حكاية ناي ♔
11-30-2023, 11:35 AM
ذكر شيء من محاسبة عمر لنفسه ووقوفه عند همومها
ورد عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه؛ أنه قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحُاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله، يومئذ تعرضون لا يخفى على الله منكم خافية)).
وورد عنه رضي الله عنه، أنه كتب لبعض عماله، قال: ((حاسب نفسك أيام الرخاء قبل حساب الشدة، فمن حاسب نفسه أيام الرخاء، عاد أمره إلى الرضا والغبطة)).
كان عمر رضي الله عنه قد اتخذ مح((مد بن مسلمة لتفقد أحوال الولاة، ومعرفة أحوالهم وأحوال الرعية معهم، ومحاسبتهم، ورفع نتيجة ذلك إليه.
وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه لما فرض للمهاجرين الأولين كل رجل منهم أربعة آلاف، وأما ابنه عبد الله، فلم يفرض له إلا ثلاثة آلاف وخمس مئة، فقيل له: ((يا أمير المؤمنين! ابنك عبد الله من المهاجرين الأولين، فلم نقصته؟ قال: لم يهاجر هو بنفسه، إنما هاجر به أبوه)). فرضي الله عن عمر وأرضاه.
روي أن أمير المؤمنين عمر كتب إلى واليه بمصر عمرو بن العاص، فقال: ((إنه قد بلغني أنه قد فشت لك فاشية من خيل وإبل وغنم وبقر، وعهدي بك قبل ذلك لا مال، فمن أين أصل هذا المال؟)). قال عمرو بن العاص: ((يا أمير المؤمنين! كنا بأرض مزدرع ومتجر، فنصيب فضلاً عن حاجتنا)). وذلك أنه رضي الله عنه قد دقق المحاسبة على نفسه قبل محاسبته لرعيته، فبدأ بنفسه قبل رعيته، فلم يجد أحد عليه مدخلاً فيما يناقشهم رضي الله عنه وأرضاه.
ذكر شيء من عبادة عمر وخوفه من الله
عن زيد بن أسلم: أن عمر رضي الله عنه كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان آخر الليل، أيقظ أهله وهو يقول: ((الصلاة، الصلاة، ثم يتلو هذه الآية: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ [طه: 132].
وروي أنه رضي الله عنه قال: ((لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات بالعراق ضيعة، لخشيت أن أسأل عنها)).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ((كنت مع عمر فدخل حائطاً لحاجة، فسمعته من وراء الحائط يقول في نفسه: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخٍ بخٍ، والله، لتتقين بني الخطاب أو ليعذبنك)).
روي: ((أن عمر رضي الله عنه اجتاز برجل وهو يقرأ: ﴿ وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ﴾ [الطور: 1، 2] حتى بلغ: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7، 8]. فبكى بكاءً شديداً حتى مرض أياماً، وعاده بعض إخوانه رضي الله عنه، وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء)).
وكان رضي الله عنه شديد الخوف من الله، كان يقول: ((بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع)).
وكان رضي الله عنه يسأل حذيفة بن اليمان، يقول: ((أسألك بالله: هل عدني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟)).
وكان رضي الله عنه عام الرمادة (أي: عام القحط والمجاعة) لا يأتدم إلا بالزيت لا بالسمن. ويقول لبطنه: ((تقرقر أو لا تقرقر، والله، لا أتدم بالسمن والناس جياع)).
وروي أن عمر رضي الله عنه قال: ((لولا ثلاث لما أحببت البقاء: لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل (يعني: في العبادة)، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر)).
وقد روي: ((أنه رضي الله عنه خرج إلى حائط له ثم رجع وقد صلى الناس العصر، فقال: حائطي صدقة على المساكين)). قال الليث: إنما فاتته الصلاة في الجماعة.
وقد روي: ((أنه رضي الله عنه شغله أمر عن صلاة المغرب حتى طلع نجمان، فلما صلاها، أعتق رقبتين)).
وكان رضي الله عنه إذا رأى كثرة الفتوح وكثرة الغنائم يبكي ويشتد بكاؤه، ويقول: ((ما حبس هذا عن نبيه صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر، لشر أراده بهما، وأعطاه عمر إرادة الخير له)).
وروي عنه رضي الله عنه، أنه قال: ((إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة رجل من المسلمين وبمنزلة والي اليتيم، إذا احتاج، أكل بالمعروف، وإن استغنى، تعفف)).
روي: ((أنه رضي الله عنه إذا صلى العشاء، دخل بيته، فما زال يصلي حتى يطلع الفجر)).
روي: ((أن عمر رضي الله عنه خرج ذات ليلة بعدما دخل رمضان، فدخل المسجد، فرأى الناس أوزاعاً؛ يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل ليصلي بصلاته الرهط، فقال: إني أرى لو جمعتهم على قارئ واحد لكان أمثل، فجمعهم رضي الله عنه على أبي بن كعب سيد القراء يصلي بهم عشرين ركعة، ثم إنه خرج ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل)).
اهتمام أمير المؤمنين عمر بالصلاة
كان عمر رضي الله عنه يكتب إلى العمال والولات في الآفاق والأقاليم في شأن الصلاة واهتمامه بها، فيقول: ((إن أهم أموركم عندي الصلاة، من حفظها وحافظ عليها، حفظ دينه، ومن ضيعها، كان لما سواها أشد إضاعة)).
وكان كلما وجه قائد جيش أول ما يوصيه في نفسه ومن معه بالصلاة والمحافظة عليها، ومحاربة الأخلاق الرذيلة.
وروي بسند صحيح، إنه قال: ((ما بال أقوام يتخلفون عن الصلاة في الجماعة، فيتخلف لتخلفهم آخرون؟! ليحضروا الصلاة أو لأبعثن عليهم من يجافي رقابهم)). فهذا يدل على عظم شأن الصلاة التي تهاون بها من قل حظه من الله والدار الآخرة.
وقد روي عن عمر رضي الله عنه بعد ما أصيب لما ذكر الصلاة، قال: ((أما أنه لا حظ لأحدٍ في الإسلام لمن ضيعها)).
وروى مالك عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن سليمان ابن أبي حثمة: ((أن عمر فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، فطرق على أمه، فقال لها: إن سليمان لم يشهد معنا صلاة الصبح! قالت: إنه بات يصلي ثم غلبته عيناه. فقال رضي الله عنه: لأن أشهد صلاة الصبح في الجماعة أحب إلي من قيام ليلة)).
ذكر شيء من سيرته وعدله رضي الله عنه
وعن محمد بن علي، أن عمر رضي الله عنه لما دون الدواوين قال: ((بمن ترون أبدأ؟ فقيل له: ابدأ بالأقرب منك يا أمير المؤمنين! قال: بل أبدأ بالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم)). رواه الشافعي.
وقد ورد عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، أنه قال قبل موته بأربعة أيام: ((لئن سلمني الله تعالى، لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى أحدٍ بعدي أبداً)). رواه البخاري في صحيحه.
والنكتة في اختصاصه بأهل العراق دون غيرهم، لبيان أن عدله يشمل البعيد النائي والقريب رضي الله عنه.
وقد روى محمد بن سيرين رحمه الله قال: ((قدم على عمر صهر له، فطلب منه أن يعطيه من بيت المال، فانتهره عمر وقال له: أردت أن ألقى الله تعالى خائناً؟! ثم أعطاه من صلب ماله)).
وقد روي: ((أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه اشترى إبلاً، فجعلها ترعى في حمى إبل الصدقة، فَنَمَت وازداد ثمنها، فلما علم عمر رضي الله عنه، قال لابنه: ليس لك إلا رأس مالك، وما زاد، فيدخل في بيت مال المسلمين)). رضي الله عنه.
وفي حديث أخرجه البخاري، أن عمر رضي الله عنه قال: ((اللهم! إني أشهدك على أمراء الأمصار أني إنما بعثتهم ليعدلوا وليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، ويقسموا فيهم فيأهم، ويرفعوا إلي ما أشكل من أمرهم)).
وروي: ((إنه لما أصاب الناس المجاعة والقحط في عهده رضي الله عنه، كان لا ينام الليل إلا قليلاً، ولا يجد راحة، همه أن يدفع خطر المجاعة والشدة عن رعيته، وما زال به الهمّ حتى تغير لونه وهزل جسمه)).
وروي: ((أنه جاءته يوماً قافلة تحمل اللحم والسمن والطعام والكساء، فوزعها على الناس بنفسه ولم يأكل منها شيئاً، كل ذلك يريد أن يخفف عن ظهره ثقل الحساب يوم القيامة)).
روي أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال: ((من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً، فليقومه)).
وروي أن رجلاً قال لعمر: ((اتق الله يا عمر! فأجابه أحد الحاضرين بقوله: أتقول هذا لأمير المؤمنين! ولكن عمر نهر القائل الذي قال أتقول هذا لأمير المؤمنين بقوله: لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها)).
وأخبار أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في عدله ومحاسبته الدقيقة لنفسه لو تتبعناها واستقصينا عليها، لبلغت أسفاراً، ولربما لا يصدق بها الغبي من الناس. فرضي الله عن عمر وأرضاه.
فيا أيها المسلم من راعٍ ومرعي! خذ من سيرة القوم لنفسك درساً وأخلاقاً وعملاً، فإن مورد الجميع واحد، فهؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من سار على منهاجهم وأقتفى آثارهم، رجي له النجاح والفلاح والسعادة بدار السلام.
حرص أمير المؤمنين عمر على تعليم الناس القرآن ونشر العلم
كان عمر رضي الله عنه حريصاً على نشر العلم وتعليم الناس القرآن الكريم في جميع الأقاليم والممالك الإسلامية التي دانت تحت ولاية المسلمين، فأرسل عبد الله بن مسعود إلى الكوفة، وأرسل معاذ بن جبل إلى دمشق، وأرسل أبا موسى الأشعري إلى البصرة ومعه عمران بن الحصين.
وكان رضي الله عنه يرسل بعض الصحابة إلى البلدان ليعلموا الناس القرآن والفقه، وكان غاية مقصوده نصر هذا الدين، ونشره في سائر المعمورة، ورفع راية الجهاد، فقد بذل رضي الله عنه هو وصحابة محمد صلى الله عليه وسلم النفس والنفيس والمهج والأرواح والأموال لنشر هذا الدين والدفاع عن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد نشروا على ربوع العالم رايات الإسلام الخفاقة، رضي الله عنهم.
ذكر شيء من عطف عمر رضي الله عنه على الضعفة والأرامل
وعن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: ((غدوت مع أمير المؤمنين عمر إلى السوق، فلحقته امرأة شابة، فقالت: يا أمير المؤمنين! هلك زوجي وترك صبية صغاراً، والله، ما ينضجون كراعاً ولا زرع لهم ولا ضرع، وإني خشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا بنت خفاف بن إماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف معها عمر، وقال: مرحباً بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير كان مربوطاً في الدار، فحمل عليه عدلين طعام ونفقة وثياب، فقال لها: اقتادي البعير، فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير إن شاء الله...)). الحديث بطوله رواه البخاري في صحيحه.
روي أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، قال: ((خرج عمر ليلة في سواد الليل، فدخل بيتاً، فلما أصبحت ذهبت إلى ذلك البيت، فإذا فيه عجوز عمياء مقعدة، فقلت لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت: إنه يتعاهدني مدة كذا وكذا ويقضي حاجتي، فقلت في نفسي: ثكلتك أمك يا طلحة! تتبع عورات عمر)).
وروي: ((أن عمر رضي الله عنه التقى بامرأة صحابية، يقال لها: خوله بنت ثعلبة، وهو يسير مع الناس، فاستوقفته، فوقف معها ودنا منها وأصغى إليها سمعه حتى أنهت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! حبست رجالات قريش على هذه العجوز! فقال: ويحك، أتدري من هذه؟ قال: لا. قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، والله، لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها)). رضي الله عنه.
وروي: ((أن عمر رضي الله عنه بينما هو يدور بالليل يعس في نواحي المدينة ويتفقد أحوال الرعية؛ إذ هو يسمع صوت امرأة داخل منزلها ترفع صوتها بأبيات شعر تتحنن على غربة زوجها وتشتكي وحدتها، وهي تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وارقني أن لا خليل ألاعبه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ألاعبه طوراً وطوراً كأنما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بدا قمراً في ظلمة الليل حاجبه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فو الله لولا الله لا رب غيره https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لحرك من هذا السرير جوانبه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فلما سمع عمر رضي الله عنه مقالتها؛ هزت قلبه عواطف الرحمة، فرجع إلى حفصة ابنته، فناشدها الله، وقال: اصدقيني، ما أقصى ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت رضي الله عنها: هي المدة التي ضربها الله للمتوفي عنها زوجها)).
وعن الحسن البصري قال: ((بينا عمر رضي الله عنه يعس بالمدينة ليلاً لقيته امرأة تحمل قربة، فسألها، فذكرت له أن لها عيالاً وليس لها خادم، وأنها تخرج ليلاً فتسقى لهم الماء، وتكره أن تخرج نهاراً، فحمل عمر عنها القربة حتى بلغ منزلها، ثم قال لها: أتي عمر غدوة يخدمك خادماً)). فرضي الله عنه عمر.
وروي: ((أنه إذا قدمت الرسائل من الغزاة المجاهدين إلى أهليهم بالمدينة هو الذي بنفسه يأخذها ويوصلها إلى بيوت العزاب)). رضي الله عنه.
وروي أن أسلم مولى عمر رضي الله عنه قال: ((خرجت ليلة مع عمر إلى ظاهر المدينة، فلاح لنا بيت شعر، فقصدناه؛ فإذا فيه امرأة تتمخض بالولادة وإذا هي تبكي، فسألها عمر عن حالها؟ فقالت: أنا امرأة عربية وليس عندي شيء من الطعام، فبكى عمر وأسرع راجعاً إلى المدينة، فقال لزوجته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب: هل لك في خير ساقه الله لك؟ ثم أخبرها الخبر، فقالت: نعم. فحمل على ظهره الدقيق والشحم، وحملت هي معها ما يصلح شأن المرأة، فولجت المرأة على المرأة وعمر جلس مع زوجها وهو لا يعرفه، حتى جاءت أم كلثوم، فقالت: يا أمير المؤمنين! بشر صاحبك بغلام)). فرضي الله عن عمر وأهله.
وله قصة أخرى تشبه هذه، قال أسلم مولى عمر: ((خرجت مع عمر ليلة من الليالي خارج المدينة، فلاحت لنا نار من بعيد، فقال عمر: يا أسلم! هؤلاء ركب قد قصر بهم الليل، انطلق بنا إليهم، فإذا امرأة معها صبيان لها، وإذا الصبية على النار يتضاغون حولها، قال لها عمر: ما هذه النار؟ وما هذا القدر؟ قالت: أريد أن أعلل الصبية حتى يناموا؛ لأن الجوع والبرد أقلقهم عن النوم، فالله بيننا وبين عمر. فبكى عمر، ورجع من ساعته إلى دار الدقيق، فأخرج عدلاً فيه دقيق وجراباً فيه شحم، فحملهما على ظهره، ثم أعطاها نفقة، والمرأة لا تعرفه)). فرضي الله عن عمر.
فهذا قليل من كثير من سيرة عمر وعدله وخوفه وتواضعه رضي الله عنه.
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما تُنصرون وترُزقون بضعفائكم)).
وورد في الحديث الصحيح: ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
ذكر بعض من خطب أمير المؤمنين عمر ووصاياه
كان عمر رضي الله عنه أول كلام تكلم لما تولى الخلافة، صعد المنبر، ثم قال: ((اللهم! إني شديد؛ فليني، وإني ضعيف؛ فقوني، وإني بخيل؛ فسخني، أيها الناس! القوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له، وإني قد ابتليت بكم وابتليتم بي)).
ومما روي من خطبته بالجابية رضي الله عنه، قال: ((أيها الناس! أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لأخراكم تكفوا أمر دنياكم، واعلموا أن رجلاً ليس بينه وبين آدم أب حي ولا بينه وبين الله هوادة المعنى لا حسب ولا نسب، فمن أراد طريق الجنة؛ فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد، ولا يخلون أحدكم بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثهما، ومن سرته حسنته وساءته سيئته، فهو مؤمن..)). وهي خطبة طويلة هذا بعضها، رضي الله عنه.
ومما أوصى به أبا عبيدة بن الجراح حينما ولاه على جيوش الشام بعد عزل خالد، قال: ((أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي هدانا من الضلالة وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد، فقم بأمر الله الذي يحق عليك، لا تقدم المسلمين هلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلاً قبل أن تستريده لهم، ولا تبعث سرية إلا في كنف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين في الهلكة، وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك، وغُض بصرك عن الدنيا ولا تُشغل قلبك بها)).
وقد روى علي بن محمد المدائني: ((أن عمر رضي الله عنه كتب لعتبة بن غزوان حينما وجهه إلى البصرة، قال له: يا عتبة! اتق الله فيما وليت، وإياك أن تنازعك نفسك على كبر، فتفسد عليك آخرتك، وقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعززت بعد الذلة، وقويت بعد الضعف، حتى صرت أميراً مسلطاً وملكاً مطاعاً، تقول فُيسمع لقولك، وتأمر فيطاع أمرك، فيا لها نعمة إن لم ترق فوق قدرك وتبطر على من دونك! احتفظ من النعمة احتفاظك من المعصية، وهي أخوفهما عندي عليك من أن يستدرجك ويخدعك فتسقط سقطة تصير بها إلى جنهم، أعيذك بالله من ذلك)).
وقد كتب أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كتباً يوجهها مع قادة الجيوش، ومنهم: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فيقول: ((أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم ومن عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، ولولا ذلك، لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عدونا ليس كعدوهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية؛ كان لهم الفضل علينا في القوة، وأن لا ننصر عليهم بفضلنا؛ لم نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون؛ فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا، فلن يسلط علينا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله، كفار المجوس، ﴿ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ﴾ [الإسراء: 5].
وروي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص في غزوة القادسية، قال: (( يا سعد! إن الله تعالى إذا أحب عبداً حببه إلى خلقه، فاعرف منزلتك من الله بمنزلتك من الناس، واعلم أن ما لك عند الله مثل ما لله عندك)).
وفي مسند الإمام أحمد: عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان، قال: ((جاءنا كتاب عمر ونحن بأذربيجان، قال فيه: يا عتبة بن فرقد! إياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك)).
وقد روي أن عمر بلغه أن الفرس قد جمعوا للمسلمين بنهاوند ليستردوا ممالكهم من المسلمين، فجمع عمر الجيوش الإسلامية، وأمر عليهم النعمان بن مقرن، وأمره أن يسير بمن معه إلى نهاوند؛ فالتقى المسلمون بجموع جيوش الفرس بنهاوند، فاقتتلوا قتالاً عظيماً، فانتصر المسلمون انتصاراً لم يعهد مثله، وغنموا غنائم كثيرة، فالحمد لله على عز الإسلام.
تواضع أمير المؤمنين عمر وبعده عن الكبرياء
قد ورد أن رسول كسرى بن هرمز قدم المدينة المنورة على عهد خلافة الفاروق أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فأخذ يتساءل عن أمير المؤمنين عمر الذي اتسعت ممالكه أنحاء المعمورة شرقاً وغرباً، ومتى يصل إليه؟ فقيل له: تجده في المسجد أو تحت ظل شجرة، وفعلاً وجده في المسجد نائماً (وقيل: تحت ظل شجرة) رضي الله عنه، فقال رسول كسرى مقالته المشهورة: (لقد عدلت، فأمنت، فنمت).
وروي: ((أنه رضي الله عنه لما قدم الشام في أحد جولاته التي ذهب فيها يتفقد أحوال الرعية عرضت له في طريقه مخاضة، فنزل عن بعيره، ونزع خفيه وأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة بن الجراح - وهو أمير المؤمنين بالشام - وهو يسايره في الطريق: يا أمير المؤمنين! يتلقاك الأمراء وبطارقة الشام وأنت هكذا! فأجابه قائلاً: ثابت الجأش، مطمئناً، معظماً لربه: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما طلبنا العز بغيره، أذلنا الله)).
ومن تواضعه رضي الله عنه ما أسلفناه من قضاء حوائج الضعفة والمساكين، وقيامه بخدمتهم هو بنفسه رضي الله عنه.
ذكر بعض ما روي لعمر رضي الله عنه من الكرامات
ساق المؤرخون لعمر رضي الله عنه أشياء من الكرامات التي أعطيها في هذه الدنيا قبل كرامات الآخرة، منها:
أنه أرسل نحو العراق سرية عليها قائدها سارية بن زنيم، فلما التقى جيشه بالمشركين كاد جيش سارية أن ينهزم، فبينما عمر يخطب على منبر المسجد النبوي دار في خلده وإلهام من الله له أن قال -يرفع بها صوته-: ((الجبل الجبل يا سارية)). فسمعها سارية على بُعد المسافة، فأسندوا ظهورهم إلى الجبل، فانتصروا.
ومن كرامات عمر: عبور أميره سعد بن أبي وقاص بجيشه على ظهر ماء البحر بجيوشهم ومراكبهم البرية حتى قطعوا البحر، فدخلوا المدائن سالمين غانمين.
ومن كراماته التي أعطيها: أنه ما قال في شيء ليته كذا؛ إلا نزل في القرآن بموافقته، وقد أسلفنا بعضاً من ذلك في موضوعه.
وفيما روي: ((أن نيل مصر لما قلص ماؤه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان أميره على مصر عمرو بن العاص، فجاء وجهاء مصر إلى عمرو بن العاص، فقالوا: إن لنا عادة لهذا النيل، حينما يقف نعمد إلى جارية حسناء، فنرضي وليها بما يسمح به، ثم نجعل عليها من الحلي واللباس الحسن، ثم نقذفها فيه، ثم يجري. فقال عمرو بن العاص: هذه عادة سيئة لا تتوافق مع الإسلام أبداً. ثم كتب إلى عمر بن الخطاب وأخبره بما قالوا، وبما قال لهم، وبتوقف النيل عن الجري، فقال عمر رضي الله عنه: أصبت بما قلت لهم. ثم إن عمر كتب خطاباً إلى عمرو بن العاص، وكتب معه ورقة قال فيها: بسم الله، من عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى نيل مصر، وبعد:
إن كنت تجري من قبلك، فلا تجري، وإن كنت تجري بإذن الله وأمره وقدرته، فاسأل الله تعالى أن يجريك.
فأمر عمرو بن العاص أن يقذف هذه البطاقة في النيل، فمنذ ألقاها جرى النيل من ساعته، فهو يجري إلى يومنا هذا)).
فالحمد لله على نعمه وعلى قطع العادات السيئة، ورضي الله عنه عمر، فقد نقل المؤرخون هذه القصة ونقلناها كما نقلوها، فالله أعلم بالصواب.
ذكر بعض ما روي لعمر من الثناء الحسن رضي الله عنه
دخل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما على أمير المؤمنين عمر بعد ما طُعن وحمل إلى بيته، وبعد ما أفاق من غشيته، فقال: ((أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعز الله الإسلام والمسلمين بك إذ يخافون بمكة، فلما أسلمت؛ كان إسلامك عزاً، وظهر بك الإسلام، وهاجرت؛ فكانت هجرتك فتحاً، ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله من قتال المشركين، ثم توفي وهو عنك راضٍ، ووازرت الخليفة بعده على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم؛ فضربت من أدبر بمن أقبل، ثم قُبض الخليفة وهو عنك راضٍ، ثم وليت بخير ما ولي الناس، مصَّر الله بك الأمصار، وجبَّن بك الأموال، ونفى الله بك الأعداء، ثم ختم لك بالشهادة، فهنيئاً لك. فقال عمر: والله، إن المغرور من غررتموه.
ثم دخلت عليه ابنته حفصة، فمكثت عنده ما شاء الله أن تمكث، فقالت: يا صاحب رسول الله! يا صهر رسول الله! يا أمير المؤمنين! فقال عمر رضي الله عنه: لا صبر لي على ما أسمع، أحرج عليك بما لي عليك من الحق أن تندبين بعد مجلسك هذا، فأما عيناك، فلن أملكهما.
ودخل على أمير المؤمنين عمر بعد ما طُعن وحمل إلى بيته رجل شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين! قد كان لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم في الإسلام، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة. فقال عمر رضي الله عنه: وددت أن ذلك كفافاً لا علي ولا لي. فلما أدبر الشاب إذا إزاره يمس الأرض، فقال له عمر رضي الله عنه: يا ابن أخي! ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك)).
وروي أن معاوية بن أبي سفيان قال: ((أبو بكر الصديق لم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر، فأرادته الدنيا ولم يردها)).
قال ابن حجر في فتح الباري: ((وفي جعل عمر الشورى في ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في انتخاب خليفة بعده على المسلمين: أنه يؤخذ من ذلك شفقة عمر على المسلمين، ونصحه لهم، وإقامة السنة فيهم، وشدة خوفه من ربه، واهتمامه بأمر الدين أكثر من اهتمامه بأمر نفسه)).
روي أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال لابن صوحان: ((صف لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال: كان عالماً برعيته، عادلاً في قضيته، عارياً من الكبر، قبولاً للعذر، سهل الحجاب، مصون الباب، رفيقاً بالضعيف، غير محابٍ للقريب ولا جافياً للغريب، عظيم الورع والخوف من الله، زاهداً في الدنيا، عظيم الرغبة في الآخرة)).
ورد عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه؛ أنه قال: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحُاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهبوا للعرض الأكبر على الله، يومئذ تعرضون لا يخفى على الله منكم خافية)).
وورد عنه رضي الله عنه، أنه كتب لبعض عماله، قال: ((حاسب نفسك أيام الرخاء قبل حساب الشدة، فمن حاسب نفسه أيام الرخاء، عاد أمره إلى الرضا والغبطة)).
كان عمر رضي الله عنه قد اتخذ مح((مد بن مسلمة لتفقد أحوال الولاة، ومعرفة أحوالهم وأحوال الرعية معهم، ومحاسبتهم، ورفع نتيجة ذلك إليه.
وقد ثبت أن عمر رضي الله عنه لما فرض للمهاجرين الأولين كل رجل منهم أربعة آلاف، وأما ابنه عبد الله، فلم يفرض له إلا ثلاثة آلاف وخمس مئة، فقيل له: ((يا أمير المؤمنين! ابنك عبد الله من المهاجرين الأولين، فلم نقصته؟ قال: لم يهاجر هو بنفسه، إنما هاجر به أبوه)). فرضي الله عن عمر وأرضاه.
روي أن أمير المؤمنين عمر كتب إلى واليه بمصر عمرو بن العاص، فقال: ((إنه قد بلغني أنه قد فشت لك فاشية من خيل وإبل وغنم وبقر، وعهدي بك قبل ذلك لا مال، فمن أين أصل هذا المال؟)). قال عمرو بن العاص: ((يا أمير المؤمنين! كنا بأرض مزدرع ومتجر، فنصيب فضلاً عن حاجتنا)). وذلك أنه رضي الله عنه قد دقق المحاسبة على نفسه قبل محاسبته لرعيته، فبدأ بنفسه قبل رعيته، فلم يجد أحد عليه مدخلاً فيما يناقشهم رضي الله عنه وأرضاه.
ذكر شيء من عبادة عمر وخوفه من الله
عن زيد بن أسلم: أن عمر رضي الله عنه كان يصلي من الليل ما شاء الله أن يصلي، حتى إذا كان آخر الليل، أيقظ أهله وهو يقول: ((الصلاة، الصلاة، ثم يتلو هذه الآية: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ﴾ [طه: 132].
وروي أنه رضي الله عنه قال: ((لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات بالعراق ضيعة، لخشيت أن أسأل عنها)).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ((كنت مع عمر فدخل حائطاً لحاجة، فسمعته من وراء الحائط يقول في نفسه: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخٍ بخٍ، والله، لتتقين بني الخطاب أو ليعذبنك)).
روي: ((أن عمر رضي الله عنه اجتاز برجل وهو يقرأ: ﴿ وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ﴾ [الطور: 1، 2] حتى بلغ: ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ﴾ [الطور: 7، 8]. فبكى بكاءً شديداً حتى مرض أياماً، وعاده بعض إخوانه رضي الله عنه، وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء)).
وكان رضي الله عنه شديد الخوف من الله، كان يقول: ((بئس الوالي أنا إن شبعت والناس جياع)).
وكان رضي الله عنه يسأل حذيفة بن اليمان، يقول: ((أسألك بالله: هل عدني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين؟)).
وكان رضي الله عنه عام الرمادة (أي: عام القحط والمجاعة) لا يأتدم إلا بالزيت لا بالسمن. ويقول لبطنه: ((تقرقر أو لا تقرقر، والله، لا أتدم بالسمن والناس جياع)).
وروي أن عمر رضي الله عنه قال: ((لولا ثلاث لما أحببت البقاء: لولا أن أحمل على جياد الخيل في سبيل الله، ومكابدة الليل (يعني: في العبادة)، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقي أطايب التمر)).
وقد روي: ((أنه رضي الله عنه خرج إلى حائط له ثم رجع وقد صلى الناس العصر، فقال: حائطي صدقة على المساكين)). قال الليث: إنما فاتته الصلاة في الجماعة.
وقد روي: ((أنه رضي الله عنه شغله أمر عن صلاة المغرب حتى طلع نجمان، فلما صلاها، أعتق رقبتين)).
وكان رضي الله عنه إذا رأى كثرة الفتوح وكثرة الغنائم يبكي ويشتد بكاؤه، ويقول: ((ما حبس هذا عن نبيه صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر، لشر أراده بهما، وأعطاه عمر إرادة الخير له)).
وروي عنه رضي الله عنه، أنه قال: ((إني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة رجل من المسلمين وبمنزلة والي اليتيم، إذا احتاج، أكل بالمعروف، وإن استغنى، تعفف)).
روي: ((أنه رضي الله عنه إذا صلى العشاء، دخل بيته، فما زال يصلي حتى يطلع الفجر)).
روي: ((أن عمر رضي الله عنه خرج ذات ليلة بعدما دخل رمضان، فدخل المسجد، فرأى الناس أوزاعاً؛ يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل ليصلي بصلاته الرهط، فقال: إني أرى لو جمعتهم على قارئ واحد لكان أمثل، فجمعهم رضي الله عنه على أبي بن كعب سيد القراء يصلي بهم عشرين ركعة، ثم إنه خرج ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم، فقال: نعمت البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل)).
اهتمام أمير المؤمنين عمر بالصلاة
كان عمر رضي الله عنه يكتب إلى العمال والولات في الآفاق والأقاليم في شأن الصلاة واهتمامه بها، فيقول: ((إن أهم أموركم عندي الصلاة، من حفظها وحافظ عليها، حفظ دينه، ومن ضيعها، كان لما سواها أشد إضاعة)).
وكان كلما وجه قائد جيش أول ما يوصيه في نفسه ومن معه بالصلاة والمحافظة عليها، ومحاربة الأخلاق الرذيلة.
وروي بسند صحيح، إنه قال: ((ما بال أقوام يتخلفون عن الصلاة في الجماعة، فيتخلف لتخلفهم آخرون؟! ليحضروا الصلاة أو لأبعثن عليهم من يجافي رقابهم)). فهذا يدل على عظم شأن الصلاة التي تهاون بها من قل حظه من الله والدار الآخرة.
وقد روي عن عمر رضي الله عنه بعد ما أصيب لما ذكر الصلاة، قال: ((أما أنه لا حظ لأحدٍ في الإسلام لمن ضيعها)).
وروى مالك عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن سليمان ابن أبي حثمة: ((أن عمر فقد سليمان بن أبي حثمة في صلاة الصبح، فطرق على أمه، فقال لها: إن سليمان لم يشهد معنا صلاة الصبح! قالت: إنه بات يصلي ثم غلبته عيناه. فقال رضي الله عنه: لأن أشهد صلاة الصبح في الجماعة أحب إلي من قيام ليلة)).
ذكر شيء من سيرته وعدله رضي الله عنه
وعن محمد بن علي، أن عمر رضي الله عنه لما دون الدواوين قال: ((بمن ترون أبدأ؟ فقيل له: ابدأ بالأقرب منك يا أمير المؤمنين! قال: بل أبدأ بالأقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم)). رواه الشافعي.
وقد ورد عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، أنه قال قبل موته بأربعة أيام: ((لئن سلمني الله تعالى، لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى أحدٍ بعدي أبداً)). رواه البخاري في صحيحه.
والنكتة في اختصاصه بأهل العراق دون غيرهم، لبيان أن عدله يشمل البعيد النائي والقريب رضي الله عنه.
وقد روى محمد بن سيرين رحمه الله قال: ((قدم على عمر صهر له، فطلب منه أن يعطيه من بيت المال، فانتهره عمر وقال له: أردت أن ألقى الله تعالى خائناً؟! ثم أعطاه من صلب ماله)).
وقد روي: ((أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه اشترى إبلاً، فجعلها ترعى في حمى إبل الصدقة، فَنَمَت وازداد ثمنها، فلما علم عمر رضي الله عنه، قال لابنه: ليس لك إلا رأس مالك، وما زاد، فيدخل في بيت مال المسلمين)). رضي الله عنه.
وفي حديث أخرجه البخاري، أن عمر رضي الله عنه قال: ((اللهم! إني أشهدك على أمراء الأمصار أني إنما بعثتهم ليعدلوا وليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، ويقسموا فيهم فيأهم، ويرفعوا إلي ما أشكل من أمرهم)).
وروي: ((إنه لما أصاب الناس المجاعة والقحط في عهده رضي الله عنه، كان لا ينام الليل إلا قليلاً، ولا يجد راحة، همه أن يدفع خطر المجاعة والشدة عن رعيته، وما زال به الهمّ حتى تغير لونه وهزل جسمه)).
وروي: ((أنه جاءته يوماً قافلة تحمل اللحم والسمن والطعام والكساء، فوزعها على الناس بنفسه ولم يأكل منها شيئاً، كل ذلك يريد أن يخفف عن ظهره ثقل الحساب يوم القيامة)).
روي أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قال: ((من رأى منكم فيَّ اعوجاجاً، فليقومه)).
وروي أن رجلاً قال لعمر: ((اتق الله يا عمر! فأجابه أحد الحاضرين بقوله: أتقول هذا لأمير المؤمنين! ولكن عمر نهر القائل الذي قال أتقول هذا لأمير المؤمنين بقوله: لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها)).
وأخبار أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في عدله ومحاسبته الدقيقة لنفسه لو تتبعناها واستقصينا عليها، لبلغت أسفاراً، ولربما لا يصدق بها الغبي من الناس. فرضي الله عن عمر وأرضاه.
فيا أيها المسلم من راعٍ ومرعي! خذ من سيرة القوم لنفسك درساً وأخلاقاً وعملاً، فإن مورد الجميع واحد، فهؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من سار على منهاجهم وأقتفى آثارهم، رجي له النجاح والفلاح والسعادة بدار السلام.
حرص أمير المؤمنين عمر على تعليم الناس القرآن ونشر العلم
كان عمر رضي الله عنه حريصاً على نشر العلم وتعليم الناس القرآن الكريم في جميع الأقاليم والممالك الإسلامية التي دانت تحت ولاية المسلمين، فأرسل عبد الله بن مسعود إلى الكوفة، وأرسل معاذ بن جبل إلى دمشق، وأرسل أبا موسى الأشعري إلى البصرة ومعه عمران بن الحصين.
وكان رضي الله عنه يرسل بعض الصحابة إلى البلدان ليعلموا الناس القرآن والفقه، وكان غاية مقصوده نصر هذا الدين، ونشره في سائر المعمورة، ورفع راية الجهاد، فقد بذل رضي الله عنه هو وصحابة محمد صلى الله عليه وسلم النفس والنفيس والمهج والأرواح والأموال لنشر هذا الدين والدفاع عن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد نشروا على ربوع العالم رايات الإسلام الخفاقة، رضي الله عنهم.
ذكر شيء من عطف عمر رضي الله عنه على الضعفة والأرامل
وعن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: ((غدوت مع أمير المؤمنين عمر إلى السوق، فلحقته امرأة شابة، فقالت: يا أمير المؤمنين! هلك زوجي وترك صبية صغاراً، والله، ما ينضجون كراعاً ولا زرع لهم ولا ضرع، وإني خشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا بنت خفاف بن إماء الغفاري، وقد شهد أبي الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقف معها عمر، وقال: مرحباً بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير كان مربوطاً في الدار، فحمل عليه عدلين طعام ونفقة وثياب، فقال لها: اقتادي البعير، فلن يفنى هذا حتى يأتيكم الله بخير إن شاء الله...)). الحديث بطوله رواه البخاري في صحيحه.
روي أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، قال: ((خرج عمر ليلة في سواد الليل، فدخل بيتاً، فلما أصبحت ذهبت إلى ذلك البيت، فإذا فيه عجوز عمياء مقعدة، فقلت لها: ما بال هذا الرجل يأتيك؟ قالت: إنه يتعاهدني مدة كذا وكذا ويقضي حاجتي، فقلت في نفسي: ثكلتك أمك يا طلحة! تتبع عورات عمر)).
وروي: ((أن عمر رضي الله عنه التقى بامرأة صحابية، يقال لها: خوله بنت ثعلبة، وهو يسير مع الناس، فاستوقفته، فوقف معها ودنا منها وأصغى إليها سمعه حتى أنهت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! حبست رجالات قريش على هذه العجوز! فقال: ويحك، أتدري من هذه؟ قال: لا. قال: هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، والله، لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها)). رضي الله عنه.
وروي: ((أن عمر رضي الله عنه بينما هو يدور بالليل يعس في نواحي المدينة ويتفقد أحوال الرعية؛ إذ هو يسمع صوت امرأة داخل منزلها ترفع صوتها بأبيات شعر تتحنن على غربة زوجها وتشتكي وحدتها، وهي تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
وارقني أن لا خليل ألاعبه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ألاعبه طوراً وطوراً كأنما https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بدا قمراً في ظلمة الليل حاجبه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فو الله لولا الله لا رب غيره https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
لحرك من هذا السرير جوانبه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
فلما سمع عمر رضي الله عنه مقالتها؛ هزت قلبه عواطف الرحمة، فرجع إلى حفصة ابنته، فناشدها الله، وقال: اصدقيني، ما أقصى ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت رضي الله عنها: هي المدة التي ضربها الله للمتوفي عنها زوجها)).
وعن الحسن البصري قال: ((بينا عمر رضي الله عنه يعس بالمدينة ليلاً لقيته امرأة تحمل قربة، فسألها، فذكرت له أن لها عيالاً وليس لها خادم، وأنها تخرج ليلاً فتسقى لهم الماء، وتكره أن تخرج نهاراً، فحمل عمر عنها القربة حتى بلغ منزلها، ثم قال لها: أتي عمر غدوة يخدمك خادماً)). فرضي الله عنه عمر.
وروي: ((أنه إذا قدمت الرسائل من الغزاة المجاهدين إلى أهليهم بالمدينة هو الذي بنفسه يأخذها ويوصلها إلى بيوت العزاب)). رضي الله عنه.
وروي أن أسلم مولى عمر رضي الله عنه قال: ((خرجت ليلة مع عمر إلى ظاهر المدينة، فلاح لنا بيت شعر، فقصدناه؛ فإذا فيه امرأة تتمخض بالولادة وإذا هي تبكي، فسألها عمر عن حالها؟ فقالت: أنا امرأة عربية وليس عندي شيء من الطعام، فبكى عمر وأسرع راجعاً إلى المدينة، فقال لزوجته أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب: هل لك في خير ساقه الله لك؟ ثم أخبرها الخبر، فقالت: نعم. فحمل على ظهره الدقيق والشحم، وحملت هي معها ما يصلح شأن المرأة، فولجت المرأة على المرأة وعمر جلس مع زوجها وهو لا يعرفه، حتى جاءت أم كلثوم، فقالت: يا أمير المؤمنين! بشر صاحبك بغلام)). فرضي الله عن عمر وأهله.
وله قصة أخرى تشبه هذه، قال أسلم مولى عمر: ((خرجت مع عمر ليلة من الليالي خارج المدينة، فلاحت لنا نار من بعيد، فقال عمر: يا أسلم! هؤلاء ركب قد قصر بهم الليل، انطلق بنا إليهم، فإذا امرأة معها صبيان لها، وإذا الصبية على النار يتضاغون حولها، قال لها عمر: ما هذه النار؟ وما هذا القدر؟ قالت: أريد أن أعلل الصبية حتى يناموا؛ لأن الجوع والبرد أقلقهم عن النوم، فالله بيننا وبين عمر. فبكى عمر، ورجع من ساعته إلى دار الدقيق، فأخرج عدلاً فيه دقيق وجراباً فيه شحم، فحملهما على ظهره، ثم أعطاها نفقة، والمرأة لا تعرفه)). فرضي الله عن عمر.
فهذا قليل من كثير من سيرة عمر وعدله وخوفه وتواضعه رضي الله عنه.
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنما تُنصرون وترُزقون بضعفائكم)).
وورد في الحديث الصحيح: ((ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)).
ذكر بعض من خطب أمير المؤمنين عمر ووصاياه
كان عمر رضي الله عنه أول كلام تكلم لما تولى الخلافة، صعد المنبر، ثم قال: ((اللهم! إني شديد؛ فليني، وإني ضعيف؛ فقوني، وإني بخيل؛ فسخني، أيها الناس! القوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف عندي قوي حتى آخذ الحق له، وإني قد ابتليت بكم وابتليتم بي)).
ومما روي من خطبته بالجابية رضي الله عنه، قال: ((أيها الناس! أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لأخراكم تكفوا أمر دنياكم، واعلموا أن رجلاً ليس بينه وبين آدم أب حي ولا بينه وبين الله هوادة المعنى لا حسب ولا نسب، فمن أراد طريق الجنة؛ فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد، ولا يخلون أحدكم بامرأة؛ فإن الشيطان ثالثهما، ومن سرته حسنته وساءته سيئته، فهو مؤمن..)). وهي خطبة طويلة هذا بعضها، رضي الله عنه.
ومما أوصى به أبا عبيدة بن الجراح حينما ولاه على جيوش الشام بعد عزل خالد، قال: ((أوصيك بتقوى الله الذي يبقى ويفنى ما سواه، الذي هدانا من الضلالة وأخرجنا من الظلمات إلى النور، وقد استعملتك على جند خالد بن الوليد، فقم بأمر الله الذي يحق عليك، لا تقدم المسلمين هلكة رجاء غنيمة، ولا تنزلهم منزلاً قبل أن تستريده لهم، ولا تبعث سرية إلا في كنف من الناس، وإياك وإلقاء المسلمين في الهلكة، وقد أبلاك الله بي وأبلاني بك، وغُض بصرك عن الدنيا ولا تُشغل قلبك بها)).
وقد روى علي بن محمد المدائني: ((أن عمر رضي الله عنه كتب لعتبة بن غزوان حينما وجهه إلى البصرة، قال له: يا عتبة! اتق الله فيما وليت، وإياك أن تنازعك نفسك على كبر، فتفسد عليك آخرتك، وقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعززت بعد الذلة، وقويت بعد الضعف، حتى صرت أميراً مسلطاً وملكاً مطاعاً، تقول فُيسمع لقولك، وتأمر فيطاع أمرك، فيا لها نعمة إن لم ترق فوق قدرك وتبطر على من دونك! احتفظ من النعمة احتفاظك من المعصية، وهي أخوفهما عندي عليك من أن يستدرجك ويخدعك فتسقط سقطة تصير بها إلى جنهم، أعيذك بالله من ذلك)).
وقد كتب أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه كتباً يوجهها مع قادة الجيوش، ومنهم: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فيقول: ((أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم ومن عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم، ولولا ذلك، لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عدونا ليس كعدوهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية؛ كان لهم الفضل علينا في القوة، وأن لا ننصر عليهم بفضلنا؛ لم نغلبهم بقوتنا، واعلموا أن عليكم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون؛ فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا، فلن يسلط علينا، فرب قوم سلط عليهم شر منهم، كما سلط على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله، كفار المجوس، ﴿ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا ﴾ [الإسراء: 5].
وروي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص في غزوة القادسية، قال: (( يا سعد! إن الله تعالى إذا أحب عبداً حببه إلى خلقه، فاعرف منزلتك من الله بمنزلتك من الناس، واعلم أن ما لك عند الله مثل ما لله عندك)).
وفي مسند الإمام أحمد: عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان، قال: ((جاءنا كتاب عمر ونحن بأذربيجان، قال فيه: يا عتبة بن فرقد! إياكم والتنعم وزي أهل الشرك ولبوس الحرير، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا عن ذلك)).
وقد روي أن عمر بلغه أن الفرس قد جمعوا للمسلمين بنهاوند ليستردوا ممالكهم من المسلمين، فجمع عمر الجيوش الإسلامية، وأمر عليهم النعمان بن مقرن، وأمره أن يسير بمن معه إلى نهاوند؛ فالتقى المسلمون بجموع جيوش الفرس بنهاوند، فاقتتلوا قتالاً عظيماً، فانتصر المسلمون انتصاراً لم يعهد مثله، وغنموا غنائم كثيرة، فالحمد لله على عز الإسلام.
تواضع أمير المؤمنين عمر وبعده عن الكبرياء
قد ورد أن رسول كسرى بن هرمز قدم المدينة المنورة على عهد خلافة الفاروق أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فأخذ يتساءل عن أمير المؤمنين عمر الذي اتسعت ممالكه أنحاء المعمورة شرقاً وغرباً، ومتى يصل إليه؟ فقيل له: تجده في المسجد أو تحت ظل شجرة، وفعلاً وجده في المسجد نائماً (وقيل: تحت ظل شجرة) رضي الله عنه، فقال رسول كسرى مقالته المشهورة: (لقد عدلت، فأمنت، فنمت).
وروي: ((أنه رضي الله عنه لما قدم الشام في أحد جولاته التي ذهب فيها يتفقد أحوال الرعية عرضت له في طريقه مخاضة، فنزل عن بعيره، ونزع خفيه وأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه بعيره، فقال له أبو عبيدة بن الجراح - وهو أمير المؤمنين بالشام - وهو يسايره في الطريق: يا أمير المؤمنين! يتلقاك الأمراء وبطارقة الشام وأنت هكذا! فأجابه قائلاً: ثابت الجأش، مطمئناً، معظماً لربه: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما طلبنا العز بغيره، أذلنا الله)).
ومن تواضعه رضي الله عنه ما أسلفناه من قضاء حوائج الضعفة والمساكين، وقيامه بخدمتهم هو بنفسه رضي الله عنه.
ذكر بعض ما روي لعمر رضي الله عنه من الكرامات
ساق المؤرخون لعمر رضي الله عنه أشياء من الكرامات التي أعطيها في هذه الدنيا قبل كرامات الآخرة، منها:
أنه أرسل نحو العراق سرية عليها قائدها سارية بن زنيم، فلما التقى جيشه بالمشركين كاد جيش سارية أن ينهزم، فبينما عمر يخطب على منبر المسجد النبوي دار في خلده وإلهام من الله له أن قال -يرفع بها صوته-: ((الجبل الجبل يا سارية)). فسمعها سارية على بُعد المسافة، فأسندوا ظهورهم إلى الجبل، فانتصروا.
ومن كرامات عمر: عبور أميره سعد بن أبي وقاص بجيشه على ظهر ماء البحر بجيوشهم ومراكبهم البرية حتى قطعوا البحر، فدخلوا المدائن سالمين غانمين.
ومن كراماته التي أعطيها: أنه ما قال في شيء ليته كذا؛ إلا نزل في القرآن بموافقته، وقد أسلفنا بعضاً من ذلك في موضوعه.
وفيما روي: ((أن نيل مصر لما قلص ماؤه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان أميره على مصر عمرو بن العاص، فجاء وجهاء مصر إلى عمرو بن العاص، فقالوا: إن لنا عادة لهذا النيل، حينما يقف نعمد إلى جارية حسناء، فنرضي وليها بما يسمح به، ثم نجعل عليها من الحلي واللباس الحسن، ثم نقذفها فيه، ثم يجري. فقال عمرو بن العاص: هذه عادة سيئة لا تتوافق مع الإسلام أبداً. ثم كتب إلى عمر بن الخطاب وأخبره بما قالوا، وبما قال لهم، وبتوقف النيل عن الجري، فقال عمر رضي الله عنه: أصبت بما قلت لهم. ثم إن عمر كتب خطاباً إلى عمرو بن العاص، وكتب معه ورقة قال فيها: بسم الله، من عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى نيل مصر، وبعد:
إن كنت تجري من قبلك، فلا تجري، وإن كنت تجري بإذن الله وأمره وقدرته، فاسأل الله تعالى أن يجريك.
فأمر عمرو بن العاص أن يقذف هذه البطاقة في النيل، فمنذ ألقاها جرى النيل من ساعته، فهو يجري إلى يومنا هذا)).
فالحمد لله على نعمه وعلى قطع العادات السيئة، ورضي الله عنه عمر، فقد نقل المؤرخون هذه القصة ونقلناها كما نقلوها، فالله أعلم بالصواب.
ذكر بعض ما روي لعمر من الثناء الحسن رضي الله عنه
دخل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما على أمير المؤمنين عمر بعد ما طُعن وحمل إلى بيته، وبعد ما أفاق من غشيته، فقال: ((أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، أليس قد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعز الله الإسلام والمسلمين بك إذ يخافون بمكة، فلما أسلمت؛ كان إسلامك عزاً، وظهر بك الإسلام، وهاجرت؛ فكانت هجرتك فتحاً، ثم لم تغب عن مشهد شهده رسول الله من قتال المشركين، ثم توفي وهو عنك راضٍ، ووازرت الخليفة بعده على منهاج النبي صلى الله عليه وسلم؛ فضربت من أدبر بمن أقبل، ثم قُبض الخليفة وهو عنك راضٍ، ثم وليت بخير ما ولي الناس، مصَّر الله بك الأمصار، وجبَّن بك الأموال، ونفى الله بك الأعداء، ثم ختم لك بالشهادة، فهنيئاً لك. فقال عمر: والله، إن المغرور من غررتموه.
ثم دخلت عليه ابنته حفصة، فمكثت عنده ما شاء الله أن تمكث، فقالت: يا صاحب رسول الله! يا صهر رسول الله! يا أمير المؤمنين! فقال عمر رضي الله عنه: لا صبر لي على ما أسمع، أحرج عليك بما لي عليك من الحق أن تندبين بعد مجلسك هذا، فأما عيناك، فلن أملكهما.
ودخل على أمير المؤمنين عمر بعد ما طُعن وحمل إلى بيته رجل شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين! قد كان لك من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم في الإسلام، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة. فقال عمر رضي الله عنه: وددت أن ذلك كفافاً لا علي ولا لي. فلما أدبر الشاب إذا إزاره يمس الأرض، فقال له عمر رضي الله عنه: يا ابن أخي! ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك)).
وروي أن معاوية بن أبي سفيان قال: ((أبو بكر الصديق لم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر، فأرادته الدنيا ولم يردها)).
قال ابن حجر في فتح الباري: ((وفي جعل عمر الشورى في ستة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في انتخاب خليفة بعده على المسلمين: أنه يؤخذ من ذلك شفقة عمر على المسلمين، ونصحه لهم، وإقامة السنة فيهم، وشدة خوفه من ربه، واهتمامه بأمر الدين أكثر من اهتمامه بأمر نفسه)).
روي أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال لابن صوحان: ((صف لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فقال: كان عالماً برعيته، عادلاً في قضيته، عارياً من الكبر، قبولاً للعذر، سهل الحجاب، مصون الباب، رفيقاً بالضعيف، غير محابٍ للقريب ولا جافياً للغريب، عظيم الورع والخوف من الله، زاهداً في الدنيا، عظيم الرغبة في الآخرة)).