حكاية ناي ♔
12-05-2023, 03:34 PM
مضى النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمسلمون إلى المدينة يَنعمون بوطنهم الجديد أمنًا وسلامًا وطمأنينة، الأمر الذي لم يُرضِ قريشًا ومعهم المشركون في سائر أرجاء الجزيرة، فزحفوا مرَّةً بعد مرَّة للقضاء على دولة الإسلام!
ولئن كانت قُريش قد خرجت في بَدر وفي أُحُد بمُحاربي مكَّةَ فلم يفلحوا في القضاء على الدولة الناشئة، فإنَّ ذلك لم يُيئسهم مِن المحاولة مرَّةً ثالثة، لكن هذه المرة كانت بمعاونة المشركين مِن جزيرة العرب جميعها؛ بل عاوَنَهم في ذلك أيضًا اليهود في المدينة!
إنَّه اجتماع أشتات الكفَّار من كلِّ اتِّجاه إذًا للقضاء على الإسلام ودولةِ الإسلام وأهل الإسلام، جاؤوا في كثرتهم السَّاحقة؛ فيهم المشرك والكتابيُّ، الحربيُّ والمعاهد، البعيد والقريب، الأميون والرساليُّون، قد اجتمعَتْ كلمتهم وتوحَّد هدَفُهم على ألَّا يذروا للإسلام بعدَ اليوم أرضًا، ولا يتركوا من أهله نَسمةً حيَّةً!
كان ذلك في السَّنة الخامسة مِن الهجرة[1]، وقد عُرفتْ هذه الأحداث بغزوة الأحزاب، وفي الاسم - ابتداءً - خيرُ دلالة على خُطورة الأمر، وعظمة هَوْله، وشدَّة وَطْأته على المسلمين في المدينة، الأمر الذي عبَّر عنه القرآن بقوله: ﴿ إِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11].
لقد غلبتِ الظُّنونُ على بعض الأذهان أن يُغلَب الإسلام، أو يُستأصل المسلمون، وأنَّ ما وعد الله نبيَّه مِن النَّصر لن يكون[2]، إلى آخر هذه الظنون الكاذِبة التي تهجم على النفوس في وقت الأَزمات والمدلهمَّات، يهيجها الشيطانُ ويوسوس بها في الصدور، تؤازِره في ذلك النَّفسُ الأمَّارة بالسُّوء مِن ناحيةٍ، وشياطين الإنس المندسون في الصفِّ المسلم مِن جهة أخرى!
لقد كانت دولةُ المسلمين وقوتهم تمثِّل - حاليًّا - تهديدًا مستمرًّا واضحًا لطرق قوافل المشركين، وخطرًا على مكانتهم بين العرب، وتشكِّل - مستقبلًا - تهديدًا بزوالهم وفنائهم إلى الأبد.
وكان المشركون يَفهمون ذلك، ويفهمون أيضًا أنَّ فرصتهم في القضاء على الإسلام ودولته تقلُّ وتتضاءل كلَّ يوم أكثر وأكثر؛ ولهذا حرصوا على أن تكون الضَّربة التي يوجِّهونها لهم اليومَ ضربةً قاضية وأخيرة، ومِن ثَم لجؤوا إلى التحالُف مع كلِّ مَن له مصلحة في القضاء على المسلمين.
كان جيش الأحزاب يتألَّف من عشرة آلاف تَقصد المدينةَ، وليس فيها يومئذٍ إلَّا ثلاثة آلاف مقاتل، "فلمَّا سمع بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وما أجمعوا له مِن الأمر، استشار أصحابَه، وقد أشار عليه سَلْمان الفارسيُّ بحَفْر الخَندق في المنطقة الوحيدة المكشوفة أمام الغزاة، أمَّا الجهات الأخرى، فكانت كالحِصن تتشابك فيها الأبنية وأشجارُ النخيل، وتحيطها الحرَّات التي يَصعب على الإبل والمشاة التحرُّك فيها"[3].
ووافق الجميعُ على هذه الفكرة؛ لعِلمهم بكَثرة الجموع القادمة لحربهم، وشرعوا في حَفْر الخَنْدق الذي يمتدُّ مِن أُجُمِ الشيخينِ طرف بني حارثة شرقًا حتى المذاد غربًا، وكان طوله خمسة آلاف ذراع، وعرضه تسعة أذرع، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة، وكان على كلِّ عشرة مِن المسلمين حَفْرُ أربعين ذراعًا، وقد تولى المهاجرون الحفرَ من ناحية حصن راتج في الشرق إلى حصن ذباب، والأنصارُ مِن حصن ذباب إلى جبل عبيد في الغرب.
وعمل المسلمون في الحَفْر على عجَل، يبادرون قدومَ القوم، وقد تراوحت مدَّةُ الحَفْر ما بين ستة أيام وأربعة وعشرين يومًا؛ فعند ابن عقبة استغرق قريبًا من عشرين ليلة، وعند الواقدي أربعًا وعشرين ليلة، وفي الروضة للنووي خمسة عشر يومًا، وعند ابن سعد ستة أيام.
وكان طعامهم القليل مِن الشَّعير يُخلط بدُهن متغيِّر الرائحة لقِدمه ويُطبخ، فيأكلونه على الرغم مِن بَشاعة طعمه في الحَلْق ورائحته المنتنة؛ وذلك لشدَّة جوعهم، حتى هذا لا يجدونه أحيانًا فيأكلون التَّمرَ، وأحيانًا لا يجدون هذا ولا ذاك لمدَّة ثلاثة أيام متتالية، إلى الحدِّ الذي يَعْصب فيه النبي صلى الله عليه وسلم بطنَه بحجَرٍ من شدَّة الجوع.
وشارك جميعُ المسلمين في الحَفْر، لا فَرْق بين غنيٍّ وفقير، ومولًى وأمير، وأسوتهم في ذلك الرسولُ صلى الله عليه وسلم الذي حمل الترابَ حتى اغبرَّ بطنُه، ووارى الترابُ جلدَه، وكان الصَّحابة يَستعينون به في تفتيت الصخرة التي تَعترضهم ويعجزون عنها، فيفتِّتها لهم، ويردِّد معهم الأهازيجَ والأرجازَ لتنشيطهم للعمل، فيقول:
اللهمَّ لولا أنتَ ما اهتدينا
ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا
فأنزِلَنْ سكينةً علينا
وثبِّتِ الأقدامَ إن لاقينا
إنَّ الأُلى قد بَغَوا علينا
وإن أرادوا فتنةً أبَيْنا
وكان يمدُّ بها صوتَه بآخرها[4]، ويرتجز المسلمون وهم يعملون:
نحن الذين بايَعوا محمَّدا
على الإسلام ما بَقينا أبدَا
فيُجيبهم صلى الله عليه وسلم بقوله:
((اللهمَّ إنَّه لا خير إلَّا خير الآخره = فبارك في الأنصار والمهاجره))[5].
وربَّما يبدؤهم بقوله فيردُّون عليه بقولهم[6].
عددٌ قليل، وطعامٌ نادِر، وإرهاقٌ قاتِل، وبردٌ شديد، ثمَّ كلل ذلك كله بتخذيل المنافقين والذين في قلوبهم مرَض، وكان المنافقون إلى هذا الوقت ضمن الصفِّ المسلم يلقون المؤمنين فيقولون: آمنَّا، فإذا خلَا بعضُهم إلى بعضٍ قالوا: ﴿ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الأحزاب: 12].
فأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يقِف على الحالة المعنويَّة لجنوده، فجمعهم وحدَّثهم في أمر يَستطلع به ما عندهم، فبَعث إلى سعد بن معاذ وسعدِ بن عبادة زعيمَي الأنصار، فاستشارهما في الصُّلح الذي عرضته عليه قبيلةُ غطفان، وهو أن يعطوا ثُلث ثِمار المدينة لعام كي ينصرفوا عن قِتال المسلمين، ولم يبقَ إلَّا التوقيع على صَحيفة الصلح، فما كان منهما رضي الله عنهما إلَّا أن قالا له صلى الله عليه وسلَّم: "لا واللهِ، ما أَعطَينا الدنيَّةَ مِن أنفسنا في الجاهليَّة، فكيف وقد جاء الله بالإسلام؟!"[7].
وفي رواية أنهما قالا: "يا رسول الله، أوَحْيٌ مِن السَّماء فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك أو هواك؟ فرأيُنا تبعٌ لهواك ورأيك، فإن كنتَ إنما تريد الإبقاءَ علينا، فواللهِ لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما يَنالون منَّا ثَمرة إلَّا شراءً أو قِرًى"[8].
ومن أجل هذه الرُّدود العالية التي تَظهر فيها روحُ العزِّ والكرامة؛ قطَع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المفاوضةَ مع الأعراب الذين كان يمثِّلهم الحارث الغطفانيُّ قائد بني مرَّة، واستعدَّ لمواجهة جموع الأحزاب بعون الله ثمَّ بجنده المؤمنين بالله ورسوله.
لم يلبثِ النبيُّ والمسلمون إلَّا قليلًا حتى جاءهم بَلاء جديد جَليلٌ؛ ذلك أنَّ يهودَ بني النضير أرادوا أن يجرُّوا معهم إخوانهم يهود بَني قُريظة إلى نَقْض العهد والغَدْر بالمسلمين والوقوف مع الأحزاب، فأَوفدوا حُيَيَّ بن أخطَبَ للقيام بهذه المهمة، فجاء حُيَي إلى كَعْب بن أسد القرظيِّ، وبعد حوارٍ طويل بينهما أقنعه بنَقْض العهد مع المسلمين بحُجَّة قوَّة الأحزاب ومقدرتهم على استئصال المسلمين، وأغراه بأن يَدخل معه حِصْنَه عندما ينصرف الأحزاب، بعد أداء مهمَّتهم.
وكان يومًا عصيبًا من الدَّهر؛ ذلك اليوم الذي عَلِم فيه المسلمون نَقْض بني قريظة ما بينهم وبين المسلمين من عهد، وتكمن خطورة ذلك في مَوقعهم الذي يمكِّنهم من تسديد ضربة غادرة للمسلمين مِن الخلف؛ فقد كانت ديارهم في العوالي، إلى الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مهزور.
لقد أتاه الزُّبيرُ بما يدلُّ على غدرهم، ويومها قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فداك أبي وأمِّي، إن لكلِّ نبيٍّ حواريًّا، وحواريَّ الزُّبير))[9].
لزيادة الحيطة والحذر والتأكد من مثل هذه الأمور الخطيرة، أرسل الرسولُ صلى الله عليه وسلم سعدَ بن معاذ وسعد بن عبادة وعبدالله بن رواحة وخوات بن جبير، فجاؤوا إلى بني قُريظةَ وتحدَّثوا معهم، ووجدوهم قد نكثوا العهد ومزَّقوا الصحيفةَ التي بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم إلَّا بني سعية؛ فإنَّهم جاؤوا إلى المسلمين وفاءً بالعهد، وعاد رُسلُ المسلمين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالخبَر اليَقين.
وعندما شاع هذا الخبَرُ، خاف المسلمون على ذراريِّهم مِن بني قريظة، ومرُّوا بوقتٍ عصيب، وابتلاء عظيم[10].
وقد استمرَّ حِصارُ المشركين للمدينة أربعًا وعشرين يومًا بلغَتْ فيها القلوبُ الحناجرَ؛ كما قال الله عزَّ وجلَّ، وكانت المناوشات بين المشركين والمسلمين طيلة مدَّة الحصار متواصِلةً لا تنقطع، في محاولات مِن المشركين لعبور الخَندق، وتراشق المسلمين معهم بالنبل؛ حتى إنَّهم شغلوا المسلمين عن أداء بعض الصلوات!
ولو استمرَّتْ هذه الحال لأيَّام أخرى، فالله وحده العليم بما كان سيحدث، بل قبل ذلك لو لم يلهم الله تعالى سَلْمان الفارسيَّ المشورةَ بأمر الخندق، ما الذي كان سيجري؟!
لقد كانت الجموع الوافدة مِن الخارج وفيهم جيران المدينة؛ مثل بني النضير وخيبر، مع الجموع التي تألَّبتْ مِن الداخل؛ مثل بني قريظة - ألوفًا مؤلَّفة، أعدادها ومواقعها كافية للقضاء على جيش المسلمين في المدينة، ولقد كانت هذه الجموع حُرَّة طليقة بخِلاف المسلمين؛ فقد كانوا محاصَرين داخلَ المدينة، ثمَّ كان في الدَّاخلِ المسلمِ مَن مال قلبه إلى العدو المحاصِر المتربِّص، فتآمَر معه - وهم بنو قُريظة الذين نقضوا العهد من أول يوم - وفيهم مَن لو دُعي إلى الخيانة لأجاب مِن المنافقين، وفيهم مَن لو دُعي إلى المواجهة والمناصرة لتخاذَل مِن الذين في قلوبهم مرَض، فلا يَصْفو مِن الثلاثة الآلاف يومئذٍ - وهم جملةُ جيش المدينة - إلَّا أقلُّ من ذلك!
كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا ﴾ [الأحزاب: 13 - 15].
لكن منذ متى والنَّصرُ يرتبط بالعدد، أو بالعدَّة، أو بوجود قلَّة خائنة أو متخاذلة؟ بل لو لم يوجد أحد على الإطلاق، لنَصَرَ اللهُ دينَه ورسولَه وإن حاربه أهلُ الأرض جميعهم!
وهو ما وقع في هذه المعركة التي كاد الإسلام فيها - بالنظرة البشريَّة المجرَّدة - يَقضي نَحْبَه، ويُستأصل أتباعه وجنده، وتُسلب دولته وأرضه، فإنَّ الله نَصَر الإسلامَ يومئذ برجلٍ واحد، وببعض الهواء.
نعم، لقد كفى اللهُ المؤمنين القتالَ، وهزم الأحزابَ بوسيلتين اثنتين:
الأولى: تَسخير الله نُعَيم بن مسعود ليخذِّل الأحزاب.
والثانية: الرِّياح الهوجاء الباردة.
1- دور نعيم بن مسعود:
روى ابنُ إسحاق والواقديُّ وعبدالرزاق وموسى بن عقبة: أنَّ نُعيم بن مسعود الغطفاني أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم مُسلمًا، وعرض عليه أن يقوم بتَنفيذ أيِّ أمرٍ يريده النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: ((إنَّما أنت رجلٌ واحد فينا، ولكن خَذِّلْ عنَّا إن استطعتَ؛ فإنَّ الحرب خَدعة))[11].
وقبل أن يُعرف إسلامُ نُعيم، أتى بني قُريظة، فأقنعهم بعدم التورط مع قريش في قِتال حتى يَأخذوا منهم رهائنَ؛ لكيلا يُولُّوا الأدبارَ، ويتركوهم وحدَهم يواجهون مصيرَهم مع المسلمين بالمدينة، ثمَّ أتى قُريشًا فأخبرهم أنَّ بني قُريظةَ قد نَدموا على ما فعلوا، وأنَّهم قد اتَّفقوا سرًّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يختطفوا عددًا مِن أشراف قُريش وغطفان فيسلموهم له ليقتلهم دليلًا على ندمهم، وقال لهم: فإنْ أرسلَتْ إليكم يهود يَلتمسون منكم رهنًا مِن رجالكم، فإيَّاكم أن تسلموهم رجلًا منكم، ثمَّ أتى غطفان وقال لهم مثلَ الذي قاله لقريش، وبذلك زرع بذورَ الشَّكِّ بينهم، وأخذ كلُّ فريقٍ يتَّهم الفريقَ الآخر بالخيانة.
2- معجزة الرياح:
هبَّت ريحٌ هَوجاء في ليلةٍ مُظلمة باردة، فقلبت قُدورَ المشركين، واقتلعت خيامَهم، وأطفأت نيرانهم، ودَفنَتْ رِحالَهم، فما كان مِن أبي سفيان إلَّا أن ضاق بها ذَرْعًا، فنادى في الأحزاب بالرَّحيل، وكانت هذه الرِّيح مِن جنود الله التي أرسَلَها على المشركين، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 9].
وروى مسلم بسنَده عن حُذيفةَ بن اليمان طرَفًا ممَّا حدَث في تلك الليلة الحاسمة، قال حُذيفةُ: لقد رأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ الأحزاب، وأخذَتْنا رِيحٌ شديدة وقُرٌّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا رجل يأتِيني بخبر القوم، جعله اللهُ معي يومَ القيامة!))، فسكَتْنا فلم يجِبْه منَّا أحد... ردَّد ذلك ثلاثًا، ثمَّ قال: ((قم يا حُذيفة، فأتِنا بخبر القوم))، فلم أجد بُدًّا إذ دَعاني باسمي أن أقوم، قال: ((اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تَذْعَرْهم عليَّ)).
فلمَّا وليتُ مِن عنده، جعلتُ كأنما أَمشي في حمَّامٍ، حتى أتيتهم، فرأيتُ أبا سفيان يَصْلِي ظهرَه بالنَّار، فوضعتُ سهمًا في كبد القوس، فأردتُ أن أرميه، فذكرتُ قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تَذْعَرهم عليَّ))، ولو رميتُه لأصبتُه، فرجعتُ وأنا أمشي في مِثل الحمَّام، فلمَّا أتيتُه فأخبرتُه بخبر القوم وفرغتُ قُرِرْتُ؛ فألبَسَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يُصَلِّي فيها، فلم أزل نائمًا حتى أصبحتُ فقال: ((قُم يا نَوْمان!))[12].
وزاد ابنُ إسحاق في روايته لهذا الخبر: "فدخلتُ في القَوم، والرِّيحُ جنودُ الله تفعل بهم ما تَفعل، لا تقرُّ لهم قدرًا ولا إناء ولا بناءً، فقام أبو سفيان، فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ مَن جليسه؟ فأخذتُ بيد الرجل الذي كان إلى جانبي فقلتُ له: مَن أنت؟ قال: فلان بن فلان، ثمَّ قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنَّكم واللهِ ما أصبحتُم بدار مقام، لقد هلك الكُراع والخُف، وأخلفَتْنا بنو قُريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدَّة الرِّيح ما ترون... فارتحِلوا فإنِّي مرتحِل"[13].
وفي رواية الحاكم والبزار: "فانطلقتُ إلى عَسْكرهم، فوجدتُ أبا سُفيان يوقِد النارَ في عصبة حوله، قد تفرَّق الأحزابُ عنه، حتى إذا جلستُ فيهم فحسب أبو سفيان أنَّه دخل فيهم من غيرهم، قال: ليأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيد جليسه، فضربتُ بيدي على الذي على يَميني وأخذتُ بيده، ثمَّ ضربتُ بيدي على الذي عن يساري فأخذتُ بيده، فلبثت هنيهة، ثمَّ قمتُ فأتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم... قلتُ: يا رسولَ الله، تفرَّق الناسُ عن أبي سفيان، فلم يبقَ إلَّا عُصبة توقِد النارَ، قد صبَّ الله عليه مِن البرد مثلَ الذي صب علينا، ولكنا نرجو مِن الله ما لا يرجون"[14].
وختم الله هذا الامتحانَ الرَّهيب بهذه النِّهاية السَّعيدة، وجنَّب المسلمين شرَّ القِتال، قال تعالى معلِّقًا على هذه الخاتمة: ﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ﴾ [الأحزاب: 25].
وكانت هذه الخاتمة استجابةً لضراعة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى الله أثناء محنة الحصار: ((اللهمَّ منزِلَ الكِتاب، سريعَ الحساب، اهزِم الأحزابَ، اللهمَّ اهزمهم وزَلْزِلْهم))[15].
لقد بذَلَتِ الأحزابُ أقصى ما يمكنهم لاستئصال المسلمين، ولكنَّ الله ردَّهم خائبين؛ وهذا يعني أنَّهم لن يَستطيعوا أن يفعلوا شيئًا في المستقبل؛ ولذا قال الرسولُ صلى الله عليه وسلم: ((الآن نَغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم))[16]؛ هذا عَلَمٌ مِن أعلام النبوَّة؛ لأنَّ الذي حدَث بعد هذا هو ما ذكره الرسولُ صلى الله عليه وسلم[17].
خرج الإسلامُ مِن هذه المحنة منتصرًا قويًّا، وتحقَّق له بها عزَّة ومَنعة لم تكن له قبلها؛ فقد كان فشل هؤلاء جميعهم في الحرب عليه مَعناه أنَّه أقوى منهم جميعًا، ومعناه أيضًا أنَّهم لن يفكِّروا في العودة إلى عملهم ذاك مرَّةً أُخرى، لقد بات الإسلام في مَأمنٍ، وبقي أن يتطلَّع إلى تلك الآفاق التي أعلن عنها النبيُّ في أثناء المحنة، لينتقل إلى الخطوة الجديدة مِن الأرض العربيَّة إلى العالميَّة، ليتطلَّع المؤمنون مِن اليوم إلى مُلكِ فارس في أرض العراق، وإلى مُلك الرُّوم في أرض الشام، ليكونوا أسيادَ الأرض.
لقد كانت هذه المحنة نِعْمَ المنحة.
وهكذا كانت غزوة الأحزاب درسًا للذين يُيئسهم ما يقَع بالمسلمين من نَكبات وأنواء، وما يصيبهم من ضرٍّ وأذى، وما ينزل بهم من مِحن وشدائد، فيُقعِدُهم ذلك عن السَّعي والعمل، ويركبهم الغم والهم على مستقبل الإسلام، ألَا فلْيَعِ هؤلاء أنَّ الإسلام مَحفوظ، وليدرسوا تاريخَه في القرآن والسنَّة وسيرةِ الرسول وأيامِ الله في الدول والتاريخ، وليهمهم شأنُهم هم، فلْيَستوثقوا لإيمانهم بربِّهم ونبيِّهم، وليتأكَّدوا ليقينهم في دينهم؛ حتى لا نَسْمع مثلَ الذي قاله بعضُ الذين في قلوبهم مرَض والمرجِفون - وقد قالوا شيئًا إدًّا، تكاد السَّماوات يتفطَّرن منه وتنشق الأرض وتخرُّ الجبال هدًّا - قالوا: أين الله؟ أليس الله يَسمع ويرى؟ ألا يَعلم الله ما يقع للمسلمين في الأرض؟ أليس الله قادرًا على نصرتنا؟ ألا ينصر أولياءَه؟ ألا يردُّ عنهم وعن دينه أعداءَه؟ ما بال الله نَدعوه فلا يجيب، ونسأله فلا يستجيب؟
أسئلة تدلُّ على خَراب القلوب مِن الإيمان، وخلو النُّفوس مِن تعظيم الله، إنَّ الله تعالى يَنصر المؤمنين، فلْيُراجع هؤلاء إيمانهم؛ حتى يَكونوا أهلًا لنصر الله وتأييده، وسِمةُ المؤمنين الأدَب مع الله، والثِّقةُ بأنَّ له في كلِّ أمرٍ حِكمة، فلا يتعجَّلون ما يريدون - وإن كانوا يودُّون عجلته - حتى يأذن الله له أن يكون، فإن أراد الله لشيء أن يكون فهو كائن.
إنَّ الله ناصرٌ دينَه، بنا أو بغيرنا، فلا يكن همُّ أحدنا: هل سينتصر الإسلام أم لا؟ بل ليكن همُّه: هل سينتصر الإسلام به أو لا؟ وليعدَّ نفسَه ليكون أهلًا للجنديَّة في جيش نصرة الإسلام.
♦ ♦ ♦ ♦
مضت ستُّ سنوات على هدوء العاصفة؛ كانت فتحًا ونصرًا وبركة كلها، ثمَّ أتَتْ بعد هذه السنوات الست عاصفةٌ هَوجاء كانت محنة عَظيمة شديدة، لم يُمتحن الإسلامُ بمثلها قبلَ ذلك أبدًا، وهي موضوع حديثنا القادم بمشيئة الله وأمرِه.
ولئن كانت قُريش قد خرجت في بَدر وفي أُحُد بمُحاربي مكَّةَ فلم يفلحوا في القضاء على الدولة الناشئة، فإنَّ ذلك لم يُيئسهم مِن المحاولة مرَّةً ثالثة، لكن هذه المرة كانت بمعاونة المشركين مِن جزيرة العرب جميعها؛ بل عاوَنَهم في ذلك أيضًا اليهود في المدينة!
إنَّه اجتماع أشتات الكفَّار من كلِّ اتِّجاه إذًا للقضاء على الإسلام ودولةِ الإسلام وأهل الإسلام، جاؤوا في كثرتهم السَّاحقة؛ فيهم المشرك والكتابيُّ، الحربيُّ والمعاهد، البعيد والقريب، الأميون والرساليُّون، قد اجتمعَتْ كلمتهم وتوحَّد هدَفُهم على ألَّا يذروا للإسلام بعدَ اليوم أرضًا، ولا يتركوا من أهله نَسمةً حيَّةً!
كان ذلك في السَّنة الخامسة مِن الهجرة[1]، وقد عُرفتْ هذه الأحداث بغزوة الأحزاب، وفي الاسم - ابتداءً - خيرُ دلالة على خُطورة الأمر، وعظمة هَوْله، وشدَّة وَطْأته على المسلمين في المدينة، الأمر الذي عبَّر عنه القرآن بقوله: ﴿ إِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11].
لقد غلبتِ الظُّنونُ على بعض الأذهان أن يُغلَب الإسلام، أو يُستأصل المسلمون، وأنَّ ما وعد الله نبيَّه مِن النَّصر لن يكون[2]، إلى آخر هذه الظنون الكاذِبة التي تهجم على النفوس في وقت الأَزمات والمدلهمَّات، يهيجها الشيطانُ ويوسوس بها في الصدور، تؤازِره في ذلك النَّفسُ الأمَّارة بالسُّوء مِن ناحيةٍ، وشياطين الإنس المندسون في الصفِّ المسلم مِن جهة أخرى!
لقد كانت دولةُ المسلمين وقوتهم تمثِّل - حاليًّا - تهديدًا مستمرًّا واضحًا لطرق قوافل المشركين، وخطرًا على مكانتهم بين العرب، وتشكِّل - مستقبلًا - تهديدًا بزوالهم وفنائهم إلى الأبد.
وكان المشركون يَفهمون ذلك، ويفهمون أيضًا أنَّ فرصتهم في القضاء على الإسلام ودولته تقلُّ وتتضاءل كلَّ يوم أكثر وأكثر؛ ولهذا حرصوا على أن تكون الضَّربة التي يوجِّهونها لهم اليومَ ضربةً قاضية وأخيرة، ومِن ثَم لجؤوا إلى التحالُف مع كلِّ مَن له مصلحة في القضاء على المسلمين.
كان جيش الأحزاب يتألَّف من عشرة آلاف تَقصد المدينةَ، وليس فيها يومئذٍ إلَّا ثلاثة آلاف مقاتل، "فلمَّا سمع بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وما أجمعوا له مِن الأمر، استشار أصحابَه، وقد أشار عليه سَلْمان الفارسيُّ بحَفْر الخَندق في المنطقة الوحيدة المكشوفة أمام الغزاة، أمَّا الجهات الأخرى، فكانت كالحِصن تتشابك فيها الأبنية وأشجارُ النخيل، وتحيطها الحرَّات التي يَصعب على الإبل والمشاة التحرُّك فيها"[3].
ووافق الجميعُ على هذه الفكرة؛ لعِلمهم بكَثرة الجموع القادمة لحربهم، وشرعوا في حَفْر الخَنْدق الذي يمتدُّ مِن أُجُمِ الشيخينِ طرف بني حارثة شرقًا حتى المذاد غربًا، وكان طوله خمسة آلاف ذراع، وعرضه تسعة أذرع، وعمقه من سبعة أذرع إلى عشرة، وكان على كلِّ عشرة مِن المسلمين حَفْرُ أربعين ذراعًا، وقد تولى المهاجرون الحفرَ من ناحية حصن راتج في الشرق إلى حصن ذباب، والأنصارُ مِن حصن ذباب إلى جبل عبيد في الغرب.
وعمل المسلمون في الحَفْر على عجَل، يبادرون قدومَ القوم، وقد تراوحت مدَّةُ الحَفْر ما بين ستة أيام وأربعة وعشرين يومًا؛ فعند ابن عقبة استغرق قريبًا من عشرين ليلة، وعند الواقدي أربعًا وعشرين ليلة، وفي الروضة للنووي خمسة عشر يومًا، وعند ابن سعد ستة أيام.
وكان طعامهم القليل مِن الشَّعير يُخلط بدُهن متغيِّر الرائحة لقِدمه ويُطبخ، فيأكلونه على الرغم مِن بَشاعة طعمه في الحَلْق ورائحته المنتنة؛ وذلك لشدَّة جوعهم، حتى هذا لا يجدونه أحيانًا فيأكلون التَّمرَ، وأحيانًا لا يجدون هذا ولا ذاك لمدَّة ثلاثة أيام متتالية، إلى الحدِّ الذي يَعْصب فيه النبي صلى الله عليه وسلم بطنَه بحجَرٍ من شدَّة الجوع.
وشارك جميعُ المسلمين في الحَفْر، لا فَرْق بين غنيٍّ وفقير، ومولًى وأمير، وأسوتهم في ذلك الرسولُ صلى الله عليه وسلم الذي حمل الترابَ حتى اغبرَّ بطنُه، ووارى الترابُ جلدَه، وكان الصَّحابة يَستعينون به في تفتيت الصخرة التي تَعترضهم ويعجزون عنها، فيفتِّتها لهم، ويردِّد معهم الأهازيجَ والأرجازَ لتنشيطهم للعمل، فيقول:
اللهمَّ لولا أنتَ ما اهتدينا
ولا تصدَّقنا ولا صلَّينا
فأنزِلَنْ سكينةً علينا
وثبِّتِ الأقدامَ إن لاقينا
إنَّ الأُلى قد بَغَوا علينا
وإن أرادوا فتنةً أبَيْنا
وكان يمدُّ بها صوتَه بآخرها[4]، ويرتجز المسلمون وهم يعملون:
نحن الذين بايَعوا محمَّدا
على الإسلام ما بَقينا أبدَا
فيُجيبهم صلى الله عليه وسلم بقوله:
((اللهمَّ إنَّه لا خير إلَّا خير الآخره = فبارك في الأنصار والمهاجره))[5].
وربَّما يبدؤهم بقوله فيردُّون عليه بقولهم[6].
عددٌ قليل، وطعامٌ نادِر، وإرهاقٌ قاتِل، وبردٌ شديد، ثمَّ كلل ذلك كله بتخذيل المنافقين والذين في قلوبهم مرَض، وكان المنافقون إلى هذا الوقت ضمن الصفِّ المسلم يلقون المؤمنين فيقولون: آمنَّا، فإذا خلَا بعضُهم إلى بعضٍ قالوا: ﴿ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الأحزاب: 12].
فأراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يقِف على الحالة المعنويَّة لجنوده، فجمعهم وحدَّثهم في أمر يَستطلع به ما عندهم، فبَعث إلى سعد بن معاذ وسعدِ بن عبادة زعيمَي الأنصار، فاستشارهما في الصُّلح الذي عرضته عليه قبيلةُ غطفان، وهو أن يعطوا ثُلث ثِمار المدينة لعام كي ينصرفوا عن قِتال المسلمين، ولم يبقَ إلَّا التوقيع على صَحيفة الصلح، فما كان منهما رضي الله عنهما إلَّا أن قالا له صلى الله عليه وسلَّم: "لا واللهِ، ما أَعطَينا الدنيَّةَ مِن أنفسنا في الجاهليَّة، فكيف وقد جاء الله بالإسلام؟!"[7].
وفي رواية أنهما قالا: "يا رسول الله، أوَحْيٌ مِن السَّماء فالتسليم لأمر الله، أو عن رأيك أو هواك؟ فرأيُنا تبعٌ لهواك ورأيك، فإن كنتَ إنما تريد الإبقاءَ علينا، فواللهِ لقد رأيتنا وإياهم على سواء ما يَنالون منَّا ثَمرة إلَّا شراءً أو قِرًى"[8].
ومن أجل هذه الرُّدود العالية التي تَظهر فيها روحُ العزِّ والكرامة؛ قطَع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المفاوضةَ مع الأعراب الذين كان يمثِّلهم الحارث الغطفانيُّ قائد بني مرَّة، واستعدَّ لمواجهة جموع الأحزاب بعون الله ثمَّ بجنده المؤمنين بالله ورسوله.
لم يلبثِ النبيُّ والمسلمون إلَّا قليلًا حتى جاءهم بَلاء جديد جَليلٌ؛ ذلك أنَّ يهودَ بني النضير أرادوا أن يجرُّوا معهم إخوانهم يهود بَني قُريظة إلى نَقْض العهد والغَدْر بالمسلمين والوقوف مع الأحزاب، فأَوفدوا حُيَيَّ بن أخطَبَ للقيام بهذه المهمة، فجاء حُيَي إلى كَعْب بن أسد القرظيِّ، وبعد حوارٍ طويل بينهما أقنعه بنَقْض العهد مع المسلمين بحُجَّة قوَّة الأحزاب ومقدرتهم على استئصال المسلمين، وأغراه بأن يَدخل معه حِصْنَه عندما ينصرف الأحزاب، بعد أداء مهمَّتهم.
وكان يومًا عصيبًا من الدَّهر؛ ذلك اليوم الذي عَلِم فيه المسلمون نَقْض بني قريظة ما بينهم وبين المسلمين من عهد، وتكمن خطورة ذلك في مَوقعهم الذي يمكِّنهم من تسديد ضربة غادرة للمسلمين مِن الخلف؛ فقد كانت ديارهم في العوالي، إلى الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مهزور.
لقد أتاه الزُّبيرُ بما يدلُّ على غدرهم، ويومها قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((فداك أبي وأمِّي، إن لكلِّ نبيٍّ حواريًّا، وحواريَّ الزُّبير))[9].
لزيادة الحيطة والحذر والتأكد من مثل هذه الأمور الخطيرة، أرسل الرسولُ صلى الله عليه وسلم سعدَ بن معاذ وسعد بن عبادة وعبدالله بن رواحة وخوات بن جبير، فجاؤوا إلى بني قُريظةَ وتحدَّثوا معهم، ووجدوهم قد نكثوا العهد ومزَّقوا الصحيفةَ التي بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم إلَّا بني سعية؛ فإنَّهم جاؤوا إلى المسلمين وفاءً بالعهد، وعاد رُسلُ المسلمين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالخبَر اليَقين.
وعندما شاع هذا الخبَرُ، خاف المسلمون على ذراريِّهم مِن بني قريظة، ومرُّوا بوقتٍ عصيب، وابتلاء عظيم[10].
وقد استمرَّ حِصارُ المشركين للمدينة أربعًا وعشرين يومًا بلغَتْ فيها القلوبُ الحناجرَ؛ كما قال الله عزَّ وجلَّ، وكانت المناوشات بين المشركين والمسلمين طيلة مدَّة الحصار متواصِلةً لا تنقطع، في محاولات مِن المشركين لعبور الخَندق، وتراشق المسلمين معهم بالنبل؛ حتى إنَّهم شغلوا المسلمين عن أداء بعض الصلوات!
ولو استمرَّتْ هذه الحال لأيَّام أخرى، فالله وحده العليم بما كان سيحدث، بل قبل ذلك لو لم يلهم الله تعالى سَلْمان الفارسيَّ المشورةَ بأمر الخندق، ما الذي كان سيجري؟!
لقد كانت الجموع الوافدة مِن الخارج وفيهم جيران المدينة؛ مثل بني النضير وخيبر، مع الجموع التي تألَّبتْ مِن الداخل؛ مثل بني قريظة - ألوفًا مؤلَّفة، أعدادها ومواقعها كافية للقضاء على جيش المسلمين في المدينة، ولقد كانت هذه الجموع حُرَّة طليقة بخِلاف المسلمين؛ فقد كانوا محاصَرين داخلَ المدينة، ثمَّ كان في الدَّاخلِ المسلمِ مَن مال قلبه إلى العدو المحاصِر المتربِّص، فتآمَر معه - وهم بنو قُريظة الذين نقضوا العهد من أول يوم - وفيهم مَن لو دُعي إلى الخيانة لأجاب مِن المنافقين، وفيهم مَن لو دُعي إلى المواجهة والمناصرة لتخاذَل مِن الذين في قلوبهم مرَض، فلا يَصْفو مِن الثلاثة الآلاف يومئذٍ - وهم جملةُ جيش المدينة - إلَّا أقلُّ من ذلك!
كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا * وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا ﴾ [الأحزاب: 13 - 15].
لكن منذ متى والنَّصرُ يرتبط بالعدد، أو بالعدَّة، أو بوجود قلَّة خائنة أو متخاذلة؟ بل لو لم يوجد أحد على الإطلاق، لنَصَرَ اللهُ دينَه ورسولَه وإن حاربه أهلُ الأرض جميعهم!
وهو ما وقع في هذه المعركة التي كاد الإسلام فيها - بالنظرة البشريَّة المجرَّدة - يَقضي نَحْبَه، ويُستأصل أتباعه وجنده، وتُسلب دولته وأرضه، فإنَّ الله نَصَر الإسلامَ يومئذ برجلٍ واحد، وببعض الهواء.
نعم، لقد كفى اللهُ المؤمنين القتالَ، وهزم الأحزابَ بوسيلتين اثنتين:
الأولى: تَسخير الله نُعَيم بن مسعود ليخذِّل الأحزاب.
والثانية: الرِّياح الهوجاء الباردة.
1- دور نعيم بن مسعود:
روى ابنُ إسحاق والواقديُّ وعبدالرزاق وموسى بن عقبة: أنَّ نُعيم بن مسعود الغطفاني أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم مُسلمًا، وعرض عليه أن يقوم بتَنفيذ أيِّ أمرٍ يريده النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال له: ((إنَّما أنت رجلٌ واحد فينا، ولكن خَذِّلْ عنَّا إن استطعتَ؛ فإنَّ الحرب خَدعة))[11].
وقبل أن يُعرف إسلامُ نُعيم، أتى بني قُريظة، فأقنعهم بعدم التورط مع قريش في قِتال حتى يَأخذوا منهم رهائنَ؛ لكيلا يُولُّوا الأدبارَ، ويتركوهم وحدَهم يواجهون مصيرَهم مع المسلمين بالمدينة، ثمَّ أتى قُريشًا فأخبرهم أنَّ بني قُريظةَ قد نَدموا على ما فعلوا، وأنَّهم قد اتَّفقوا سرًّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يختطفوا عددًا مِن أشراف قُريش وغطفان فيسلموهم له ليقتلهم دليلًا على ندمهم، وقال لهم: فإنْ أرسلَتْ إليكم يهود يَلتمسون منكم رهنًا مِن رجالكم، فإيَّاكم أن تسلموهم رجلًا منكم، ثمَّ أتى غطفان وقال لهم مثلَ الذي قاله لقريش، وبذلك زرع بذورَ الشَّكِّ بينهم، وأخذ كلُّ فريقٍ يتَّهم الفريقَ الآخر بالخيانة.
2- معجزة الرياح:
هبَّت ريحٌ هَوجاء في ليلةٍ مُظلمة باردة، فقلبت قُدورَ المشركين، واقتلعت خيامَهم، وأطفأت نيرانهم، ودَفنَتْ رِحالَهم، فما كان مِن أبي سفيان إلَّا أن ضاق بها ذَرْعًا، فنادى في الأحزاب بالرَّحيل، وكانت هذه الرِّيح مِن جنود الله التي أرسَلَها على المشركين، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ﴾ [الأحزاب: 9].
وروى مسلم بسنَده عن حُذيفةَ بن اليمان طرَفًا ممَّا حدَث في تلك الليلة الحاسمة، قال حُذيفةُ: لقد رأيتُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ الأحزاب، وأخذَتْنا رِيحٌ شديدة وقُرٌّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا رجل يأتِيني بخبر القوم، جعله اللهُ معي يومَ القيامة!))، فسكَتْنا فلم يجِبْه منَّا أحد... ردَّد ذلك ثلاثًا، ثمَّ قال: ((قم يا حُذيفة، فأتِنا بخبر القوم))، فلم أجد بُدًّا إذ دَعاني باسمي أن أقوم، قال: ((اذهب فأتني بخبر القوم، ولا تَذْعَرْهم عليَّ)).
فلمَّا وليتُ مِن عنده، جعلتُ كأنما أَمشي في حمَّامٍ، حتى أتيتهم، فرأيتُ أبا سفيان يَصْلِي ظهرَه بالنَّار، فوضعتُ سهمًا في كبد القوس، فأردتُ أن أرميه، فذكرتُ قولَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تَذْعَرهم عليَّ))، ولو رميتُه لأصبتُه، فرجعتُ وأنا أمشي في مِثل الحمَّام، فلمَّا أتيتُه فأخبرتُه بخبر القوم وفرغتُ قُرِرْتُ؛ فألبَسَني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يُصَلِّي فيها، فلم أزل نائمًا حتى أصبحتُ فقال: ((قُم يا نَوْمان!))[12].
وزاد ابنُ إسحاق في روايته لهذا الخبر: "فدخلتُ في القَوم، والرِّيحُ جنودُ الله تفعل بهم ما تَفعل، لا تقرُّ لهم قدرًا ولا إناء ولا بناءً، فقام أبو سفيان، فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ مَن جليسه؟ فأخذتُ بيد الرجل الذي كان إلى جانبي فقلتُ له: مَن أنت؟ قال: فلان بن فلان، ثمَّ قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنَّكم واللهِ ما أصبحتُم بدار مقام، لقد هلك الكُراع والخُف، وأخلفَتْنا بنو قُريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدَّة الرِّيح ما ترون... فارتحِلوا فإنِّي مرتحِل"[13].
وفي رواية الحاكم والبزار: "فانطلقتُ إلى عَسْكرهم، فوجدتُ أبا سُفيان يوقِد النارَ في عصبة حوله، قد تفرَّق الأحزابُ عنه، حتى إذا جلستُ فيهم فحسب أبو سفيان أنَّه دخل فيهم من غيرهم، قال: ليأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيد جليسه، فضربتُ بيدي على الذي على يَميني وأخذتُ بيده، ثمَّ ضربتُ بيدي على الذي عن يساري فأخذتُ بيده، فلبثت هنيهة، ثمَّ قمتُ فأتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم... قلتُ: يا رسولَ الله، تفرَّق الناسُ عن أبي سفيان، فلم يبقَ إلَّا عُصبة توقِد النارَ، قد صبَّ الله عليه مِن البرد مثلَ الذي صب علينا، ولكنا نرجو مِن الله ما لا يرجون"[14].
وختم الله هذا الامتحانَ الرَّهيب بهذه النِّهاية السَّعيدة، وجنَّب المسلمين شرَّ القِتال، قال تعالى معلِّقًا على هذه الخاتمة: ﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ﴾ [الأحزاب: 25].
وكانت هذه الخاتمة استجابةً لضراعة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى الله أثناء محنة الحصار: ((اللهمَّ منزِلَ الكِتاب، سريعَ الحساب، اهزِم الأحزابَ، اللهمَّ اهزمهم وزَلْزِلْهم))[15].
لقد بذَلَتِ الأحزابُ أقصى ما يمكنهم لاستئصال المسلمين، ولكنَّ الله ردَّهم خائبين؛ وهذا يعني أنَّهم لن يَستطيعوا أن يفعلوا شيئًا في المستقبل؛ ولذا قال الرسولُ صلى الله عليه وسلم: ((الآن نَغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم))[16]؛ هذا عَلَمٌ مِن أعلام النبوَّة؛ لأنَّ الذي حدَث بعد هذا هو ما ذكره الرسولُ صلى الله عليه وسلم[17].
خرج الإسلامُ مِن هذه المحنة منتصرًا قويًّا، وتحقَّق له بها عزَّة ومَنعة لم تكن له قبلها؛ فقد كان فشل هؤلاء جميعهم في الحرب عليه مَعناه أنَّه أقوى منهم جميعًا، ومعناه أيضًا أنَّهم لن يفكِّروا في العودة إلى عملهم ذاك مرَّةً أُخرى، لقد بات الإسلام في مَأمنٍ، وبقي أن يتطلَّع إلى تلك الآفاق التي أعلن عنها النبيُّ في أثناء المحنة، لينتقل إلى الخطوة الجديدة مِن الأرض العربيَّة إلى العالميَّة، ليتطلَّع المؤمنون مِن اليوم إلى مُلكِ فارس في أرض العراق، وإلى مُلك الرُّوم في أرض الشام، ليكونوا أسيادَ الأرض.
لقد كانت هذه المحنة نِعْمَ المنحة.
وهكذا كانت غزوة الأحزاب درسًا للذين يُيئسهم ما يقَع بالمسلمين من نَكبات وأنواء، وما يصيبهم من ضرٍّ وأذى، وما ينزل بهم من مِحن وشدائد، فيُقعِدُهم ذلك عن السَّعي والعمل، ويركبهم الغم والهم على مستقبل الإسلام، ألَا فلْيَعِ هؤلاء أنَّ الإسلام مَحفوظ، وليدرسوا تاريخَه في القرآن والسنَّة وسيرةِ الرسول وأيامِ الله في الدول والتاريخ، وليهمهم شأنُهم هم، فلْيَستوثقوا لإيمانهم بربِّهم ونبيِّهم، وليتأكَّدوا ليقينهم في دينهم؛ حتى لا نَسْمع مثلَ الذي قاله بعضُ الذين في قلوبهم مرَض والمرجِفون - وقد قالوا شيئًا إدًّا، تكاد السَّماوات يتفطَّرن منه وتنشق الأرض وتخرُّ الجبال هدًّا - قالوا: أين الله؟ أليس الله يَسمع ويرى؟ ألا يَعلم الله ما يقع للمسلمين في الأرض؟ أليس الله قادرًا على نصرتنا؟ ألا ينصر أولياءَه؟ ألا يردُّ عنهم وعن دينه أعداءَه؟ ما بال الله نَدعوه فلا يجيب، ونسأله فلا يستجيب؟
أسئلة تدلُّ على خَراب القلوب مِن الإيمان، وخلو النُّفوس مِن تعظيم الله، إنَّ الله تعالى يَنصر المؤمنين، فلْيُراجع هؤلاء إيمانهم؛ حتى يَكونوا أهلًا لنصر الله وتأييده، وسِمةُ المؤمنين الأدَب مع الله، والثِّقةُ بأنَّ له في كلِّ أمرٍ حِكمة، فلا يتعجَّلون ما يريدون - وإن كانوا يودُّون عجلته - حتى يأذن الله له أن يكون، فإن أراد الله لشيء أن يكون فهو كائن.
إنَّ الله ناصرٌ دينَه، بنا أو بغيرنا، فلا يكن همُّ أحدنا: هل سينتصر الإسلام أم لا؟ بل ليكن همُّه: هل سينتصر الإسلام به أو لا؟ وليعدَّ نفسَه ليكون أهلًا للجنديَّة في جيش نصرة الإسلام.
♦ ♦ ♦ ♦
مضت ستُّ سنوات على هدوء العاصفة؛ كانت فتحًا ونصرًا وبركة كلها، ثمَّ أتَتْ بعد هذه السنوات الست عاصفةٌ هَوجاء كانت محنة عَظيمة شديدة، لم يُمتحن الإسلامُ بمثلها قبلَ ذلك أبدًا، وهي موضوع حديثنا القادم بمشيئة الله وأمرِه.