حكاية ناي ♔
12-02-2023, 02:57 PM
شقحب موضع قرب دمشق، وهي قرية صغرة قبلي دمشق على تخوم أرض حوران تبعد عن دمشق 37 كيلو مترًا، وفيها كانت الوقعة الشهيرة بين المسلمين والتتار في رمضان عام 702هـ/1303م.
وكان سبب تلك الغزوة هو استمرار الهجوم المغولي على أراضي المسلمين، وذلك بعد إسقاطهم حاضرة الخلافة العباسية "بغداد" عام ست وخمسين وستمائة، ولم تبتلى أمة الإسلام ببلوى أعظم من قدوم التتار، فقد كان التتار يرسلون إلى أمير المدينة أو الحامية يعلمونه بقدومهم فمن شدة خوف الجنود والناس من صنيعهم في غزواتهم، وانتقامهم الرهيب، يسلم أميرها المدينة لهم دون قتال، وكان التتار وقتها تحت قيادة "قازان" حفيد "هولاكو" والذي أراد الاستيلاء على الأراضي المقدسة وتسليمها لحلفائه من الصليبيين، كما كان ينوي بسط نفوذه على إمارات الإسلام، وامتداد حكمه عليها، وخاصة مع ضعف حكامها وتشرذهم.
وقد أراد "قازان" أن يخرج بنفسه على رأس الحملة التترية الجديدة على بلاد الإسلام، ولكن تهديد حدوده الشرقية أدى إلى أن ينيب عنه "قطلوشاه"، وتعاون "قطلوشاه" مع الصليبيين، وكان عدد كبير من قوات جيشه من الأرمن النصارى، وخرجت الغزوة التترية الجديدة تحصد في طريقها الأخضر واليابس مما تلاقيه من إمارات بلاد الشام، ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك البلاد فسادًا، وقتلوا الرجال وسبوا النساء والأطفال، وأرادوا استكمال غزو بلاد الشام كلها، فأصاب أهل الشام الرعب، وفروا بأموالهم ومتاعهم إلى مصر والكرك، وكان وقتها الخليفة المستكفي بالله والسلطان الناصر محمد بن قلاوون مقيمين في مصر، وهم على قلق شديد وخوف أعظم من دخول التتار دمشق، ومن ثم امتداد خط سير حملتهم إلى مصر.
وأصاب الناس بالشام اليأس، وانتشرت الشائعات المثبطة، وخافوا خوفًا شديدًا، وشرع المثبطون يوهنون من عزائم المقاتلين، ويقولون: لا طاقة للمسلمين بلقاء التتار؛ وأن التتار داخلون لا محالة الشام، ولكن هنا برز دور العالم الرباني شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي هتف بالناس للجهاد، وشد من عزائمهم، واتصل بالأمراء ودعاهم للخروج وحماية بيضة الإسلام في الشام، فاجتمع الأمراء بالميدان وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد أن لا يرحل أحد منه، فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال.
يصف ابن كثير دور شيخ الإسلام ابن تيمية أثناء وقعة "شقحب" فيقول:
"وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو؟ فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه، فقال الشيخ تقي الدين [ابن تيمية]: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما. وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصى والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك، وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسى مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد".
وقد كان دور ابن تيمية هو العامل الرئيس في انتصار المسلمين في وقعة شقحب، ويبرز مثالًا رائعًا للعلماء المجاهدين بالقول والبنان، فقد انضم ابن تيمية لصفوف المجاهدين، ووقف معهم يشجعهم ويبث روح الإصرار والدفاع عن الدين بين جنبات أبناء الشام، وكان يبشر الناس ويثبتهم وهم على خط القتال ويقول لهم: إنكم لمنصورون والله إنكم لمنصورون! فيقولون: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، جزماً لما يرى من اليقين، ويتأول في ذلك الآيات ومنها: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ﴾ [الحج: 60].
ولم يكتف ابن تيمية بذلك بل سار إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون، يدعوه للقتال ويثبت قلبه، وكان السلطان الناصر قد أصابه وهن شديد عن لقاء التتار فشد ابن تيمية من أزره وجلس يذكره بفضل الجهاد ووجوب حماية بلاد الإسلام.
وخرج الشيخ ابن تيمية - رحمه الله - من دمشق صبيحة يوم الخميس أواخر شعبان من باب النصر بمشقة كبيرة وصحبته جماعة كبيرة، ليشهد القتال بنفسه وبمن معه، فظن بعض الرعاع أنه خرج للفرار، فقالوا: أنت منعتنا من الجفل وها أنت ذا هارب من البلد! فلم يرد عليهم إعراضًا عنهم، ومضى في طريقه إلى ميدان المعركة.
وخرجت العساكر الشامية إلى ناحية قرية الكسوة استعدادًا للقتال، وجاء التتار فخاف أهل الشام أن يكون الجيش الشامي قد فر خوفًا من الهزيمة، وأصاب الناس هم وغم شديد، وذلك في يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان، فلما كان آخر هذا اليوم وصل أحد أمراء دمشق، فبشر الناس بأن السلطان قد وصل وقت اجتماع العساكر المصرية والشامية، وتابع التتار طريقهم من الشمال إلى الجنوب ولم يدخلوا دمشق، بل عرجوا إلى ناحية تجمع العساكر، ولم يَشغلوا أنفسهم باحتلال دمشق، وقالوا: إن غَلبنا فإن البلد لنا، وإن غُلبنا فلا حاجة لنا به.
ودخل رمضان يوم الجمعة، وتضرع الناس في صلاة التراويح أن ينصر جيش المسلمين، وجلسوا يرتقبون الأخبار، وكان وقتها أن وقفت العساكر الشامية قريبًا من قرية الكسوة، فجاء قادة الجيش، وطلبوا من شيخ الإسلام ابن تيمية أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق، فسار إليه، فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر، فرجع معه، فسأله السلطان أن يقف في معركة القتال، فقال له الشيخ ابن تيمية: "السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم".
وأفتى ابن تيمية الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضًا، وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شيء معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل فيأكل الناس، وكان يتأول في الشاميين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم ملاقوا العدو غدًا، والفطر أقوى لكم" فعزم عليهم في الفطر، فأفطروا، وتقووا.
ونظم المسلمون جيشهم بسهل شقحب، وكان السلطان الناصر في القلب، ومعه الخليفة المستكفي بالله والقضاة والأمراء، وأولادهم، ومواليهم.
وقد قام السلطان الناصر بالثبات في أرض المعركة مع قواده، وأمر بأن يقيد فرسه حتى لا يهرب، وكتب وصيته، وعزم على إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، والتحم الجيشان، وكان قتال التتار عنيفًا حتى أنهم مالوا على المسلمين ميلة عظيمة وقتلوا كثيرًا من سادات المسلمين وأمرائهم، ولكن ثبت العسكر الشامي طوال الليل، واستحر القتل، ومالت الكفة لصالح المسلمين، وتغير وجه المعركة تمامًا في اليوم التالي، حيث أنه لما طلع النهار أراد التتار أن يلوذوا بالفرار بعد أن ترك المسلمون ثغرة في الميسرة ليمروا منها، فتتبعهم الجنود المسلمون وقتلوا منهم عددًا كبيرًا، كما أنهم مروا بأرض موحلة، وهلك الكثيرون منهم فيها، وقُبض على بعضهم.
قال ابن كثير:
"فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحد إلى وقت الفجر، فقَتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل، وجعلوا يجيئون بهم من الجبال فتضرب أعناقهم".
ووصل التتار إلى الفرات وهو في قوة زيادته، فلم يقدروا على العبور، والذي عبر فيه هلك، فساروا على جانبه إلى بغداد، فانقطع أكثرهم على شاطئ الفرات، وأخذ أهل العراق منهم جماعة كثيرة.
ووصل ابن تيمية وأصحابه دمشق يوم الاثنين، وفي يوم الثلاثاء الخامس من رمضان دخل السلطان إلى دمشق، وبين يديه الخليفة، وزُيّنت البلد، وبقيا في دمشق إلى ثالث شوال إذ عادوا بعدها إلى الديار المصرية، وكان فرح الناصر بهذا الانتصار فرحًا عظيمًا ولما وصل إلى مصر ذهب إلى قبر أبيه وجلس والمقرؤون بين يديه يقرأون القرآن وهو يحمد الله على نصره.
قال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" يصف عودة العساكر الشامية، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة، إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر. وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من الجهاد، ففرح الناس به ودعوا له وهنأوه بما يسر الله على يديه من الخير".
وقد كان شيخ الإسلام أحد أهم أسباب النصر في تلك الوقعة، بحسن تدبيره، ومشورته، وبلاءه في أرض الجهاد، ومواقفه البطولية في أرض المعركة، قال ابن عبد الهادي: "قال حاجب أمير وكان ذا دين متين: قال لي الشيخ - يعني ابن تيمية - يوم اللقاء وقد تراءى الجمعان: يا فلان، أوقفني موقف الموت، قال: فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم، ثم قلت له: يا سيدي، هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة، فدونك ما تريد، قال: فرفع طَرْفَه إلى السماء، وأشخص بصره، وحرك شفتيه طويلًا، ثم انبعث وأقدم على القتال. يقول: وأمّا أنا فخُيّل إليّ أنه دعا عليهم، وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة. ثم حال القتال بيننا والالتحام، وما عدت رأيته حتى فتح الله".
وكانت هذه الحملة هي الثالثة من حملات التتار على بلاد الإسلام، وآخر الحملات الكبرى التي قام بها التتار يريدون بها استئصال بيضة الإسلام، إذ سرعان ما أسلموا ودخل أغلبهم في دين الإسلام صادقين، وكانوا مددًا للجيوش الإسلامية يجاهدون معها أعدائها وينشرون الإسلام في شتى ربوع الأرض.
شارك في الإعداد: محمد مصطفى حميدة، ومصطفى عبدالباقي
وكان سبب تلك الغزوة هو استمرار الهجوم المغولي على أراضي المسلمين، وذلك بعد إسقاطهم حاضرة الخلافة العباسية "بغداد" عام ست وخمسين وستمائة، ولم تبتلى أمة الإسلام ببلوى أعظم من قدوم التتار، فقد كان التتار يرسلون إلى أمير المدينة أو الحامية يعلمونه بقدومهم فمن شدة خوف الجنود والناس من صنيعهم في غزواتهم، وانتقامهم الرهيب، يسلم أميرها المدينة لهم دون قتال، وكان التتار وقتها تحت قيادة "قازان" حفيد "هولاكو" والذي أراد الاستيلاء على الأراضي المقدسة وتسليمها لحلفائه من الصليبيين، كما كان ينوي بسط نفوذه على إمارات الإسلام، وامتداد حكمه عليها، وخاصة مع ضعف حكامها وتشرذهم.
وقد أراد "قازان" أن يخرج بنفسه على رأس الحملة التترية الجديدة على بلاد الإسلام، ولكن تهديد حدوده الشرقية أدى إلى أن ينيب عنه "قطلوشاه"، وتعاون "قطلوشاه" مع الصليبيين، وكان عدد كبير من قوات جيشه من الأرمن النصارى، وخرجت الغزوة التترية الجديدة تحصد في طريقها الأخضر واليابس مما تلاقيه من إمارات بلاد الشام، ووصل التتار إلى حمص وبعلبك وعاثوا في تلك البلاد فسادًا، وقتلوا الرجال وسبوا النساء والأطفال، وأرادوا استكمال غزو بلاد الشام كلها، فأصاب أهل الشام الرعب، وفروا بأموالهم ومتاعهم إلى مصر والكرك، وكان وقتها الخليفة المستكفي بالله والسلطان الناصر محمد بن قلاوون مقيمين في مصر، وهم على قلق شديد وخوف أعظم من دخول التتار دمشق، ومن ثم امتداد خط سير حملتهم إلى مصر.
وأصاب الناس بالشام اليأس، وانتشرت الشائعات المثبطة، وخافوا خوفًا شديدًا، وشرع المثبطون يوهنون من عزائم المقاتلين، ويقولون: لا طاقة للمسلمين بلقاء التتار؛ وأن التتار داخلون لا محالة الشام، ولكن هنا برز دور العالم الرباني شيخ الإسلام ابن تيمية، والذي هتف بالناس للجهاد، وشد من عزائمهم، واتصل بالأمراء ودعاهم للخروج وحماية بيضة الإسلام في الشام، فاجتمع الأمراء بالميدان وتحالفوا على لقاء العدو، وشجعوا أنفسهم، ونودي بالبلد أن لا يرحل أحد منه، فسكن الناس وجلس القضاة بالجامع وحلفوا جماعة من الفقهاء والعامة على القتال.
يصف ابن كثير دور شيخ الإسلام ابن تيمية أثناء وقعة "شقحب" فيقول:
"وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو؟ فإنهم يظهرون الإسلام وليسوا بغاة على الإمام، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه، فقال الشيخ تقي الدين [ابن تيمية]: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما. وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصى والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة، فتفطن العلماء والناس لذلك، وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسى مصحف فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم ونياتهم ولله الحمد".
وقد كان دور ابن تيمية هو العامل الرئيس في انتصار المسلمين في وقعة شقحب، ويبرز مثالًا رائعًا للعلماء المجاهدين بالقول والبنان، فقد انضم ابن تيمية لصفوف المجاهدين، ووقف معهم يشجعهم ويبث روح الإصرار والدفاع عن الدين بين جنبات أبناء الشام، وكان يبشر الناس ويثبتهم وهم على خط القتال ويقول لهم: إنكم لمنصورون والله إنكم لمنصورون! فيقولون: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، جزماً لما يرى من اليقين، ويتأول في ذلك الآيات ومنها: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ﴾ [الحج: 60].
ولم يكتف ابن تيمية بذلك بل سار إلى السلطان الناصر محمد بن قلاوون، يدعوه للقتال ويثبت قلبه، وكان السلطان الناصر قد أصابه وهن شديد عن لقاء التتار فشد ابن تيمية من أزره وجلس يذكره بفضل الجهاد ووجوب حماية بلاد الإسلام.
وخرج الشيخ ابن تيمية - رحمه الله - من دمشق صبيحة يوم الخميس أواخر شعبان من باب النصر بمشقة كبيرة وصحبته جماعة كبيرة، ليشهد القتال بنفسه وبمن معه، فظن بعض الرعاع أنه خرج للفرار، فقالوا: أنت منعتنا من الجفل وها أنت ذا هارب من البلد! فلم يرد عليهم إعراضًا عنهم، ومضى في طريقه إلى ميدان المعركة.
وخرجت العساكر الشامية إلى ناحية قرية الكسوة استعدادًا للقتال، وجاء التتار فخاف أهل الشام أن يكون الجيش الشامي قد فر خوفًا من الهزيمة، وأصاب الناس هم وغم شديد، وذلك في يوم الخميس التاسع والعشرين من شعبان، فلما كان آخر هذا اليوم وصل أحد أمراء دمشق، فبشر الناس بأن السلطان قد وصل وقت اجتماع العساكر المصرية والشامية، وتابع التتار طريقهم من الشمال إلى الجنوب ولم يدخلوا دمشق، بل عرجوا إلى ناحية تجمع العساكر، ولم يَشغلوا أنفسهم باحتلال دمشق، وقالوا: إن غَلبنا فإن البلد لنا، وإن غُلبنا فلا حاجة لنا به.
ودخل رمضان يوم الجمعة، وتضرع الناس في صلاة التراويح أن ينصر جيش المسلمين، وجلسوا يرتقبون الأخبار، وكان وقتها أن وقفت العساكر الشامية قريبًا من قرية الكسوة، فجاء قادة الجيش، وطلبوا من شيخ الإسلام ابن تيمية أن يسير إلى السلطان يستحثه على السير إلى دمشق، فسار إليه، فحثه على المجيء إلى دمشق بعد أن كاد يرجع إلى مصر، فرجع معه، فسأله السلطان أن يقف في معركة القتال، فقال له الشيخ ابن تيمية: "السنة أن يقف الرجل تحت راية قومه، ونحن من جيش الشام لا نقف إلا معهم".
وأفتى ابن تيمية الناس بالفطر مدة قتالهم وأفطر هو أيضًا، وكان يدور على الأجناد والأمراء فيأكل من شيء معه في يده ليعلمهم أن إفطارهم ليتقووا على القتال أفضل فيأكل الناس، وكان يتأول في الشاميين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم ملاقوا العدو غدًا، والفطر أقوى لكم" فعزم عليهم في الفطر، فأفطروا، وتقووا.
ونظم المسلمون جيشهم بسهل شقحب، وكان السلطان الناصر في القلب، ومعه الخليفة المستكفي بالله والقضاة والأمراء، وأولادهم، ومواليهم.
وقد قام السلطان الناصر بالثبات في أرض المعركة مع قواده، وأمر بأن يقيد فرسه حتى لا يهرب، وكتب وصيته، وعزم على إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة، والتحم الجيشان، وكان قتال التتار عنيفًا حتى أنهم مالوا على المسلمين ميلة عظيمة وقتلوا كثيرًا من سادات المسلمين وأمرائهم، ولكن ثبت العسكر الشامي طوال الليل، واستحر القتل، ومالت الكفة لصالح المسلمين، وتغير وجه المعركة تمامًا في اليوم التالي، حيث أنه لما طلع النهار أراد التتار أن يلوذوا بالفرار بعد أن ترك المسلمون ثغرة في الميسرة ليمروا منها، فتتبعهم الجنود المسلمون وقتلوا منهم عددًا كبيرًا، كما أنهم مروا بأرض موحلة، وهلك الكثيرون منهم فيها، وقُبض على بعضهم.
قال ابن كثير:
"فلما جاء الليل لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحد إلى وقت الفجر، فقَتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل، وجعلوا يجيئون بهم من الجبال فتضرب أعناقهم".
ووصل التتار إلى الفرات وهو في قوة زيادته، فلم يقدروا على العبور، والذي عبر فيه هلك، فساروا على جانبه إلى بغداد، فانقطع أكثرهم على شاطئ الفرات، وأخذ أهل العراق منهم جماعة كثيرة.
ووصل ابن تيمية وأصحابه دمشق يوم الاثنين، وفي يوم الثلاثاء الخامس من رمضان دخل السلطان إلى دمشق، وبين يديه الخليفة، وزُيّنت البلد، وبقيا في دمشق إلى ثالث شوال إذ عادوا بعدها إلى الديار المصرية، وكان فرح الناصر بهذا الانتصار فرحًا عظيمًا ولما وصل إلى مصر ذهب إلى قبر أبيه وجلس والمقرؤون بين يديه يقرأون القرآن وهو يحمد الله على نصره.
قال الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية" يصف عودة العساكر الشامية، وعلى رأسهم شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وفي يوم الاثنين رابع الشهر رجع الناس من الكسوة، إلى دمشق فبشروا الناس بالنصر. وفيه دخل الشيخ تقي الدين بن تيمية البلد ومعه أصحابه من الجهاد، ففرح الناس به ودعوا له وهنأوه بما يسر الله على يديه من الخير".
وقد كان شيخ الإسلام أحد أهم أسباب النصر في تلك الوقعة، بحسن تدبيره، ومشورته، وبلاءه في أرض الجهاد، ومواقفه البطولية في أرض المعركة، قال ابن عبد الهادي: "قال حاجب أمير وكان ذا دين متين: قال لي الشيخ - يعني ابن تيمية - يوم اللقاء وقد تراءى الجمعان: يا فلان، أوقفني موقف الموت، قال: فسقته إلى مقابلة العدو وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم، ثم قلت له: يا سيدي، هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة، فدونك ما تريد، قال: فرفع طَرْفَه إلى السماء، وأشخص بصره، وحرك شفتيه طويلًا، ثم انبعث وأقدم على القتال. يقول: وأمّا أنا فخُيّل إليّ أنه دعا عليهم، وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة. ثم حال القتال بيننا والالتحام، وما عدت رأيته حتى فتح الله".
وكانت هذه الحملة هي الثالثة من حملات التتار على بلاد الإسلام، وآخر الحملات الكبرى التي قام بها التتار يريدون بها استئصال بيضة الإسلام، إذ سرعان ما أسلموا ودخل أغلبهم في دين الإسلام صادقين، وكانوا مددًا للجيوش الإسلامية يجاهدون معها أعدائها وينشرون الإسلام في شتى ربوع الأرض.
شارك في الإعداد: محمد مصطفى حميدة، ومصطفى عبدالباقي