حكاية ناي ♔
11-30-2023, 11:27 AM
إن التسامح الديني والفكري له درجات ومراتب:
فالدرجة الدنيا من التسامح أن تدعَ لمخالفك الحريةَ في دينه وعقيدته، ولا تُجبِره بالقوة على اعتناق دينك أو مذهبك، بحيث إذا أبَى حكمت عليه بالموت والعذاب، أو المصادرة، أو النفي، أو غير ذلك من ألوان العقوبات والاضطهادات، فتدع له حرية الاعتقاد، ولكن لا تمكِّنه من ممارسة واجباته الدينية التي تفرضُها عليه عقيدته، والامتناع عمَّا يعتقد تحريمه عليه.
والدرجة الوسطى من التسامح:
أن تدعَ له حق الاعتقاد بما يراه من ديانة ومذهب، ثم لا تضيِّق عليه بترك أمر يعتقد وجوبه، أو فعل أمر يعتقد حرمته، فإذا كان اليهودي يعتقد حرمة العمل يوم السبت، فلا يجوز أن يكلَّف بعمل في هذا اليوم؛ لأنه لا يفعله إلا وهو يشعر بمخالفة دينه، وإذا كان النصراني يعتقد بوجوب الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد، فلا يجوز أن يمنع من ذلك في هذا اليوم.
والدرجة التي تعلو هذه في التسامح:
ألاَّ تضيِّق على المخالفين فيما يعتقدون حله في دينهم أو مذهبهم، وإن كنت تعتقد أنه حرام في دينك أو مذهبك، وهذا ما كان عليه المسلمون مع المخالفين من أهل الذمة؛ إذ ارتفعوا إلى الدرجة العليا من التسامح، فقد التزموا كل ما يعتقده غير المسلم أنه حلال في دينه، ووسعوا له في ذلك، ولم يضيِّقوا عليه بالمنع والتحريم، وكان يمكنهم أن يحرموا ذلك؛ مراعاة لشريعة الدولة ودينها، ولا يُتَّهمون بكثير من التعصب أو قليل؛ ذلك لأن الشيء الذي يحله دين من الأديان ليس فرضًا على أتباعه أن يفعلوه، فإذا كان دينُ المجوسي يُبِيح له الزواج من أمه أو أخته، فيمكنه أن يتزوج من غيرهما ولا حرج، وإذا كان دين النصراني يحل له أكل الخنزير، فإنه يستطيع أن يعيش عمره دون أن يأكل الخنزير، وفي لحومالبقر والغنم والطير متَّسع له.
ومثل ذلك الخَمْر، فإذا كان الإنجيل قد جاء بإباحتها، فليس من فرائض المسيحية أن يشرب المسيحي الخَمْر، فلو أن الإسلام قال للذميين: دعوا زواج المحارم، وشرب الخمر، وأكل الخنازير؛ مراعاة لشعور إخوانكم المسلمين، لم يكن عليهم في ذلك أي حرج ديني؛ لأنهم إذا تركوا هذه الأشياء لم يرتكبوا في دينهم منكرًا، ولا أخلوا بواجب مقدَّس.
ومع هذا لم يقل الإسلام ذلك، ولم يشأ أن يضيِّق على غير المسلمين في أمرٍ يعتقدون حله، وقال للمسلمين: اتركوهم وما يدينون[1].
روح التسامح عند المسلمين:
على أن هناك شيئًا آخر لا يدخل في نطاق الحقوق التي تنظِّمها القوانين، ويلزم بها القضاء، وتشرف على تنفيذها الحكومات، تلك هي روح السماحة التي تبدو في حسن العشرة، ولطف المعاملة، ورعاية الجوار، وسَعَة المشاعر الإنسانية من البر والرحمة والإحسان، وهي الأمور التي تحتاج إليها الحياة اليومية، ولا يغني فيها قانون ولا قضاء، وهذه الروح لا تكاد توجد في غير المجتمع الإسلامي[2] على نحو ما ذكرنا.
الأساس الفكري لتسامح المسلمين:
وأساس النظرة المتسامحة التي تسود المسلمين في معاملة مخالفيهم في الدين، يرجع إلى الأفكار والحقائق الناصعة التي غرسها الإسلام في عقول المسلمين وقلوبهم؛ وأهمها:
1- اعتقاد كل مسلم بكرامة الإنسان، أيًّا كان دينه أو جنسه أو لونه، قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الإسراء: 70]، وهذه الكرامة المقررة توجب لكل إنسان حق الاحترام والرعاية، ومن الأمثلة العملية ما ذكرناه من قبلُ من قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - لجنازة يهودي، معللاً ذلك بقوله: ((أليست نفسًا؟))، بلى، ولكل نفس في الإسلام حرمة ومكان، فما أروع الموقف، وما أروع التفسير والتعليل!
2- اعتقاد المسلم أن اختلاف الناس في الدين واقع بمشيئة الله - تعالى - الذي منح هذا النوع من خلقه الحرية، والاختيار فيما يفعل ويدع: ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]، ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾ [هود: 118، 119].
• والمسلم يوقن أن مشيئة الله لا رادَّ لها ومعقب، كما أنه لا يشاء إلا ما فيه الخير والحكمة، عَلِم الناس ذلك أو جهلوه؛ ولهذا لا يفكر المسلم يومًا أن يُجبِر الناس ليصيروا كلهم مسلمين، كيف وقد قال الله - تعالى - لرسوله الكريم: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99].
3- ليس المسلم مكلفًا أن يحاسب الكافرين على كفرهم، أو يعاقب الضالين على ضلالهم، فهذا ليس إليه، وليس موعده هذه الدنيا، إنما حسابهم إلى الله يوم الحساب، وجزاؤهم متروك إليه في يوم الدين، قال - تعالى -: ﴿ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [الحج: 68، 69]، وقال - تعالى - يخاطب رسوله في شأن أهل الكتاب: ﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [الشورى: 15].
وبهذا يستريح ضمير المسلم، ولا يجد في نفسه أي أثر للصراع بين اعتقاده بكفر الكافر، وبين مطالبته ببره، والإقساط إليه، وتركه على هو ما عليه دين واعتقاد.
4- إيمان المسلم بأن الله يأمر بالعدل، ويحب القسط، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ولو مع المشركين، ويكره الظلم ويعاقب الظالمين، ولو كان الظلم من مسلم لكافر، قال - تعالى -: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوة المظلوم - وإن كان كافرًا - ليس دونها حجاب))[3]؛ اهـ[4].
صور من التسامح الإسلامي:
عندما طُعِن عمر بن الخطاب وهو يتأهَّب لصلاة الفجر؛ عَلِم - وعلم الناس معه - أنه ميت لا محالة، فإن الطعنات كان نافذة مزَّقت الأمعاء، فإذا تناول شرابًا خرج من البطنِ، ورأى أمير المؤمنين قبل أن يودِّع الحياة أن يوصي الخليفة بعده بأمورٍ ذات بال، إنه لا يعرف مَن سيختار المسلمون، ولكنه يعرف ما يجب أن يفعله الرجل الذي يليه في حكم الأمة، فذكر طوائف من المسلمين لها منزلتها، ثم قال للخليفة المرتقب: "وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله - يعني ما يسمى في عصرنا بالأقليات الدينية - أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقاتهم"[5].
تريثت طويلاً وأنا أقرأ هذه الوصاة، خليفة نبي كريم يُوصِي وهو يموت بمخالفيه في الدين ومعارضيه في المعتقد، فيصفهم أولاً بأنهم ذمة الله وذمة رسوله، متناسيًا الخلاف القائم في أصل الإيمان، ثم يطلب من الحاكم المقبل ثلاثة أمور محددة:
(أ) الوفاء بعهودهم.
(ب) إقامة سياج يمنع كل عدوان عليهم، وفي سبيل ذلك يقاتل دونهم، أو كما جاء في النص "يقاتل من ورائهم".
(ج) لا يكلفون إلا بما يطيقون.
• هل وعَى تاريخ العالم إلى يوم الناس هذا أشرف من هذه المعاملة؟[6].
"ومن قبل... خطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال يعلِّم الناس حقوقهم تجاه الأمراء: "يا أيها الناس، إني والله ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا من أموالكم، ولكن أُرسِلهم إليكم ليعلِّموكم دينكم وسنتكم، فمَن فُعِل به شيء من ذلك فليرفعه إليَّ، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه..."، فوثب عمرو بن العاص فقال: "يا أمير المؤمنين، أرأيتك إن كان رجلاً من أمراء المسلمين على رعيته، فأدَّب بعض رعيته، إنك لتقص منه؟ قال عمر: إي والذي نفس عمر بيده، إذًا لأقصنه منه، وكيف لا أقص منه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقص من نفسه، ألا لا تضربوا الناس فتذلوهم، ولا تجمروهم[7] فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم"[8].
والمهم - كما أسلفنا - أن هذه لم تكن مجرَّد مبادئ نظرية أو مجرد كلمات تقال، فقد طبقت تطبيقًا واقعيًّا، وسرَت في أوساط الشعوب حتى اتخذت قاعدة للأوضاع العملية، وحادثة ابن القبطي الذي سابَق ابن عمرو بن العاص - فاتح مصر وواليها - فسبقه فضربه ابن عمرو، فشكا أبوه إلى عمر بن الخطاب! فأقصه منه في موسم الحج، وعلى ملأ من الناس... حادثة معروفة، وقد اعتاد الكتَّاب أن يقفوا فيها عند عدل عمر.. ولكن الحادثة أوسع دلالة على ذلك التيار التحرري الذي أطلقه الإسلام في ضمائر الناس وفي حياتهم، فمصر إذ ذاك بلد مفتوح، حديث عهد بالفتح وبالإسلام، وهذا القبطي لم يزلْ على دينه، فردًا من جماهير البلد المفتوح، وعمرو بن العاص هو فاتح هذا الإقليم، وأول أمير عليه من قِبَل الإسلام.. وحكَّام هذا الإقليم قبل الفتح الإسلامي هم الرومان؛ أصحاب السياط التي تجلد ظهور شعوب المستعمرات، ولعل ذلك القبطي كان ما يزال ظهره يحمل آثار سياط الرومان!
ولكن المد التحرري الذي أطلقه الإسلام في أنحاء الأرض أنسى ذلك القبطي سياط الرومان وذلها، وأطلقه إنسانًا حرًّا كريمًا، يغضب لأن يضربَ ابنُ الأمير ابنَه بعد اشتراكهما في سباق، وهذه أخرى، ثم تحمله هذه الغضبة لكرامة ابنِه الجريحة على أن يركب من مصر إلى المدينة، لا طيارة، ولا سيارة، ولا باخرة، ولا قطار، ولكن جملاً يخب به ويضع الأشهر الطوال، كل ذلك ليشكو إلى الخليفة، الخليفة الذي حرَّره يوم فتح بلده تحت راية الإسلام، والذي علمه الكرامة بعد أن نسيها تحت وقع سياط الرومان!
وهكذا ينبغي أن نفهم، وأن ندرك عمق المد الإسلامي التحرري، فليست المسألة فقط أن عمر عادل، وأن عدله لا تتطاول إليه الأعناق في جميع الأزمان، ولكن المسألة بعد ذلك أن عدل عمر - المستمد من الإسلام ومنهجه ونظامه - قد انطلق في الأرض تيارًا جارفًا محررًا مكرِّمًا للإنسان بصفته "الإنسان".
هذا المستوى الرفيع لم ترتفع إليه الإنسانية قط، هذا صحيح.. ولكن هذا الخط العريض الذي خطه الإسلام في كرامة الإنسان وحريته وحقوقه تُجَاه حكَّامه وأمرائه، قد ترك في حياة البشرية آثارًا لاشكَّ فيها، وبعض هذه الآثار هو الذي يدفع بالبشرية اليوم إلى إعلان "حقوق الإنسان".. وحقيقة أن هذا الإعلان لم يأخذ طريقه الواقعي في حياة البشرية، وحقيقة أن "الإنسان" ما يزال يلقى المهانة والإذلال والتعذيب والحرمان في شتى أنحاء الأرض، وحقيقة أن بعض المذاهب تجعل مقام الإنسان دون مقام الآلة، وتقتل حرية الإنسان وكرامته وخصائصه العليا في سبيل وفرة الإنتاج ومضاعفة الدخل، والتفوق في الأسواق!
كل هذا صحيح، ولكن هذا الخط ما يزال قائمًا في مدارك البشرية وتصوراتها، ولم يعد غريبًا عليها كما كان يوم جاءها الإسلام، وهي اليوم أقدر على إدراكه وتصوره[9].
"إن صلة الأمة بالأجانب عنها - الذين لا يدينون بدينها - قد سن فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوانين السماح والتجاوز التي لم تعهد في عالَم مليء بالتعصب والتغالي، والذي يظن أن الإسلام دين لا يقبل جوار دين آخر، وأن المسلمين قوم لا يستريحون إلا إذا انفردوا في العالم بالبقاء والتسلط؛ هو رجل مخطئ، بل متحامل جريء"!
فالدرجة الدنيا من التسامح أن تدعَ لمخالفك الحريةَ في دينه وعقيدته، ولا تُجبِره بالقوة على اعتناق دينك أو مذهبك، بحيث إذا أبَى حكمت عليه بالموت والعذاب، أو المصادرة، أو النفي، أو غير ذلك من ألوان العقوبات والاضطهادات، فتدع له حرية الاعتقاد، ولكن لا تمكِّنه من ممارسة واجباته الدينية التي تفرضُها عليه عقيدته، والامتناع عمَّا يعتقد تحريمه عليه.
والدرجة الوسطى من التسامح:
أن تدعَ له حق الاعتقاد بما يراه من ديانة ومذهب، ثم لا تضيِّق عليه بترك أمر يعتقد وجوبه، أو فعل أمر يعتقد حرمته، فإذا كان اليهودي يعتقد حرمة العمل يوم السبت، فلا يجوز أن يكلَّف بعمل في هذا اليوم؛ لأنه لا يفعله إلا وهو يشعر بمخالفة دينه، وإذا كان النصراني يعتقد بوجوب الذهاب إلى الكنيسة يوم الأحد، فلا يجوز أن يمنع من ذلك في هذا اليوم.
والدرجة التي تعلو هذه في التسامح:
ألاَّ تضيِّق على المخالفين فيما يعتقدون حله في دينهم أو مذهبهم، وإن كنت تعتقد أنه حرام في دينك أو مذهبك، وهذا ما كان عليه المسلمون مع المخالفين من أهل الذمة؛ إذ ارتفعوا إلى الدرجة العليا من التسامح، فقد التزموا كل ما يعتقده غير المسلم أنه حلال في دينه، ووسعوا له في ذلك، ولم يضيِّقوا عليه بالمنع والتحريم، وكان يمكنهم أن يحرموا ذلك؛ مراعاة لشريعة الدولة ودينها، ولا يُتَّهمون بكثير من التعصب أو قليل؛ ذلك لأن الشيء الذي يحله دين من الأديان ليس فرضًا على أتباعه أن يفعلوه، فإذا كان دينُ المجوسي يُبِيح له الزواج من أمه أو أخته، فيمكنه أن يتزوج من غيرهما ولا حرج، وإذا كان دين النصراني يحل له أكل الخنزير، فإنه يستطيع أن يعيش عمره دون أن يأكل الخنزير، وفي لحومالبقر والغنم والطير متَّسع له.
ومثل ذلك الخَمْر، فإذا كان الإنجيل قد جاء بإباحتها، فليس من فرائض المسيحية أن يشرب المسيحي الخَمْر، فلو أن الإسلام قال للذميين: دعوا زواج المحارم، وشرب الخمر، وأكل الخنازير؛ مراعاة لشعور إخوانكم المسلمين، لم يكن عليهم في ذلك أي حرج ديني؛ لأنهم إذا تركوا هذه الأشياء لم يرتكبوا في دينهم منكرًا، ولا أخلوا بواجب مقدَّس.
ومع هذا لم يقل الإسلام ذلك، ولم يشأ أن يضيِّق على غير المسلمين في أمرٍ يعتقدون حله، وقال للمسلمين: اتركوهم وما يدينون[1].
روح التسامح عند المسلمين:
على أن هناك شيئًا آخر لا يدخل في نطاق الحقوق التي تنظِّمها القوانين، ويلزم بها القضاء، وتشرف على تنفيذها الحكومات، تلك هي روح السماحة التي تبدو في حسن العشرة، ولطف المعاملة، ورعاية الجوار، وسَعَة المشاعر الإنسانية من البر والرحمة والإحسان، وهي الأمور التي تحتاج إليها الحياة اليومية، ولا يغني فيها قانون ولا قضاء، وهذه الروح لا تكاد توجد في غير المجتمع الإسلامي[2] على نحو ما ذكرنا.
الأساس الفكري لتسامح المسلمين:
وأساس النظرة المتسامحة التي تسود المسلمين في معاملة مخالفيهم في الدين، يرجع إلى الأفكار والحقائق الناصعة التي غرسها الإسلام في عقول المسلمين وقلوبهم؛ وأهمها:
1- اعتقاد كل مسلم بكرامة الإنسان، أيًّا كان دينه أو جنسه أو لونه، قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ [الإسراء: 70]، وهذه الكرامة المقررة توجب لكل إنسان حق الاحترام والرعاية، ومن الأمثلة العملية ما ذكرناه من قبلُ من قيام النبي - صلى الله عليه وسلم - لجنازة يهودي، معللاً ذلك بقوله: ((أليست نفسًا؟))، بلى، ولكل نفس في الإسلام حرمة ومكان، فما أروع الموقف، وما أروع التفسير والتعليل!
2- اعتقاد المسلم أن اختلاف الناس في الدين واقع بمشيئة الله - تعالى - الذي منح هذا النوع من خلقه الحرية، والاختيار فيما يفعل ويدع: ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29]، ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ ﴾ [هود: 118، 119].
• والمسلم يوقن أن مشيئة الله لا رادَّ لها ومعقب، كما أنه لا يشاء إلا ما فيه الخير والحكمة، عَلِم الناس ذلك أو جهلوه؛ ولهذا لا يفكر المسلم يومًا أن يُجبِر الناس ليصيروا كلهم مسلمين، كيف وقد قال الله - تعالى - لرسوله الكريم: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 99].
3- ليس المسلم مكلفًا أن يحاسب الكافرين على كفرهم، أو يعاقب الضالين على ضلالهم، فهذا ليس إليه، وليس موعده هذه الدنيا، إنما حسابهم إلى الله يوم الحساب، وجزاؤهم متروك إليه في يوم الدين، قال - تعالى -: ﴿ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [الحج: 68، 69]، وقال - تعالى - يخاطب رسوله في شأن أهل الكتاب: ﴿ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ﴾ [الشورى: 15].
وبهذا يستريح ضمير المسلم، ولا يجد في نفسه أي أثر للصراع بين اعتقاده بكفر الكافر، وبين مطالبته ببره، والإقساط إليه، وتركه على هو ما عليه دين واعتقاد.
4- إيمان المسلم بأن الله يأمر بالعدل، ويحب القسط، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ولو مع المشركين، ويكره الظلم ويعاقب الظالمين، ولو كان الظلم من مسلم لكافر، قال - تعالى -: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 8].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((دعوة المظلوم - وإن كان كافرًا - ليس دونها حجاب))[3]؛ اهـ[4].
صور من التسامح الإسلامي:
عندما طُعِن عمر بن الخطاب وهو يتأهَّب لصلاة الفجر؛ عَلِم - وعلم الناس معه - أنه ميت لا محالة، فإن الطعنات كان نافذة مزَّقت الأمعاء، فإذا تناول شرابًا خرج من البطنِ، ورأى أمير المؤمنين قبل أن يودِّع الحياة أن يوصي الخليفة بعده بأمورٍ ذات بال، إنه لا يعرف مَن سيختار المسلمون، ولكنه يعرف ما يجب أن يفعله الرجل الذي يليه في حكم الأمة، فذكر طوائف من المسلمين لها منزلتها، ثم قال للخليفة المرتقب: "وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله - يعني ما يسمى في عصرنا بالأقليات الدينية - أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقاتهم"[5].
تريثت طويلاً وأنا أقرأ هذه الوصاة، خليفة نبي كريم يُوصِي وهو يموت بمخالفيه في الدين ومعارضيه في المعتقد، فيصفهم أولاً بأنهم ذمة الله وذمة رسوله، متناسيًا الخلاف القائم في أصل الإيمان، ثم يطلب من الحاكم المقبل ثلاثة أمور محددة:
(أ) الوفاء بعهودهم.
(ب) إقامة سياج يمنع كل عدوان عليهم، وفي سبيل ذلك يقاتل دونهم، أو كما جاء في النص "يقاتل من ورائهم".
(ج) لا يكلفون إلا بما يطيقون.
• هل وعَى تاريخ العالم إلى يوم الناس هذا أشرف من هذه المعاملة؟[6].
"ومن قبل... خطب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال يعلِّم الناس حقوقهم تجاه الأمراء: "يا أيها الناس، إني والله ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا من أموالكم، ولكن أُرسِلهم إليكم ليعلِّموكم دينكم وسنتكم، فمَن فُعِل به شيء من ذلك فليرفعه إليَّ، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه..."، فوثب عمرو بن العاص فقال: "يا أمير المؤمنين، أرأيتك إن كان رجلاً من أمراء المسلمين على رعيته، فأدَّب بعض رعيته، إنك لتقص منه؟ قال عمر: إي والذي نفس عمر بيده، إذًا لأقصنه منه، وكيف لا أقص منه، وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقص من نفسه، ألا لا تضربوا الناس فتذلوهم، ولا تجمروهم[7] فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم"[8].
والمهم - كما أسلفنا - أن هذه لم تكن مجرَّد مبادئ نظرية أو مجرد كلمات تقال، فقد طبقت تطبيقًا واقعيًّا، وسرَت في أوساط الشعوب حتى اتخذت قاعدة للأوضاع العملية، وحادثة ابن القبطي الذي سابَق ابن عمرو بن العاص - فاتح مصر وواليها - فسبقه فضربه ابن عمرو، فشكا أبوه إلى عمر بن الخطاب! فأقصه منه في موسم الحج، وعلى ملأ من الناس... حادثة معروفة، وقد اعتاد الكتَّاب أن يقفوا فيها عند عدل عمر.. ولكن الحادثة أوسع دلالة على ذلك التيار التحرري الذي أطلقه الإسلام في ضمائر الناس وفي حياتهم، فمصر إذ ذاك بلد مفتوح، حديث عهد بالفتح وبالإسلام، وهذا القبطي لم يزلْ على دينه، فردًا من جماهير البلد المفتوح، وعمرو بن العاص هو فاتح هذا الإقليم، وأول أمير عليه من قِبَل الإسلام.. وحكَّام هذا الإقليم قبل الفتح الإسلامي هم الرومان؛ أصحاب السياط التي تجلد ظهور شعوب المستعمرات، ولعل ذلك القبطي كان ما يزال ظهره يحمل آثار سياط الرومان!
ولكن المد التحرري الذي أطلقه الإسلام في أنحاء الأرض أنسى ذلك القبطي سياط الرومان وذلها، وأطلقه إنسانًا حرًّا كريمًا، يغضب لأن يضربَ ابنُ الأمير ابنَه بعد اشتراكهما في سباق، وهذه أخرى، ثم تحمله هذه الغضبة لكرامة ابنِه الجريحة على أن يركب من مصر إلى المدينة، لا طيارة، ولا سيارة، ولا باخرة، ولا قطار، ولكن جملاً يخب به ويضع الأشهر الطوال، كل ذلك ليشكو إلى الخليفة، الخليفة الذي حرَّره يوم فتح بلده تحت راية الإسلام، والذي علمه الكرامة بعد أن نسيها تحت وقع سياط الرومان!
وهكذا ينبغي أن نفهم، وأن ندرك عمق المد الإسلامي التحرري، فليست المسألة فقط أن عمر عادل، وأن عدله لا تتطاول إليه الأعناق في جميع الأزمان، ولكن المسألة بعد ذلك أن عدل عمر - المستمد من الإسلام ومنهجه ونظامه - قد انطلق في الأرض تيارًا جارفًا محررًا مكرِّمًا للإنسان بصفته "الإنسان".
هذا المستوى الرفيع لم ترتفع إليه الإنسانية قط، هذا صحيح.. ولكن هذا الخط العريض الذي خطه الإسلام في كرامة الإنسان وحريته وحقوقه تُجَاه حكَّامه وأمرائه، قد ترك في حياة البشرية آثارًا لاشكَّ فيها، وبعض هذه الآثار هو الذي يدفع بالبشرية اليوم إلى إعلان "حقوق الإنسان".. وحقيقة أن هذا الإعلان لم يأخذ طريقه الواقعي في حياة البشرية، وحقيقة أن "الإنسان" ما يزال يلقى المهانة والإذلال والتعذيب والحرمان في شتى أنحاء الأرض، وحقيقة أن بعض المذاهب تجعل مقام الإنسان دون مقام الآلة، وتقتل حرية الإنسان وكرامته وخصائصه العليا في سبيل وفرة الإنتاج ومضاعفة الدخل، والتفوق في الأسواق!
كل هذا صحيح، ولكن هذا الخط ما يزال قائمًا في مدارك البشرية وتصوراتها، ولم يعد غريبًا عليها كما كان يوم جاءها الإسلام، وهي اليوم أقدر على إدراكه وتصوره[9].
"إن صلة الأمة بالأجانب عنها - الذين لا يدينون بدينها - قد سن فيها الرسول - صلى الله عليه وسلم - قوانين السماح والتجاوز التي لم تعهد في عالَم مليء بالتعصب والتغالي، والذي يظن أن الإسلام دين لا يقبل جوار دين آخر، وأن المسلمين قوم لا يستريحون إلا إذا انفردوا في العالم بالبقاء والتسلط؛ هو رجل مخطئ، بل متحامل جريء"!