مشاهدة النسخة كاملة : قبسات زكية حول منبر خير البرية


حكاية ناي ♔
12-05-2023, 03:44 PM
درجاته ثلاثٌ، يرتقيها حبيبنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم؛ مُعلِّمًا ومُربِّيًا لخير جِيل في تاريخ الإسلام، كانت لكلماته صداها في قلوب أصحابه، يتلقَّون هَدْيَه، ويأتمرون بأمره، ويقفون عند نهيه؛ امتثالًا لقوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ ﴾ الآية [آل عمران: 31].

فينطلقون بعدها مناراتِ هدى في أنحاء المعمورة، رُسَل سلام ورحمة لدِين الرَّحمة؛ ليُخرجوا العِبادَ مِن عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد، في وقت تَيَهان البشرية في ظلام الجهل والشِّركِ والعبوديَّة للبشر والحجَر.
وقد كانت مواعظُ النبيِّ الكريم - وهو الذي أُوتي جوامع الكلم، وهو أفصح العرب - مناسبةً لكلِّ وقت ما بين بشارة ونذارة، ﴿ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الإسراء: 105]، وكان مِن هديه صلى الله عليه وسلم تخوُّلُ أصحابه بالموعظة؛ مخافة السَّآمة.


صور من وفاء النبي الكريم:
ومن وفاء النبيِّ الكريم تعظيمه للأماكن التي يكثر المكوث بها؛ ترغيبًا للصَّحابة ومَن بعدهم للاستنان بهديه والاقتداءِ بسنَّته؛ لِما يكون فيها من العلم والهدى والنور، ومِن ذلك دعاؤه لبلده طَيْبة الطيِّبة بالبركة، وسؤال الله تحبيبها إليه وللمؤمنين، وحثُّه على سكناها، ووعده مَن مات بها بالشفاعة والشهادة.

ومنها عَدُّ ما بين بيته ومنبره روضة مِن رياض الجنة، وهي مِن الأماكن التي ارتبط بها صلى الله عليه وسلم لوجودها بين بيته (وهو بيت عائشة رضي الله عنها) وبين منبره؛ فهي مكان صلاته وخطبه، ولقائه بالوفود والصحابة عمومًا.

ذكر بدء صناعة المنبر:
في بادئ الأمر كان عليه الصلاة والسلام يَخطب في أصحابه وهو قائم على قدميه، فإذا أطال الوقوفَ وأحسَّ بالجَهد والتَّعب، استند على إحدى سواري المسجد، التي كانت من جذوع النخل.

فلما كَثُر وفودُ الناس إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم وازداد عددُ الداخلين في دين الإسلام، كان مُقابِلهُ كثرة قيام النبي صلى الله عليه وسلم لهم ليعظهم ويعلِّمهم أمور دينهم؛ فبرزت هناك فِكرة المنبر، الذي تتحقَّق فيه فائدتان:
1- صعود النَّبي صلى الله عليه وسلم على مكان يستطيع جميعُ الصَّحابة المتحلِّقين حوله بأعدادهم الكبيرة مشاهدةَ النبيِّ والاستماع إليه بقلوبهم وأسماعهم.

2- وجود مقعد مُهيَّأ للجلوس عليه؛ إراحة لجسد حبيبنا الكريم صلى الله عليه وسلم، خصوصًا أنه صُنِعَ لما أسنَّ وشقَّ عليه طول القيام.
وإذا كانتِ النفوسُ كِبارًا ♦♦♦ تعِبتْ في مرادِها الأجسامُ


ذكر قصة بناء المنبر:
تعددتِ الرِّوايات الواردة عن بداية فكرة المنبر، والخلاصة منها أنَّ المنبر أصبحت الحاجةُ إليه ملحَّة بعد كثرة الوفود على النبي، الذي يتطلَّب كثرة وقوف النبي لتعليمهم أمور دينهم، في وقتٍ أصبح الوقوف يشق على حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك عندما أسنَّ.

قال البخاري: حَدَّثَنَا خَلَّادٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُالوَاحِدِ بنُ أَيْمَنَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ: أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ لِي غُلَامًا نَجَّارًا؟ قَالَ: ((إِنْ شِئْتِ))، فَعَمِلَتِ المِنْبَر؛ (رواه البخاري 1/ 97).

ذكر من أي شيء صُنِعَ المنبر النبوي:
تفيد الروايات الصَّحيحة أنَّ المنبر النبويَّ صُنع من خشب الطرفاء أو الأثل، أتى بها النجار، وسهل بن سعد، من منطقة الغابة القريبة من المدينة المنورة؛ [أبحاث ملتقى العقيق الخامس: بحث المنبر النبوي - تاريخه - وصفه - فضله، د/ أحمد بن محمد شعبان ص 424].

وعن أبي حازم بن دينارٍ، أنَّ رِجالًا أتَوا سَهل بنَ سَعدٍ السَّاعِديَّ، وقَد امتَرَوا في المنبَر ممَّ عودُه، فَسَألوه عَن ذَلك، فَقال: والله إنِّي لأعرفُ ممَّا هو، ولقَد رَأيتُه أوَّل يَومٍ وُضعَ، وأوَّل يَومٍ جَلَسَ عَليه رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، أرسل رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى فُلانةَ - امرَأةٍ من الأنصار قَد سمَّاها سهلٌ -: ((مُري غُلامك النَّجَّارَ، أن يَعمل لي أعوادًا، أجلسُ عليهنَّ إذا كلَّمتُ النَّاس))؛ فَأمرَته، فَعملها من طَرفاء الغابَة، ثُمَّ جاء بها، فَأرسلتْ إلى رَسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، فَأمرَ بها فَوُضعت ها هنا، ثُمَّ رَأيتُ رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم صلَّى عليها وكبَّرَ وهو عليها، ثُمَّ رَكع وهو عليها، ثُمَّ نزَل القَهقَرَى، فَسجَدَ في أصل المنبَر ثُمَّ عاد، فَلمَّا فَرَغَ أقبَل على النَّاس، فَقال: ((أيُّها النَّاسُ، إنَّما صَنعتُ هذا لتَأتَمُّوا ولتَعَلَّموا صَلاتي))؛ صحيح البخاري 2/ 917.


ذكر عدد درجات المنبر:
عدد درجات المنبر ثلاث درجات - درجتان ومقعد - أرسل رَسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى امرَأةٍ - قال أبو حازمٍ: إنَّه ليُسمِّيها يومئذٍ -: ((انظُري غُلامك النَّجَّارَ، يعمل لي أعوادًا أُكلِّمُ النَّاس عليها))؛ فَعمل هذه الثَّلاثَ دَرَجات؛ الحديث [رواه مسلم (1/ 386)].

خشبة تحنُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وأما الجِذع الذي ضَرَب أروعَ الأمثلة في حبِّه؛ فلمَّا فارق النبيُّ صلى الله عليه وسلم الجذعَ، وعمدَ إلى الذي صُنع له، جَزِع الجذعُ فحَنَّ كما تحن الناقة حين فارقه النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
عن ابن عمرَ رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطُبُ إلى جذع، فلما اتَّخَذ المنبَرَ تَحَوَّل إليه، فحَنَّ الجذع، فأتاه فمسح يدَه عليه؛ (مختصر صحيح البخاري 2/ 474).

وقد كان جابر بن عبدالله رضي الله عنهما يقولُ: "كان المسجدُ مسقوفًا على جُذوع من نخل، فَكان النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم إذا خَطَبَ يقومُ إلى جذع منها، فَلمَّا صُنع له المنبَرُ وكان عليه، فَسمعنا لذَلك الجذعِ صَوتًا كصَوت العشار، حتى جاء النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم فَوضَع يدَه عليها فَسكنت"؛ البخاري (4/ 195).

(العشار) جمع عشراء، وهي النَّاقة التي أتى على حملها عشرة أشهر.
فكان الحسَن إذا حدَّث بهذا الحديث بكى، ثم قال: يا عبادَ الله، الخشبة تحنُّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شوقًا إليه؛ لِمكانه من الله عز وجل، فأنتم أحق أن تَشتاقوا إلى لقائه!

ذكر ما آل إليه الجذعُ:
بعد أن تمَّ عمل المنبر النَّبوي، حنَّ الجذع، وكيف لا يحنُّ ولم يعد يجد مسَّ يد النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان يتَّكئ عليه؟! وبكاؤه هذا يعود لاستغناء النبي عنه بالمنبر، ولخشيته مِن فقدان صَوت الذِّكر؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما وضع يده عليه عندما جعل يئن: ((بَكت على ما كانت تَسمعُ من الذِّكر))؛ (رواه البخاري 3/ 61).

وقد تعدَّدتِ الروايات عن الجذع وعن أمره وماذا حصل له:
• قال ابن أبي الزناد: لم يزل الجِذعُ على حاله زمان رسول الله وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما هدم عثمان رضي الله عنه المسجدَ اختُلف في الجذع:
فمنهم مَن قال: أخذه أبيُّ بنُ كعب فكان عنده حتى أكلَتْه الأرضة، ومنهم مَن قال: دُفن في موضعه، وكان الجذع في موضع الأسطوانة المخلقة التي عن يَمين محراب النبيِّ صلى الله عليه وسلم عند الصندوق؛ [الدرة الثمينة في أخبار المدينة (1/ 95)].

ذكر فضائل المنبر:
1 - روى الإمام أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((منبري على تُرعة من تُرع الجنَّة)).
والتُّرعة: قيل: المكان المرتفع، أو معناه: على باب من أبواب الجنَّة.

2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما بين بيتي ومنبري روضةٌ مِن رياض الجنَّة، ومنبري على حوضي))؛ متفقٌ عليه.
ومعناه: أنَّ منبره يُنصب على حوضه.
وقيل: إنَّ حوضه في المحشر فوق مكان منبره في الأرض.

3 - عن أُم سلمةَ رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنَّ قوائم منبري هذا رواتب في الجنة))؛ رواه أحمد والنسائي واللفظ له.
ومعنى رواتب: دائمة ثابتة.

ومن الأحكام الفقهية عند المنبر: تعظيم إثم الحلف كذبًا عنده باللعن والنار:
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((مَن حلفَ على يمين آثمة عند منبَري هذا، فليتَبوَّأ مقعده من النار، ولو على سواك أخضَر)).
[رواه ابن ماجه واللَّفظ له، وابن حبان في "صحيحه"، لم يذكر السواك، (صحيح الترغيب والترهيب (2/ 371)].

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَن حلف عند منبري هذا بيمين كاذبة يستحلُّ بها مالَ امرئ مسلم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبلُ الله منه عدلًا ولا صرفًا))؛ رواه النسائي.

ذكر المنبر عبر التاريخ:
1 - كان المنبر على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الرَّاشدين يتكوَّن من درجتين ومقعد، كما سبق ذلك.

2 - لما انتقل الأمر إلى الدولة الأمويَّة، زاد معاويةُ بن أبي سفيان في المنبر فجعله ست درجات ومقعدًا.

3 - ولما انتقل الأمر إلى الدولة العباسيَّة، قام بعض الخلفاء بتجديد المنبر نظرًا لتقادم صناعته.

4 - في عام 654هـ احترق المسجدُ النبويُّ الشريف واحترق المنبر أيضًا، فأرسل الملك المظفر صاحب اليمن منبرًا جديدًا له رمَّانتان، فنصب في موضع المنبر النبويِّ الشريف، وبقي عشر سنوات يُخطب عليه.

5 - وفي سنة 664هـ أرسل الظَّاهر بيبرس البندقداري منبرًا جديدًا، فقلع منبر صاحب اليمن، ونصب منبر الظاهر محلَّه، وخُطب عليه حتى سنة 797هـ؛ حيث بدأ فيه أكل الأرضة.

6 - في عام 797هـ أرسل الظاهر برقوق منبرًا جديدًا، حلَّ محل منبر الظاهر بيبرس.

7 - في عام 820 هـ أرسل المؤيد شيخ منبرًا جديدًا، حلَّ محل منبر الظاهر برقوق.

8 - في عام 886 هـ احترق المسجد النبوي الشريف، فاحترق منبر المؤيد شيخ معه، فبنى أهلُ المدينة منبرًا بالآجُرِّ طلي بالنورة، ووضع في محله ظنًّا منهم صواب وضعه.

9 - في عام 888 هـ أرسل الأشرف قايتباي منبرًا من الرخام، فأزيل المنبر الذي بناه أهلُ المدينة، ووُضع مكانه.
[موقع رئاسة الحرمين].

ذكر منبر السلطان مراد، وهو المنبر الحالي في المسجد النبوي:
10 - في عام 998 هـ أرسل السلطان مراد العثماني منبرًا مصنوعًا مِن الرخام جاء في غاية الإبداع، ودقَّة صناعته، وروعة زخرفته ونقوشه، وطُلي بماء الذَّهب، يتكوَّن من اثنتي عشرة درجة؛ ثلاث خارج الباب، وتسعٌ داخله، تعلوه قُبةٌ هرميةٌ لطيفة، محمولة على أربعة أعمدة مضلعة رشيقة من المرمر، وبابه مِن الخشب القرو، يتكوَّن من مصراعين مزخرفين بزخارف هندسيَّة إسلامية، مدهون باللون اللوزي الجميل، كتب فوقه الأبيات التالية:
أرسل السلطان مراد بن سليم https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
مستزيدًا خير زاد للمعادِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

دام في أوْجِ العلا سلطانُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
آمِنًا في ظلِّه خيرُ البلادِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

نحو روضِ المصطفى صلَّى عليه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
ربُّنا الهادي به كلَّ العبادِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

منبرًا قد أُسِّست أركانُه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
بالهدى واليُمنِ مِن صدق الفؤادِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

منبرًا يعلي الهدى إعلاؤه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
دام منصوبًا لأعلام الرَّشادِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif

قال سعدٌ ملهمًا تاريخه https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif
منبرًا عمّر سلطان مرادِ https://www.alukah.net/Images/alukah30/space.gif



وفوق شرفات هنَّ آية في الروعة، كتب في وسطها: "لا إله إلا الله، محمد رسول الله".
وحاليًّا يتم العناية به عناية فائقة، ووُضع عليه ورق شفَّاف لحمايته من اللَّمس؛ حفاظًا عليه، وليبقى شاهدًا على دقَّة الفن الإسلامي، وأحد أعاجيبه الباقية.

وأما منبر قايتباي، فقد نُقل إلى مسجد قباء، وبقي فيه حتى عام 1408؛ حيث تمت التوسعة الكبرى لمسجد قباء، فاحتفظ به في مكتبة الملك عبدالعزيز، ووُضع منبر السلطان مراد مكانه، وهو الموجود في المسجد النَّبوي الشريف الآن.
(أبحاث ملتقى العقيق الخامس: بحث المنبر النبوي - تاريخه - وصفه - فضله د/ أحمد بن محمد شعبان).

الخاتمة:
هذا منبر نبيِّ الهدى، المكان الذي كانت أنوارُ النبوَّة تعتليه، والرحمة الربَّانية تحيط به، فعليه كان يَصعد أطهرُ جسد، وفيه أُلقيتْ أعظم المواعظ والخطَب، التي هدَت قلوبًا، وشرحت صدورًا، وأصلحتْ عقولًا، وأبكت عيونًا، ولا زال مكان هذا المنبر النَّبوي مشعلًا للعلم ومنارًا للفِكر على مرِّ القرون.

هذا، واللهَ تعالى أسأل أن يوفِّقنا لما يحبُّه ويرضاه مِن القول والعمل، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على قدوتنا وحبيبِنا النبيِّ الأكرم، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربِّ العالمين.

عاشق السهر
12-05-2023, 03:47 PM
جزاك الله خيرا
وجعلة فى ميزان حسناتك