حكاية ناي ♔
11-30-2023, 11:17 AM
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعد:
فقد جاء الشَّرعُ الحكيمُ بالدَّعوةِ إلى مكارِمِ الأخلاق؛ كما أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن نفسِه: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ» صحيح – رواه أحمد. وَقَدْ كَانَ يُقَالُ: (لَيْسَ مِنْ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَلَا فِعْلٍ جَمِيلٍ؛ إِلَّا وَقَدْ وَصَلَهُ اللَّهُ بِالدِّينِ).
ومتى ابتعدت النُّفوسُ عن الدِّين؛ عاشت المُجتمعاتُ في فوضَى أخلاقية؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِى وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ» رواه البخاري. وما وقوعُ أمثالِ هذه الجرائمِ الخُلُقيَّةِ إلاَّ نتيجةَ ضَعْفِ الوازِعِ الأخلاقِي.
ومِنْ أجْلِ ذلك بيَّنَ النبيُّ الكريمُ صلى الله عليه وسلم مدى الارتباطِ الوَثِيقِ بين الإيمانِ والأَخلاقِ الحميدة، وبين الكُفرِ ومَساوِئِ الأخلاق؛ فقال: «لاَ يَجْتَمِعُ الإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ، وَلاَ يَجْتَمِعُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ جَمِيعًا، وَلاَ تَجْتَمِعُ الْخِيَانَةُ وَالأَمَانَةُ جَمِيعًا» حسن – رواه أحمد. وأخبرَ صلى الله عليه وسلم عن خَطَرِ ضَعْفِ الوازِعِ الأخلاقِي، وتَبَدُّلِ القِيَمِ الصَّحيحةِ الذي يَظْهَرُ في تَخْوِينِ الأمينِ، والثِّقَةِ بِالمُتَّهَمِ؛ إذْ قال: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ: يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ» صحيح – رواه ابن ماجه.
والأمانةُ لا تُقبضُ دُفعةً واحدةً، عندَ أوَّلِ معصيةٍ يَقْتَرِفُها الإنسانُ؛ بل تُقبَضُ بِالتَّدْرِيج. وهذا الضَّعْفُ والتَّدْرِيجُ عَبَّرَ عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث بالْوَكْتِ والْمَجْلِ – في قولِه: «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ [أي: الأثَرُ في الشَّيءِ كالنُّقطَةِ من غَيرِ لَونِه]. ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ [أي: النُّفَّاخَاتُ التي تَخْرُجُ في الأيدي عِندَ كثرةِ العَمَلِ، مملوءة ماء]؛ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ [أي: تَوَرَّمَ بِالماءِ]، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا [أي: مُرْتَفِعًا] وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ. فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينًا» رواه البخاري. والمعنى: تُصْبِحُ الأمانةُ – في المجتمع – اسْمًا لا مُسمَّى له في القلوب، ولا أثَرَ له في السُّلوك، ويُصْبِحُ الحديثُ عنها كَلَامًا فقط، ليس له حقيقةٌ في الواقع.
وحِينَ تضيعُ الأمانةُ شيئًا فشيئًا يُصْبِحُ الكَذِبُ والخِيانةُ في القَولِ والعَملِ عادةً تأْلَفُها النُّفوسُ المريضةُ، فينعكس ذلك على تَصَرُّفاتِ الناس، وسلوكِهم؛ باستحلالِ المُحرَّمات، ثم تُصْبِحُ الأمانةُ عُمْلَةً نادرةً بين أفراد المجتمع، وقد حذَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من كثرةِ الكَذَبَةِ في آخِرِ الزَّمانِ، وخاصَّةً فيما يُرْوَى عنه من أحاديث، قائلاً: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، يَأْتُونَكُمْ مِنَ الأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ! فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ، لاَ يُضِلُّونَكُمْ، وَلاَ يَفْتِنُونَكُمْ» رواه مسلم.
ومِنْ سُنَنِ اللهِ تعالى في خَلْقِه: أنْ جَعَلَ ضَعْفَ الأخلاقِ يتمُّ في المجتمعات على مراحل، وليس دُفعةً واحدة؛ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلاَ يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» رواه البخاري. ومع الأسَفِ الشَّديدِ نَجِد – في بعضِ مُجتمعاتِ المسلمين – مَنْ يُصَلِّي في المسجد، ولكنَّه يَكذِبُ في تَعامُلاتِه، ويَخون الأمانةَ!
ومِنْ خِصَالِ المنافقين – التي حذَّر منها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: الكَذِبُ والخِيانَةُ، إذْ قال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» فمَنْ غَلَبَتْ عليه هاتان الخَصْلَتان؛ كان شَبِيهًا بِالمُنافقين، والعياذُ بالله. والمُجتمعُ الذي تنتَشِرُ بين أفرادِه هذه الأدواءُ السُّلوكية؛ نِهايَتُه إلى زَوالٍ لا مَحالَةَ، مهما بَلَغَ مِنْ تقدُّمٍ ورُقِيٍّ مادِّي.
والخُلُقُ السَّوِيُّ جِبَلَّةٌ في النَّفْسِ البشرِيَّةِ، يَقْوَى بالإيمانِ والتَّعاوُنِ على البِرِّ والتَّقوى، وإذا ضَعُفَ الإيمانُ، وتلوَّثتْ الفِطرةُ النَّقيةُ، وتخلخَلَ البِناءُ الخُلُقِيُّ في النفس الإنسانية؛ ظهرتْ آثارٌ سلوكيةٌ خاطِئَةٌ، ودَبَّ – بين أفرادِ المجتمع – دَاءُ البَغضاءِ والكراهية، فتَنقلِبُ الفضائِلُ إلى أضدادِها، وتَضِيعُ الأمانةُ في المُجتمعاتِ، وتَبْرُزُ الفِتَنُ، وتَظْهَرُ المِحَنُ، ويَتَقوَّضُ بِناءُ المجتمع، وتتهَدَّمُ أركانُه، وقد حذَّرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم من التَّنافُسِ على الدنيا بقوله: «مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» رواه مسلم. وقد ربَطَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين كَمالِ الإيمان، وأداءِ الأمانة، وبيَّنَ أنَّ قُوَّةَ النَّفسِ تَكمُنُ في اجتنابِ الإساءَةِ إلى الآخَرِينَ، والبُعْدِ عن أذيَّةِ الجار، ورِعايةِ حَقِّهِ، فقال: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَبْدٌ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» صحيح – رواه أحمد.
والنُّفوسُ المُتنافِسَةُ على مَلذَّاتِ الدنيا؛ تهونُ لديها مَوازِينُ الأخلاق؛ فتقع في الظُّلْمِ والبَغِي، وقد حذَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الوقوع في الظُّلم، وبيَّنَ عاقبةَ ذلك في الآخرة، في قوله: «مَنْ ظَلَمَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئًا؛ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» رواه البخاري. والمعنى: أنْ يَخْسِفَ اللهُ به الأرض، فتصير البُقعةُ المغصوبةُ منها في عُنُقِه كالطَّوق.
الخطبة الثانية
الحمد لله... أيها المسلمون.. نهى الإسلامُ عن التَّحاسُدِ والتَّشاحُنِ من أجل متاع الدنيا، ولو كان قليلاً؛ يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ، الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا...» حسن – رواه الترمذي.
ويدخل في جانبِ العداوةِ والبَغضاءِ اختلافُ القلوب، وتنافُرُ النُّفوسِ داخل المُجتمعِ الواحد؛ ولَمَّا نَظَرَ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه إلى المال الذي أُتِيَ به من نَهَاوَنْد؛ بكى. فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما هذا بيومِ حُزنٍ ولا بُكاءٍ! فقال: (قد عرفتُ، ولكنه لَمْ يَفْشُ مَالٌ في قومٍ قطُّ إلاَّ ألْقَى اللهُ تعالى بينهم العداوةَ والبغضاءَ إلى يوم القيامة). ولعلَّ عمرَ رضي الله عنه خَشِيَ من أثَرِ التَّنافُسِ في الدنيا، وعدمِ أداءِ الحُقوقِ فيها – أنْ يَحِلَّ بالناس بسبب ذلك العداوةُ والبغضاءُ.
عباد الله.. إنَّ المُتأمِّلَ للعداوةِ والبغضاءِ يجِدُها تنطلِقُ من سُلوكٍ تلقائيٍّ مُتأثِّرٍ بالرَّذائل؛ مِثْل الظُّلْمِ والعُدْوانِ وغيرها، وعندما تغيب مكارِمُ الأخلاقِ يَكثرُ التَّشاحُنُ والقطيعةُ بين أفراد المجتمع؛ ولذا حثَّ الإسلامُ على العدلِ في العلاقات، وتربيةِ النفسِ على الإِنْصافِ مع المُخالِفِ، ودعا إلى مُداواة النُّفوسِ ومُعالَجَتِها عند الاختلاف بالحِكمة، حتى لا تتحولَ أواصِرُ المحبة بين المُتخاصِمَين إلى عداوةٍ مَقِيتَةٍ، وبَغضاءَ مَشِينة، فنهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الهَجْرِ بين المُتخاصِمَين فوقَ ثلاثِ ليالٍ: «لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا، وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ» رواه البخاري ومسلم. فلا يَحِلُّ التَّهاجُرُ بين المسلمين فوقَ ثلاثِ ليالٍ؛ لأنَّ ذلك يُوجِبُ العداوةَ والبغضاءَ، والتَّفَرُّقَ، إلاَّ أن يكون مُجاهِرًا بمعصيةٍ، ويكون في هَجْرِهِ مصلحةٌ تَرْدَعُه عن المعصية، فيكون بمنزلة الدَّواءِ في إزالةِ المعصية أو تخفيفِها.
وقد جاء الوعيدُ بعدم المَغْفِرَةِ لِهذين المُتَشاحِنَينِ حتى يَصْطَلِحَا؛ في قوله صلى الله عليه وسلم: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ. فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» رواه مسلم. فبِسَبَبِ العَداوةِ بين اثنين؛ مُنِعَتْ عنهما المَغْفِرَةُ!
فقد جاء الشَّرعُ الحكيمُ بالدَّعوةِ إلى مكارِمِ الأخلاق؛ كما أخبرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن نفسِه: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ» صحيح – رواه أحمد. وَقَدْ كَانَ يُقَالُ: (لَيْسَ مِنْ خُلُقٍ كَرِيمٍ، وَلَا فِعْلٍ جَمِيلٍ؛ إِلَّا وَقَدْ وَصَلَهُ اللَّهُ بِالدِّينِ).
ومتى ابتعدت النُّفوسُ عن الدِّين؛ عاشت المُجتمعاتُ في فوضَى أخلاقية؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِى وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ» رواه البخاري. وما وقوعُ أمثالِ هذه الجرائمِ الخُلُقيَّةِ إلاَّ نتيجةَ ضَعْفِ الوازِعِ الأخلاقِي.
ومِنْ أجْلِ ذلك بيَّنَ النبيُّ الكريمُ صلى الله عليه وسلم مدى الارتباطِ الوَثِيقِ بين الإيمانِ والأَخلاقِ الحميدة، وبين الكُفرِ ومَساوِئِ الأخلاق؛ فقال: «لاَ يَجْتَمِعُ الإِيمَانُ وَالْكُفْرُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ، وَلاَ يَجْتَمِعُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ جَمِيعًا، وَلاَ تَجْتَمِعُ الْخِيَانَةُ وَالأَمَانَةُ جَمِيعًا» حسن – رواه أحمد. وأخبرَ صلى الله عليه وسلم عن خَطَرِ ضَعْفِ الوازِعِ الأخلاقِي، وتَبَدُّلِ القِيَمِ الصَّحيحةِ الذي يَظْهَرُ في تَخْوِينِ الأمينِ، والثِّقَةِ بِالمُتَّهَمِ؛ إذْ قال: «سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ: يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ» صحيح – رواه ابن ماجه.
والأمانةُ لا تُقبضُ دُفعةً واحدةً، عندَ أوَّلِ معصيةٍ يَقْتَرِفُها الإنسانُ؛ بل تُقبَضُ بِالتَّدْرِيج. وهذا الضَّعْفُ والتَّدْرِيجُ عَبَّرَ عنه النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث بالْوَكْتِ والْمَجْلِ – في قولِه: «يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ أَثَرِ الْوَكْتِ [أي: الأثَرُ في الشَّيءِ كالنُّقطَةِ من غَيرِ لَونِه]. ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ، فَيَبْقَى أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ [أي: النُّفَّاخَاتُ التي تَخْرُجُ في الأيدي عِندَ كثرةِ العَمَلِ، مملوءة ماء]؛ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ [أي: تَوَرَّمَ بِالماءِ]، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا [أي: مُرْتَفِعًا] وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ. فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ، فَلاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمَانَةَ، فَيُقَالُ: إِنَّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينًا» رواه البخاري. والمعنى: تُصْبِحُ الأمانةُ – في المجتمع – اسْمًا لا مُسمَّى له في القلوب، ولا أثَرَ له في السُّلوك، ويُصْبِحُ الحديثُ عنها كَلَامًا فقط، ليس له حقيقةٌ في الواقع.
وحِينَ تضيعُ الأمانةُ شيئًا فشيئًا يُصْبِحُ الكَذِبُ والخِيانةُ في القَولِ والعَملِ عادةً تأْلَفُها النُّفوسُ المريضةُ، فينعكس ذلك على تَصَرُّفاتِ الناس، وسلوكِهم؛ باستحلالِ المُحرَّمات، ثم تُصْبِحُ الأمانةُ عُمْلَةً نادرةً بين أفراد المجتمع، وقد حذَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من كثرةِ الكَذَبَةِ في آخِرِ الزَّمانِ، وخاصَّةً فيما يُرْوَى عنه من أحاديث، قائلاً: «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، يَأْتُونَكُمْ مِنَ الأَحَادِيثِ بِمَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ! فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ، لاَ يُضِلُّونَكُمْ، وَلاَ يَفْتِنُونَكُمْ» رواه مسلم.
ومِنْ سُنَنِ اللهِ تعالى في خَلْقِه: أنْ جَعَلَ ضَعْفَ الأخلاقِ يتمُّ في المجتمعات على مراحل، وليس دُفعةً واحدة؛ قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَنْذِرُونَ وَلاَ يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ» رواه البخاري. ومع الأسَفِ الشَّديدِ نَجِد – في بعضِ مُجتمعاتِ المسلمين – مَنْ يُصَلِّي في المسجد، ولكنَّه يَكذِبُ في تَعامُلاتِه، ويَخون الأمانةَ!
ومِنْ خِصَالِ المنافقين – التي حذَّر منها النبيُّ صلى الله عليه وسلم: الكَذِبُ والخِيانَةُ، إذْ قال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» فمَنْ غَلَبَتْ عليه هاتان الخَصْلَتان؛ كان شَبِيهًا بِالمُنافقين، والعياذُ بالله. والمُجتمعُ الذي تنتَشِرُ بين أفرادِه هذه الأدواءُ السُّلوكية؛ نِهايَتُه إلى زَوالٍ لا مَحالَةَ، مهما بَلَغَ مِنْ تقدُّمٍ ورُقِيٍّ مادِّي.
والخُلُقُ السَّوِيُّ جِبَلَّةٌ في النَّفْسِ البشرِيَّةِ، يَقْوَى بالإيمانِ والتَّعاوُنِ على البِرِّ والتَّقوى، وإذا ضَعُفَ الإيمانُ، وتلوَّثتْ الفِطرةُ النَّقيةُ، وتخلخَلَ البِناءُ الخُلُقِيُّ في النفس الإنسانية؛ ظهرتْ آثارٌ سلوكيةٌ خاطِئَةٌ، ودَبَّ – بين أفرادِ المجتمع – دَاءُ البَغضاءِ والكراهية، فتَنقلِبُ الفضائِلُ إلى أضدادِها، وتَضِيعُ الأمانةُ في المُجتمعاتِ، وتَبْرُزُ الفِتَنُ، وتَظْهَرُ المِحَنُ، ويَتَقوَّضُ بِناءُ المجتمع، وتتهَدَّمُ أركانُه، وقد حذَّرنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم من التَّنافُسِ على الدنيا بقوله: «مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ، كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ» رواه مسلم. وقد ربَطَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين كَمالِ الإيمان، وأداءِ الأمانة، وبيَّنَ أنَّ قُوَّةَ النَّفسِ تَكمُنُ في اجتنابِ الإساءَةِ إلى الآخَرِينَ، والبُعْدِ عن أذيَّةِ الجار، ورِعايةِ حَقِّهِ، فقال: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَبْدٌ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» صحيح – رواه أحمد.
والنُّفوسُ المُتنافِسَةُ على مَلذَّاتِ الدنيا؛ تهونُ لديها مَوازِينُ الأخلاق؛ فتقع في الظُّلْمِ والبَغِي، وقد حذَّرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الوقوع في الظُّلم، وبيَّنَ عاقبةَ ذلك في الآخرة، في قوله: «مَنْ ظَلَمَ مِنَ الأَرْضِ شَيْئًا؛ طُوِّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» رواه البخاري. والمعنى: أنْ يَخْسِفَ اللهُ به الأرض، فتصير البُقعةُ المغصوبةُ منها في عُنُقِه كالطَّوق.
الخطبة الثانية
الحمد لله... أيها المسلمون.. نهى الإسلامُ عن التَّحاسُدِ والتَّشاحُنِ من أجل متاع الدنيا، ولو كان قليلاً؛ يقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمُ، الْحَسَدُ وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لاَ أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا...» حسن – رواه الترمذي.
ويدخل في جانبِ العداوةِ والبَغضاءِ اختلافُ القلوب، وتنافُرُ النُّفوسِ داخل المُجتمعِ الواحد؛ ولَمَّا نَظَرَ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه إلى المال الذي أُتِيَ به من نَهَاوَنْد؛ بكى. فقيل له: يا أمير المؤمنين، ما هذا بيومِ حُزنٍ ولا بُكاءٍ! فقال: (قد عرفتُ، ولكنه لَمْ يَفْشُ مَالٌ في قومٍ قطُّ إلاَّ ألْقَى اللهُ تعالى بينهم العداوةَ والبغضاءَ إلى يوم القيامة). ولعلَّ عمرَ رضي الله عنه خَشِيَ من أثَرِ التَّنافُسِ في الدنيا، وعدمِ أداءِ الحُقوقِ فيها – أنْ يَحِلَّ بالناس بسبب ذلك العداوةُ والبغضاءُ.
عباد الله.. إنَّ المُتأمِّلَ للعداوةِ والبغضاءِ يجِدُها تنطلِقُ من سُلوكٍ تلقائيٍّ مُتأثِّرٍ بالرَّذائل؛ مِثْل الظُّلْمِ والعُدْوانِ وغيرها، وعندما تغيب مكارِمُ الأخلاقِ يَكثرُ التَّشاحُنُ والقطيعةُ بين أفراد المجتمع؛ ولذا حثَّ الإسلامُ على العدلِ في العلاقات، وتربيةِ النفسِ على الإِنْصافِ مع المُخالِفِ، ودعا إلى مُداواة النُّفوسِ ومُعالَجَتِها عند الاختلاف بالحِكمة، حتى لا تتحولَ أواصِرُ المحبة بين المُتخاصِمَين إلى عداوةٍ مَقِيتَةٍ، وبَغضاءَ مَشِينة، فنهى النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الهَجْرِ بين المُتخاصِمَين فوقَ ثلاثِ ليالٍ: «لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ، يَلْتَقِيَانِ فَيَصُدُّ هَذَا، وَيَصُدُّ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلاَمِ» رواه البخاري ومسلم. فلا يَحِلُّ التَّهاجُرُ بين المسلمين فوقَ ثلاثِ ليالٍ؛ لأنَّ ذلك يُوجِبُ العداوةَ والبغضاءَ، والتَّفَرُّقَ، إلاَّ أن يكون مُجاهِرًا بمعصيةٍ، ويكون في هَجْرِهِ مصلحةٌ تَرْدَعُه عن المعصية، فيكون بمنزلة الدَّواءِ في إزالةِ المعصية أو تخفيفِها.
وقد جاء الوعيدُ بعدم المَغْفِرَةِ لِهذين المُتَشاحِنَينِ حتى يَصْطَلِحَا؛ في قوله صلى الله عليه وسلم: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنِ، وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ. فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا. أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» رواه مسلم. فبِسَبَبِ العَداوةِ بين اثنين؛ مُنِعَتْ عنهما المَغْفِرَةُ!