مشاهدة النسخة كاملة : أسباب الهزيمة وتغيير الرؤية البصرية لدى فريقي بدر


حكاية ناي ♔
12-05-2023, 03:49 PM
لعل من أسباب هزيمة الكفار أنهم شاقُّوا الله ورسوله، وكفروا بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم أرادوا قتل المسلمين والقضاء على الدعوة الاسلامية (ظلمًا وعدوانًا)، وقد أراد الله تعالى أن يعز الإسلام وأهله، وأن يذل الشرك وأهله، فهيَّأ الأسباب ليتم هذا اللقاء وينصر عباده المؤمنين، ويهزم الشرك والمشركين، ويُضعف كيدهم.

وإذا كانت الرؤيا المنامية التي رآها الرسول صلى الله عليه وسلم سببًا من أسباب النصر؛ لما كان لها من عظيم الأثر في تحريض المسلمين وتشجيعهم على لقاء المشركين، وتثبيتًا لقلوبهم قبل المعركة - فإن الرؤية البصرية لدي الفريقين كان لها عظيم الأثر أيضًا في تحريض كلا الفريقين، ولكي يساق فريق المشركين إلى القتل والهزيمة، وليسير فريق المسلمين إلى النصر، بعد أن تغيرت موازين القوى واختلفت مقاييس البصر[1].

فكان تغيير الرؤية البصرية آية بيِّنة ومعجزة، كان من شأنها أن تم هذا اللقاء حسب مشيئته وتدبيره؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾ [الأنفال: 44].

والرؤية هنا رؤية البصر، أما مكانها: فهو في ساحة المعركة، ووقتها (إذ التقيتم)؛ أي: عند بروز الفريقين وجهًا لوجه، وساعة التقاء الصفوف، وأما طريقة وكيفية التقليل والتكثير، فهي من أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله، فالتكبير والتصغير لحجم الأشياء، ورؤية القليل كثير والكثير قليل، وتغيير موازين ومقاييس الحجم والكم والكيف، كان بتصريف الله وحده وتدبيره وقدرته ومشيئته، وكان تغيير الرؤية البصرية أيضًا بمثابة استدراج وإغراء للفريقين؛ كي يتم اللقاء ﴿ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ﴾، وهو تحقُّق اللقاء، ثم النصر للمؤمنين والهزيمة للكافرين، فبعد أن تم اللقاء والتحم الفريقان، هل ظل الأمر كما هو أم تغير الحال؟ الحقيقة أن الحال تغيرت، وعظم المسلمون وكثروا في عيون المشركين، فألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب، فارتبكوا وضعفت عزيمتهم، وانهارت معنوياتهم، فقد وجدوا أنهم في مواجهة قوتين؛ الأولى: قوة الفئة المؤمنة، وهي في أعلى وأكمل قوتها، والثانية: قوة الملائكة التي تقاتل مع المسلمين ... ويشير القرآن الكريم في غير سورة الأنفال إلى هذا المعني في قولة تعالى: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [آل عمران: 13].

(ومعني هذا أنه تعالى أغرى كلا من الفريقين بالآخر، وقلله في عينه ليطمع فيه، وذلك عند المواجهة، فلما التحم القتال وأيَّد الله المؤمنين بألف من الملائكة مردفين، بقي حزب الكفار يرى حزب الإيمان ضعفيه؛ كما قال تعالى: ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ﴾ [آل عمران: 13] [2]، ويقول القرطبي رحمه الله في قوله تعالى: ﴿ وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ﴾: (كان هذا في ابتداء القتال، حتى قال أبو جهل في ذلك اليوم: إنما هم أكلة جزور - أي: هم قليل يُشبعهم لحمُ ناقة - خذوهم أخذًا، واربطوهم بالحبال، فلما أخذوا في القتال عظُم المسلمون في أعينهم، فكثروا؛ كما قال تعالى: ﴿ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ﴾ [آل عمران: 13] [3].

ومن هنا فقد تجلت القدرة الإلهية فيما يأتي:
1- الرؤيا المنامية للرسول صلى الله عليه وسلم وإخباره بها لأصحابه، فكانت تثبيتًا وتقوية لعزائمهم ورفعًا لمعنوياتهم.
2- الرؤية العينية للفريقين، وتدخل التصريف الإلهي في التقليل والتكثير؛ ليغري كل فريق بالآخر كي يتم اللقاء!
3- تغيير الرؤية البصرية بعد الالتحام، لكن لدى فريق المشركين فقط، ولعل هذا هو تفسير كيفية إلقاء الرعب في قلوب المشركين في قوله تعالى: ﴿ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ﴾ [الأنفال: 12]، فقد عظُم المسلمون في أعين المشركين، وقد قاتلت الملائكة مع المسلمين، فكان هناك قتلى المسلمين وقتلى الملائكة؛ أي: مَن قُتِل من المشركين بأيدي المسلمين، ومَن قُتِل من المشركين بواسطة الملائكة؛ جاء في فتح الباري (باب شهود الملائكة بدرًا)، قال ابن حجر: "كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة من قتلى الناس، بضربِ فوق الأعناق، وعلى البنان مثل وَسْم النار"[4].

ولعل التغيير في موازين القوى كان وراء قتل أبي جهل؛ إذ قتله غلام، "كما قتل داود جالوت، فقد كان جالوت قائدًا قويًّا متجبرًا، فقتله الله تعالى على يد داود عليه السلام، وكان ما يزال صغيرًا، قتله بالمقلاع، وبطريقة غير مألوفة"[5].

روى البخاري رحمة الله تعالى، قال: قال عبدالرحمن بن عوف
: إني لفي الصف يوم بدر؛ إذ التفتُّ، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سرًّا من صاحبه: يا عم، أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي، وما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، فقال لي الآخر سرًّا من صاحبه مثله، قال: فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدَّا عليه مثل الصقرين، حتى ضرباه وهما ابنا عَفراء) [6]، وقد ادعى كل منهما أنه هو الذى قتل أبا جهل، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: (كلاكما قتله، وهما معاذ بن عمر بن الجموح ومعاذ بن عفراء) [7].

لقد كان تغيير الرؤية البصرية لدى الفريقين بمثابة حرب نفسية في صالح المسلمين، وفي غير صالح المشركين؛ فلما رأى المسلمون المشركين قلة، كان ذلك تحفيزًا وتحريضًا لهم على لقاء المشركين وقتلهم وأسرهم .. كما كانت رؤية المشركين للمسلمين قلة تحفيزًا وتحريضًا للمشركين على لقاء المسلمين.

والحرب النفسية تعد من أشد أنواع الأسلحة تأثيرًا في سير الأعمال القتالية، وفي تكوين الإرادة القتالية عند الجنود، وفي تحقيق النصر أو الهزيمة؛ يقول اللواء الركن محمد جمال الدين على محفوظ
: "فإذا كانت أعمال القتال باستخدام الأسلحة تقوم بتدمير قوات العدو ومعداته، وإذا كانت الحرب الاقتصادية تحرمه من المواد الحيوية، فإن الحرب النفسية تجرد العدو من أثمن ما لديه، وهو "إرادته القتالية"، وهكذا تعتبر الحرب النفسية أخطر أنواع الحروب؛ لأنها تستهدف في المقاتل عقله وتفكيره وقلبه؛ لكي تُحطم رُوحه المعنوية، وتقتضي على إرادة القتال لديه، وتقوده بالتالي نحو الهزيمة..) [8].

وبهذا فقد وضع الإسلام قواعد وفنون الحرب بأشكالها المتنوعة والتي يعمل بها حتى الآن.
ومن هنا فقد تبيَّن أن الله تعالى قد هيَّأ أسباب الهزيمة لتلك الفئة المشركة الظالمة المتغطرسة، التي حارَبت الدعوة منذ أيامها الأولى، ومنذ أن جهر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وصدت الناس عن دين الله، وأصرت على قتال المسلمين في كِيانهم الجديد، والاعتداء عليهم، فكان جزاؤهم الخسران والهزيمة.

صمتى لغتى
12-05-2023, 04:07 PM
جزاك الله خير
وأحسن إليك فيما قدمت
دمت برضى الله وإحسانه وفضله