حكاية ناي ♔
12-07-2023, 02:33 PM
(470 - 561 هـ / 1077 - 1165 م)، هو أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله الحسني الهاشمي، يعرف ويلقب في التراث المغاربي بالشيخ بوعلام الجيلاني، وبالمشرق عبد القادر الجيلاني، ويعرف أيضا ب«سلطان الأولياء»، وهو إمام صوفي وفقيه حنبلي شافعي،
لقبه أتباعه بـ«باز الله الأشهب» و«تاج العارفين» و«محيي الدين» و«قطب بغداد». وإليه تنتسب الطريقة القادرية الصوفية.
نسبه وأسرته
أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله بن يحيى بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
أنجب عبد القادر عدداً كبيراً من الأولاد فقد بلغ 49 ولداً (27 ذكراً و22 أنثى) إلا أنه فقد في حياته 14 ذكراً و21 فتاةً، فصبر على ذلك صبر الكرام، وقد أعقب من 13 ذكراً عنى بتربيتهم وتهذيبهم على يديه وعُرف منهم:
عبد الله: أكبر أولاد الشيخ عبد القادر، سمع من ابن الحصين وأبي غالب بن البناء، روى الحديث، ولد في سنة 508 هـ / 1114 م وتوفي في صفر سنة 587 هـ / مارس 1191.
عبد الوهاب: وكان في طليعة أولاده، والذي درس بمدرسة والده في حياته نيابة عنه، وبعد والده وعظ وأفتى ودرس، وكان حسن الكلام في مسائل الخلاف فصيحاً ذا دعابة وكياسة، ومروءة وسخاء، وقد جعله الخليفة العباسي أحمد الناصر لدين الله على المظالم فكان يوصل حوائج الناس اليه، وقد توفي سنة 573 هـ ودفن في رباط والده في الحلبة.
عيسى: الذي وعظ وأفتى وصنف مصنفات منها كتاب «جواهر الأسرار ولطائف الأنوار» في علم الصوفية، قدم مصر وحدث فيها ووعظ وتخرج به من أهلها غير قليل من الفقهاء، وتوفي فيها سنة 573 هـ.
عبد العزيز: وكان عالماً متواضعاً، وعظ ودرّس، وخرج على يديه كثير من العلماء، وكان قد غزا الصليبين في عسقلان وزار مدينة القدس ورحل جبال الحيال ومنها الجبل المعروف باسمه جبل عبد العزيز، وتوفي فيها سنة 602 هـ.
عبد الجبار: تفقه على والده وسمع منه وكان ذا كتابة حسنة، سلك سبيل الصوفية، ودفن برباط والده في الحلبة.
عبد الرزاق: وكان حافظا متقنا حسن المعرفة بالحديث فقيها على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ورعا منقطعاً في منزله عن الناس، لا يخرج إلا في الجمعات، توفي سنة 603 هـ، ودفن بباب الحرب في بغداد.
إبراهيم: تفقه على يد والده وسمع منه ورحل إلى واسط في العراق، وتوفي بها سنة 592 هـ.
يحيى: وأمه جارية حبشية، كان فقيهاً محدثاً انتفع الناس به، ورحل إلى مصر ثم عاد إلى بغداد وتوفي فيها سنة 600 هـ، ودفن عند أخيه الشيخ عبد الوهاب برباط والده في الحلبة.
موسى: تفقه على والده وسمع منه ورحل إلى دمشق وحدّث فيها واستوطنها، ثم رحل إلى مصر وعاد إلى دمشق وتوفي فيها وهو آخر من مات من أولاده.
صالح: وبه يكنى في أغلب البلدان وذكرته أغلب المصادر المتخصصة في سيرته وهو مدفون قرب والده في بغداد.
محمد: تفقه على يد والده وسمع منه ومن ابن البناء وأبي الوقت وغيرهم، حدث في بغداد، وتوفي فيها في ذو القعدة سنة 600 هـ، ودفن بمقبرة الحلبة.
أمة الجبار: هي ابنة الشيخ عبد القادر وتزوجت ابن الشيخ عبد الرحمن الطفسونجي الأسدي.
مولده ونشأته
ولد في 11 ربيع الثاني سنة 470 هـ/ 1077 م، وهناك خلاف في محل ولادتهِ، حيث توجد روايات متعددة أهمها القول بولادتهِ في جيلان في شمال بلاد فارس أو طبرستان على ضفاف بحر قزوين، والقول الآخر أنه ولد في جيلان العراق وهي قرية تاريخية قرب المدائن التي تبعد حوالي 40 كيلو متر جنوب بغداد، وهو القول الذي تعتمده الأسرة الكيلانية ببغداد، وقد نشأ عبد القادر في أسرة وصفتها المصادر بالصالحة، فقد كان والده أبو صالح موسى معروفاً بالزهد، وكان شعاره مجاهدة النفس وتزكيتها بالأعمال الصالحة، ولهذا كان لقبهُ «محب الجهاد».
الأحوال في بغداد
مبنى الحضرة القادرية في عام 1914
كان عبد القادر الجيلاني قد نال قسطاً من علوم الشريعة في حداثة سنه على أيدي أفراد من أسرته، ولمتابعة طلبه للعلم رحل إلى بغداد ودخلها سنة 488 هـ الموافق 1095م وعمره ثمانية عشر عاماً
في عهد الخليفة العباسي المستظهر بالله. وبعد أن استقر في بغداد انتسب إلى مدرسة الشيخ أبو سعيد المخرمي التي كانت تقع في حارة باب الأزج، في أقصى الشرق من جانب الرصافة، وتسمى الآن محلة باب الشيخ.
وكان العهد الذي قدم فيه الشيخ الجيلاني إلى بغداد تسوده الفوضى التي عمت كافة أنحاء الدولة العباسية، حيث كان الصليبيون يهاجمون ثغور الشام، وقد تمكنوا من الاستيلاء على أنطاكية وبيت المقدس وقتلوا فيهما خلقا كثيرا من المسلمين ونهبوا أموالاً كثيرة. وكان السلطان التركي «بركياروق» قد زحف بجيش كبير يقصد بغداد ليرغم الخليفة على عزل وزيره «ابن جهير» فاستنجد الخليفة بالسلطان السلجوقي «محمد بن ملكشاه» ودارت بين السلطانين التركي والسلجوقي معارك عديدة كانت الحرب فيها سجالا، وكلما انتصر أحدهما على الآخر كانت خطبة يوم الجمعة تعقد باسمه بعد اسم الخليفة.
وكانت فرقة الباطنية قد نشطت في مؤامراتها السرية واستطاعت أن تقضي على عدد كبير من أمراء المسلمين وقادتهم فجهز السلطان السلجوقي جيشاً كبيراً سار به إلى إيران فحاصر قلعة «أصفهان» التي كانت مقراً لفرقة الباطنية وبعد حصار شديد استسلم أهل القلعة فاستولى عليها السلطان وقتل من فيها من المتمردين، وكان «صدقة بن مزيد» من أمراء بني مزيد من قبيلة بني أسد قد خرج بجيش من العرب والأكراد يريد الاستيلاء على بغداد فتصدى له السلطان السلجوقي بجيش كبير من السلاجقة فتغلب عليه. وكان المجرمون وغيرهم من العاطلين والأشقياء ينتهزون فرصة انشغال السلاطين بالقتال فيعبثون بالأمن في المدن يقتلون الناس ويسلبون أموالهم فإذا عاد السلاطين من القتال انشغلوا بتأديب المجرمين.
الأحوال الاجتماعية
لقد تدهورت الحياة الاجتماعية في القرن السادس الهجري بسبب الفساد السياسي الذي استنزف القدرات الاجتماعية والمادية والمعنوية، كما يرجع الأمر إلى الفتن المختلفة وإلى الأزمات الاقتصادية وانتشار الأوبئة، وهذه العوامل كلها ساهمت في تدمير البنيات الاجتماعية المادية والمعنوية التي كانت من مقومات القوة والنماء، لذلك خربت المدن وانقطعت الطرق وانتشرت السرقة، ولم تسلم منها حتى قوافل الحجاج، حيث يغار عليها جهارا نهارا، لذلك ساءت العلاقات الاجتماعية المختلفة. ويشهد على ذلك ما وقع خلال هذه السنوات:
ففي سنة 538 هـ زاد أمر العيّارين
بسبب ابن الوزير وقاورد بك اللذين كان لهما نصيب مما يأخذه العيارون.وفي سنة 552 هـ أغار الجنود الخراسانية على الحجاج الخراسانية وقتلوا منهم نفرا، وسلبوهم أموالهم وأمتعتهم، ولما تقدموا في المسير قليلا، هاجمتهم الإسماعيلية، فقتلوهم إلا من هرب، وقتل منهم كثير من العلماء والزهاد، وتلك مصيبة عظيمة حلت بالحُجاج وبالأمن العام في ذلك الزمان.وفي سنة 556 هـ اندلعت فتنة أخرى ببغداد بسبب ابن هبيرة والغلمان والفقهاء، حيث أمر الخليفة بضرب الفقهاء وتأديبهم، فمضى إليهم أستاذ الدار وعاقبهم.وفي سنة 581 هـ وقعت فتنة بين التركمان والأكراد في بديار الجزيرة والموصل، قتل فيها خلق كثير، ونهبت الأموال ودامت سنين عديدة، حيث انقطعت فيها الطرق بين بلاد كثيرة، من الشام إلى أذربيجان.وفي مطلع القرن السابع الهجري، تواصلت الفتن بين أهل البلاد المختلفة، وكذلك بين أهل الأحياء في المدينة الواحدة، مثل فتنة ببغداد بين أهل باب الأزج وأهل المأمونية، وفتنة بهراة بين أهل السوقين الحدادين والصفارين. وأما الأزمات الاقتصادية فهي لا تعد ولا تحصى، وقد أدت إلى الغلاء الشديد في البلاد الإسلامية كافة، ولم يسلم منها بلد، وقد أدت إلى المجاعة في أحيان كثيرة، فعمت هذه الأزمات البلاد الإسلامية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، مثل الذي وقع سنة 543 هـ، وهي سنة ولادة الرازي، حيث عم الغلاء جميع البلاد من خراسان إلى العراق وإلى الشام وإلى بلاد أفريقيا.وفي سنة 574 هـ اشتد الغلاء أيضا وعم سائر البلاد ودام إلى السنة التالية. وقد دفعت هذه الأزمات الناس إلى أكل الدواب المحرمة والمكروهة، وهناك روايات كثيرة في كتب التاريخ تتحدث عن أكل الآدميين!
الأحوال الطبيعية
ومن الكوارث الطبيعية التي شهدها هذا القرن الزلازل والجفاف والفيضانات، فالزلازل لم تتوقف طوال هذا القرن، وقد اهتم المؤرخون بذكرها ووصف أحوالها وآثارها، وكانت تضرب البلاد الكثيرة وتحدث أضرارا كبيرة في البنايات سواء كانت منازل أو مرافق عامة كالجسور وغيرها. وكذلك كارثة الجفاف التي كانت آثارها وخيمة على معيشة ناس واستقرارهم، لأن انقطاع الأمطار أدى إلى قلة الغلة والمحاصيل ثم إلى الغلاء وإلى ارتحال الناس عن الديار والبلاد، وإلى موت الحيوانات التي هي من المصادر الأساسية لمعاش الإنسان، وقد أسهم ذلك كله في إضعاف المسيرة الحضارية للمسلمين.
الخلافات الفكرية
كان الصراع الفكري على أشده في هذا القرن بين الفرق الكلامية وبينها وبين المذاهب الفقهية، وما وقع في هذا القرن إنما هو استمرار للاختلاف القديم في مسائل السياسة والعقائد، مع العلم أن الاختلاف الفكري في حد ذاته ليس نقمة بكامله، ولا هو ميزة خاصة بالثقافة الإسلامية، لأن جميع الديانات الأخرى عرفت أشكالا وأنواعا من الاختلافات في الأصول والفروع معا. وقد نشأ علم الكلام من الاختلاف في الأصول، ونشأ علم الفقه من الاختلاف في الفروع، وكان الاختلاف في الأصول في أربع مسائل كبرى: أولا: الصفات والتوحيد، ثانيا: القضاء والقدر، ثالثا: الوعد والوعيد، ورابعا: النبوة والإمامة. ويتميز القرن السادس الهجري من الناحية الفكرية باتساع موضوع التفكير في العلوم الشرعية، وكذلك الحال في العلوم الأخرى، كالعلوم العقلية والطبيعية والاجتماعية، كما تتميز بكثرة الإنتاج في جميع تلك العلوم، وبنمو سلطة الفرق والمذاهب في ضم وتجنيد الناس في صفوفها. أما كثرة العلماء المناصرين للفرق والمذاهب فقد عمقت مجال الصراع الفكري وأعطته حماسا كبيرا، ولم يكن الهدف عندهم إلا الانتصار على الخصم. ويتميز هذا القرن أيضا بوجود كثرة الزهاد والمتصوفة، وهذا يعني أن المسلمين صاروا يندفعون إلى البحث عن الخلاص الفردي لا الجماعي، اندفاعا جعل الحياة الاجتماعية مشلولة، وفتحوا بذلك بابا على مصراعيه أمام اليهود والنصارى، الذين تغلغلوا في وظائف الدولة، وشؤون الحياة المختلفة، وهذا من الأمور التي ساهمت في انتشار الأهواء والبدع. ويشعر الخلفاء والأمراء في بعض الأحيان بهذا التغلغل، فيأمرون بعزل اليهود والنصارى من دواوين الدولة، مثلما أمر الخليفة العباسي الناصر لدين الله أن لا يستخدم في الديوان يهودي أو نصراني، وأن لا يستعان بهم مهما كانت الحاجة ملحة. مع العلم أن هذه الأوامر النهاية عن استخدام اليهود قليلة وتعد على الأصابع. ونتيجة لسوء الأحوال الاجتماعية سياسيا واقتصاديا مال الناس إلى التقليد ورفضوا الاجتهاد والتجديد، لأن أفهامهم صماء وعقولهم جدباء في بعض العهود كهذا العهد، وكان ذلك كله من علامات بداية الانحطاط. وأدى الصراع الفكري بدوره إلى إثارة فتن دموية في بعض الأحيان، مثل الفتنة التي نشبت بين العلويين الشيعة والشافعية في سنة 554 هـ باستراباذ وفتنة أخرى سنة 560 هـ في أصفهان بسبب التعصب للمذاهب وهي فتنة قتل فيها كثير من الناس. وهذا أما محاكمات العلماء تعسفا وطردهم من البلاد أو حملهم على الخروج منها أو تحريض العامة عليهم أو حرق كتبهم، فلم يسلم منها إلا القليل، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، محاكمة الركن عبد السلام بن عبد الوهاب الكيلاني (548-611 هـ) الذي كان حنبليا، عارفا بالمنطق والفلسفة، وقد اتهم بأقوال الفلاسفة، لذلك وقعت له محنة في عهد الوزير ابن يونس فأحرقت مكتبته في رحبة ببغداد، وخرجت مدرسة جده من يده ويد أبيه عبد الوهاب، وفوضت إلى أبي الفرج ابن الجوزي (ت 597 هـ)، وأدخل السجن مدة ثم أفرج عنه سنة 589 هـ لما قبض على الوزير ابن يونس فرد إليه ما سلب منه. وهناك خروج سيف الدين الآمدي (551-631 هـ) من العراق إلى الشام ثم إلى مصر سنة 592 هـ لأنه متهم بفساد العقيدة ومذهب الفلاسفة لما أظهر من علوم الأوائل، ومرة أخرى انتقل خفية من مصر إلى الشام ولم يكن حظه سعيدا هنالك، حيث عزل عن التدريس وأقام مختفيا في بيته حتى توفى. هذا في المشرق وأما في المغرب فقد عاش ابن رشد (520-595 هـ) محنة شديدة فأحرقت كتبه وأخرج من قرطبة. وأما فخر الدين الرازي فطرد من بلاد كثيرة بسبب آرائه الفلسلفية والدينية لأنها ليست متحجرة ولا مقلدة، كما كان حال الفقهاء وأشباه العلماء في عصره، وإنما كان مجتهدا ومجددا في العلوم العقلية والنقلية معا، وكان جريئا ومدافعا بقوة عن آرائه. يذكر المؤرخين أن أعظم فتنة وقعت له سنة 595 هـ بهراة، وقد قيل: لما بنى ابن أخت غياث الدين مدرسة له، نزل ذلك كالصاعقة على الكرامية، وفي راوية أخرى: أن الفتنة حصلت بسبب مناظرة الرازي لابن القدوة، وهو مقدم الكرامية ولم تخمد إلا بإخراج الرازي من هراة.
نلاحظ مما سبق أن عصر الجيلاني يتميز باضمحلال الخلافة العباسية، وتفكك السلطة المركزية إلى دول كثيرة، حيث تتناحر هذه الدول على استقطاب الخلفاء، ويدخلون في حروب فيما بينهم وبين الخليفة، مما أثر سلبا على جميع ميادين الحياة. بالإضافة إلى ذلك فهذا العصر لم ينج من الكوارث الطبيعية الكثيرة كزلازل والجفاف التي اهتم المؤرخون بذكرها وإحصاء الخسائر المترتبة عنها وآثارها على المسيرة الحضارية. كما يتميز أيضا بظهور العلماء الأعلام في كل علم وفن، ويمكن الإشارة إلى أهم الظواهر التي سادت هذا العصر، وإلى العوامل التي كانت سببا في الاضمحلال والتقوقع، وهي بإيجاز:
هذا العصر مليء بالأحداث المثيرة والعجيبة في الميادين المختلفة.
هو عصر الاضطرابات السياسية والفكرية والدينية.
المغول يطرقون الحدود الشرقية، لضعف ملوك وسلاطين المسلمين بسبب تناحرهم فيما بينهم.
الحروب الصليبية تهدد البلاد الإسلامية غربا وكانت المراكز الحضارية مسرحا لها.
ملوك المسلمين يستعينون بالأجانب - أي هؤلاء الأعداء من كل جنس ولون - في الحروب التي تقع بينهم.
البناء الاجتماعي هش وضعيف.
الفرق الكلامية والمذاهب الفقهية يشتد الصراع بينها جميعا.
الفكر يزدهر ويتنوع بظهور العلماء الأعلام كالجيلاني وابن الجوزي.
وفي غمرة هذه الفوضى كان الشيخ عبد القادر يطلب العلم في بغداد، وتفقه على مجموعة من شيوخ الحنابلة ومن بينهم الشيخ أبوسعيد المُخَرِمي، فبرع في المذهب والخلاف والأصول وقرأ الأدب وسمع الحديث على كبار المحدثين. وقد أمضى ثلاثين عاما يدرس فيها علوم الشريعة أصولها وفروعها.
إلى مدينة بعقوبة
وللشيخ عبد القادر، سفرة ثانية في حياته وهي من بغداد إلى مدينة بعقوبة، بقصد الكسب وقد وصفها بقوله: كان جماعة من أهل بغداد يشتغلون بالفقه فاذا كان أيام الغلة يخرجون إلى الريف يطلبون شيئا من الغلة فقالوا لي يوما أخرج معنا إلى بعقوبة نحصل منها شيئا.... فخرجت معهم وكان في بعقوبة رجل صالح يقال له الشريف البعقوبي فمضيت لأزوره فقال لي: مريدو الحق والصالحون، لا يسئلون الناس شيئا، ونهاني أن أسئل الناس فما خرجت إلى موضع قط بعد ذلك. وكان لهذهِ السفرة وقع بليغ في نفس الشيخ عبد القادر، حيث تركت فيهِ اثرًا عميقًا وعلمته درسًا بليغًا نافعًا، ويظهر من امتناع الجيلي عن السؤال قوة الإرادة الصادقة في الامتثال لقبول النصيحة كما يظهر استعداده للطاعة عند صدور الأمر الصالح.
جلوسه للوعظ والتدريس
مبنى مدرسة باب الأزج التي تسمى الآن جامع الشيخ عبد القادر وفيها ضريحه ببغداد
عقد الشيخ أبو سعيد المُخَرِمي لتلميذه عبد القادر مجالس الوعظ في مدرسته بباب الأزج في بداية 501 هـ، فصار يعظ فيها ثلاثة أيام من كل أسبوع، بكرة الأحد وبكرة الجمعة وعشية الثلاثاء، ولقد كان أول كلامه: «غوّاص الفكر يغوص في بحر القلب على درر المعارف، فيستخرجها إلى ساحل الصدر، فينادي عليها سمسار ترجمان اللسان، فتشترى بنفائس أثمان حسن الطاعة، في بيوت أذن الله أن ترفع»، واستطاع الشيخ عبد القادر بالموعظة الحسنة أن يرد كثيراً من الحكام الظالمين عن ظلمهم وأن يرد كثيراً من الضالين عن ضلالتهم، حيث كان الوزراء والأمراء والأعيان يحضرون مجالسه، وكانت عامة الناس أشد تأثراً بوعظه، فقد تاب على يديه أكثر من مائة ألف من قطاع الطرق وأهل الشقاوة، وأسلم على يديه ما يزيد على خمسة الآف من اليهود والمسيحيين. والجيلاني ألتقى بالغزالي وتأثر به حتى أنه ألف كتابه «الغُنية لطالبي طريق الحق» على نمط كتاب «إحياء علوم الدين».
وكان الشيخ عبد القادر يسيطر على قلوب المستمعين إلى وعظه حتى أنه استغرق مرة في كلامه وهو على كرسي الوعظ فانحلت طية من عمامته وهو لا يدري فألقى الحاضرون عمائهم وطواقيهم تقليداً له وهم لايشعرون.
وبعد أن توفي أبو سعيد المبارك المخزومي فوضت مدرسته إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني فجلس فيها للتدريس والفتوى، وجعل طلاب العلم يقبلون على مدرسته إقبالا عظيما حتى ضاقت بهم فأضيف إليها من ما جاورها من المنازل والأمكنة ما يزيد على مثلها وبذل الأغنياء أموالهم في عمارتهم وعمل الفقراء فيها بأنفسهم حتى تم بناؤها سنة 528 هـ الموافق 1133م. وصارت منسوبة إليه.
وكان الشيخ عبد القادر عالما متبصرا يتكلم في ثلاثة عشر علماً من علوم اللغة والشريعة، حيث كان الطلاب يقرأون عليه في مدرسته دروسا من التفسير والحديث والمذهب والخلاف والأصول واللغة، وكان يقرأ القرآن بالقراءات وكان يفتي على مذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وهناك رواية تقول أنه أفتى على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان.
منهجه في التربية
يضع عبد القادر الجيلاني لتحقيق ذلك، بالاتصاف بصفات أساسها المجاهدة، والتحلي باعمال عشرة هي :
لا يحلف المتعلم بالله عز وجل صادقا ولا كاذبا، عامدا ولا ساهيا؛ لأنه إذا احكم ذلك من نفسه، دفعه ذلك إلى ترك الحلف بالكلية، وبذلك يفتح الله له بابا من أنواره يدرك أثره في قلبه، ويمنحه الرفعة والثبات والكرامة عند الخلق.
أن يجتنب المتعلم الكذب هازلا أو جادا؛ فإذا اعتاد ذلك شرح الله صدره، وصفا علمه، وصار حاله كله صدق وظهر أثر ذلك عليه.
أن يفي بما يعد، وأن يعمل على ترك الوعد أصلا؛ لأن ذلك أضمن له من الوقوع في الحلف والكذب؛ فإذا فعل ذلك، فتح له باب السخاء، ودرجة الحياء، وأعطي مودة في الصادقين.
أن يجتنب لعن أي شيء من الخلق، وإيذاء ذرة فما فوقها؛ فذلك من أخلاق الأبرار والصديقين، لأن ثمرة ذلك حفظه من مصارع الهلاك، والسلامة، ويورث رحمة العباد، مع ما يهبه الله من رفيع الدرجات.
أن يجتنب الدعاء على أحد، وإن ظلمه فلا يقطعه بلسانه، ولا يقابله بقول أو فعل؛ فإن فعل ذلك وجعله من جملة آدابه ارتفع في عين الله، ونال محبة الخلق جميعا.
أن لا يشهد على أحد من أهل القبلة بشرك، أو كفر، أو نفاق، فذلك أقرب للرحمة، وأقرب لأخلاق السنة، وأبعد من ادعاء العلم، وأقرب إلى رضا الله، وهو باب شريف يورث العبد رحمة الخلق أجمعين.
أن يجتنب النظر إلى المعاصي، وأن يكف جوارحه عنها، لأن ذلك مما يسرع في ترقية النفس إلى مقامات أعلى، ويؤدي إلى سهولة استعمال الجوارح في الطاعة.
أن يجتنب الاعتماد على الخلق في حاجة صغرت أو كبرت؛ فإن ذلك تمام العزة للعابدين، وشرف المتقين، وبه يقوى على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويستغني بالله، ويثق بعطائه، ويكون الخلق عنده في الحق سواء، وذلك أقرب إلى باب الإخلاص.
أن يقطع طمعه من الآدميين، فذاك الغنى الخالص، والعز الأكبر، والتوكل الصحيح؛ فهو باب من أبواب الزهد، وبه ينال الورع.
التواضع، وبه تعلو المنزلة؛ فهو خصلة أصل الاخلاق كلها، وبه يدرك العبد منازل الصالحين الراضين عن الله في السراء والضراء، وهو كمال التقوى.
لقبه أتباعه بـ«باز الله الأشهب» و«تاج العارفين» و«محيي الدين» و«قطب بغداد». وإليه تنتسب الطريقة القادرية الصوفية.
نسبه وأسرته
أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله بن يحيى بن محمد بن داود بن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
أنجب عبد القادر عدداً كبيراً من الأولاد فقد بلغ 49 ولداً (27 ذكراً و22 أنثى) إلا أنه فقد في حياته 14 ذكراً و21 فتاةً، فصبر على ذلك صبر الكرام، وقد أعقب من 13 ذكراً عنى بتربيتهم وتهذيبهم على يديه وعُرف منهم:
عبد الله: أكبر أولاد الشيخ عبد القادر، سمع من ابن الحصين وأبي غالب بن البناء، روى الحديث، ولد في سنة 508 هـ / 1114 م وتوفي في صفر سنة 587 هـ / مارس 1191.
عبد الوهاب: وكان في طليعة أولاده، والذي درس بمدرسة والده في حياته نيابة عنه، وبعد والده وعظ وأفتى ودرس، وكان حسن الكلام في مسائل الخلاف فصيحاً ذا دعابة وكياسة، ومروءة وسخاء، وقد جعله الخليفة العباسي أحمد الناصر لدين الله على المظالم فكان يوصل حوائج الناس اليه، وقد توفي سنة 573 هـ ودفن في رباط والده في الحلبة.
عيسى: الذي وعظ وأفتى وصنف مصنفات منها كتاب «جواهر الأسرار ولطائف الأنوار» في علم الصوفية، قدم مصر وحدث فيها ووعظ وتخرج به من أهلها غير قليل من الفقهاء، وتوفي فيها سنة 573 هـ.
عبد العزيز: وكان عالماً متواضعاً، وعظ ودرّس، وخرج على يديه كثير من العلماء، وكان قد غزا الصليبين في عسقلان وزار مدينة القدس ورحل جبال الحيال ومنها الجبل المعروف باسمه جبل عبد العزيز، وتوفي فيها سنة 602 هـ.
عبد الجبار: تفقه على والده وسمع منه وكان ذا كتابة حسنة، سلك سبيل الصوفية، ودفن برباط والده في الحلبة.
عبد الرزاق: وكان حافظا متقنا حسن المعرفة بالحديث فقيها على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ورعا منقطعاً في منزله عن الناس، لا يخرج إلا في الجمعات، توفي سنة 603 هـ، ودفن بباب الحرب في بغداد.
إبراهيم: تفقه على يد والده وسمع منه ورحل إلى واسط في العراق، وتوفي بها سنة 592 هـ.
يحيى: وأمه جارية حبشية، كان فقيهاً محدثاً انتفع الناس به، ورحل إلى مصر ثم عاد إلى بغداد وتوفي فيها سنة 600 هـ، ودفن عند أخيه الشيخ عبد الوهاب برباط والده في الحلبة.
موسى: تفقه على والده وسمع منه ورحل إلى دمشق وحدّث فيها واستوطنها، ثم رحل إلى مصر وعاد إلى دمشق وتوفي فيها وهو آخر من مات من أولاده.
صالح: وبه يكنى في أغلب البلدان وذكرته أغلب المصادر المتخصصة في سيرته وهو مدفون قرب والده في بغداد.
محمد: تفقه على يد والده وسمع منه ومن ابن البناء وأبي الوقت وغيرهم، حدث في بغداد، وتوفي فيها في ذو القعدة سنة 600 هـ، ودفن بمقبرة الحلبة.
أمة الجبار: هي ابنة الشيخ عبد القادر وتزوجت ابن الشيخ عبد الرحمن الطفسونجي الأسدي.
مولده ونشأته
ولد في 11 ربيع الثاني سنة 470 هـ/ 1077 م، وهناك خلاف في محل ولادتهِ، حيث توجد روايات متعددة أهمها القول بولادتهِ في جيلان في شمال بلاد فارس أو طبرستان على ضفاف بحر قزوين، والقول الآخر أنه ولد في جيلان العراق وهي قرية تاريخية قرب المدائن التي تبعد حوالي 40 كيلو متر جنوب بغداد، وهو القول الذي تعتمده الأسرة الكيلانية ببغداد، وقد نشأ عبد القادر في أسرة وصفتها المصادر بالصالحة، فقد كان والده أبو صالح موسى معروفاً بالزهد، وكان شعاره مجاهدة النفس وتزكيتها بالأعمال الصالحة، ولهذا كان لقبهُ «محب الجهاد».
الأحوال في بغداد
مبنى الحضرة القادرية في عام 1914
كان عبد القادر الجيلاني قد نال قسطاً من علوم الشريعة في حداثة سنه على أيدي أفراد من أسرته، ولمتابعة طلبه للعلم رحل إلى بغداد ودخلها سنة 488 هـ الموافق 1095م وعمره ثمانية عشر عاماً
في عهد الخليفة العباسي المستظهر بالله. وبعد أن استقر في بغداد انتسب إلى مدرسة الشيخ أبو سعيد المخرمي التي كانت تقع في حارة باب الأزج، في أقصى الشرق من جانب الرصافة، وتسمى الآن محلة باب الشيخ.
وكان العهد الذي قدم فيه الشيخ الجيلاني إلى بغداد تسوده الفوضى التي عمت كافة أنحاء الدولة العباسية، حيث كان الصليبيون يهاجمون ثغور الشام، وقد تمكنوا من الاستيلاء على أنطاكية وبيت المقدس وقتلوا فيهما خلقا كثيرا من المسلمين ونهبوا أموالاً كثيرة. وكان السلطان التركي «بركياروق» قد زحف بجيش كبير يقصد بغداد ليرغم الخليفة على عزل وزيره «ابن جهير» فاستنجد الخليفة بالسلطان السلجوقي «محمد بن ملكشاه» ودارت بين السلطانين التركي والسلجوقي معارك عديدة كانت الحرب فيها سجالا، وكلما انتصر أحدهما على الآخر كانت خطبة يوم الجمعة تعقد باسمه بعد اسم الخليفة.
وكانت فرقة الباطنية قد نشطت في مؤامراتها السرية واستطاعت أن تقضي على عدد كبير من أمراء المسلمين وقادتهم فجهز السلطان السلجوقي جيشاً كبيراً سار به إلى إيران فحاصر قلعة «أصفهان» التي كانت مقراً لفرقة الباطنية وبعد حصار شديد استسلم أهل القلعة فاستولى عليها السلطان وقتل من فيها من المتمردين، وكان «صدقة بن مزيد» من أمراء بني مزيد من قبيلة بني أسد قد خرج بجيش من العرب والأكراد يريد الاستيلاء على بغداد فتصدى له السلطان السلجوقي بجيش كبير من السلاجقة فتغلب عليه. وكان المجرمون وغيرهم من العاطلين والأشقياء ينتهزون فرصة انشغال السلاطين بالقتال فيعبثون بالأمن في المدن يقتلون الناس ويسلبون أموالهم فإذا عاد السلاطين من القتال انشغلوا بتأديب المجرمين.
الأحوال الاجتماعية
لقد تدهورت الحياة الاجتماعية في القرن السادس الهجري بسبب الفساد السياسي الذي استنزف القدرات الاجتماعية والمادية والمعنوية، كما يرجع الأمر إلى الفتن المختلفة وإلى الأزمات الاقتصادية وانتشار الأوبئة، وهذه العوامل كلها ساهمت في تدمير البنيات الاجتماعية المادية والمعنوية التي كانت من مقومات القوة والنماء، لذلك خربت المدن وانقطعت الطرق وانتشرت السرقة، ولم تسلم منها حتى قوافل الحجاج، حيث يغار عليها جهارا نهارا، لذلك ساءت العلاقات الاجتماعية المختلفة. ويشهد على ذلك ما وقع خلال هذه السنوات:
ففي سنة 538 هـ زاد أمر العيّارين
بسبب ابن الوزير وقاورد بك اللذين كان لهما نصيب مما يأخذه العيارون.وفي سنة 552 هـ أغار الجنود الخراسانية على الحجاج الخراسانية وقتلوا منهم نفرا، وسلبوهم أموالهم وأمتعتهم، ولما تقدموا في المسير قليلا، هاجمتهم الإسماعيلية، فقتلوهم إلا من هرب، وقتل منهم كثير من العلماء والزهاد، وتلك مصيبة عظيمة حلت بالحُجاج وبالأمن العام في ذلك الزمان.وفي سنة 556 هـ اندلعت فتنة أخرى ببغداد بسبب ابن هبيرة والغلمان والفقهاء، حيث أمر الخليفة بضرب الفقهاء وتأديبهم، فمضى إليهم أستاذ الدار وعاقبهم.وفي سنة 581 هـ وقعت فتنة بين التركمان والأكراد في بديار الجزيرة والموصل، قتل فيها خلق كثير، ونهبت الأموال ودامت سنين عديدة، حيث انقطعت فيها الطرق بين بلاد كثيرة، من الشام إلى أذربيجان.وفي مطلع القرن السابع الهجري، تواصلت الفتن بين أهل البلاد المختلفة، وكذلك بين أهل الأحياء في المدينة الواحدة، مثل فتنة ببغداد بين أهل باب الأزج وأهل المأمونية، وفتنة بهراة بين أهل السوقين الحدادين والصفارين. وأما الأزمات الاقتصادية فهي لا تعد ولا تحصى، وقد أدت إلى الغلاء الشديد في البلاد الإسلامية كافة، ولم يسلم منها بلد، وقد أدت إلى المجاعة في أحيان كثيرة، فعمت هذه الأزمات البلاد الإسلامية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، مثل الذي وقع سنة 543 هـ، وهي سنة ولادة الرازي، حيث عم الغلاء جميع البلاد من خراسان إلى العراق وإلى الشام وإلى بلاد أفريقيا.وفي سنة 574 هـ اشتد الغلاء أيضا وعم سائر البلاد ودام إلى السنة التالية. وقد دفعت هذه الأزمات الناس إلى أكل الدواب المحرمة والمكروهة، وهناك روايات كثيرة في كتب التاريخ تتحدث عن أكل الآدميين!
الأحوال الطبيعية
ومن الكوارث الطبيعية التي شهدها هذا القرن الزلازل والجفاف والفيضانات، فالزلازل لم تتوقف طوال هذا القرن، وقد اهتم المؤرخون بذكرها ووصف أحوالها وآثارها، وكانت تضرب البلاد الكثيرة وتحدث أضرارا كبيرة في البنايات سواء كانت منازل أو مرافق عامة كالجسور وغيرها. وكذلك كارثة الجفاف التي كانت آثارها وخيمة على معيشة ناس واستقرارهم، لأن انقطاع الأمطار أدى إلى قلة الغلة والمحاصيل ثم إلى الغلاء وإلى ارتحال الناس عن الديار والبلاد، وإلى موت الحيوانات التي هي من المصادر الأساسية لمعاش الإنسان، وقد أسهم ذلك كله في إضعاف المسيرة الحضارية للمسلمين.
الخلافات الفكرية
كان الصراع الفكري على أشده في هذا القرن بين الفرق الكلامية وبينها وبين المذاهب الفقهية، وما وقع في هذا القرن إنما هو استمرار للاختلاف القديم في مسائل السياسة والعقائد، مع العلم أن الاختلاف الفكري في حد ذاته ليس نقمة بكامله، ولا هو ميزة خاصة بالثقافة الإسلامية، لأن جميع الديانات الأخرى عرفت أشكالا وأنواعا من الاختلافات في الأصول والفروع معا. وقد نشأ علم الكلام من الاختلاف في الأصول، ونشأ علم الفقه من الاختلاف في الفروع، وكان الاختلاف في الأصول في أربع مسائل كبرى: أولا: الصفات والتوحيد، ثانيا: القضاء والقدر، ثالثا: الوعد والوعيد، ورابعا: النبوة والإمامة. ويتميز القرن السادس الهجري من الناحية الفكرية باتساع موضوع التفكير في العلوم الشرعية، وكذلك الحال في العلوم الأخرى، كالعلوم العقلية والطبيعية والاجتماعية، كما تتميز بكثرة الإنتاج في جميع تلك العلوم، وبنمو سلطة الفرق والمذاهب في ضم وتجنيد الناس في صفوفها. أما كثرة العلماء المناصرين للفرق والمذاهب فقد عمقت مجال الصراع الفكري وأعطته حماسا كبيرا، ولم يكن الهدف عندهم إلا الانتصار على الخصم. ويتميز هذا القرن أيضا بوجود كثرة الزهاد والمتصوفة، وهذا يعني أن المسلمين صاروا يندفعون إلى البحث عن الخلاص الفردي لا الجماعي، اندفاعا جعل الحياة الاجتماعية مشلولة، وفتحوا بذلك بابا على مصراعيه أمام اليهود والنصارى، الذين تغلغلوا في وظائف الدولة، وشؤون الحياة المختلفة، وهذا من الأمور التي ساهمت في انتشار الأهواء والبدع. ويشعر الخلفاء والأمراء في بعض الأحيان بهذا التغلغل، فيأمرون بعزل اليهود والنصارى من دواوين الدولة، مثلما أمر الخليفة العباسي الناصر لدين الله أن لا يستخدم في الديوان يهودي أو نصراني، وأن لا يستعان بهم مهما كانت الحاجة ملحة. مع العلم أن هذه الأوامر النهاية عن استخدام اليهود قليلة وتعد على الأصابع. ونتيجة لسوء الأحوال الاجتماعية سياسيا واقتصاديا مال الناس إلى التقليد ورفضوا الاجتهاد والتجديد، لأن أفهامهم صماء وعقولهم جدباء في بعض العهود كهذا العهد، وكان ذلك كله من علامات بداية الانحطاط. وأدى الصراع الفكري بدوره إلى إثارة فتن دموية في بعض الأحيان، مثل الفتنة التي نشبت بين العلويين الشيعة والشافعية في سنة 554 هـ باستراباذ وفتنة أخرى سنة 560 هـ في أصفهان بسبب التعصب للمذاهب وهي فتنة قتل فيها كثير من الناس. وهذا أما محاكمات العلماء تعسفا وطردهم من البلاد أو حملهم على الخروج منها أو تحريض العامة عليهم أو حرق كتبهم، فلم يسلم منها إلا القليل، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، محاكمة الركن عبد السلام بن عبد الوهاب الكيلاني (548-611 هـ) الذي كان حنبليا، عارفا بالمنطق والفلسفة، وقد اتهم بأقوال الفلاسفة، لذلك وقعت له محنة في عهد الوزير ابن يونس فأحرقت مكتبته في رحبة ببغداد، وخرجت مدرسة جده من يده ويد أبيه عبد الوهاب، وفوضت إلى أبي الفرج ابن الجوزي (ت 597 هـ)، وأدخل السجن مدة ثم أفرج عنه سنة 589 هـ لما قبض على الوزير ابن يونس فرد إليه ما سلب منه. وهناك خروج سيف الدين الآمدي (551-631 هـ) من العراق إلى الشام ثم إلى مصر سنة 592 هـ لأنه متهم بفساد العقيدة ومذهب الفلاسفة لما أظهر من علوم الأوائل، ومرة أخرى انتقل خفية من مصر إلى الشام ولم يكن حظه سعيدا هنالك، حيث عزل عن التدريس وأقام مختفيا في بيته حتى توفى. هذا في المشرق وأما في المغرب فقد عاش ابن رشد (520-595 هـ) محنة شديدة فأحرقت كتبه وأخرج من قرطبة. وأما فخر الدين الرازي فطرد من بلاد كثيرة بسبب آرائه الفلسلفية والدينية لأنها ليست متحجرة ولا مقلدة، كما كان حال الفقهاء وأشباه العلماء في عصره، وإنما كان مجتهدا ومجددا في العلوم العقلية والنقلية معا، وكان جريئا ومدافعا بقوة عن آرائه. يذكر المؤرخين أن أعظم فتنة وقعت له سنة 595 هـ بهراة، وقد قيل: لما بنى ابن أخت غياث الدين مدرسة له، نزل ذلك كالصاعقة على الكرامية، وفي راوية أخرى: أن الفتنة حصلت بسبب مناظرة الرازي لابن القدوة، وهو مقدم الكرامية ولم تخمد إلا بإخراج الرازي من هراة.
نلاحظ مما سبق أن عصر الجيلاني يتميز باضمحلال الخلافة العباسية، وتفكك السلطة المركزية إلى دول كثيرة، حيث تتناحر هذه الدول على استقطاب الخلفاء، ويدخلون في حروب فيما بينهم وبين الخليفة، مما أثر سلبا على جميع ميادين الحياة. بالإضافة إلى ذلك فهذا العصر لم ينج من الكوارث الطبيعية الكثيرة كزلازل والجفاف التي اهتم المؤرخون بذكرها وإحصاء الخسائر المترتبة عنها وآثارها على المسيرة الحضارية. كما يتميز أيضا بظهور العلماء الأعلام في كل علم وفن، ويمكن الإشارة إلى أهم الظواهر التي سادت هذا العصر، وإلى العوامل التي كانت سببا في الاضمحلال والتقوقع، وهي بإيجاز:
هذا العصر مليء بالأحداث المثيرة والعجيبة في الميادين المختلفة.
هو عصر الاضطرابات السياسية والفكرية والدينية.
المغول يطرقون الحدود الشرقية، لضعف ملوك وسلاطين المسلمين بسبب تناحرهم فيما بينهم.
الحروب الصليبية تهدد البلاد الإسلامية غربا وكانت المراكز الحضارية مسرحا لها.
ملوك المسلمين يستعينون بالأجانب - أي هؤلاء الأعداء من كل جنس ولون - في الحروب التي تقع بينهم.
البناء الاجتماعي هش وضعيف.
الفرق الكلامية والمذاهب الفقهية يشتد الصراع بينها جميعا.
الفكر يزدهر ويتنوع بظهور العلماء الأعلام كالجيلاني وابن الجوزي.
وفي غمرة هذه الفوضى كان الشيخ عبد القادر يطلب العلم في بغداد، وتفقه على مجموعة من شيوخ الحنابلة ومن بينهم الشيخ أبوسعيد المُخَرِمي، فبرع في المذهب والخلاف والأصول وقرأ الأدب وسمع الحديث على كبار المحدثين. وقد أمضى ثلاثين عاما يدرس فيها علوم الشريعة أصولها وفروعها.
إلى مدينة بعقوبة
وللشيخ عبد القادر، سفرة ثانية في حياته وهي من بغداد إلى مدينة بعقوبة، بقصد الكسب وقد وصفها بقوله: كان جماعة من أهل بغداد يشتغلون بالفقه فاذا كان أيام الغلة يخرجون إلى الريف يطلبون شيئا من الغلة فقالوا لي يوما أخرج معنا إلى بعقوبة نحصل منها شيئا.... فخرجت معهم وكان في بعقوبة رجل صالح يقال له الشريف البعقوبي فمضيت لأزوره فقال لي: مريدو الحق والصالحون، لا يسئلون الناس شيئا، ونهاني أن أسئل الناس فما خرجت إلى موضع قط بعد ذلك. وكان لهذهِ السفرة وقع بليغ في نفس الشيخ عبد القادر، حيث تركت فيهِ اثرًا عميقًا وعلمته درسًا بليغًا نافعًا، ويظهر من امتناع الجيلي عن السؤال قوة الإرادة الصادقة في الامتثال لقبول النصيحة كما يظهر استعداده للطاعة عند صدور الأمر الصالح.
جلوسه للوعظ والتدريس
مبنى مدرسة باب الأزج التي تسمى الآن جامع الشيخ عبد القادر وفيها ضريحه ببغداد
عقد الشيخ أبو سعيد المُخَرِمي لتلميذه عبد القادر مجالس الوعظ في مدرسته بباب الأزج في بداية 501 هـ، فصار يعظ فيها ثلاثة أيام من كل أسبوع، بكرة الأحد وبكرة الجمعة وعشية الثلاثاء، ولقد كان أول كلامه: «غوّاص الفكر يغوص في بحر القلب على درر المعارف، فيستخرجها إلى ساحل الصدر، فينادي عليها سمسار ترجمان اللسان، فتشترى بنفائس أثمان حسن الطاعة، في بيوت أذن الله أن ترفع»، واستطاع الشيخ عبد القادر بالموعظة الحسنة أن يرد كثيراً من الحكام الظالمين عن ظلمهم وأن يرد كثيراً من الضالين عن ضلالتهم، حيث كان الوزراء والأمراء والأعيان يحضرون مجالسه، وكانت عامة الناس أشد تأثراً بوعظه، فقد تاب على يديه أكثر من مائة ألف من قطاع الطرق وأهل الشقاوة، وأسلم على يديه ما يزيد على خمسة الآف من اليهود والمسيحيين. والجيلاني ألتقى بالغزالي وتأثر به حتى أنه ألف كتابه «الغُنية لطالبي طريق الحق» على نمط كتاب «إحياء علوم الدين».
وكان الشيخ عبد القادر يسيطر على قلوب المستمعين إلى وعظه حتى أنه استغرق مرة في كلامه وهو على كرسي الوعظ فانحلت طية من عمامته وهو لا يدري فألقى الحاضرون عمائهم وطواقيهم تقليداً له وهم لايشعرون.
وبعد أن توفي أبو سعيد المبارك المخزومي فوضت مدرسته إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني فجلس فيها للتدريس والفتوى، وجعل طلاب العلم يقبلون على مدرسته إقبالا عظيما حتى ضاقت بهم فأضيف إليها من ما جاورها من المنازل والأمكنة ما يزيد على مثلها وبذل الأغنياء أموالهم في عمارتهم وعمل الفقراء فيها بأنفسهم حتى تم بناؤها سنة 528 هـ الموافق 1133م. وصارت منسوبة إليه.
وكان الشيخ عبد القادر عالما متبصرا يتكلم في ثلاثة عشر علماً من علوم اللغة والشريعة، حيث كان الطلاب يقرأون عليه في مدرسته دروسا من التفسير والحديث والمذهب والخلاف والأصول واللغة، وكان يقرأ القرآن بالقراءات وكان يفتي على مذهب الإمام الشافعي والإمام أحمد بن حنبل وهناك رواية تقول أنه أفتى على مذهب الإمام أبي حنيفة النعمان.
منهجه في التربية
يضع عبد القادر الجيلاني لتحقيق ذلك، بالاتصاف بصفات أساسها المجاهدة، والتحلي باعمال عشرة هي :
لا يحلف المتعلم بالله عز وجل صادقا ولا كاذبا، عامدا ولا ساهيا؛ لأنه إذا احكم ذلك من نفسه، دفعه ذلك إلى ترك الحلف بالكلية، وبذلك يفتح الله له بابا من أنواره يدرك أثره في قلبه، ويمنحه الرفعة والثبات والكرامة عند الخلق.
أن يجتنب المتعلم الكذب هازلا أو جادا؛ فإذا اعتاد ذلك شرح الله صدره، وصفا علمه، وصار حاله كله صدق وظهر أثر ذلك عليه.
أن يفي بما يعد، وأن يعمل على ترك الوعد أصلا؛ لأن ذلك أضمن له من الوقوع في الحلف والكذب؛ فإذا فعل ذلك، فتح له باب السخاء، ودرجة الحياء، وأعطي مودة في الصادقين.
أن يجتنب لعن أي شيء من الخلق، وإيذاء ذرة فما فوقها؛ فذلك من أخلاق الأبرار والصديقين، لأن ثمرة ذلك حفظه من مصارع الهلاك، والسلامة، ويورث رحمة العباد، مع ما يهبه الله من رفيع الدرجات.
أن يجتنب الدعاء على أحد، وإن ظلمه فلا يقطعه بلسانه، ولا يقابله بقول أو فعل؛ فإن فعل ذلك وجعله من جملة آدابه ارتفع في عين الله، ونال محبة الخلق جميعا.
أن لا يشهد على أحد من أهل القبلة بشرك، أو كفر، أو نفاق، فذلك أقرب للرحمة، وأقرب لأخلاق السنة، وأبعد من ادعاء العلم، وأقرب إلى رضا الله، وهو باب شريف يورث العبد رحمة الخلق أجمعين.
أن يجتنب النظر إلى المعاصي، وأن يكف جوارحه عنها، لأن ذلك مما يسرع في ترقية النفس إلى مقامات أعلى، ويؤدي إلى سهولة استعمال الجوارح في الطاعة.
أن يجتنب الاعتماد على الخلق في حاجة صغرت أو كبرت؛ فإن ذلك تمام العزة للعابدين، وشرف المتقين، وبه يقوى على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويستغني بالله، ويثق بعطائه، ويكون الخلق عنده في الحق سواء، وذلك أقرب إلى باب الإخلاص.
أن يقطع طمعه من الآدميين، فذاك الغنى الخالص، والعز الأكبر، والتوكل الصحيح؛ فهو باب من أبواب الزهد، وبه ينال الورع.
التواضع، وبه تعلو المنزلة؛ فهو خصلة أصل الاخلاق كلها، وبه يدرك العبد منازل الصالحين الراضين عن الله في السراء والضراء، وهو كمال التقوى.