حكاية ناي ♔
12-05-2023, 03:40 PM
تمهيد: مرَّت بالإسلام العظيم منذ أن بزغ فجرُه محنٌ كثيرة، وعواصفُ كبيرة، كادت أن توديه ويُذهَب به في مهابها، ولكنَّ الله تعالى سلَّم، وفي كلِّ محنة يتعرَّض لها الإسلامُ كان يخرج منتصرًا، لا لعبقريَّةِ وإخلاص أتباعه، وحسنِ تقدير وبُعد نظر روَّاده؛ وهذا مطلوب جدًّا، لكن لأنه دين الله؛ فهو ناصره ومُظهره.
وحين نرى العاصفةَ التي تكتنف الإسلامَ اليوم وتدوِّي به حدَّ الإعصار، وذلك في كيدٍ ومكر عظيمينِ من أعدائه، وغفلةٍ وجهلٍ شديدين من أبنائه، فإنَّنا نسارع إلى طمأنة قلوب المؤمنين على الإسلام، وتذكيرهم بأنَّه دين الله الذي يحميه هو بنفسه، وأنَّ عمل جنوده في نصرته ما هو إلَّا سعيٌ منهم ليضمُّوا أنفسهم إلى دِرع حمايته؛ فيفوزوا هم بشرَف حماية الإسلام، ونصرة الإسلام، وحمل همِّ الإسلام، ويكونوا من جنوده، مِن قبل أن يستبدِل الله بهم قومًا غيرهم، ثمَّ لا يكونوا أمثالهم.
وسوف نعرض في هذه المقالات لهذه الحقيقة مِن خلال بعض الأحداث المشابهة للحدَث الذي نحن بصدده، عجزَتْ فيها كلُّ القوى عن نصرة الدين، وتعطَّلتْ جميعُ الأسباب المتاحة، واستيئَس المسلمون، وضاقت عليهم الأرضُ بما رَحُبتْ وضاقت عليهم أنفسُهم، وظنُّوا أن الإسلام بسبب هذه الأحداث إلى زوالٍ، فإذا ظنونهم تلك تعود سرابًا، والأحداث تتحوَّل هباء، وتزول وتفنى ويَبقى الإسلام، ومِن هذه العواصف الشديدة التي واجهها الإسلام:
محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة
وفي السطور التالية نتعرَّض لهذا الحدَث الجلَل؛ مقدِّماته، وأخباره، والآثار المترتبة عليه، فأقول وبالله وحده التوفيق:
في مكة عقمٌ وأذًى:كانت مكة كلَّ يومٍ تتفنَّن في إيذاء النبيِّ والمؤمنين به، ويبلغ أهلها في ذلك منهم غايةً لا تُتصوَّر؛ إذ تعرَّضوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بأنواع الأذى، فحاولوا وَطْء رأسه أثناء السُّجود، وقصد آخرون تَهشيمَ رأسه بحجر كبير أثناء ذلك، وقام غيرُهم بإلقاء فَرْثِ جَزورٍ ودمها وسَلاها، فوضعوه بين كتفيه وهو ساجد، وأثاروا إعلامَهم الخبيث ضدَّ شَخصه، يقول: إنَّه مَجنون، أو ساحر، أو كاهن، وهذا أبو لهب كان يتبع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الأسواق والمجامع، ومواسم الحج ويكذِّبه!
ذكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما لاقاه مِن أذى قُريش قبل أن يَنال الأذى أحدًا مِن أتباعه، فقال: ((لقد أُخفتُ في الله عزَّ وجلَّ وما يُخاف أحَد، ولقد أُوذيتُ في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتَتْ عليَّ ثلاثون مِن بين يومٍ وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كَبدٍ إلَّا شيءٌ يواريه إبط بلال))[1].
وكان نصيبُ المؤمنين بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَ ذلك وأشد؛ إذ لم يكن لهم مِن المَنَعة في أقوامهم مثل الذي كان له؛ فهذا أبو بكر رضي الله عنه حُثي على رأسه التُّراب، وضُرب في المسجد الحرام بالنِّعال، حتى ما يُعرف وجهُه من أنفه، وحُمل إلى بيته في ثوبه، وهو ما بين الحياة والموت[2].
وهذا بلال بن أبي رباح كان أميَّة بن خلف يُخرجه إذا حميَتِ الظهيرة فيَطرحه على ظهره في بطحاء مكَّةَ، ثمَّ يأمر بالصخرة العظيمة على صدره، ثم يقول: لا يزال على ذلك حتى يموت أو يكفر بمحمَّد، فيقول وهو في ذلك: أَحَدٌ أَحَد[3].
وهؤلاء ياسر وزوجه سميَّة وابناهما عمَّار وعبدالله، قد غضب عليهم مواليهم بنو مخزوم غضبًا شديدًا وصبوا عليهم العذاب صبًّا، فكانوا يخرجونهم إذا حميتِ الظهيرةُ فيعذبونهم برمضاء مكة[4]، ويقلبونهم ظهرًا لبطن[5]، وقد وجاء أبو جهل إلى سميَّة فقال لها: ما آمنتِ بمحمد إلَّا لأنك عشقته لجماله، فأغلظَتْ له القولَ، فطعنها بالحربة في ملمس العفة فقتَلَها؛ فهي أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها[6].
ومات ياسر تحت العذاب، وعاش عمَّار وعبدالله بعد أهلهما زمنًا يكابدان من صنوف العذاب ألوانًا[7].
وغير هؤلاء مِن الصحابة الكرام كثير؛ كالزُّبير وسعد، ومصعب وخبَّاب وابن مسعود، وعثمان بن مظعون وخالد بن سعيد، وغيرهم كثير، كانت قريش تتفنَّن في إيذائهم[8].
ولقد سعى المسلمون للتحصُّن ضدَّ إيذائهم بطُرق كثيرة، من هذه الطُّرق:
♦ الدُّخول في حمى بعض الوجهاء؛ كما فعل عثمانُ بن مظعون حين دخل في جوار الوَليد بن المغيرة، وكما فعل أبو بكر الصدِّيق حين دخل في جوار ابنِ الدَّغِنَةِ، وكما فعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين دخل في جوار عمِّه أبي طالب منذ بداية الدعوة الجهريَّة إلى وفاة أبي طالب في العام العاشر مِن البعثة، ثم دخل في جوار المطعم بن عديٍّ بعد عودته من رحلة الطائف.
لكنَّ أمر الجوار لم يكن ميسورًا لجميع المسلمين، فبقي أنَّ عمومهم - وهم ضعفاؤهم - باقون في إيذاء المشركين الذي يُصبُّ عليهم بالليل والنَّهار، فلم تكن حيلة الجوار هذه مَخرجًا من أزمة المسلمين العامَّة بقدر ما كانت حلًّا مؤقَّتًا لمواقفَ عابرة.
♦ ومن الطرق التي كفلت للمسلمين بعضَ الحَصانة مِن إيذاء المشركين: إسلام بعض الشخصيَّات الهامَّة صاحبة الوَجاهة في مكَّة؛ كعمر بن الخطاب، وحمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنهما، وقد عمل المشركون لهذين الرجلين حسابًا كبيرًا؛ لما كان فيهما مِن الجَلَد والقوَّة في أمر الله، فأعزَّ الله بهما الإسلام، وقد أدرك المشركون ذلك منذ الوهلة الأولى، حتى قال صهيب وابن عباس: "لما أسلم عمر قال المشركون: انتصف القوم منَّا"[9]، وقد أصابَتْهم مِن أجل ذلك كآبةٌ لم يصبهم قطُّ مثلها[10].
ويؤكِّد عبدالله بن مسعود ذلك بقوله: "ما زلنا أعزَّة منذ أسلم عمرُ"[11]، وروى ابن أبي شيبة والطَّبرانيُّ من طريق القاسم بن عبدالرحمن قال: قال عبدالله بن مسعود: "كان إسلام عمر عزًّا، وهجرته نصرًا، وإمارته رحمة"[12].
لكنَّ تلك الحصانة كذلك لم تَحُل دون وقوع الأذى على المسلمين من مشركي مكَّة؛ فقد كانوا يومئذٍ كثير، وما كان لرجلين أن يَضمَّا تحت جناحيهما هذا العددَ الكبير ويحموهم، ولئن تمكَّنوا من ذلك بالنسبة لبعض الأحرار، فما كان لهم مِن تمكُّن على الأرقَّاء الذين كان مالكوهم يؤذونهم ويعذِّبونهم، وحتى بالنسبة للأحرار فإن الأحوال قد اختلفت مع مرور الوقت وتسارُعِ الأحداث حين أصاب السعار أهلَ مكة وهم يرَون محاولاتهم في صدِّ أتباع الإسلام لا تفلح، فجنَّ جنونهم وقرَّروا تجاوز كلِّ الحدود، حتى ضُرب الجميع حدَّ الموت، وأوذي الجميع حدَّ المهانة، وكان فيمن ضُرب وأُوذي عمر نفسه، وكذا أبو بكر، بل والنبي صلى الله عليه وسلم!
♦ وكان مِن الطرق التي تحصَّن بها النبيُّ والمسلمون من إيذاء المشركين كذلك: الصبرُ، ويظهر ذلك مِن الآيات الكثيرة التي نزلت في هذه الفترة تأمر النبيَّ ومن معه بالصَّبر، وتذكِّرهم بأصحاب الدعوات من قَبلهم كيف نابهم الأذى، وكيف صبروا عليه، كما نقرؤه في سور: المزمل، والإنسان، والنمل، ويوسف، وفصلت، وهود، ويونس وغيرها.
لكنَّ كثيرًا مِن المسلمين لم يَصبروا تحت وطأة التعذيب؛ فمنهم مَن قَضى نَحْبَه، ومنهم مَن أجابهم بلسانه إلى ما يَطلبونه من الكفر، ومنهم من بالغ المشركون في أذيَّته حتى فاق كلَّ وصف، ولم يَعُد بينه وبين الموت إلا ذراع!
مخرج من المأزق: كانت تلك المحاولات جميعُها في التذرُّع بالحصانات المختلفة ابتغاء التكيُّف مع الأوضاع في مكَّة؛ عسى أن يأذن الله لقلوب أهلها أن تقبل الإسلامَ، ولعيونهم أن ترى آياته، ولآذانهم أن تسمع هُداه، لكنَّ ذلك لم يفلح مع أولئك الكافرين!
وجاء التفكير في طُرق جديدة لإنقاذ الدَّعوة، ومنعِها من الاضمحلال، فكانت طرق ثلاث على مائدة التفكير:
1- إخراج بعض المسلمين - ولا سيَّما ضعفاؤهم - إلى بلد آمنٍ يَستطيعون الحفاظَ فيه على دينهم وأنفسهم؛ وكانت هذه فكرة الهجرة إلى الحبشة.
2- عرض فكرة الإسلام والإيمان بها ومناصرتها على القبائل التي ترِد إلى مكَّة في موسم الحج وغيره؛ لعلَّ أحدها يوفَّق إلى ما لم يوفَّق إليه أهل مكة.
3- البحث عن وطَن قريب مِن مكَّة يَنتقل إليه النبيُّ والمسلمون ويقيمون فيه دولةَ الإسلام التي ينتشر منها الخير، ويعمُّ أرض الجزيرة فالعالمَ.
كانت هذه هي الطُّرق المتاحة للخروج مِن المأزق أمام جمود الدعوة وموتها في مكَّة؛ فلو بقي الوضع على ما هو عليه لا شك أنَّ الدعوة ستُسحق تحت أساليب الاضطهاد التي يتبعها المشركون ضدها، وقد بدأ التنفيذ لهذه الطرق معًا؛ فكانت الهجرتان الأولى والثانية إلى الحبشة، وكان عرض النبيِّ صلى الله عليه وسلم نفسَه على القبائل في موسم الحج والتجارة، وكان خروج النَّبي إلى الطائف للبحث عن موطن للدعوة تنتقل إليه.
أمَّا الخروج إلى الطائف، فلم يؤتِ ثمرتَه المرجوَّة، وحُرم أهله التوفيقَ للمهمَّة العظمى في العالم، وأمَّا الهجرتان إلى الحبشة، فقد نجحتا نجاحًا باهرًا، وكذا الحديث إلى قبائل العرب قد آتى ثمارًا مبشِّرة، ففتح الله قلوبَ أهل يثرب للإسلام في عامٍ بعد عام بعد عام، وبعد أن كانوا في العام الأول ستة أفراد، أصبحوا في العام الثاني اثني عشر رجلًا، ثم صاروا في العام الثالث بضعًا وسبعين نفسًا من المسلمين من أهل يثرب، ولم يكن هؤلاء كل المسلمين بها؛ فقد خلَّف كلٌّ منهم وراءه من المسلمين عشرة أنفس أو يزيد، وما كان هؤلاء إلَّا بعثة ابتعثوها بين يدي طلبهم أن يَشْرُفوا برسول الله بينهم!
ظهر الطريقُ إذًا ولاح المنفَذ للخروج؛ هِجرة ناجحة إلى الحبشة تكرَّر نجاحها في المرتين، وتبشِّر بأنَّ طريق الفتح هجرة مثلها، وها هي أرض تلبِّي النداءَ، فلتكن الهجرة إذًا إلى الذين يلبُّون النداءَ، فيا أيُّها المستضعَفون في مكَّة، قد جاءكم من الله نورٌ وفتح قريب، فأبشِروا ببشرى الله لكم، بأمان ووطن، وعزٍّ وسيادة!
"تلك مَشيئة القدر العالي، هيَّأتْ للدَّعوة مجالَها الخصب، وحِماها الأمين، والسنوات العِجاف التي قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم نضالًا مستمرًّا، وكفاحًا دائمًا، وتطوافًا على القبائل، والْتِماسًا للحليف - قد ولَّت إلى غير رجعة، سيكون بعد اليوم للإسلام قوَّتُه الرَّادعة، وجيشه الباسل، وسيلتَقي الحقُّ بالباطل ليصفي معه حسابَ الأيام الخوالي، والعاقبةُ للمتقين، وستتوالى على مكَّة منذ اليوم مواكب الخير وطلائع النور التي هيَّأها الله للخير؛ لتتَّصل بالهداية وتسبح في النور، وتغترف من الخير، وترجع إلى يثرب بما وعَتْ من خير، وبما حلمت من نور"[13].
كانت الهجرة الطريق المفتوح لإخراج نَبتة الدَّعوة من هذا المكان الصخري الذي لا تغرس فيه ولا تنبت، إلى مكان آخر قد غرست فيه وأنبتت وازدهرت، وبدا ظهور ثمارها اليانعة يبشِّر بمستقبلٍ مزدهر.
ما الذي كانت تمثِّله الهجرة يومئذٍ بالنِّسبة للإسلام ونبيِّه والمؤمنين به؟
لقد كانت الهجرة بمَثابة الرُّوح التي ستنفخ في جسد الدَّعوة لتحيا بعد جمود، وتنطلق بعد وقوف، وتنهض بعد كبواتٍ عظيمة.
لقد كانت تمثِّل الماءَ لهذا الجسد، ترويه وتُحييه وتقوِّيه، ثم تمدُّه بنشاط وقوَّة جديدين لاستكمال الهدف مِن بناء الدولة، وبث الدعوة، وتدبُّر أمر العالم وأستاذيته.
إنَّ الحكمة الأساس من الهجرة، هي أنَّ رسالة الإسلام جاءت لتنظم شؤون الناس في شتَّى مجالات الحياة؛ فهي دستور ومنهج شامل، لا بدَّ لتطبيقه من أمَّة وأرض تُقام فيها أحكام الله تعالى، والمسلمون لا يمكن أن يكون لهم وجود فِعليٌّ إلَّا إذا صَبغ الإسلامُ جميعَ مرافق حياتهم، وساد نظامه أرضَهم، وقامت فيها أحكامُه وآدابه، كما تقوم فيها شعائره، وتسُود فيها عقائده.
لكن إذا تعذَّر على المسلمين تطبيق أحكام دينهم، وإقامة نِظامه السياسيِّ والاجتماعي والاقتصادي، وآدابه الخلقية في بلدهم، وجَب عليهم الانتقالُ إلى البلد الذي يعمل فيه بأحكام الإسلام وآدابه؛ تكثيرًا لسَواد المسلمين، وإعزازًا لأمر الدِّين، واستعدادًا لنصره وتأييده بالنَّفس والنفيس، وإذا لم يكن للمسلمين بلَد تتوافر فيه هذه الشروط، وجب عليهم أن يَجتمعوا في بُقعة صالحة يقيمون فيها نظامَ الإسلام تامًّا كاملًا، ويتعاونون على حماية دعوته، واتِّخاذ الأسباب والوسائل لتحقيق رسالة الإسلام كما جاء بها صاحبُها صلوات الله عليه، وكما فهمها منه أصحابه والتابعون لهم بإحسان[14].
ومن موافقات الله السَّعيدة أن يأتي التجهيز والإعداد للهجرة في ذات الوقت الذي يستعدُّ فيه المشركون لإصابة الإسلام في مَقتل، لقد كانوا يأتَمِرون ليقتلوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، أو يسجنوه، أو ينفوه إلى بلد آخر، وقد استقرَّ رأيهم الأخير على خيار القتل؛ لأنَّه يمثِّل الراحةَ الأبديَّة لهم من هواجسهم، وبدؤوا الإعدادَ لتنفيذ غرَضهم في يوم، ودبَّر الله لنبيِّه الخروج من بيته مهاجرًا في نفس ذلك اليوم.
هل سمِع المشركون بأمر الهجرة وبلَغَهم خبرُ الجماعة المبايعة مِن الأنصار؟ بالقطع لا؛ فإنَّ ذلك العمل العظيم مِن الحوار بين النبيِّ والأنصار جرت أحداثُه في ثلاث سنوات من السريَّة التامَّةِ.
لكنَّه تدبير الله الذي أنقذ نبيَّه مِن بين أيديهم، وأخرجه للهجرة ومفارقة مكَّة إلى وجهته الجديدة، حيث المستقرُّ والطمأنينة للدين والدولة.
أفرأيتَ إن نجح المشركون في هدفهم يومئذٍ فقَتَلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟ ماذا كان مصير الإسلام؟
أفرأيتَ إن منعوه مِن الهجرة وأوثقوه فسجنوه حتى لو لم يقتلوه؟
أفرأيت إن بقي الإسلام في مكَّة ولم يجد منفذًا أو مخرجًا في بلدة حوله أو بعيدًا عنه؟
أفرأيتَ إن نجح المشركون في تعقُّب النبي وأبي بكر يوم الهجرة فدلَّهم الشيطانُ أو دلَّتهم عقولُهم على مخبئهما في الغار فدخلوه عليهما؟
أفرأيتَ إن تمكَّن منهما سُراقة بن مالك، فأسَرَهما أو قتلهما؟
إنَّ كلَّ هذه السؤالات مَحض فرضيَّات أفترضُها على عَقل القارئ الكريم، وهي جائزة في حُكم العقل، لكنَّها كانت تكون كذلك في قَضاء الله لو كان ذلك الدِّين محض دعوة بشريَّة هُدي إليها محمدٌ مِن تلقاء عقله، أو مِن وَحْي تأمُّلاته، أو مِن دلالات التجارِب والمعرفة بأحوال الأمم السابقة، ولم يكن الإسلام في يومٍ كذلك قط ولن يكون؛ بل هو دين الله الحقُّ الذي نزَّله وهو يتولَّاه ويرعاه.
إذًا، فلن تجد قريشٌ رسولَ الله أبدًا ولو كان أمامها، ولن يتمكَّن سُراقة مِن رسول الله وصاحبه أبدًا ولو أدرَكَهما، ولن تمنع هِجرةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مكَّةُ كلُّها لو خرجت، بل الدنيا كلها لو اجتمعت!
وليس ذلك لمهارة رسول الله في الإعداد والتجهيز، ولا لدقَّتِه في الترتيب والتخطيط، ولا لإتقانه الشديد في ترتيب أوضاع المهاجرين في مكَّةَ مِن ناحية وأوضاع مناصريه في المدينة، ما من شيء من ذلك إلَّا ولا بدَّ منه، لكنَّه ليس السبب في النجاح؛ إنَّما السبب في النجاح أنَّ هذا الدِّين هو دين الله وأنه لن يضيِّعه، وأنَّ محمدًا رسولُ الله وأنَّ الله ناصره، فهل يفقه المسلمون الدروسَ المستفادة؟
♦ الدين دين الله، وهو ناصره بِنا أو بغيرنا.
♦ نحن لا ننصر الإسلامَ؛ بل ننصر أنفسَنا حين نجعلها في الحملة لنصرة الإسلام.
♦ الحملة علينا، والنَّصر من الله.
نسأل اللهَ تعالى أن يفقِّهَنا في ديننا، وأن يأخذ بأيدينا إليه أَخْذَ الكرام عليه، وأن يتقبَّلنا له مناصرين، وألا يستبدل بنا قومًا آخرين، آمين!
وحين نرى العاصفةَ التي تكتنف الإسلامَ اليوم وتدوِّي به حدَّ الإعصار، وذلك في كيدٍ ومكر عظيمينِ من أعدائه، وغفلةٍ وجهلٍ شديدين من أبنائه، فإنَّنا نسارع إلى طمأنة قلوب المؤمنين على الإسلام، وتذكيرهم بأنَّه دين الله الذي يحميه هو بنفسه، وأنَّ عمل جنوده في نصرته ما هو إلَّا سعيٌ منهم ليضمُّوا أنفسهم إلى دِرع حمايته؛ فيفوزوا هم بشرَف حماية الإسلام، ونصرة الإسلام، وحمل همِّ الإسلام، ويكونوا من جنوده، مِن قبل أن يستبدِل الله بهم قومًا غيرهم، ثمَّ لا يكونوا أمثالهم.
وسوف نعرض في هذه المقالات لهذه الحقيقة مِن خلال بعض الأحداث المشابهة للحدَث الذي نحن بصدده، عجزَتْ فيها كلُّ القوى عن نصرة الدين، وتعطَّلتْ جميعُ الأسباب المتاحة، واستيئَس المسلمون، وضاقت عليهم الأرضُ بما رَحُبتْ وضاقت عليهم أنفسُهم، وظنُّوا أن الإسلام بسبب هذه الأحداث إلى زوالٍ، فإذا ظنونهم تلك تعود سرابًا، والأحداث تتحوَّل هباء، وتزول وتفنى ويَبقى الإسلام، ومِن هذه العواصف الشديدة التي واجهها الإسلام:
محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة
وفي السطور التالية نتعرَّض لهذا الحدَث الجلَل؛ مقدِّماته، وأخباره، والآثار المترتبة عليه، فأقول وبالله وحده التوفيق:
في مكة عقمٌ وأذًى:كانت مكة كلَّ يومٍ تتفنَّن في إيذاء النبيِّ والمؤمنين به، ويبلغ أهلها في ذلك منهم غايةً لا تُتصوَّر؛ إذ تعرَّضوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم بأنواع الأذى، فحاولوا وَطْء رأسه أثناء السُّجود، وقصد آخرون تَهشيمَ رأسه بحجر كبير أثناء ذلك، وقام غيرُهم بإلقاء فَرْثِ جَزورٍ ودمها وسَلاها، فوضعوه بين كتفيه وهو ساجد، وأثاروا إعلامَهم الخبيث ضدَّ شَخصه، يقول: إنَّه مَجنون، أو ساحر، أو كاهن، وهذا أبو لهب كان يتبع رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الأسواق والمجامع، ومواسم الحج ويكذِّبه!
ذكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما لاقاه مِن أذى قُريش قبل أن يَنال الأذى أحدًا مِن أتباعه، فقال: ((لقد أُخفتُ في الله عزَّ وجلَّ وما يُخاف أحَد، ولقد أُوذيتُ في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتَتْ عليَّ ثلاثون مِن بين يومٍ وليلة وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كَبدٍ إلَّا شيءٌ يواريه إبط بلال))[1].
وكان نصيبُ المؤمنين بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم مثلَ ذلك وأشد؛ إذ لم يكن لهم مِن المَنَعة في أقوامهم مثل الذي كان له؛ فهذا أبو بكر رضي الله عنه حُثي على رأسه التُّراب، وضُرب في المسجد الحرام بالنِّعال، حتى ما يُعرف وجهُه من أنفه، وحُمل إلى بيته في ثوبه، وهو ما بين الحياة والموت[2].
وهذا بلال بن أبي رباح كان أميَّة بن خلف يُخرجه إذا حميَتِ الظهيرة فيَطرحه على ظهره في بطحاء مكَّةَ، ثمَّ يأمر بالصخرة العظيمة على صدره، ثم يقول: لا يزال على ذلك حتى يموت أو يكفر بمحمَّد، فيقول وهو في ذلك: أَحَدٌ أَحَد[3].
وهؤلاء ياسر وزوجه سميَّة وابناهما عمَّار وعبدالله، قد غضب عليهم مواليهم بنو مخزوم غضبًا شديدًا وصبوا عليهم العذاب صبًّا، فكانوا يخرجونهم إذا حميتِ الظهيرةُ فيعذبونهم برمضاء مكة[4]، ويقلبونهم ظهرًا لبطن[5]، وقد وجاء أبو جهل إلى سميَّة فقال لها: ما آمنتِ بمحمد إلَّا لأنك عشقته لجماله، فأغلظَتْ له القولَ، فطعنها بالحربة في ملمس العفة فقتَلَها؛ فهي أول شهيدة في الإسلام رضي الله عنها[6].
ومات ياسر تحت العذاب، وعاش عمَّار وعبدالله بعد أهلهما زمنًا يكابدان من صنوف العذاب ألوانًا[7].
وغير هؤلاء مِن الصحابة الكرام كثير؛ كالزُّبير وسعد، ومصعب وخبَّاب وابن مسعود، وعثمان بن مظعون وخالد بن سعيد، وغيرهم كثير، كانت قريش تتفنَّن في إيذائهم[8].
ولقد سعى المسلمون للتحصُّن ضدَّ إيذائهم بطُرق كثيرة، من هذه الطُّرق:
♦ الدُّخول في حمى بعض الوجهاء؛ كما فعل عثمانُ بن مظعون حين دخل في جوار الوَليد بن المغيرة، وكما فعل أبو بكر الصدِّيق حين دخل في جوار ابنِ الدَّغِنَةِ، وكما فعل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين دخل في جوار عمِّه أبي طالب منذ بداية الدعوة الجهريَّة إلى وفاة أبي طالب في العام العاشر مِن البعثة، ثم دخل في جوار المطعم بن عديٍّ بعد عودته من رحلة الطائف.
لكنَّ أمر الجوار لم يكن ميسورًا لجميع المسلمين، فبقي أنَّ عمومهم - وهم ضعفاؤهم - باقون في إيذاء المشركين الذي يُصبُّ عليهم بالليل والنَّهار، فلم تكن حيلة الجوار هذه مَخرجًا من أزمة المسلمين العامَّة بقدر ما كانت حلًّا مؤقَّتًا لمواقفَ عابرة.
♦ ومن الطرق التي كفلت للمسلمين بعضَ الحَصانة مِن إيذاء المشركين: إسلام بعض الشخصيَّات الهامَّة صاحبة الوَجاهة في مكَّة؛ كعمر بن الخطاب، وحمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنهما، وقد عمل المشركون لهذين الرجلين حسابًا كبيرًا؛ لما كان فيهما مِن الجَلَد والقوَّة في أمر الله، فأعزَّ الله بهما الإسلام، وقد أدرك المشركون ذلك منذ الوهلة الأولى، حتى قال صهيب وابن عباس: "لما أسلم عمر قال المشركون: انتصف القوم منَّا"[9]، وقد أصابَتْهم مِن أجل ذلك كآبةٌ لم يصبهم قطُّ مثلها[10].
ويؤكِّد عبدالله بن مسعود ذلك بقوله: "ما زلنا أعزَّة منذ أسلم عمرُ"[11]، وروى ابن أبي شيبة والطَّبرانيُّ من طريق القاسم بن عبدالرحمن قال: قال عبدالله بن مسعود: "كان إسلام عمر عزًّا، وهجرته نصرًا، وإمارته رحمة"[12].
لكنَّ تلك الحصانة كذلك لم تَحُل دون وقوع الأذى على المسلمين من مشركي مكَّة؛ فقد كانوا يومئذٍ كثير، وما كان لرجلين أن يَضمَّا تحت جناحيهما هذا العددَ الكبير ويحموهم، ولئن تمكَّنوا من ذلك بالنسبة لبعض الأحرار، فما كان لهم مِن تمكُّن على الأرقَّاء الذين كان مالكوهم يؤذونهم ويعذِّبونهم، وحتى بالنسبة للأحرار فإن الأحوال قد اختلفت مع مرور الوقت وتسارُعِ الأحداث حين أصاب السعار أهلَ مكة وهم يرَون محاولاتهم في صدِّ أتباع الإسلام لا تفلح، فجنَّ جنونهم وقرَّروا تجاوز كلِّ الحدود، حتى ضُرب الجميع حدَّ الموت، وأوذي الجميع حدَّ المهانة، وكان فيمن ضُرب وأُوذي عمر نفسه، وكذا أبو بكر، بل والنبي صلى الله عليه وسلم!
♦ وكان مِن الطرق التي تحصَّن بها النبيُّ والمسلمون من إيذاء المشركين كذلك: الصبرُ، ويظهر ذلك مِن الآيات الكثيرة التي نزلت في هذه الفترة تأمر النبيَّ ومن معه بالصَّبر، وتذكِّرهم بأصحاب الدعوات من قَبلهم كيف نابهم الأذى، وكيف صبروا عليه، كما نقرؤه في سور: المزمل، والإنسان، والنمل، ويوسف، وفصلت، وهود، ويونس وغيرها.
لكنَّ كثيرًا مِن المسلمين لم يَصبروا تحت وطأة التعذيب؛ فمنهم مَن قَضى نَحْبَه، ومنهم مَن أجابهم بلسانه إلى ما يَطلبونه من الكفر، ومنهم من بالغ المشركون في أذيَّته حتى فاق كلَّ وصف، ولم يَعُد بينه وبين الموت إلا ذراع!
مخرج من المأزق: كانت تلك المحاولات جميعُها في التذرُّع بالحصانات المختلفة ابتغاء التكيُّف مع الأوضاع في مكَّة؛ عسى أن يأذن الله لقلوب أهلها أن تقبل الإسلامَ، ولعيونهم أن ترى آياته، ولآذانهم أن تسمع هُداه، لكنَّ ذلك لم يفلح مع أولئك الكافرين!
وجاء التفكير في طُرق جديدة لإنقاذ الدَّعوة، ومنعِها من الاضمحلال، فكانت طرق ثلاث على مائدة التفكير:
1- إخراج بعض المسلمين - ولا سيَّما ضعفاؤهم - إلى بلد آمنٍ يَستطيعون الحفاظَ فيه على دينهم وأنفسهم؛ وكانت هذه فكرة الهجرة إلى الحبشة.
2- عرض فكرة الإسلام والإيمان بها ومناصرتها على القبائل التي ترِد إلى مكَّة في موسم الحج وغيره؛ لعلَّ أحدها يوفَّق إلى ما لم يوفَّق إليه أهل مكة.
3- البحث عن وطَن قريب مِن مكَّة يَنتقل إليه النبيُّ والمسلمون ويقيمون فيه دولةَ الإسلام التي ينتشر منها الخير، ويعمُّ أرض الجزيرة فالعالمَ.
كانت هذه هي الطُّرق المتاحة للخروج مِن المأزق أمام جمود الدعوة وموتها في مكَّة؛ فلو بقي الوضع على ما هو عليه لا شك أنَّ الدعوة ستُسحق تحت أساليب الاضطهاد التي يتبعها المشركون ضدها، وقد بدأ التنفيذ لهذه الطرق معًا؛ فكانت الهجرتان الأولى والثانية إلى الحبشة، وكان عرض النبيِّ صلى الله عليه وسلم نفسَه على القبائل في موسم الحج والتجارة، وكان خروج النَّبي إلى الطائف للبحث عن موطن للدعوة تنتقل إليه.
أمَّا الخروج إلى الطائف، فلم يؤتِ ثمرتَه المرجوَّة، وحُرم أهله التوفيقَ للمهمَّة العظمى في العالم، وأمَّا الهجرتان إلى الحبشة، فقد نجحتا نجاحًا باهرًا، وكذا الحديث إلى قبائل العرب قد آتى ثمارًا مبشِّرة، ففتح الله قلوبَ أهل يثرب للإسلام في عامٍ بعد عام بعد عام، وبعد أن كانوا في العام الأول ستة أفراد، أصبحوا في العام الثاني اثني عشر رجلًا، ثم صاروا في العام الثالث بضعًا وسبعين نفسًا من المسلمين من أهل يثرب، ولم يكن هؤلاء كل المسلمين بها؛ فقد خلَّف كلٌّ منهم وراءه من المسلمين عشرة أنفس أو يزيد، وما كان هؤلاء إلَّا بعثة ابتعثوها بين يدي طلبهم أن يَشْرُفوا برسول الله بينهم!
ظهر الطريقُ إذًا ولاح المنفَذ للخروج؛ هِجرة ناجحة إلى الحبشة تكرَّر نجاحها في المرتين، وتبشِّر بأنَّ طريق الفتح هجرة مثلها، وها هي أرض تلبِّي النداءَ، فلتكن الهجرة إذًا إلى الذين يلبُّون النداءَ، فيا أيُّها المستضعَفون في مكَّة، قد جاءكم من الله نورٌ وفتح قريب، فأبشِروا ببشرى الله لكم، بأمان ووطن، وعزٍّ وسيادة!
"تلك مَشيئة القدر العالي، هيَّأتْ للدَّعوة مجالَها الخصب، وحِماها الأمين، والسنوات العِجاف التي قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم نضالًا مستمرًّا، وكفاحًا دائمًا، وتطوافًا على القبائل، والْتِماسًا للحليف - قد ولَّت إلى غير رجعة، سيكون بعد اليوم للإسلام قوَّتُه الرَّادعة، وجيشه الباسل، وسيلتَقي الحقُّ بالباطل ليصفي معه حسابَ الأيام الخوالي، والعاقبةُ للمتقين، وستتوالى على مكَّة منذ اليوم مواكب الخير وطلائع النور التي هيَّأها الله للخير؛ لتتَّصل بالهداية وتسبح في النور، وتغترف من الخير، وترجع إلى يثرب بما وعَتْ من خير، وبما حلمت من نور"[13].
كانت الهجرة الطريق المفتوح لإخراج نَبتة الدَّعوة من هذا المكان الصخري الذي لا تغرس فيه ولا تنبت، إلى مكان آخر قد غرست فيه وأنبتت وازدهرت، وبدا ظهور ثمارها اليانعة يبشِّر بمستقبلٍ مزدهر.
ما الذي كانت تمثِّله الهجرة يومئذٍ بالنِّسبة للإسلام ونبيِّه والمؤمنين به؟
لقد كانت الهجرة بمَثابة الرُّوح التي ستنفخ في جسد الدَّعوة لتحيا بعد جمود، وتنطلق بعد وقوف، وتنهض بعد كبواتٍ عظيمة.
لقد كانت تمثِّل الماءَ لهذا الجسد، ترويه وتُحييه وتقوِّيه، ثم تمدُّه بنشاط وقوَّة جديدين لاستكمال الهدف مِن بناء الدولة، وبث الدعوة، وتدبُّر أمر العالم وأستاذيته.
إنَّ الحكمة الأساس من الهجرة، هي أنَّ رسالة الإسلام جاءت لتنظم شؤون الناس في شتَّى مجالات الحياة؛ فهي دستور ومنهج شامل، لا بدَّ لتطبيقه من أمَّة وأرض تُقام فيها أحكام الله تعالى، والمسلمون لا يمكن أن يكون لهم وجود فِعليٌّ إلَّا إذا صَبغ الإسلامُ جميعَ مرافق حياتهم، وساد نظامه أرضَهم، وقامت فيها أحكامُه وآدابه، كما تقوم فيها شعائره، وتسُود فيها عقائده.
لكن إذا تعذَّر على المسلمين تطبيق أحكام دينهم، وإقامة نِظامه السياسيِّ والاجتماعي والاقتصادي، وآدابه الخلقية في بلدهم، وجَب عليهم الانتقالُ إلى البلد الذي يعمل فيه بأحكام الإسلام وآدابه؛ تكثيرًا لسَواد المسلمين، وإعزازًا لأمر الدِّين، واستعدادًا لنصره وتأييده بالنَّفس والنفيس، وإذا لم يكن للمسلمين بلَد تتوافر فيه هذه الشروط، وجب عليهم أن يَجتمعوا في بُقعة صالحة يقيمون فيها نظامَ الإسلام تامًّا كاملًا، ويتعاونون على حماية دعوته، واتِّخاذ الأسباب والوسائل لتحقيق رسالة الإسلام كما جاء بها صاحبُها صلوات الله عليه، وكما فهمها منه أصحابه والتابعون لهم بإحسان[14].
ومن موافقات الله السَّعيدة أن يأتي التجهيز والإعداد للهجرة في ذات الوقت الذي يستعدُّ فيه المشركون لإصابة الإسلام في مَقتل، لقد كانوا يأتَمِرون ليقتلوا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، أو يسجنوه، أو ينفوه إلى بلد آخر، وقد استقرَّ رأيهم الأخير على خيار القتل؛ لأنَّه يمثِّل الراحةَ الأبديَّة لهم من هواجسهم، وبدؤوا الإعدادَ لتنفيذ غرَضهم في يوم، ودبَّر الله لنبيِّه الخروج من بيته مهاجرًا في نفس ذلك اليوم.
هل سمِع المشركون بأمر الهجرة وبلَغَهم خبرُ الجماعة المبايعة مِن الأنصار؟ بالقطع لا؛ فإنَّ ذلك العمل العظيم مِن الحوار بين النبيِّ والأنصار جرت أحداثُه في ثلاث سنوات من السريَّة التامَّةِ.
لكنَّه تدبير الله الذي أنقذ نبيَّه مِن بين أيديهم، وأخرجه للهجرة ومفارقة مكَّة إلى وجهته الجديدة، حيث المستقرُّ والطمأنينة للدين والدولة.
أفرأيتَ إن نجح المشركون في هدفهم يومئذٍ فقَتَلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم؟ ماذا كان مصير الإسلام؟
أفرأيتَ إن منعوه مِن الهجرة وأوثقوه فسجنوه حتى لو لم يقتلوه؟
أفرأيت إن بقي الإسلام في مكَّة ولم يجد منفذًا أو مخرجًا في بلدة حوله أو بعيدًا عنه؟
أفرأيتَ إن نجح المشركون في تعقُّب النبي وأبي بكر يوم الهجرة فدلَّهم الشيطانُ أو دلَّتهم عقولُهم على مخبئهما في الغار فدخلوه عليهما؟
أفرأيتَ إن تمكَّن منهما سُراقة بن مالك، فأسَرَهما أو قتلهما؟
إنَّ كلَّ هذه السؤالات مَحض فرضيَّات أفترضُها على عَقل القارئ الكريم، وهي جائزة في حُكم العقل، لكنَّها كانت تكون كذلك في قَضاء الله لو كان ذلك الدِّين محض دعوة بشريَّة هُدي إليها محمدٌ مِن تلقاء عقله، أو مِن وَحْي تأمُّلاته، أو مِن دلالات التجارِب والمعرفة بأحوال الأمم السابقة، ولم يكن الإسلام في يومٍ كذلك قط ولن يكون؛ بل هو دين الله الحقُّ الذي نزَّله وهو يتولَّاه ويرعاه.
إذًا، فلن تجد قريشٌ رسولَ الله أبدًا ولو كان أمامها، ولن يتمكَّن سُراقة مِن رسول الله وصاحبه أبدًا ولو أدرَكَهما، ولن تمنع هِجرةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مكَّةُ كلُّها لو خرجت، بل الدنيا كلها لو اجتمعت!
وليس ذلك لمهارة رسول الله في الإعداد والتجهيز، ولا لدقَّتِه في الترتيب والتخطيط، ولا لإتقانه الشديد في ترتيب أوضاع المهاجرين في مكَّةَ مِن ناحية وأوضاع مناصريه في المدينة، ما من شيء من ذلك إلَّا ولا بدَّ منه، لكنَّه ليس السبب في النجاح؛ إنَّما السبب في النجاح أنَّ هذا الدِّين هو دين الله وأنه لن يضيِّعه، وأنَّ محمدًا رسولُ الله وأنَّ الله ناصره، فهل يفقه المسلمون الدروسَ المستفادة؟
♦ الدين دين الله، وهو ناصره بِنا أو بغيرنا.
♦ نحن لا ننصر الإسلامَ؛ بل ننصر أنفسَنا حين نجعلها في الحملة لنصرة الإسلام.
♦ الحملة علينا، والنَّصر من الله.
نسأل اللهَ تعالى أن يفقِّهَنا في ديننا، وأن يأخذ بأيدينا إليه أَخْذَ الكرام عليه، وأن يتقبَّلنا له مناصرين، وألا يستبدل بنا قومًا آخرين، آمين!