مشاهدة النسخة كاملة : الجانب البشري في حياة النبي (خطبة)


حكاية ناي ♔
12-02-2023, 02:45 PM
الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ [النساء:1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾.
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ وَخَيْرَ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ.

النبي صلى الله عليه وسلم شرفه بالرسالة والوحي فختم به الرسالات فهو سيد ولد آدم ففاق غيره بتعبده ودعوته وكثرة أتباعه وقد تقدم الكلام على هذا الجانب في خطب عدة.

أما ما يتعلق بجانبه البشري فهو كسائر البشر خلق الله فيه عواطف وأحاسيس ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ﴾ [سورة الكهف: 110] وفي حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني اشترطت على ربي فقلت إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طهورا وزكاة وقربة يقربه بها منه يوم القيامة " رواه مسلم (2603).

فمن مقتضى بشرية النبي صلى الله عليه وسلم أنه يميل إلى بعض متع الحياة المباحة فعن أنس - رضي الله عنه - قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حبب إلي من الدنيا النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة "رواه الإمام أحمد (16326) بإسناد حسن وليس هذا قدحا في مقامه أوينقص من قدره فلا يعاب أحد من الناس من أهل الفضل أو من دونهم إذا مال إلى بعض ما أباحه الله من متع الدنيا إذا لم يتعد حدود الله ولم تشغله هذه المباحات عن الأوامر أو توقعه في المنهيات.

فميل الرجل إلى زوجته ومحبته إياها لا يقدح في رجولته فضلا عن أن يقدح في دينه فالنفس قد تميل إلى الزوجة أو تنفر منها على قدر التوافق في الصفات والآراء فالأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف. وميل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض نسائه أمر مشهور فعن عائشة قالت ما غرت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم إلا على خديجة وإني لم أدركها قالت وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة قالت فأغضبته يوما فقلت خديجة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني قد رزقت حبها " رواه البخاري (3816) ومسلم (2435) واللفظ له. فسيد البشر أتقى الخلق لم يأنف أن يبوح بعواطفه تجاه زوجة من زوجاته متوفاة ولا زال هذا الحب في نفسه باقيا بعد وفاتها وحبه للصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما مستفيض فعن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل فأتيته فقلت أي الناس أحب إليك قال عائشة فقلت من الرجال فقال أبوها قلت ثم من قال ثم عمر بن الخطاب فعد رجالا" رواه البخاري (3662) ومسلم (2384). فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر قائد من قواد المسلمين بحبه لعائشة رضي الله عنها ولم يأنف من ذلك لأنه ليس فيه قدحا ولا يزري به. فالحب سواء للزوجة أو لغيرها من ولد وقريب وصديق من المشاعر التي لا يملكها الشخص فلا يلام عليها ولا تنقص من قدره لكن يستحق الذم إذا أثرت هذه العواطف على تصرفاته فجعلته يظلم أو أضرت بدينه أو دنياه فهنا خرجت المحبة عن الحد الطبعي فيحتاج المحب إلى من يرده إلى جادة الصواب ليعتدل في محبته رواه الخرائطي في اعتلال القلوب ص: 165 أن عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل كانت عند عبد الله بن أبي بكر الصديق وأحبها حبا شديدا حتى كادت تغلبه على عقله، وتشغله عن سوقه، فأمره أبو بكر الصديق رضي الله عنه بفراقها فقال: وإن فراقي أهل بيت أحبهم على كبر مني لإحدى العظائم ثم عزم عليه أبو بكر ففارقها، فاطلع عليه أبو بكر وهو يقول: فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها ولا مثلها في غير جرم تطلق لها خلق جزل وحلم ومنصب وخلق يسوى في الحياة ومصدق فرق عليه أبو بكر فراجعها... " إسناده ضعيف.

وربما حصل اختلاف في الطبائع والأنفس فنتج عن ذلك عدم ميل القلب بين الزوجين أو أحدهما فرأى الزوجان الطلاق فهذا مما لا يذم عليه الزوجان وليس منقصة في حقهما لأن هذا مما لا يملك فعلى فضل حفصة فقد طلقها النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم راجعها وسبب ذلك عدم ميل قلب النبي صلى الله عليه وسلم لها فعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه دخلت على حفصة بنت عمر رضي الله عنهما فقلت لها يا حفصة أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحبك ولولا أنا لطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه مسلم (1479).

الخطبة الثانية

و من الجوانب البشرية في حياة النبي حزنه على المصائب التي تنزل به بفقد ابن أو بنت فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على ابنه إبراهيم وهو يجود بنفسه فجعلت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تذرفان فقال له عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: وأنت يا رسول الله. فقال: يا ابن عوف إنَّها رحمة ثم أتبعها بأخرى، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (إنَّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون) رواه البخاري (1303) فمحبة الأولاد أمر فطري لا تنفك منه النفس فتتألم لفقده وتذرف الدموع حزنا على فراقه سواء كان صغيرا أو كبيرا فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (شهدنا بنتاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس على القبر: فرأيت عينيه تدمعان) رواه البخاري (1285). فالبكاء في هذه الحال مباح بل ذهب بعض أهل العلم إلى استحبابه لأنه علامة على الرحمة وهي محبوبة لله فهو متصف بها قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات الفقهية ص:90 يستحب البكاء على الميت رحمة له وهو أكمل من الفرح لقوله صلى الله عليه وسلم: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده".

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتألم لمصاب أصحابه ويبكى لذلك فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال اشتكى سعد بن عبادة رضي الله عنه شكوى له فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم فلما دخل عليه وجده في غشية فقال أقد قضى قالوا لا يا رسول الله فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكوا فقال ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه أو يرحم رواه البخاري (1304) ومسلم (924).

إذا لا يقدح بالشخص البكاء ولا يحط من قدره ومن دينه أو مكانته فلا يلام الشخص أو يخطأ إذا غلبته عيناه وانهمرت بالدموع وأجهش بالبكاء لأن هذا مما لا يملكه وليس في مقدوره بل في ذلك رحمة به حيث ينفس عن ما في داخله بالبكاء.

ومن الجوانب البشرية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم حبه لبعض الأطعمة وكراهته لبعضها.

فعن أنس بن مالك قال إن خياطا دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه قال أنس فذهبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيته يتتبع الدباء من حوالي القصعة قال فلم أزل أحب الدباء من يومئذ رواه البخاري (5379) ومسلم (2041) فتتبع النبي صلى الله عليه وسلم الدباء لأنه يحبه بمقتضى بشريته وفي حديث أبي هريرة الطويل في الشفاعة قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها نهسة " الحديث رواه البخاري (3340) مسلم (194).

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره بعض الأطعمة بمقتضى طبيعته البشرية فعن ابن عباس " قال دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأتي بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقلت أحرام هو يا رسول الله قال لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه قال خالد فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر رواه البخاري (5391) ومسلم (1945)
فكون النفس تتطلع لبعض ما أباحه الله من المآكل والمشارب وتحبها وتبحث عنها لا يقدح ذلك في الشخص ولا في دينه وليست منقصة في حقه وكذلك إذا كان يكره بعض المباحات من الأطعمة بمقتضى طبيتعته فلا يذم على ذلك لأن ذلك ليس في وسعه إنما يذم إذا كان يذم الطعام ويعيبه فلذا ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم طعاما قط إن اشتهاه أكله وإلا تركه رواه البخاري (3563) ومسلم (2064).

ومن الجوانب البشرية في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - حبه لبعض الألبسة الجميلة فعن قتادة قال قلت لأنس - رضي الله عنه - أي الثياب كان أحب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يلبسها قال الْحِبَرَةُ" رواه البخاري (5812) ومسلم (2079) والْحِبَرَةُ هي من برود اليمن تصنع من قطن وكانت أشرف الثياب عندهم وسميت حبرة لأنها تحبر أي تزين لابسها فالتحبير التزيين والتحسين فحب الملابس الجميلة والعناية بالهندام إذا لم يكن في ذلك مخالفة شرعية كالإسبال والخيلاء والإسراف فهو مباح ويكون مستحبا إذا كان من باب إظهار نعمة الله على عبده أو لبسها تجملا للعبادة كالجمعة والأعياد.

إخوتي لعله قد ظهر لكم مناسبة الكلام على الجوانب البشرية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فالمناسبة منها بيان أن ما يتعلق بالجوانب البشرية الشخصية في حياة الناس الأصل فيها الإباحة وأن الناس في ما يتعلق بأمورهم التي هي من مقتضى بشريهم من أحاسيس وعواطف وميل ونفرة وفرح وترح وضحك وبكاء الأصل في ذلك الإباحة يستوي في ذلك الصالح والطالح العالم والجاهل التقي والفاجر المسلم والكافر فلا يذم أحد بذلك أو يقدح في دينه أو خلقه وكون الواحد منا قد يرى أن الأولى لبعض الناس أن يترك بعض المباحات فهذه مسألة نظر واجتهاد وحتى لو لم يفعل الأولى يبقى أنه لم يرتكب محظورا شرعياً.

صمتى لغتى
12-02-2023, 02:48 PM
بارك الله فيك
وجزاك الفردوس الاعلى ان شاء الله
دمت بحفظ الله ورعايته