.
ومن تلك الأعمال والآثار الدعوة إلى الله والدلالة على الخير؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَعَا إلى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»؛ رواه مسلم، ففي هذا الحديث "الحث على الدعوة إلى الهدى والخير، وفضل الداعي، والهدى: هو العلم النافع، والعمل الصالح.
فكل من علم علمًا أو وجه المتعلمين إلى سلوك طريقة يحصل لهم فيها علم، فهو داعٍ إلى الهدى.
وكل من دعا إلى عمل صالح يتعلق بحق الله، أو بحقوق الخلق العامة والخاصة، فهو داعٍ إلى الهدى.
وكل من أبدى نصيحة دينية أو دنيوية يتوسل بها إلى الدين، فهو داعٍ إلى الهدى.
وكل من اهتدى في علمه أو عمله، فاقتدى به غيره، فهو داعٍ إلى الهدى.
وكل من تقدم غيره بعمل خيري، أو مشروع عام النفع، فهو داخل في النص" [3].
فلنبادر عباد الله إلى فعل الخيرات، ولنستكثر من الآثار الباقية، ولنغتنم ساعات الليل والنهار فيما يقربنا إلى عز وجل، اللهم اجعل لنا لسان صدق في الآخرين، اللهم اجعلنا من المسارعين في الخيرات يا حي يا قيوم.
فاتقوا الله عبادَ الله حق التقوى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
عباد الله، طوبى للعبد الصالح فكل خطوةٍ يخطوها في الخير مسطورةٌ مسجلةٌ، فالملائكة بها مُوكَّلةٌ، وإلى تدوينها مسارعة، تأملوا هذا الخبر عَنْ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ قَالَ: كُنَّا يَوْمًا نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ"، قَالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "مَنِ الْمُتَكَلِّمُ؟"، قَالَ: أَنَا، قَالَ: "رَأَيْتُ بِضْعَةً وَثَلَاثِينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَهَا أَيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أوَّلُ"؛ رواه البخاري.
حريٌّ بمن سمع هذا الخبر أن يبتدر كل طاعة فيسارع إليها، ويقبل عليها، ويفرح بها، فإن هذه الآثار محصيةٌ مكتوبةٌ له عند ربه، وغدًا سيفرح بها أعظم الفرح، قال تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ ﴾ [يس: 12]، قال السعدي رحمه الله: "وهي آثار الخير وآثار الشر، التي كانوا هم السبب في إيجادها في حال حياتهم وبعد وفاتهم، وتلك الأعمال التي نشأت من أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، فكل خير عمل به أحد من الناس، بسبب علم العبد وتعليمه ونصحه، أو أمره بالمعروف، أو نهيه عن المنكر، أو علم أودعه عند المتعلمين، أو في كتب ينتفع بها في حياته وبعد موته، أو عمل خيرًا، من صلاة أو زكاة أو صدقة أو إحسان، فاقتدى به غيره، أو عمل مسجدًا، أو محلًّا من المحال التي يرتفق بها الناس، وما أشبه ذلك، فإنها من آثاره التي تُكتَب له" [1].
قال قتادة: لو كان الله تعالى مُغفلًا شيئًا من شأنك يا بن آدم، أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله، حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله أو من معصيته، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله، فليفعل.
ها هو النبي صلى الله عليه وسلم يحث بني سلمة رضي الله عنهم على الاستكثار من آثار الخير؛ فعن جَابِرِ بْنِ عبدالله رضي الله عنهما؛ قَالَ: خَلَتِ الْبِقَاعُ حَوْلَ الْمَسْجِدِ، فَأَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَنْتَقِلُوا إلى قُرْبِ الْمَسْجِدِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُمْ: "إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَنْتَقِلُوا قُرْبَ الْمَسْجِدِ"، قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَرَدْنَا ذَلِكَ، فَقَالَ: "يَا بَنِي سَلِمَةَ، دِيَارَكُمْ تُكْتَبْ آثارُكم، ديارَكم تُكتبْ آثارُكم"؛ رواه مسلم.
عباد الله، تأملوا هذا الخبر عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: تُوُفِّيَ رَجُلٌ بِالْمَدِينَةِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "يَا لَيْتَهُ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْلِدِهِ"، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ النَّاسِ: لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا تُوُفِّيَ فِي غَيْرِ مَوْلِدِهِ قِيسَ لَهُ مِنْ مَوْلِدِهِ إلى مُنْقَطَعِ أَثَرِهِ، فِي الْجَنَّةِ"؛ رواه النسائي وابن حبان وحسَّنه الألباني.
• هكذا هي الآثار الصالحة ترفع صاحبها في أعالي الجنان، فينبغي للعبد أن يستكثر من الحسنات، ويسارع إلى الصالحات، وليعلم أن كل عمل صالح ولو قل إذا صاحَبَه الإخلاص وموافقة السنة، فإن الله يضاعفه لصاحبه وينميه، قال تعالى: ﴿ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ﴾ [المزمل: 20]، قال السعدي رحمه الله: "وليعلم أن مثقال ذرة من الخير في هذه الدار، يقابله أضعاف أضعاف الدنيا، وما عليها في دار النعيم المقيم، من اللذات والشهوات، وأن الخير والبر في هذه الدنيا، مادة الخير والبر في دار القرار، وبذره وأصله وأساسه، فوا أسفاه على أوقات مضت في الغفلات! و وا حسرتاه على أزمان تقضت بغير الأعمال الصالحات! و وا غوثاه من قلوب لم يؤثر فيها وعظ بارئها، ولم ينجع فيها تشويق من هو أرحم بها منها! فلك اللهم الحمد، وإليك المشتكى، وبك المستغاث، ولا حول ولا قوة إلا بك"[2].
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات والمسارعة إليها والفرح بها، اللهم وفقنا لعمل الصالحات، واجعلها من الآثار الباقية يا حي يا قيوم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إلى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا، أما بعد:
عباد الله، من أعظم الآثار التي يعملها العبد ما يستمر أجرها مع العبد حال حياته وبعد مماته؛ ولذا كان من دعاء إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴾ [الشعراء: 84]، قال ابن كثير رحمه الله: أي: واجعل لي ذكرًا جميلًا بعدي أذكر به، ويقتدى بي في الخير، وقد خَلَّفَ عليه السلام من الآثار والذكر الحسن ما يبقى إلى قيام الساعة، فنبيُّنا محمد صلى الله عليه وسلم يقتفي أثر إبراهيم عليه السلام، ويسير على مِلَّته؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [النحل: 123]، وكذلك أمته من بعده: ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [آل عمران: 95].
عباد الله، أبواب الخيرات والصالحات والآثار المتعدية كثيرة متعددة، فطوبى لمن ابتدرها، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ هَذَا الْخَيْرَ خَزَائِنُ، وَلِتِلْكَ الْخَزَائِنِ مَفَاتِيحُ، فَطُوبَى لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لِلْخَيْرِ، مِغْلَاقًا لِلشَّرِّ، وَوَيْلٌ لِعَبْدٍ جَعَلَهُ اللَّهُ مِفْتَاحًا لَلشَّرِّ، مِغْلَاقًا لِلْخَيْرِ»؛ رواه ابن ماجه وحسَّنه الألباني.
ومن تلك الأعمال والآثار ما رواه أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ"؛ رواه الترمذي وصححه الألباني.
فما أعظم أن يعتني العبد بهذه الأعمال! فيوقف أو يشارك في الأوقاف ولو بالقليل، ويساهم في نشر العلم وتعليمه، وأعظمه تعليم القرآن وتعليم سورة الفاتحة لمن لا يحسنها، والبذل في تعليم القرآن، ومن ذلك العناية بتربية الأبناء والصبر عليهم والمبادرة إلى تعليمهم الدين؛ كالوضوء والصلاة والقرآن والآداب، فكل ذلك حسنات باقية للعبد.
ومن تلك الأعمال والآثار الدعوة إلى الله والدلالة على الخير؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ دَعَا إلى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا»؛ رواه مسلم، ففي هذا الحديث "الحث على الدعوة إلى الهدى والخير، وفضل الداعي، والهدى: هو العلم النافع، والعمل الصالح.
فكل من علم علمًا أو وجه المتعلمين إلى سلوك طريقة يحصل لهم فيها علم، فهو داعٍ إلى الهدى.
وكل من دعا إلى عمل صالح يتعلق بحق الله، أو بحقوق الخلق العامة والخاصة، فهو داعٍ إلى الهدى.
وكل من أبدى نصيحة دينية أو دنيوية يتوسل بها إلى الدين، فهو داعٍ إلى الهدى.
وكل من اهتدى في علمه أو عمله، فاقتدى به غيره، فهو داعٍ إلى الهدى.
وكل من تقدم غيره بعمل خيري، أو مشروع عام النفع، فهو داخل في النص" [3].
فلنبادر عباد الله إلى فعل الخيرات، ولنستكثر من الآثار الباقية، ولنغتنم ساعات الليل والنهار فيما يقربنا إلى عز وجل، اللهم اجعل لنا لسان صدق في الآخرين، اللهم اجعلنا من المسارعين في الخيرات يا حي يا قيوم.