مشاهدة النسخة كاملة : تفسير قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ... ﴾


حكاية ناي ♔
12-05-2023, 03:15 PM
قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 158].

ســبب النــزول:
عن الزهري عن عروة بن الزبير، عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قال عروة: قلت: "أرأيتِ قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ قلت: فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوَّف بهما؛ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنها لو كانت على ما أوَّلتها عليه كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، ولكنها إنما أنزلت، أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلون لمناة الطاغية، التي كانوا يعبدونها عند المُشَلَّل[1]، وكان من أهلَّ لها يتحرج أن يطوّف بالصفا والمروة، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، إنا كنا نتحرج أن نطوَّف بالصفا والمروة في الجاهلية، فأنزل الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ إلى قوله: ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ قالت عائشة: ثم قد سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما، فليس لأحد أن يدع الطواف بهما"[2].


وفي رواية عن الزهري أنه قال: "فحدثتُ بهذا الحديث أبا بكر بن عبدالرحمن ابن الحارث بن هشام، فقال: إن هذا العلم، ما كنت سمعته، ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يقولون: إن الناس- إلا من ذكرت عن عائشة- كانوا يقولون: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية. وقال آخرون من الأنصار: إنما أمرنا بالطواف بالبيت، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة، فأنزل الله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ قال أبوبكر بن عبدالرحمن: فلعلها نزلت في هؤلاء وهؤلاء"[3].

وعن عاصم بن سليمان، قال: سألت أنساً عن الصفا والمروة، قال: "كنا نرى ذلك من أمر الجاهلية، فلما جاء الإسلام، أمسكنا عنهما، فأنزل الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾"[4].

وقيل: كان عليهما صنمان: "إساف" على الصفا، و"نائلة" على المروة، وكانوا يطوفون بينهما في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تحرجوا من الطواف بين الصفا والمروة، بسبب ذلك، فأنزل الله هذه الآية[5].

قوله تعالىٰ: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾.

قوله: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ الصفا والمروة: جبلان يقعان شرقي الكعبة، الصفا عن يمين الحجر الأسود، وهو جبل أبي قبيس، والمروة عن يسار الحجر الأسود، وهو جبل قعيقعان، وهما الجبلان اللذان كانت تتردد بينهما أم إسماعيل "هاجر"- عليهما السلام- وتصعد عليهما لما نفد ما معها من التمر والماء وتقلَّص لبنها عن ابنها.

﴿ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ "من" تبعيضية، أي: بعض شعائر الله، وشعائر: جمع "شعيرة"، وهي المعْلَم أو العلامة الظاهرة، فشعائر الله أعلام دينه الظاهرة، التي شرعها لعباده، وأمر بتعظيمها، قال تعالى: ﴿ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ [الحج: 36]، وقال تعالى ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].

أي: إن الصفا والمروة من معالم دين الله- عز وجل- الظاهرة التي شرع الله الطواف بينهما، وجعله من شعائره، ومن مناسك الحج والعمرة.

عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: "أول ما اتخذ النساء المِنْطَق من قبل أم إسماعيل- عليهما السلام- اتخذت منطقاً ليعفِّي أثرها على سارة. ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل عليهما السلام، وهي ترضعه، حتى وضعهما عند البيت على دوحة فوق زمزم، في أعلى المسجد، وليس بمكة يومئذٍ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جراباً فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم- عليه السلام- منطلقاً، فتبعته أم إسماعيل، فقالت: يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا.

ثم رجعت، فانطلق إبراهيم- عليه السلام- حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثم دعا بهؤلاء الدعوات، ورفع يديه قال: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37].

وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل- عليهما السلام- وتشرب من ذلك الماء، حتى إذا نفد ماء السِّقاء عطشت وعطش ابنها، وجعلت تنظر إليه يتلوى، أو قال: يتلبط، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثم سعت سعي الإنسان المجهود، حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة، فقامت عليها، ونظرت هل ترى أحداً؟ فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فذلك سعي الناس بينهما"[6].

﴿ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ ﴾ الفاء: استئنافية، و"من" شرطية، و"حج" فعل الشرط، والحج لغة: القصد. وفي الشرع: التعبد لله- عز وجل- بقصد البيت الحرام لأداء المناسك، كما جاء في الكتاب والسنة.

و"ال" في البيت للعهد الذهني، أي: البيت المعهود المعروف، وهو بيت الله الحرام "الكعبة المشرفة".

﴿ أَوِ اعْتَمَرَ ﴾ "أو" عاطفة، للتنويع، أي: أو زار البيت لأداء مناسك العمرة. فالقادم للبيت إما يريد الحج، أو يريد العمرة، أو يريدهما معاً- كما قال صلى الله عليه وسلم لما وقَّت مواقيت الإحرام- قال: "هن لهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج أو العمرة"[7].

والعمرة لغة: الزيارة، وفي الشرع: التعبد لله- عز وجل ـ بزيارة البيت الحرام، والطواف والسعي، والحلق، أو التقصير.

﴿ فَلَا جُنَاحَ ﴾ جملة جواب الشرط "من" والفاء رابطة لجواب الشرط؛ لأنه جملة اسمية.

و"لا" نافية للجنس تعمل عمل "إن" و"جناح" اسمها. وخبرها المصدر المؤول من "أن" والفعل بعدها، وهو في محل نصب على نزع الخافض، أو في محل جر بحرف محذوف، أي: في التطوّف بهما.

و"يطَّوَّف" أصلها "يتطوف" فقلبت التاء طاء، ثم أدغمت في الطاء، أي: فلا حرج عليه، ولا إثم أن يطوف بين الصفا والمروة، أي: يسعى بينهما.

وإنما جاء الكلام على هذا النحو- مع أن السعي بين الصفا والمروة ركن، أو واجب- لما سبق ذكره، في سبب النزول، من تحرج الأنصار من الطواف بينهما، قبل أن يسلموا، وقد كانوا يهلون لمناة الطاغية.

أو لقول بعضهم: إن طوافنا بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية، وقول بعضهم: إنما أمرنا بالطواف بالبيت، ولم نؤمر بالطواف بين الصفا والمروة.

أو لما قيل: من وجود صنمين عليهما وهما: "إساف" و"نائلة" وكانوا يطوفون بهما في الجاهلية، فتحرجوا من الطواف بين الصفا والمروة بعد ذلك، بسبب ذلك، حتى أنزل الله هذه الآية.

والسعي بين الصفا والمروة ركن من أركان الحج والعمرة، أو واجب من واجباتهما.

فعن جابر بن عبدالله رضي الله عنه: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن، فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا، وهو يقول: ﴿ ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ ثم قال: "أبدأ بما بدأ الله به"[8].

وفي رواية بالأمر "فابدؤوا بما بدأ الله به"[9].

وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما: "نبدأ بما بدأ الله به، فبدأ بالصفا فرقي عليها... الحديث"[10].

وعن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجرأة- رضي الله عنها- قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه، وهو وراءهم، وهو يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي، يدور به إزاره، وهو يقول: "اسعوا، فإن الله كتب عليكم السعي"[11].

وفي رواية عن صفية بنت شيبة: أن امرأة أخبرتها أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة يقول: "كتب عليكم السعي، فاسعوا"[12].

﴿ وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ قرأ حمزة والكسائي: ﴿ يَطَّوَّعۡ ﴾ بالياء وتشديد الطاء وإسكان العين، بمعنى: يتطوع، وقرأ الباقون: ﴿ تَطَوَّعَ ﴾ بالتاء وفتح العين على المضي.

والواو في قوله: ﴿ وَمَنْ تَطَوَّعَ ﴾ عاطفة، و"من" شرطية، و﴿ تَطَوَّعَ ﴾ فعل الشرط، وجوابه جملة ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ واقترنت بالفاء لأنها جملة اسمية.

والتطوع: فعل الطاعة، واجبة كانت أو مستحبة، فعلاً لمأمور، أو تركاً لمحظور، وضده العصيان.

وكثر، واشتهر استعمال التطوع فيما يستحب، وليس بواجب، ومن هذا قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [التوبة: 79].

وقال صلى الله عليه وسلم- في حديثه للأعرابي، لما سأله عن عمل يدخله الجنة، قال: "تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، إن استطعت إليه سبيلاً". قال: هل عليَّ غيرها؟ قال صلى الله عليه وسلم: "لا، إلا أن تَطَّوَّع"[13]- يعني: إلا أن تفعل فعلاً متطوعاً فيه من ذات نفسك، مما ليس بواجب عليك.

وتطلق الطاعة على الانقياد الكوني، كما قال تعالى عن السماء والأرض: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11].

﴿ خَيْرًا ﴾ منصوب بنزع الخافض، أي: تطوع بخير، كما في قول الشاعر:
تمرون الديارَ ولم تعوجوا https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
كلامكم عليَّ إذن حرام[14] https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif


أي: تمرون بالديار.

ويحتمل كون ﴿ خَيْرًا ﴾ منصوباً على أنه نعت لمصدر محذوف، أي: تطوعاً خيراً، ويحتمل كونه مفعولاً لأجله، أي: ومن تطوع لأجل الخير، أي طلباً للخير.

والمعنى: فمن فعل طاعة مخلصاً بها لله- عز وجل- من حج وعمرة وطواف، وصلاة وصوم وغير ذلك، نفلاً كان أو واجباً، فهو خير له.

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ ﴾ أي: يشكر من أطاعه، ويثيبه، ويعطي العطاء الجزيل، على العمل اليسير، ويكافئ العامل ويجازيه بأضعاف عمله، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، كما قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 40]، وقال تعالى: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ [البقرة: 245]، وقال تعالى: ﴿ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [النور: 38].

وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الحسنات والسيئات، ثم بين ذلك، فمن همّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة، فإن هو همّ بها فعملها، كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة"[15].

وعن أبي هريرة- رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعا أحدكم، فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت، ولكن ليعزم المسألة، وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه"[16].

﴿ عَلِيمٌ ﴾ أي ذو علم واسع محيط بكل شيء، كما قال تعالى: ﴿ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [طه: 98]، وقال تعالى: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا ﴾ [الطلاق: 12].

فعلمه- عز وجل- واسع محيط بالأشياء كلها في أطوارها الثلاثة، قبل الوجود، وبعد الوجود، وبعد العدم، يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن، لو كان كيف كان يكون- كما قال موسى- عليه السلام- لما سئل عن القرون الأولى، قال: ﴿ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى ﴾ [طه: 52].

والعلم في الأصل: إدراك الأشياء على ما هي عليه إدراكاً جازماً. فمن قال: أركان الإسلام خمسة، فهو عالم بالنسبة لهذه المسألة، ومن قال: لا أدري، فهو جاهل جهلاً بسيطاً؛ لأنه لا يدري، ويدري أنه لا يدري، ومن قال: بل هي ستة، فهو جاهل جهلاً مركباً؛ لأنه لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري.

فهو- عز وجل- عليم بمن تطوع وازداد من الخير والعمل الصالح، وبما يستحقه من الثواب، عليم بجميع أعمال عباده وما يستحقونه من الجزاء، عليم بكل شيء.

وفي قوله تعالى: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ بعد قوله: ﴿ وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا ﴾ ترغيب في التطوع والاستزادة من الخير؛ لما في قوله: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ ﴾ من الإشارة إلى تكفله- عز وجل- بثواب ذلك، بل ومضاعفة ثوابه، فضلاً عن أن يضيع عنده.

ولما في قوله: ﴿ عَلِيمٌ ﴾ من الدلالة على علمه- عز وجل- بالعمل والعامل، وما يستحق، وبهذا أمن العبد من ضياع عمله، أو نسيانه، وأمن من عدم مكافأته على عمله، أو نقصان أجره.

الفوائد والأحكام:
1- أن الصفا والمروة من شعائر الله- عز وجل- وأعلام دينه الظاهرة، والطواف بينهما من مناسك الحج والعمرة؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾.

2- مشروعية الحج والعمرة في ملة إبراهيم الخليل- عليه السلام- وفي دين الإسلام.

3- أن السعي بين الصفا والمروة لا يشرع مستقلاً، بلا حج أو عمرة؛ لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾.

4- مشروعية السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة، وهو ركن من أركان الحج والعمرة على الصحيح من أقوال أهل العلم، لا يصح الحج والعمرة بدونه؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾.

ولما جاء في حديث جابر- رضي الله عنه الطويل- في صفة حجه صلى الله عليه وسلم: "أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن، فاستلمه، ثم خرج من باب الصفا، وهو يقول: ﴿ إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾، ثم قال: "أبدأ بما بدأ الله به"، وفي رواية بالأمر: "ابدؤوا بما بدأ الله به"[17].

وفي حديث حبيبة بنت أبي تجرأة، قالت: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه، وهو وراءهم، وهو يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي، يدور به إزاره، وهو يقول: "اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي"[18].

وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لتأخذوا عني مناسككم "[19].

وعن عائشة- رضي الله عنها- قالت: "والله ما أتم الله حج امرئ، ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة"[20].

وقال بعض أهل العلم: إن السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة واجب مَن تركه فعليه دم، وقيل إنه سنة.

أما قوله تعالى: ﴿ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ﴾ فلا دلالة فيه على عدم ركنية السعي أو وجوبه- لما سبق بيانه في سبب النزول وأن الأنصار كانوا يهلون لمناة الطاغية، فتحرجوا من الطواف بين الصفا والمروة، أو لظن بعضهم أن الطواف بينهما من أمر الجاهلية، وأن الشرع لم يأمر بذلك، أو لأنه كان عليهما صنمان هما "إساف" و"نائلة" وكانوا يطوفون بهما في الجاهلية فتحرجوا من الطواف بينهما في الإسلام، فأنزل الله هذه الآية.

5- الترغيب في التطوع والازدياد من الخير، حجاً وعمرة وطوافاً، وصلاة وصوماً وصدقة، وغير ذلك؛ لقوله تعالىٰ: ﴿ وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾.

6- أن الخير كل الخير في طاعة الله- عز وجل؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا ﴾وذلك هو حقيقة شكر الله- عز وجل، ولهذا قابله بقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ﴾ أي: شاكر للمطيعين الشاكرين.

7- إثبات صفة الشكر لله تعالى، وأنه عز وجل يشكر من أطاعه ويثيبه أكثر من عمله، ويضاعفه له؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ ﴾.

8- إثبات صفة العلم لله تعالى، وأنه سبحانه ذو العلم الواسع، المحيط بكل شيء، وبالعباد وأعمالهم وأحوالهم، يعلم من تطوع منهم، وقدر ثوابه، ولا يضيع لديه عمل عامل منهم؛ لقوله تعالى: ﴿ عَلِيمٌ ﴾.

9- في وصفه- عز وجل- بأنه شاكر عليم تأكيد لعدم ضياع أيّ عمل لديه، أو نقصانه، بل تأكيد لزيادته، فهو- عز وجل- عليم، يعلم العامل وعمله، وما يستحقه، فلا يغيب عنه شيء من ذلك، وهو سبحانه شاكر، يعطي الكثير على القليل ولا يتعاظمه شيء أعطاه.

المصدر: «عون الرحمن في تفسير القرآن»

سنينى معاك
12-05-2023, 03:20 PM
جزاك الله خير
وأحسن إليك فيما قدمت
دمت برضى الله وإحسانه وفضله