حكاية ناي ♔
11-30-2023, 11:36 AM
لما ترك المسلمون بمكة ديارَهم وأموالهم وعشيرتهم، وجدوا لهم إخوانًا بالمدينة، احتفلوا بهم وواسوهم، وكانوا لهم أهلًا بدل أهلهم، وعشيرة خيرًا من عشيرتهم، وفي هذا يقول الله عز وجل:
﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 8، 9]، وكان من أهم الأمور التي بدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم لإرساء أسس الدولة الناشئة بالمدينة هي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
ولقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع المهاجرين والأنصار في بوتقة واحدة حتى يصيروا نسيجًا واحدًا، متآلفًا مترابطًا برباط واحد هو رباط العقيدة لا العصبية ولا القومية، ولا غير ذلك مما كانوا يجتمعون عليه قبل الإسلام، وهذا هو أسمى وأقوى رباط، رباط المؤاخاة في الله والحب في الله والموالاة في الله عز وجل، كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أن يزيل عن المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والديار، ويشد أزر بعضهم ببعض، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل، وذهبت الوحشة، وقويت أواصر العقيدة، صار التوارث بالقرابة والرحم في نطاق الإسلام، وظلت بين المسلمين المودة والموالاة، وبقيت قوية راسخة برغم تلك المحاولات اليائسة التي قام بها اليهود وإخوانهم من المنافقين لزعزعة الاستقرار وإفساد ذات بَيْنِ المسلمين مهاجرين وأنصارًا، على أن هذه الرابطة هي التي جمعت بين المهاجرين وبعضهم وبين المهاجرين والأنصار.
قال ابن حجر في الفتح: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ آخى بين المهاجرين، وآخى بين المهاجرين والأنصار على المواساة، وكانوا يتوارثون، وكانوا مائة، فلما نزل (وأولو الأرحام) بطلت المواريث بينهم بتلك المؤاخاة)[1].
جاء وصف الصنف الأول (وهم المهاجرون) بثلاثة أوصاف: "آمنوا وهاجروا وجاهدوا، وهؤلاء هم الذين أسلموا بمكة وتحملوا الأذى من قومهم، حتى اضطروهم إلى الخروج منها، ولما هاجروا إلى المدينة أمروا بالقتال فقاتلوا وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله عز وجل؛ لذ أثبت فضلهم وسبقهم، فأثنى الله تعالى عليهم، وشهد لهم بشهادتين: الأولى: في سورة الأنفال: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 74]، والثانية في سورة الحشر: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8]؛ ليعلم أن الإيمان لا بدَّ له من دليل وبرهان، وكان دليلُ الإيمانِ الحقِّ وبرهان صدقِ الصحابة الأول رضي الله عنهم، هو الهجرة والجهاد، وقد سبق الحديث عن أنواع الهجرة، أما الجهاد، فهو باقٍ ماضٍ إلى يوم القيامة، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري باب: الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة))، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم))[2].
يقول ابن حجر: "ذكر صلى الله عليه وسلم بقاءَ الخير في نواصي الخَيل إلى يوم القيامة، وفسَّره بالأجر، والمَغنم المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد، ولم يُقيِّد ذلك بما إذا كان الإمام عادلًا، فدلَّ على أن لا فرق في حصول هذا الفضل بين أن يكون الغزوُ مع الإمام العادل أو الجائر، وفي الحديثِ الترغيبُ في الغزو على الخيل، وفيه أيضًا بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة؛ لأن مِن لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين، وهم المسلمون، وهو مثل الحديث الآخر: ((لا تزال طائفة مِن أمتي يقاتلون على الحق))"[3].
وهناك بشارة بشَّر بها النبي صلى الله عليه وسلم أمَّته، وهي أن الإسلام سيعود قويًّا، وسترتفع راية التوحيد خفَّاقة عالية - بعد قرون من المذلة والضعف والانكسار - وستنهزم قوى الشرك وجحافل الباطل، وفي مقدمتهم اليهود، فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، وحتى يقول الحجر - وراءه اليهودي -: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله))[4].
يقول ابن حجر: "وهو إخبارٌ بما يقع في مستقبل الزمان؛ لأنه من المعلوم أن الوقت الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم لم يأتِ بعدُ، وفيه إشارة إلى بقاء دين الإسلام إلى أن ينزل عيسى عليه السلام، فإنه الذي يُقاتل الدجال، ويستأصل اليهود الذين هم تبع الدجال[5]، ثم يذكر في شرح الحديث في باب علامات النبوة: (أن الشجر والحجر ينطق، فيقول: يا عبدالله "للمسلم"، هذا يهودي فتعالَ فاقتُلْه، إلا الغَرْقَد؛ فإنه من شجرِهم، وفيه أن الإسلام يبقي إلى يوم القيامة)[6].
ومِن هنا يتبين أن الجهاد في الإسلام لمقاومة الكفر، ولإحقاق الحق وإبطال الباطل، وللدفاع عن الدعوة - مستمرٌّ باقٍ مهما بُذلت المحاولات، ودُبِّرت المؤامرات للقضاء على الإسلام وإسكات صوت الجهاد، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [الصف: 8، 9].
أما الأنصار[7]، فهم كالمهاجرين في الدرجة والأجر؛ لأنهم آمَنُوا وآوَوا ونصَرُوا إخوانهم المهاجرين الذين جاؤوهم فقراء لا شيء معهم إلا إيمانهم الراسخ وعقيدتهم القوية النقية.
وقد أثنى الله تعالى على الأنصار في مواضع كثيرة في كتابه، وأثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فعَن مناقب الأنصار وفي باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لولا الهجرة لكنت امرًا مِن الأنصار)).
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو أن الأنصار سلَكوا واديًا أو شِعبًا، لسلكتُ في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت أمرًا من الأنصار))، فقال أبو هريرة: ما ظلم بأبي وأمي، آوَوْه ونَصَرُوه[8].
يقول ابن حجر: (أراد بذلك حسن مواقفهم له؛ لما شاهده من حسن الجوار والوفاء بالعهد)[9].
الولاء، وهو قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [الأنفال: 72].
الولاء: لغةً: ولي، الوَلْي بسكون اللام: القرب والدُّنُو، يقال: تباعد بعد وَلْي، وكل مما يليك؛ أي: مما يقاربك، ووَلِي الوالي البلدَ، وولي الرجل البَيْع وِلايةً (بكسر الواو)، والوَلِيُّ ضد العدو، والموالاة ضد المعاداة، ويقال: والى بينهما وِلاءً (بالكسر)؛ أي: تابع، وتوالى: تتابع، والوِلاية بالكسر: السلطان، والوَلاية بالفتح والكسر: النُّصرة[10].
ويقول الألوسي: "الولاية: مصدر بالفتح والكسر، وهما لغتان بمعنى واحد، وهو القرب الحسي والمعنوي، وقيل: بينهما فرق، فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه، والكسر ولاية السلطان، وقيل: بالفتح: النصرة والنسب، وبالكسر للإمارة[11].
وعلى هذا يمكن القول بأن الولاء بين المهاجرين والأنصار - المذكور في الآية الكريمة - هو الوراثة والنصرة، وهو يمثل حكمًا مرحليًّا منذ بداية الهجرة إلى نزول سورة الأنفال، وفيها قوله تعالى: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 75]، فنسخ حكم الوراثة، وبقيت ولاية النصرة.
يقول الألوسي: (أي بعضهم أولياء بعض في الميراث؛ على ما هو مروي عن ابن عباس وغيره: آخى رسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فكان المهاجري يرِثُه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري، واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة[12]، ثم توارثوا بالنسب بعد إذ لم تكن هجرة)[13].
﴿ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 8، 9]، وكان من أهم الأمور التي بدأ بها النبي صلى الله عليه وسلم لإرساء أسس الدولة الناشئة بالمدينة هي المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
ولقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع المهاجرين والأنصار في بوتقة واحدة حتى يصيروا نسيجًا واحدًا، متآلفًا مترابطًا برباط واحد هو رباط العقيدة لا العصبية ولا القومية، ولا غير ذلك مما كانوا يجتمعون عليه قبل الإسلام، وهذا هو أسمى وأقوى رباط، رباط المؤاخاة في الله والحب في الله والموالاة في الله عز وجل، كما أراد النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أن يزيل عن المهاجرين وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الأهل والديار، ويشد أزر بعضهم ببعض، فلما عز الإسلام واجتمع الشمل، وذهبت الوحشة، وقويت أواصر العقيدة، صار التوارث بالقرابة والرحم في نطاق الإسلام، وظلت بين المسلمين المودة والموالاة، وبقيت قوية راسخة برغم تلك المحاولات اليائسة التي قام بها اليهود وإخوانهم من المنافقين لزعزعة الاستقرار وإفساد ذات بَيْنِ المسلمين مهاجرين وأنصارًا، على أن هذه الرابطة هي التي جمعت بين المهاجرين وبعضهم وبين المهاجرين والأنصار.
قال ابن حجر في الفتح: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ آخى بين المهاجرين، وآخى بين المهاجرين والأنصار على المواساة، وكانوا يتوارثون، وكانوا مائة، فلما نزل (وأولو الأرحام) بطلت المواريث بينهم بتلك المؤاخاة)[1].
جاء وصف الصنف الأول (وهم المهاجرون) بثلاثة أوصاف: "آمنوا وهاجروا وجاهدوا، وهؤلاء هم الذين أسلموا بمكة وتحملوا الأذى من قومهم، حتى اضطروهم إلى الخروج منها، ولما هاجروا إلى المدينة أمروا بالقتال فقاتلوا وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله عز وجل؛ لذ أثبت فضلهم وسبقهم، فأثنى الله تعالى عليهم، وشهد لهم بشهادتين: الأولى: في سورة الأنفال: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [الأنفال: 74]، والثانية في سورة الحشر: ﴿ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [الحشر: 8]؛ ليعلم أن الإيمان لا بدَّ له من دليل وبرهان، وكان دليلُ الإيمانِ الحقِّ وبرهان صدقِ الصحابة الأول رضي الله عنهم، هو الهجرة والجهاد، وقد سبق الحديث عن أنواع الهجرة، أما الجهاد، فهو باقٍ ماضٍ إلى يوم القيامة، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري باب: الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة))، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم))[2].
يقول ابن حجر: "ذكر صلى الله عليه وسلم بقاءَ الخير في نواصي الخَيل إلى يوم القيامة، وفسَّره بالأجر، والمَغنم المقترن بالأجر إنما يكون من الخيل بالجهاد، ولم يُقيِّد ذلك بما إذا كان الإمام عادلًا، فدلَّ على أن لا فرق في حصول هذا الفضل بين أن يكون الغزوُ مع الإمام العادل أو الجائر، وفي الحديثِ الترغيبُ في الغزو على الخيل، وفيه أيضًا بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة؛ لأن مِن لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين، وهم المسلمون، وهو مثل الحديث الآخر: ((لا تزال طائفة مِن أمتي يقاتلون على الحق))"[3].
وهناك بشارة بشَّر بها النبي صلى الله عليه وسلم أمَّته، وهي أن الإسلام سيعود قويًّا، وسترتفع راية التوحيد خفَّاقة عالية - بعد قرون من المذلة والضعف والانكسار - وستنهزم قوى الشرك وجحافل الباطل، وفي مقدمتهم اليهود، فقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، وحتى يقول الحجر - وراءه اليهودي -: يا مسلم، هذا يهودي ورائي فاقتله))[4].
يقول ابن حجر: "وهو إخبارٌ بما يقع في مستقبل الزمان؛ لأنه من المعلوم أن الوقت الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم لم يأتِ بعدُ، وفيه إشارة إلى بقاء دين الإسلام إلى أن ينزل عيسى عليه السلام، فإنه الذي يُقاتل الدجال، ويستأصل اليهود الذين هم تبع الدجال[5]، ثم يذكر في شرح الحديث في باب علامات النبوة: (أن الشجر والحجر ينطق، فيقول: يا عبدالله "للمسلم"، هذا يهودي فتعالَ فاقتُلْه، إلا الغَرْقَد؛ فإنه من شجرِهم، وفيه أن الإسلام يبقي إلى يوم القيامة)[6].
ومِن هنا يتبين أن الجهاد في الإسلام لمقاومة الكفر، ولإحقاق الحق وإبطال الباطل، وللدفاع عن الدعوة - مستمرٌّ باقٍ مهما بُذلت المحاولات، ودُبِّرت المؤامرات للقضاء على الإسلام وإسكات صوت الجهاد، قال تعالى: ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [الصف: 8، 9].
أما الأنصار[7]، فهم كالمهاجرين في الدرجة والأجر؛ لأنهم آمَنُوا وآوَوا ونصَرُوا إخوانهم المهاجرين الذين جاؤوهم فقراء لا شيء معهم إلا إيمانهم الراسخ وعقيدتهم القوية النقية.
وقد أثنى الله تعالى على الأنصار في مواضع كثيرة في كتابه، وأثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فعَن مناقب الأنصار وفي باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لولا الهجرة لكنت امرًا مِن الأنصار)).
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو أن الأنصار سلَكوا واديًا أو شِعبًا، لسلكتُ في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت أمرًا من الأنصار))، فقال أبو هريرة: ما ظلم بأبي وأمي، آوَوْه ونَصَرُوه[8].
يقول ابن حجر: (أراد بذلك حسن مواقفهم له؛ لما شاهده من حسن الجوار والوفاء بالعهد)[9].
الولاء، وهو قوله تعالى: ﴿ أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [الأنفال: 72].
الولاء: لغةً: ولي، الوَلْي بسكون اللام: القرب والدُّنُو، يقال: تباعد بعد وَلْي، وكل مما يليك؛ أي: مما يقاربك، ووَلِي الوالي البلدَ، وولي الرجل البَيْع وِلايةً (بكسر الواو)، والوَلِيُّ ضد العدو، والموالاة ضد المعاداة، ويقال: والى بينهما وِلاءً (بالكسر)؛ أي: تابع، وتوالى: تتابع، والوِلاية بالكسر: السلطان، والوَلاية بالفتح والكسر: النُّصرة[10].
ويقول الألوسي: "الولاية: مصدر بالفتح والكسر، وهما لغتان بمعنى واحد، وهو القرب الحسي والمعنوي، وقيل: بينهما فرق، فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه، والكسر ولاية السلطان، وقيل: بالفتح: النصرة والنسب، وبالكسر للإمارة[11].
وعلى هذا يمكن القول بأن الولاء بين المهاجرين والأنصار - المذكور في الآية الكريمة - هو الوراثة والنصرة، وهو يمثل حكمًا مرحليًّا منذ بداية الهجرة إلى نزول سورة الأنفال، وفيها قوله تعالى: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 75]، فنسخ حكم الوراثة، وبقيت ولاية النصرة.
يقول الألوسي: (أي بعضهم أولياء بعض في الميراث؛ على ما هو مروي عن ابن عباس وغيره: آخى رسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم، فكان المهاجري يرِثُه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري، واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة[12]، ثم توارثوا بالنسب بعد إذ لم تكن هجرة)[13].