مشاهدة النسخة كاملة : حول كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم (1)


حكاية ناي ♔
12-23-2023, 11:35 AM
وعدنا في العدد الماضي بإيراد طرف من الأحكام الشرعية والأخلاق الإسلامية، شرحاً لكتاب النبي صلى الله عليه وسلم الذي بعث به إلى قيصر الروم سنة سبع من الهجرة. وها نحن نذكر منها ما يتسع له المقام:
1- بدأ صلى الله عليه وسلم كتابه ببسم الله الرحمن الرحيم. وهو يدل على أن السنة في بدء الكتب والرسائل أن تفتتح بالبسملة اقتداءً بالقرآن الكريم، وبهذا الكتاب الخالد. وليست البسملة من خصائص القرآن الكريم بل هي آية من الكتب السابقة كما يجل عليه كتاب سليمان عليه السلام إلى ملكة سبأ. وأنسب ما يتعلق به الجار والمجرور في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون تقديره: أدعو إلى الله مستعينا: على أن يتأخر هذا العامل على البسملة وفاقاً لابن جرير في إعراب بسملة القرآن. وقد وافقه المحققون من علماء العربية على أن الأولى في متعلق الجار والمجرور في البسملة أن يكون فعلاً خاصاً متأخراً.

[ كلمة في الفرق بين الرحمن والرحيم ]
وخير ما يفرق به بين الرحمن والرحيم في المعنى بعد جعلهما علمين للذات العلية أن يلاحظ في الرحمة المستفادة من الرحمن أنها في كل شيء بحبسه بحيث تستعمل في مقام التبشير تارة، وإظهار النعمة والإنذار والتهديد للكافر تارة أخرى، فتكون في ناحية التبشير مساوية للرحيم. وفي ناحية الانذار مساوية للتعزيز: يشهد بهذا ما نسوقه من الآيات. فمن استعمالها في مقام التبشير وإظهار النعيم قوله عز وجل ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ [الرحمن: 1-2]، ومن استعمالها في مقام الانذار قوله عز وجل ﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ ﴾ [الفرقان: 26]، ألا ترى إلى قوله بعدها ﴿ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً ﴾ [الفرقان: 26]، ولهذا لم تتبع بكلمة الرحيم في الآيتين، وإنما يذكر بعدها ما يكون من نعم الدنيا التي تنتهي. وأما كلمة رحيم فإنها تستعمل في رحمة الدار الآخرة التي يختص بها المؤمنون من دون الخلق والتي لا تنتهي. ولا يستعمل "الرحمن" في غير الله عز وجل مع "ال" منفرداً، فلا يرد البيت الذي مدح به مسيلمة الكذاب وهو قول الشاعر:
سموت للمجد يا ابن الأكرمين أباً ♦♦♦ وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
بخلاف (الرحيم) فإنه يطلق على غير الله عز وجل كما في قوله تعالى ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، ويستعمل في جانب الله بأل وبغيرها كما في قوله ﴿ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ﴾ [الأحزاب: 43].

2- ويدل على أنه يكتب بالبسملة للكافرة كما يكتب بها للمسلم. ولهذا كتب بها سليمان عليه الصلاة والسلام إلى ملكة سبأ قبل إسلامها.

3- "من محمد عبدالله ورسوله" فيه أنه يبدأ باسم المرسِل. وهذا هو الذي جرى عليه النبي صلى الله عليه وسلم في جميع كتبه، وكان يختم كتبه بخاتمه وفيه اسمه. وهذا أولى من ترك اسم المرسل في أول الكتاب استغناء بذكره آخر الكتاب.

4- يدل تقديم وصف العبودية لله تعالى على وصف الرسالة، على أنه أحب الأوصاف إليه صلى الله عليه وسلم وأشرفها، ولهذا قدم في التشهد على وصف الرسالة، فالأولى للمصلي أن يجمع بين وصفي العبودية والرسالة، وأن يقدم الأول على الثاني فيقول في تشهده: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وقد شرف الله رسوله بهذا الوصف في آيات من القرآن كما في قوله عز وجل ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا ﴾ [البقرة: 23]، ﴿ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ [الحديد: 9]، ﴿ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ ﴾ [الجن: 19]، كما شرف به غيره من الرسل ﴿ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ ﴾ [صّ: 41]، ﴿ وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ﴾ [صّ: 45]، وفي الصحيحين عن عبادة أنه صلى الله عليه وسلم قال "من مات يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، أدخله الله الجنة على ما كان عليه من عمل".

ولرسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء أشرفها محمد وأحمد. ولهذا لم يستعمل في القرآن سواهما وأشهرهما محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا ذكر به في القرآن مراراً، في آر عمران والأحزاب والقتال والفتح.

5- (إلى هرقل عظيم الروم) فيه أنه لا حرج على من يكتب إلى شخص أن يذكره بأعظم المناصب الدنيوية لاسيما إذا كان يؤمل من وراء ذلك قبول ما يكتب به إليه أو لم يكن يعرف من نسبه شيئاً.

"سلام على من اتبع الهدى" هذا موافق لما قاله موسى وهارون عليهما السلام لفرعون بعد بيان دعوتهما وتأييدها بالحجة. قال تعالى يعلمهما ما يقولان لفرعون ﴿ فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ [طه: 47].

[ هل يجوز بدء الكافر بالسلام أم لا؟؟ ]
وظاهر صنيع النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب وغيره وما يدل عليه القرآن في قصة موسى أنه لا يجوز بد الكافر بالسلام. وقد اختلف العلماء في ذلك، فمنهم من منعه لما تقدم واحتجوا كذلك بما أخرجه مسلم في صحيحه والبخاري في كتاب الأدب المفرد ولم يخرجه في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام -الحديث-" ومنهم من أجازه - وعليه طائفة من السلف- فيمن بيننا وبينهم معاهدة قائمة. وقد احتج عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه ومن وافقه للجواز بقوله عز وجل ﴿ لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8]، وبعموم حديث "وأن تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" وبحديث "لهم ما لنا وعليهم ما علينا". ولا خلاف بين المسلمين في رد السلام عليهم إذا بدأونا به لقوله عز وجل ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا ﴾ [النساء: 86]، وبما كان يفعله صلى الله عليه وسلم من الرد على اليهود وأحاديثه في الصحيحين.

أما تحية الكافر بغير السلام فجائزة لمفهوم حديث "لا تبدأوا" المتقدم ذكره ولعموم آية الممتحنة السابقة ﴿ لا يَنْهَاكُمُ ﴾ وقد رجح عمر بن عبدالعزيز ومن وافقه رأيهم بأن الآية متأخرة النزول فإنها نزلت بعد فتح مكة حين لم يكن بالمدينة من كانوا بها من اليهود. وظاهر حديث رد السلام عليهم من النبي صلى الله عليه وسلم أن ذلك كان في أول الهجرة، كما أن النهي عن بدئهم بالسلام كان قبل نزول الآية فإنها نزلت في أم أسماء بنت أبي بكر وأبي سفيان قبل الفتح في مدة الصلح. وقد اختير القول بالجواز عند أكثر المتأخرين نظراً لأن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كانوا يسوون بين المسلمين والمعاهدين في المعاملة. إلا أن الفرق بين التسليم على الكافر والتسليم على غيره من المسلمين أنه يندب في التسليم على المسلمين ذكر الرحمة والبركة ولا يذكر ذلك في رد السلام على الكافر بل يستبدل بالدعاء له بالهدى.

وفي حديث أصحاب السنن أنه صلى الله عليه وسلم قال "إذا قال المسلم: السلام عليكم كتب الله له عشر حسنات، فإذا قال: ورحمة الله كتب له عشرين حسنة، فإذا قال: وبركاته كتب له ثلاثين ولو زاد لزاده الله عشراً عشراً" فإذا قال البادئ بالسلام هذه الكلمات الثلاث وأراد المسلم أن يرد عليه بأحسن منها قال بعد وبركاته "ومغفرته ورضوانه وأزكى تحياته وتسليماته" كما في حديث الإمام أحمد في تفسير الآية الكريمة ﴿ وَإِذَا حُيِّيتُمْ ﴾. ولو قال: وأسعد الله أوقاتكم وأحسن عملك وأجزل ثوابك كان ذلك من التحية بأحسن، لأن الدعاء للمؤمنين من الخير ومن المكافأة على المعروف، وفي الحديث "من صنع معكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه به فادعوا له بخير".

ومن رغب عن تحية الإسلام التي جعلها الله تحية لآدم ولذريته من بعده وللملائكة عليهم السلام ولأهل الجنة في الجنة – واستبدالها بالتحيات التي ليست من شعار المسلمين فقد رغب عن خير كثير وأضاع مشخصاً من مشخصات الإسلام وخلقاً من أجل مكارم الأخلاق. قال الله تعالى في تحيته لأهل الجنة عند دخولها ﴿ سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ ﴾ [يّس: 58]، وهو أول كلام يبدؤهم به عز وجل بعد دخول الجنة، كما تسلم عليهم الملائكة ﴿ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 23-24].

وفي حديث البخاري "أن الله لما خلق آدم ونفخ فيه الروح قال له اذهب فسلم على أولئك – لنفر من الملائكة – فاسمع ما يجيبونك به – وفي رواية ما يجيبونك به - فإنها تحيتك وتحية ذريتك إلى يوم القيامة".

ومعنى كلمة السلام الأمان والمسالمة والسلامة، وهو اسم من أسماء الله عز وجل أيضاً؛ وهذا المعنى هو الذي يلاحظ في الرد على الكافر إذ يكون معناه: وعليكم الله رقيب. وللمسلم أن يرد على الكافر بقوله: وعليكم ويقتصر، وله أن يقول: وعليكم السلام، ويكون معناه: وعليكم الله رقيب.

وقوله صلى الله عليه وسلم "سلام على من اتبع الهدى" استعمال لنوع من الملاينة التي ينبغي لكل مسلم أن يستعملها، وهي من الخلق الحسن الذي حث عليه الإسلام في كتب الله كلها. قال تعالى لموسى وهارون ﴿ فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 44]، وما أحسن قوله صلى الله عليه وسلم "إن أقربكم مني منزلة يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً الموطؤون أكنافاً - الحديث" وقوله صلى الله عليه وسلم "وخالق الناس بخلق حسن".

مجلة الهدي النبوي - المجلد السادس - العدد (3-4) - صفر سنة 1361

رحيق الورد
12-23-2023, 11:42 AM
اسأل الله العظيم
أن يرزقك الفردوس الأعلى من الجنان.
وأن يثيبك البارئ خير الثواب .
دمت برضى الرحمن