مشاهدة النسخة كاملة : فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه


حكاية ناي ♔
11-30-2023, 11:32 AM
لقد تكلمنا في مقالة سابقة عن الصحابي الجليل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، وذكرنا بعضًا من فضائله الكثيرة، ومواقفه العظيمة، وفي هذا اللقاء الكريم نتكلم عن ثاني الخلفاء الراشدين.

قال عنه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم لأبي موسى الأشعري ((افتحْ له وبشِّره بالجَنَّة))، ففتحتُ له فإذا هو عمر؛ متفق عليه.

وقال أيضًا؛ ((إيه، يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لقِيَك الشيطانُ سالكًا فجًّا قطُّ، إلا سلك فجًّا غيْر فجِّك))؛ متفق عليه.

هذا هو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي العدوي، أبو حفص، أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين، الملقَّب بالفاروق، الذي أيَّد اللهُ به الإسلام، وفتح به الأمصار، وهو الصادق المحدَّث الملهم، الذي قال فيه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((لو كان بَعدي نبيٌّ، لكان عمر بن الخطاب))؛ رواه أحمد، والترمذي، والحاكم، وحسَّنه الألباني في صحيح الجامع، وهو أحد العشرة المبشَّرين بالجَنَّة رضي الله عنه وأرضاه.

وُلد رضي الله عنه بعد عام الفيل بثلاث عشرة سَنَة، وكان في الجاهلية مِن أبطال قريش وأشرافهم، وكانت إليه السفارة فيهم، وكان عند مبعث النبي صلَّى الله عليه وسلَّم شديدًا على الإسلام والمسلمين، ثم دخل في الإسلام قبل الهجرة بخمس سنين، فكان إسلامه عزًّا وقوة للمسلمين، وفرجًا من الضيق.

فعن ابن عمر رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((اللهم أَعِزَّ الإسلامَ بأحبِّ هذين الرجلين إليك؛ بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب))، قال: ((فكان أحبَّهما إليه عمر بن الخطاب))؛ رواه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الجامع.

وكان سبب إسلامه رضي الله عنه: أنَّ أخته فاطمة بنت الخطاب كانت تحت سعيد بن يزيد بن عمرو العدوي، وكانا مسلمين يُخفِيانِ إسلامَهما من عمر، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة يُقرئها القرآن، فخرج عمر يومًا ومعه سيفُه يريد النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم والمسلمين، وهم مجتمعون في دار الأرقم عند الصفا، وعنده مَن لم يهاجر مِن المسلمين في نحو أربعين رجلًا، فلقيَه نعيم بن عبد الله، فقال: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدًا الذي فرَّق أمْر قريش، وعاب دينها فأقتله، فقال نعيم: والله لقد غرَّتك نفسُك، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدًا؟! أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمْرَهم؟ قال: وأي أهلي؟! قال: ختنك، وابن عمِّك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة، فقد أسلما.

فرجع عمر إليهما وعندهما خباب بن الأرت يُقرئهما القرآن، فلما سمعوا صوتَ عمر تغيَّب خباب، وأخذت فاطمة الصحيفة، وألقتْها تحت فخذيها، وقد سمع عمر قراءة خباب، فلمَّا دخل قال: ما هذه الهينمة؟! قالا: سمعت شيئًا؟ قال: بلى، قد أُخبرتُ أنكما تابعتما محمدًا، وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته لتكفَّه، فضربها فشجَّها، فلمَّا فعل ذلك، قالت له أخته: قد أسلمنا، وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما شئت، ولما رأى عمر ما بأخته من الدم، نَدِمَ وقال لها: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون فيها الآن؛ حتى أنظُر إلى ما جاء به محمد، قالت: إنا نخشاك عليها، فحلف أنه يُعيدها، قالت له: وقد طمعَتْ في إسلامه، إنك نجس على شركك، ولا يمسُّها إلا المطهرون، فقام واغتسل فأعطته الصحيفة وقرأ فيها: طه، وكان كاتبًا فلمَّا قرأ بعضها، قال: ما أحسَن هذا الكلام وأكرمَه، فلمَّا سمع خبَّاب، خرج إليه وقال يا عمر: فقال عمر عند ذلك: فدُلَّني يا خباب على محمد؛ حتى آتيَه فأُسلِم، فدلَّه خبَّاب، فأخذ سيفه، وجاء إلى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، فضرب عليهم الباب، فقام رجل منهم، فنظر من خلال الباب، فرآه متوشِّحًا سيفه، فأخبر النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك، فقال حمزة: ائذن له، فإن كان يريد خيرًا بذلناه له، وإن أراد شرًّا قتلناه بسيفه، فأذِنَ له، فنهض إليه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم حتى لَقِيَه، فأخذ بمجامع ردائه، ثم جذبه جذبة شديدة، وقال: ما جاء بك؟ ما أراك تنتهي حتى يُنزل الله عليك قارعة.

فقال عمر: يا رسول الله، جئتُ لأومن بالله، وبرسوله، فكبر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم تكبيرةً عَرَفَ مَن في البيت أن عمر أسلم، قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن إسلام عمر كان فتحًا، وإن هجرته كانت نصرًا، وإن إمارته كانت رحمة، ولقد كنَّا وما نصلِّي عند الكعبة حتى أسلم عمر؛ فلمَّا أسلم عمر قاتل قريشًا؛ حتى صلَّى عند الكعبة، وصلَّينا معه"؛ "صحيح السيرة النبوية"؛ للألباني.

هاجر رضي الله عنه إلى المدينة، وشهد الكثير من المشاهد مع النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، وبُويع بالخلافة يوم وفاة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثلاث عشرة سَنة من الهجرة بعهد منه، فكان يُضرب بعدله المثل.
قال عنه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((رأيتُ كأني أُتيت بقدح من لبن، فشربتُ منه، فأعطيتُ فضلي عمر بن الخطاب، قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال العِلم))؛ رواه الترمذي، وصححه الألباني في جامع الترمذي.

وقد اشتُهِر عمر رضي الله عنه بعدله الذي ساد به ديار الإسلام أثناء مدة إمارته، وشمل الناس جميعًا، وغدا مضرب المثل، ويُعدُّ عمر رضي الله عنه المنظَّمَ الأوَّلَ للدولة الإسلامية، فقد ضمَّت الدولة الإسلامية أيامه شعوبًا كثيرة، فعَمِل على صهر ذلك كلِّه في بوتقة الإسلام، واستطاع رضي الله عنه نتيجة لشعوره بالمسؤولية، وخوفِه من السؤال يوم الحساب، وواجبه بالعمل والدعوة، وإيمانه العميق بتطبيق الشرع، كل ذلك أدَّى إلى متابعته للوُلاة في جميع الأمصار، والسهر على مصلحة الرعيَّة، وتفقُّد أحوال الناس بنفسه، فكانت له الهيبة على سائر نواحي الدولة الإسلامية، وكانت هيبة الناس له هيبةٍ محبةٍ واحترامٍ وتقدير لِحُنُوِّهِ عليهم، وعطفه على العامة، وعدله، وسهره في شؤون الأمَّة، ومساواته بين أفراد المجتمع، وكان صورةً حيَّةً عن الإنسان المسلم لسائر المِلَل الأخرى، فكان ذلك سببًا في دخول الكثير منهم في دين الله تعالى.

وكان رضي الله عنه جريئًا بالحق، ومع هذه الجرأة كان ينصاع للحق مباشرة، وإذا خُوِّف بالله سَكَن.
ومن فضائله رضي الله عنه أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (سمعتُ عمر بن الخطاب يومًا، وقد خرجتُ معه حتى دخل حائطًا، فسمعتُه يقول وبيني وبينه جدار، وهو في جوف الحائط: عمر بن الخطاب، أمير المؤمنين، بخٍ، والله - بُنَيَّ الخطاب - لتتقينَّ الله أو ليعذبنَّك))، وقال أيضًا رضي الله عنه: (أحبُّ الناس إليَّ مَن رَفَعَ إليَّ عيوبي).

عاش الفاروق رضي الله عنه هموم الأمَّة، وشَغَلَتْه شؤون الرعيَّة، وأهمَّتْه حالة الناس، فهو يريد أن يشاركَ الناس قضاياهم، ويعيش بمستوى أدناهم، يحب أن يُطعم الجائع بيده، ويُعطي المحتاج من ماله، ويداوي المريض بنفسه، يتفقَّد أفراد المجتمع ويواسيهم.

لقد أحسَّ الناس بما يهمُّ الفاروق لما يرون ما يقوم به فأحبُّوه، وكانوا على استعداد ليفدوه بما يملكون، وعملوا على تقليده والسير على منواله، ففشَتْ بينهم المحبَّة، وعمَّ الأمن، وانعدم الحسد، وفُقدت الغيبة، وزال التعدي، وبدا المجتمع كتلة واحدة.

وفي أيام خلافته رضي الله عنه: تمَّ فتح الشام والعراق والقدس، والمدائن ومصر والجزيرة، وكان رضي الله عنه أول مَن أرَّخ بالتاريخ الهجري، وكانوا يُؤرِّخون مِن قبل بالوقائع، وأول مَن وَضَع الدواوين، وكان يطوف في الأسواق منفردًا ويعسُّ بالليل.

لقد أُعطَي الفَارُوقُ عِلْمًا، ونَظَرًا ثَاقبًا وفَهمًا، وشَفَافِية وذِهنًا، ورُؤْيةً وَاسعةً وحِكْمةً، وقد قال عنه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إنه كان فيما مضى قبلكم مِن الأمم محدَّثون، وإنه إنْ كان في أمتي منهم، فإنه عمر بن الخطاب))؛ رواه البخاري، وفي رواية أخرى: ((يُكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء))، وربما رأى الفاروقُ رضي الله عنه رأيًا، أو خَطَرَ على باله خاطرٌ، فيأتي الوحيُ مؤيِّدًا رأيه، وهذا ما عُرف بالموافقات، وقد حدث ذلك معه مرات عديدة.

ومن ذلك:
• ما رواه أنس رضي الله عنه، قال: قال عمر: (وافقتُ ربي في ثلاث: فقلتُ: يا رسول الله، لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلًّي، فنزلت: ﴿ وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [البقرة: 125]، وآية الحجاب، قلتُ: يا رسول الله لو أمَرْتَ نساءك أن يحتجبن، فإنه يكلمهنَّ البَرُّ والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساءُ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم في الغيرة عليه، فقلتُ لهن: ﴿ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ﴾ [التحريم: 5]، فنزلت الآية.

ومن ذلك كراهته رضي الله عنه صلاةَ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على المنافقين، وكراهته للخمر، وحرصه على تحريمها، وكان يقول في ذلك: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانا شافيًا، فنزل التحريم لها، وموافقته رضي الله عنه للرؤية التي أُري فيها الأذان، والتي أقرَّ بعدها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أذان عبد الله بن زيد، الذي رآه أيضًا في منامه، ونزل بذلك الوحي مُصدِّقًا لذلك.

قال عنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (ما على ظهر الأرض رجلٌ أحبُّ إليَّ مِن عمر).

وقال عليٌّ رضي الله عنه فيه: (إذا ذُكر الصالحون، فحيهلا بعمر، ما كنا نُبْعِدْ أن السكينة تنطق على لسان عمر).

وقال عنه الحسَن البصري: (كان رضي الله عنه في إزاره اثنتا عشرة رقعة بعضها مِن أُدم، وهو أمير المؤمنين).

وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: (رأيتُ عمر بن الخطاب رضوان الله عليه أخذ تبنة مِن الأرض، فقال: ليتني كنتُ هذه التبنة، ليتني لم أُخْلَق، ليت أمي لم تلدني، ليتني لم أكُ شيئًا، ليتني كنت نسيًّا منسيًّا).

وعن عبد الله بن عيسى قال: (كان في وجه عمر خطَّان أسودان من البكاء).

وعن هشام بن الحسن قال: (كان عمر يمرُّ بالآية وهو يقرأ فتخنقه العَبْرة، فيبكي حتى يسقط، ثم يلزم بيته حتى يُعاد؛ يَحْسَبونه مريضًا).

وكان رضي الله عنه يتمنى الشهادة ويُكثِر مِن قول: (اللهم ارزقني شهادةً في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك رضي الله عنه)؛ رواه البخاري، فاستجاب الله دعاءه، ونال الشهادة وهو في المدينة، استُشهِد رضي الله عنه على يد أبي لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة عليه من الله ما يستحق، قَتَلَهُ غِيلةً وهو في صلاة الصبح سنة ثلاث وعشرين من الهجرة، فرضي الله عن عمر الفاروق، وعن سائر الصحابة والتابعين، وكانت من أقواله العظيمة، والتي ينبغي أن تسطَّر بماء الذهب:
• حرفة يُعاش بها خير مِن مسألة الناس.
• وقال: (إذا رأيتُم العالِمَ يحب الدنيا، فاتهموه على دينكم، فإن كلَّ مُحبٍّ يخوض فيما أحبَّ).
• وقال: (لو نادى منادٍ من السماء: أيها الناس، إنكم داخلون الجَنَّةَ كلكم أجمعون، إلا رجلًا واحدًا، لخشيتُ أن أكونه، ولو نادى منادٍ: أيها الناس، إنكم داخلون النار، إلا رجلًا واحدًا، لرجوتُ أن أكونه).
• وقال أيضًا: (لا تَنظُروا إلى صيام أحد، ولا إلى صلاته، ولكن انظروا مَن إذا حدَّث صدق، وإذا ائتُمن أدَّي، وإذا أشفى وَرِع).
• وقال: (حاسبوا أنفسَكم قبل أن تُحاسَبوا، فإنه أيسَر، وزِنُوا أنفسَكم قبل أن توزنوا، وتجهَّزوا للعرض الأكبر يوم تُعرضون لا تخفى منكم خافية).

هذا غيض من فيض من سيرة عمر ومواقفه وأقواله.

فرضي الله عن عمر الفاروق، وعن جميعِ الصحابةِ والتابعين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد.

عيوني تضمك
11-30-2023, 11:36 AM
اسأل الله العظيم
أن يرزقك الفردوس الأعلى من الجنان.
وأن يثيبك البارئ خير الثواب .
دمت برضى الرحمن