مشاهدة النسخة كاملة : وقفات مع قوله تعالى: ﴿ قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا ..)


حكاية ناي ♔
12-09-2023, 12:37 PM
﴿ قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ.. ﴾ [الأعراف: 188]



الحمد لله الذي أنقذنا بنور العلم من ظلمات الجهالة، وهدانا بالاستبصار عن الوقوع في عماية الضلالة، ونصب لنا من شريعة سيدنا ومولانا محمد أعلى علم وأوضح دلالة.



تقع الآية الكريمة في سورة الأعراف[1] التي يبلغ عدد آياتها 206 آية.



تبتدئ السورة بقول الحق سبحانه: ﴿ كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الأعراف: 2].



وتختم بقوله سبحانه: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ [الأعراف: 206].



وتعدُّ سورة الأعراف من السور المكية التي تتميّز بطول آياتها، نزلت بمكة باستثناء بعض الآيات التي نزلت بالمدينة من قوله تعالى: ﴿ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ ﴾ إلى قوله سبحانه ﴿ إنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [الأعراف: 163 – 170]، وتعرض السورة بإجمال الدعوة إلى توحيد الله عز وجل على غرار السور المكية التي تناولت التوحيد والربوبية والدعوة إلى اتباع هدي الأنبياء من خلال عرض قصصهم الدعوية، بدءًا برسالة آدم عليه السلام، كما تحكي الصراع الأبدي بين الخير والشر، والحق والباطل.



فالسورة تبيِّن أنَّ رسل الله وأنبياءَه أرسلوا لإنقاذ البشرية وهدايتها وإرشادها إلى ما ينفعها ويحلّ أزماتها ومشاكلها سواء في الظروف الاعتيادية أو الظروف الطارئة والقاهرة.


وتعد هَذِهِ الْآيَة مِن أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ، لأنَّها هدمت قواعد الشرك وبينت حقيقة الرسالة المحمدية وعلاقتَها بالربوبية وَالْأُلوهِيَّةِ.


الوقفة الأولى: مجمل تفسير الآية عند العلماء:

بالرجوع إلى تفاسير العلماء نجدها تكادُ تتفق في تفسير معاني الآية الكريمة، فغالب كتب التفسير تربط سياق الآية بما قبلها وهي قوله تعالى: ﴿ يسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 187].



روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنَّ قوما من اليهود قالوا: يا محمد، أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا. إنا نعلم متى هي، وكان ذلك امتحانا منهم، مع علمهم أن الله- تعالى- قد استأثر بعلمها. وأخرج ابن جرير عن قَتادة أن جماعة من قريش قالوا: يا محمد قل لنا متى الساعة لما بيننا وبينك من القرابة. فنزلت"[2].


ففي الآية خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، بأن يجيب قريش وقيل اليهود -كما ذكرت-على استعجال طلب العذاب، حين سُئل عن الساعة.


فيقول الحق لنبيه صلى الله عليه وسلم، قل لهم يا محمد: ﴿ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولا ضَرا ﴾ [الأعراف: 188]، فكيف أملك لكم ما تستعجلون من طلب العذاب؟.


فمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا "أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ نبيَّه أَنْ يُجِيبَ السَّائِلِينَ لَهُ عَنِ السَّاعَةِ بِأَنَّ عِلْمَهَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى وَحْدَه، وَأَمْرُهَا بِيَدِهِ وَحْدَه، وَأَمَرَهُ أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ كُلَّ الْأُمُورِ بِيَدِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَأَنَّ عِلْمَ الْغَيْبِ كُلَّهُ عِنْدَهُ، -وهذا مقتضى الربوبية-وَأَنْ يَنْفِيَ كُلًّا مِنْهُمَا عَنْ نَفْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –"[3]، فالذين سألوه عن الساعة، كَانُوا يَظُنُّونَ "أَنَّ مَنْصِبَ الرِّسَالَةِ قَدْ يَقْتَضِي عِلْمَ السَّاعَةِ وَغَيْرَهَا مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ، وَرُبَّمَا اعتقدوا أن النبي صلى الله عليه وسلم، بحكم الرسالة، قَدْ يَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَصِلُ إِلَيْهِ كَسْبُ الْبَشَرِ مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ وَمَنْعِ الضُّرِّ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَمَّنْ يُحِبُّ أَوْ يَشَاءُ، أَوْ مَنْعِ النَّفْعِ وَإِحْدَاثِ الضُّرِّ بِمَنْ يَكْرَهُ أَوْ بِمَنْ يَشَاءُ. فَأَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى أَنْ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ مَنْصِبَ الرِّسَالَةِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَظِيفَةُ الرَّسُول: التَّعْلِيم وَالْإِرْشَادُ، لَا الْخَلْقُ وَالْإِيجَادُ، وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مِنَ الْغَيْبِ إِلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِمَّا عَلَّمَهُ اللهُ بِوَحْيهِ، وَأَنَّهُ فِيمَا عَدَا تَبْلِيغِ الْوَحْيِ عَنِ اللهِ تَعَالَى بَشَرٌ كَسَائِرِ النَّاسِ"[4].


• قيل في تفسير قول الحق سبحانه: ﴿ قُل لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرّا ﴾ هو "إظهار للعبودية وبراءة عما يُختص بالربوبية من علم الغيب، أي أنا عبد ضعيف لا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضرر كالمماليك إلا ما شاء مالكي من النفع لي والدفع عني"[5].


وقِيل "لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي الْهُدَى وَالضَّلَالَ"[6].


• ﴿ إِلاَّ ما شاء الله ﴾ أن أملِكَه من ذلك بأن يُلْهِمَنِيه فيُمكِنَّني منه ويُقدِرَني عليه[7].


وقيل﴿ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾ أن يوصلَه إليَّ من الضَرِّ والنفعِ؛ فإني أملِكُه؛ لاختصاصِه بي[8].


• ﴿ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ﴾ [الأعراف: 188]، قيل في تفسيره "لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنِّي مِنْ قَبْلِ أَنْ يُعَرِّفَنِيهِ لَفَعَلْتُهُ. وَقِيلَ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَتَى يَكُونُ لِيَ النَّصْرُ فِي الْحَرْبِ لَقَاتَلْتُ فَلَمْ أُغْلَبْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ سَنَةَ الْجَدْبِ لَهَيَّأْتُ لَهَا فِي زَمَنِ الْخَصْبِ مَا يَكْفِينِي، وَقِيلَ: المعنى لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ التِّجَارَةَ التي تُنفَق لاشتريتها وقت كسادِها. وقيل: الْمَعْنَى لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ مَتَى أَمُوتُ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ...وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَأَجَبْتُ عَنْ كُلِّ مَا أُسْأَلُ عَنْهُ"[9].


وقيل: لو كنت أعلم ما يستقبلني من الأمور المغيبة كشدائد الزمان وأهواله، لاستعددت له قبل نزوله باستكثار الخير والاحتراس من الشر[10].


• ﴿ وَمَا مَسَّنِي السُّوء ﴾ [الأعراف: 188]، قيل في تفسيره: اسْتِئْنَافُ كَلَامٍ، فيكون المعنى لَيْسَ بِي جُنُونٌ، لِأَنَّهُمْ نَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُونِ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ، وَالْمَعْنَى لَوْ عَلِمْتُ الْغَيْبَ لَمَا مَسَّنِي سُوءٌ وَلَحَذِرْتُ"[11]. تفسير القرطبي. وقيل في تفسير السوء:"الضرُّ والفقرُ". وقيل: "السوءُ الذي يمكن التقصّي عنه بالتوقيِّ عن موجباته والمدافعةِ بموانعه".


• ﴿ إِن أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ﴾ أي "ما أنا إلا عبدٌ مرسَلٌ للإنذار والبَشارة شأني حيازةُ ما يتعلق بهما من العلوم الدينيةِ والدنيوية لا الوقوفُ على الغيوب"[12].


• ﴿ لقوْمٍ يُومِنُونَ ﴾ إما متعلقٌ بهما جميعًا لأنهم ينتفعون بالإنذار كما ينتفعون بالبَشارة وإما بالبشير فقط وما يتعلق بالنذير محذوف أي نذيرٌ للكافرين أي الباقين على الكفر وبشيرٌ لقوم يؤمنون أي في أيّ وقتٍ كان، ففيه ترغيبٌ للكفرة في إحداث الإيمانِ وتحذيرٌ عن الإصرار على الكفر والطغيان"[13].


الوقفة الثانية، الإشارات المستنبطة من الآية:

1- الكمال للخالق سبحانه:

لأنَّ العبودية "محلُّ الجهل وسائر النقائص، والربوبية محل العلم وسائر الكمالات"[14]، فالواجب على العبد أن يعرف قدر نفسه، ويضعها في مكانها الطبيعي، ويَعتبِر بالأحداث والوقائع، ويقف عند الابتلاءات التي تصيبه ليستخلص منها الدروس والعبر، فكلُّ من كان عبدًا كان النقص أصلُه والقدرة الكاملة والعلم المحيط ليسا إلاَّ لله تعالى[15] وحدَه.


وهذا النقص لا ينبغي أن يستوحِشه العبد، لأنه أصل في كمالِ العلم الرباني، فما يَرِد عليه من كمال فمن منِّ الله تعالى عليه، الذي يستوجب الشكر، فالعلم من ربنا، والجهل من أصلنا، والاطلاع إلى كمالٍ ليس في أصل الخِلقة فضول في غير محله، كحبِّ الاطلاع على الغيب، فهو تجرأ على عالم الغيب سبحانه، مما يستوجب الإذعان والامتثال وترك البحث في معرفة الغيب لأنه من اختصاص الخالق سبحانه وحده.


2- مِلكية عطاء الله عَرضية:

فكما يعطي قد ينزِع، لذلك على الإنسان أن يسوق ما أُعطي له من خير في محلِّه، أن يضعه في محلّه حتى لا ينتزع منه، فيندَم على ضياعه، "فحين يسوق الله النفع أو يمنع الضَّر، فالإنسان يملك ما يعطيه الله، والعاقل حين يملك، يقول: إن هذا مِلك عَرَضي، لا آمَنُ أن يُنزع مني"[16]. لذلك يقول الحق سبحانه مؤكِّدا هذه الحقيقة: ﴿ قُلِ اللهم مَالِكَ المُلكِ تُوتِي المُلكِ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الخير. إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].


3- النفع والضَّر بيدِ الله وحدَه:

لا دخل فيه لأحد من البشر، ولا يملكه أحد من البشر، إذ لو كان لأحد ذلك، لكان لنبيِّه أولى، فهو صفي ربه وخليله وحبيبه ومجتباه، وهو يقول عن هذا الأمر: ﴿ لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا ﴾ الآية [الأعراف: 188].


فالأمَّة لا تملك أن تنفع فردا واحدا ولو اجتمعت على ذلك إلا أن يشاء الله، وإن اجتمعت على إذايته لن تتوفق، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كنت خلف النبي صلىالله عليه وسلم يوما فقال لي: "يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظكاحفظ الله تجده تُجاهك إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمَّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبهالله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفَّت الصحف"[17] .



4- الإيمان الحقيقي يقوم على اليقين:

الايمان الحقيقي الصادق، ينبغي أن يقوم على الاعتقاد بأن النفع والضَّر بيد الله، وليس لأحد من البشر دخل فيه، وهذا الاعتقاد ينبغي أن يتيَّقنه الانسان المؤمن، فيعتقد جازما أنَّ الخلق كلهم عاجزون عن إيصال نفع أو سوء غير مقدَّر وغير مكتوب عند الله، فالاعتقاد بذلك يحقِّق تمامَالتعلق بالله وحسنَ عبادته وتوحيده، وهو استثمار ينتفع به العبد في علاقته بربِّه، لأنه يرتب له القُرب من الحق سبحانه.


فكلَّما أيقن العبد أن كل الأمور من نفع وسوء بيد الله وحدَه، أمكنه ذلك من إفراده سبحانه بالطاعةوالعبادة، بل يُحسن في هذه العبادة ويحقِّقُ مقاصدها المرجوة التي هي حِكم وأسرار هذه العبادات.


فهذا الاعتقاد ينبغي أن يصلَ بالعبد لمرتبة اليقين الذي لا يساوره فيه شك، لأنه من الايمان، بل يؤسس لبُنيان الإيمان الحقيقي القائم على التصديق، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى عن حقيقة اليقين "وهو من الإيمان بمنزلةالروح من الجسد، وبه تفاضل العارفون، وفيه تنافس المتنافسون، وإليه شمَّرالعاملون، وهو مع المحبة ركنان للإيمان، وعليهما ينبني وبهما قوامه، وهمايُمِدَّان سائر الأعمال القلبية والبدنية، وعنهما تصدر، وبضَعفهما يكون ضَعفالأعمال، وبقوتهما تقوى الأعمال، وجميع منازل السائرين إنما تُفتتح بالمحبةواليقين، وهما يُثمران كل عمل صالح، وعلم نافع، وهدى مستقيم"[18].


5- اليقين بالله يريح النفس ويجعلها هادئة مطمئنة:

فكثير من الأمراض التي تصيب الناس اليوم، وهي أمراض تتعلق بالخوف من المرض والخوف على الرزق والخوف من المستقبل عموما، وتدفع باللجوء لغير الله، وتصيب النفس بالاضطراب، تصيبُ العبدَ بسبب ضَعف الايمان، وقلَّة الثقة بالخالق سبحانه، تجعل العبد يصاب بالهلع والحرص ويتوقع الكوارث والمصائب والبلايا، بل عندما تنزل به هذه المصائب يفزع ويجزع ويترك اللجوء للخالق ويستعيض عنه بالخلق.


والايمان بأنَّ مدبر كل هذه الأمور هو الله عز وجل، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، يريح النفس، ﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُو. وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَاد لِفَضْلِه. يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِه. وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم ﴾ [يونس: 107] .



فهو أمر موكول لرب العزة، وأن كل تدابير الكون والبشر بمقدار وبحكمة ربانية، لا يصل لكنهها العبد ولو حرِص.


فاليقين بذلك يحرِّر الإنسان من القلق والخوف والهلع، ويجعله مطمئنا مرتاحا لقدر الله راضيا به مطمئنا لتصريف القدر.


6- الاستكثار من الخير يدفع السُّوء:

لاستكثرت من الخير "لاستكثرت من العمل الصالح"[19]، فالخير "ما يُرَغَّب الناس فيه من المنافع المادية والمعنوية، كالمال والعلم"[20].


فالاستِكثارُ من فضائل الأعمال والمستحبَّات من الخير، وهو باب يرفع الله به الدرجات، وينال به الإنسان المكرُمات.



وأبوابُ الخير كثيرة، والفضائل واسِعة، والحسناتُ مُتشعِّبة وافِرة،كالأذكار المُستحبَّةُ بعد الصلوات، وصيامُ يوم تطوُّع، وصدقةٌ على مِسكين، واتِّباعُ جنازة، وعيادةُ مريضٍ[21]، وذكر الله أيضا فهو باب عظيم من أبواب الخير[22]، والتعاون بين الناس، وتقديم المعونة، وتفريج الكُرب، وقضاء الديون.. أبواب الخير كثيرة ومتعددة، والله -تعالى- يحبُّ عمل الخير الذي يفعله الإنسان، مهما كان ذلك العمل، ومهما كان حجمه، سواءً أكان صغيرًا أو كبيرًا، وفي أيّ وقتٍ كان.



وفي الآية الكريمة، إشارة بليغة، أن الاستكثار من الخير يدفع السوء ﴿ لاستكترث من الخير وما مسَّنِيَ السُّوء ﴾، ففي الاستكثار من الخير ردُّ سوء المقادير في النفس والأهل والولد والمال؛ كما في حديث أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوء"3] .


فمِنْ أجلِّ ما ينتفع به العبد في حياته وبعد موته: الإحسانُ للناس ببذل المعروف لهم، وتقديم العون بطلب أو بدونه.



لذلك يخبرنا الله عز وجل عن أحوال مَن يواجه الموت، وأنه يتمنَّى الرجوع إلى الدنيالغاية واحد، وهي تقديم العمل الصالح ﴿ حتّى إذا جاء أحدَهُمُ الموتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كلاَّ ﴾ [المومنون: 99-100].


والعمل الصالح هو كل عمل ينتفع به صاحبه وهو عمل الخير.


7-واجب الاحتياط والاحتراز من السُّوء:

هذا مبدأ في الدِّين، لا يتعارض مع الأخذِ بالأسباب التي هي من قدر الله، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يسير وَفق هذا المنهج الشرعي في الأخذ بالأسباب، والتحرز من كل سوء، ففي هجرته صلى الله عليه وسلم، نجد كل هذه الأمور واضحة وجلية، أوَّلا في اختيار علي رضي الله عنه لينام في فراشه، في اختيار طريق غير الطريق المعتادة، في الاستعداد والتجهيز، في اتخاذ الدليل في الصحراء... الخ.



فالإنسان إذن مطالبٌ، بأن يأخذ بالأسباب في كل ما يصيبه، أو يتوقع أن يصيبه، كما يحصل معنا فيما نزل بنا من وباء وبلاء، فكل الاجراءات الوقائية والاستباقية التي يُنصح في العمل بها، من باب دفع السوء المتوقع والمحتمل.



ثم يعمل الانسان ما في وسعه فيعمَد لكل خير حتى يدفع به هذا السوء، وإذا نزل به فهو القدر، كما في الأخذ بالأسباب...



والخلاصة المستفادة من الآية، أن منهج الدِّين هو ربطُ الإنسان بعملِه وواقعه، والابتعاد عن البحث في الأمور الغيبية التي لن يصل إليها مهما بلغ من العلم، وكذا الحثّ على الأخذ بالأسباب، ولزوم الطاعات والتعاون على الخيرات لدفع كل المساوئ والاحتراز من كل ما من شأنه أن يرتّب أثرا سيئا على العبد.

عيوني تضمك
12-09-2023, 12:41 PM
جزاك الله خير الجزاء
دمت برضى الله وحفظه ورعايته