مشاهدة النسخة كاملة : رحمة النبي صلى الله عليه وسلم


حكاية ناي ♔
12-25-2023, 11:25 AM
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، والقائمين بالقسط من الناس.

أما بعد:
لقد بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة وهدى ووسع خلقه الناس جميعاً، وسعهم رفقاً وسهولة، ونضحت يداه بالعطايا كرماً وجوداً، أبرُهم قلباً، وأصدقهم لهجة.

وإن من أخص خصائصه أن لازمته تلك الفضائل الزكية في أشد الأوقات، وأحلك الظروف.

شُجَّ رأسُه، كُسرت رباعيته في غزة أحد فقيل له: (ألا تدعو على المشركين) فقال:" اللهم اهد قومي، فإنهم لا يعلمون".

نعم، لقد كان رحمة للناس أجمعين، يقول تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

فالناس في حاجة إلى كنف رحيم وشاشة سمحة، وود يسعهم، وحِلم لا يضيق بجهلهم، وضعفهم ونقصهم.

في حاجة إلى القلب الكبير، الذي يعطي ولا ينتظر العطاء، ويحمل همومهم، ولا يعنيهم بحمل همه.

يهتم بهم ويرعاهم، ويسامحهم ويودهم ويرضيهم، ويعطف عليهم، وهكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159]

إن الرجل العظم كلما ارتفع إلى آفاق الكمال اتسع صدره للناس، وامتد حلمه، وتطلب الأرفق للناس، والتمس الأعذار لهم، وأخذهم بالأرفق من حالهم، ولقد أخبرت عائشة - رضي الله عنها - عن حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله تعالى).

ويقول صلى الله عليه وسلم:" إن الله لم يبعثني معنتاً، ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً ".

وكان صلى الله عليه وسلم يوصي الدعاة الذين يرسلهم باللين والرفق في الدعوة، وبالتيسير بدل التعسير، فقد أخرج البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما - حين بعثهما إلى اليمن: " يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا ".

لقد كانت تلك سنته العملية، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه وهريقوا على بوله سجلاً من ماء أو ذنوباً من ماء، فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين "[البخاري].

وفي رواية ابن ماجة: (بأبي وأمي، فلم يؤنب، ولم يسب فقال: " إن هذا المسجد لا يبال فيه، إنما بني لذكر الله والصلاة).

وزاد الترمذي: فقال الأعرابي: (اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " لقد حجرت واسعاً ".

إن حقاً على المسلمين، وقد علموا ذلك من سنته وسيرة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم إن حقاً عليهم أن يستصحبوا الرفق واللين في الأمر كله، فالدين دين الرحمة، دين يحض على معاملة الناس بالحسنى والتودد إليهم بكل وسيلة مشروعة، وقضاء حوائجهم، وتفقد غائبهم، وعيادة مرضهم، و هذا كله لونٌ من ألوان الدعوة لهذا الدين.

فالرفق باب عظيم من أبواب الخير، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه ".

وفي الحديث الآخر عند مسلم أيضاً: " من يحرم الرفق، يحرم الخير ".

إن على الأب الشفيق، والأم الرؤوم، والزوج، وذي المسؤولية في الناس أن يرفق بمن تحت يده، فلا يأخذهم إلا بحق، فإن من أعنف العنف أن يظلم الرجل الناس، فيتتبع سقطاتهم، وينتظر زلاتهم؛ حتى يشهر بهم، أو حتى يجعل ذلك سبيلاً إلى الإضرار بهم.

إن العقل والحكمة والمعرفة بطبائع الحياة والأحياء، تقتضي تقبل الميسور من أخلاق الناس، والاجتهاد في إصلاحهم بالحسنى، والرضا بظاهر أحوالهم، وعدم التقصي عن سرائرهم، كما تقتضي قبول أعذارهم، والغض عن هفواتهم، وحملهم على السلامة وحسن النية.

فليس من الرفق ولا الأدب، ولا الخلق الحسن، المسارعة إلى هتك الأستار والتعجل في كشف الخطايا.

إن من العنف في القول، والذي هو أشد ضرراً من عنف العمل التشاغل بعيوب الناس قصد الغض منهم واحتقارهم، وتشويه صورتهم بين الآخرين.

ومن أعنف ذلك أن يجمع بين نشر الخطايا وستر الخير، وإخفاء صالح قول وعمل الآخرين.

إن وظيفة المسلم ليست أن يلوك خطايا الناس، ويتتبع عثراتهم، ويغض النظر عن حسناتهم، وإنما وظيفته أن يكثر الخير فيهم ويقلل الشر، بدعوة الناس إلى الخير، ونصحهم لترك الشر (فمن قال هلك الناس، فهو أهلكهم)

ليست مهمة المسلم أن يتكلم عن أخطاء العباد، معاصي العباد، وذنوب العباد، دون أن يكون له جهد في إصلاح العباد، ودعوتهم إلى الخير.

إن المسلم إذا أخذ الناس بحق، فإن عليه أن لا يدفعهم إلا بالحسنى، ولا يأمرهم إلا بما يستطيعون ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ [الطلاق: 7].

لقد امتلأ قلب حامل الخير للناس بالرحمة للخلق، والمودة الصادقة الخالصة، والرأفة التي لا تشوها شائبة، فهو لا يرى لنفسه فضلاً على غيره، ولا يكون عوناً للشيطان على أخيه، لا يحتقر العاصي لمعصيته، ولا يلعنه ويسبه، بل يجعل وجود المعصية سبباً للرحمة والاجتهاد في إنقاذ أخيه.

روي أن أبا الدرداء - رضي الله عنه - مرَّ على رجل قد أصاب ذنباً، والناس يسبونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب - أي في بئر - ألم تكونوا مستخرجيه، قالوا: بلى، قال: فلا تسبوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم.

نعم، فالداعية لله، يرى العاصي، وكأنما هو الغريق، أو الحريق الذي يجب أن يجتهد في إنقاذه، وأن يستفرغ الوسع في تدارك الأمر، قبل أن يتم الغرق أو الحرق.

(فالداعية لله) وهذه مهمة كل مسلم يرى المعصية وكأنها النار الموقد المستعرة في أخيه؛ لعلمه بعواقب الأمر.

فيسعى في الإصلاح، وإن قلباً يحمل هذه الرحمة للناس، حقيق أن يحصل له مراده؛ لأنه رحم ورأف ومن لوازم الرحمة والرأفة الرفق، ومن لوازم الرفق قبول للناس للدعوة، وتأثيرها في قلوبهم.

وإن أبلغ ما يكون ذلك الرفق أثراً حينما يكون على من ولاك الله أمره وآتاك سلطاناً عليه.
وإن أبلغ ما يكون العنف شراً وضرراً حين يكون على من ولاك الله أمره، وآتاك سلطاناً عليه.
لقد جعل الله السلطان سلطان الأبوة أو الزوجية، أو العمل، أو الرئاسة في عمل ونحوه.

وإن جعلك ذلك السلطان سبيلاً للتسلط والعنف، يجر إلى كراهية الخلق لمن تسلط عليه ونفرته؛ حتى لو كنت آمراً بالخير داعياً إليه.

على أنه ينبغي التنبيه على أمر وهو أن الرفق والرحمة التي دعا إليها الإسلام ليست رفقاً سلبياً، يعني الكف عن الدعوة وعدم إنكار المنكر، ولكنه رفق مقترن بالدعوة والإصلاح، والتعامل مع الخلق؛ إذ كيف يوصف بالرفق أو العنف من كف فلم يعمل ولم يعامل الخلق!!

إن العقوبة في محلها ليست عنفاً مذموماً، ولا شدة مكروهة، إذ هي دواء ناجع في محله، فهي ليست نتاج تدبر وتأمل ومعرفة العوائد والفوائد والحكم العظيمة، فالحدود الشرعية مؤلمة لكنها تطهر من الذنوب، وتحمي المجتمع من الخراب والفساد.

إن معايير العنف والرفق ليست موكلة إلى أحد من الخلق خاصة أهل الأهواء الذين لا يريدون رداً ولا صداً عن أهوائهم، ولكنها إلى الشرع الذي حدد معايير ذلك.

أيها الإخوة:
إن رحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله - تعالى - ورحمة الله عظيمة واسعة من آثارها كل خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، فمن نال رحمة الله بلا شك سعد.

ومن فقد رحمة الخلق فقد صار إلى أكبر القواطع والموانع عن رحمة الله، ففي الحديث: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله).

والرحمة التي يتصف بها العبد نوعان:
النوع الأول: رحمة غريزية، جبل الله بعض العباد عليها، وجعل في قلوبهم الرحمة والرأفة والحنان، والعطف على الخلق، ففعلوا بمقتضى هذه الرحمة جميع ما يقدرون عليه من النفع بحسب الاستطاعة، فهم محمودون مثابون على ما قاموا به، معذورون عمّا عجزوا عنه.

والنوع الثاني: رحمة يكتسبها العبد بسلوكه كل طريق ووسيلة تجعل قلبه على هذا الوصف، فيعلم أن الرحمة من أجل مكارم الأخلاق وأكملها، فيجاهد نفيه على الاتصاف بها؛ رجاء نوال ثوابها وخشية حلول العقاب بتركها، فهذا لا يزال مجتهداً في تعرف الأسباب التي يدرك بها هذا الوصف الجميل.
• • •

إن الاطلاع على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بشكل موسع لهو سبب هام رئيس في معرفة الرحمة واللين على حقيقتها، وعلى مواضعها التي تمارس فيها.

ولأجل هذا، نلقي الضوء على سيرته صلى الله عليه وسلم لمعرفة ذلك القلب الكبير الذي وسع الخلق كلهم: برهم، وعاصيهم، وكافرهم، وذلك الجانب الخلقي الذي ما هو إلا غصن من جملة أغصان شجرته التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.

إن خُلق الرحمة واللين، والشفقة على الخَلق، مدونة في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لإرغام الباطل وأهله، والمرجفين الساعين إلى تحطيم معلم النبوة لدى محمد صلى الله عليه وسلم ببث الأقاويل وصبغها بصبغة العلم، والعلم منها براء، فما زالت السموم تنشر هنا وهناك بأن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان إلا سفاكاً للدماء ظالماً غاشماً، يجبر الناس على دينه، ونسوا بل تناسوا أن الإسلام قد جاء بأعظم مبدأ عرفته البشرية ألا وهو مبدأ ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256] هذا المبدأ الذي يشع ويتضلع رحمةً وليناً ما بعده لين، فهل هناك من رحمة ولين في أن تترك الخصم يمارس ما يراه صواباً، وأنت تعلم علم اليقين بأنه على باطل، ولك من القوة والجبروت إرغامه، بل إزالته عن الوجود إذا أردت.

لقد قال أحد عقلاء غير المسلمين: (لم يعرف التاريخ فاتحين أرحم من العرب).

نعود لما أردنا وهو أن الله - عز وجل - قد ذكر ونص في كتابه على لين ورحمة النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن ذلك قوله تعالى:
1 - ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [ آل عمران: 159].

قال القرطبي رحمه الله: (وغلظ القلب عبارة عن تجهم الوجه، وقلة الانفعال في الرغائب، وقلة الإشفاق والرحمة) [تفسير القرطبي ج4/ ص248].

قال ابن سعدي رحمه الله: (أي برحمة الله لك ولأصحابك من الله عليك أن ألنت لهم جانبك وخفضت لهم جناحك وترققت عليهم وحسنت لهم خلقك فاجتمعوا عليك وأحبوك وامتثلوا أمرك ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا ﴾ [آل عمران: 159] أي سيئ الخلق ﴿ غَلِيظَ الْقَلْبِ ﴾ [آل عمران: 159] أي قاسيه ﴿ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [آل عمران: 159] لأن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق السيئ فالأخلاق الحسنة من الرئيس في الدنيا تجذب الناس إلى دين الله وترغبهم فيه مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص والأخلاق السيئة من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين وتبغضهم إليه مع ما لصاحبها من الذم والعقاب الخاص فهذا الرسول المعصوم يقول الله له ما يقول فكيف بغيره أليس من أوجب الواجبات وأهم المهمات الاقتداء بأخلاقه الكريمة ومعاملة الناس بما كان يعاملهم به صلى الله عليه وسلم من اللين وحسن الخلق والتأليف امتثالا لأمر الله وجذبا لعباد الله لدين الله) [تفسير ابن سعدي:154].

2 - وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107].

قال القرطبي رحمه الله: (قال سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لجميع الناس فمن آمن به وصدق به سعد ومن لم يؤمن به سلم مما لحق الأمم من الخسف والغرق) [تفسير القرطبي ج11/ ص350].

قال الشنقيطي رحمه الله: (ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ما أرسل هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلى الخلائق إلا رحمة لهم لأنه جاءهم بما يسعدهم وينالون به كل خير من خير الدنيا والآخرة إن اتبعوه ومن خالف ولم يتبع فهو الذي ضيع على نفسه نصيبه من تلك الرحمة العظمى وضرب بعض أهل العلم لهذا مثلا قال لو فجر الله عينا للخلق غزيرة الماء سهلة التنازل، فسقى الناس زروعهم ومواشيهم بمائها فتتابعت عليهم النعم بذلك، وبقي أناس مفرطون كسالى عن العمل، فضيعوا نصيبهم من تلك العين، فالعين المفجرة في نفسها رحمة من الله، ونعمة للفريقين، ولكن الكسلان محنة على نفسه حيث حرمها ما ينفعها، ويوضح ذلك قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ﴾ [إبراهيم: 28]

وقيل: كونه رحمة للكفار من حيث إن عقوبتهم أخرت بسببه، وأمنوا به عذاب الاستئصال. والأول أظهر.) [أضواء البيان:4/ 250 - 251].

3 - وقوله أيضاً: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [ التوبة:128].

قال ابن سعدي رحمه الله: (يمتن تعالى على عباده المؤمنين بما بعث فيهم النبي الأمي الذي من أنفسهم يعرفون حاله ويتمكنون من الأخذ عنه، ولا يأنفون عن الانقياد له وهو صلى الله عليه وسلم في غاية النصح لهم والسعي في مصالحهم ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ ﴾ [التوبة: 128] أي يشق عليه الأمر الذي يشق عليكم ويعنتكم ﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ﴾ [التوبة: 128] فيحب لكم الخير ويسعى جهده في إيصاله إليكم، ويحرص على هدايتكم إلى الإيمان ويكره لكم الشر ويسعى جهده في تنفيركم عنه ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128] أي شديد الرأفة والرحمة بهم أرحم بهم من والديهم ولهذا كان حقه مقدما على سائر حقوق الخلق وواجب على الأمة الإيمان به وتعظيمه وتوقيره وتعزيزه) [تفسير ابن سعدي:356 - 357].

وجاءت سيرته وشمائله صلى الله عليه وسلم متماشية مع هذه الحقيقة القرآنية، والمنحة الإلهية للخلق بأن جعل هذا النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة للعالمين.

فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا أيها الناس! إنما أنا رحمة مهداة " [الحاكم: المستدرك على الصحيحين: (1/ 91) وقال: حديث صحيح على شرطهما].

وهي صفة متقررة؛ حتى في كتب أهل الكتاب كالتوراة، فعن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، قال: (أجل، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ﴾ [الأحزاب: 45] وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله؛ حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعينا عمياً، وآذانا صماً، وقلوبا غلفاً) [البخاري:2/ 747].

قال جابر بن عبد الله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً سهلاً) [مسلم ].

قال النووي رحمه الله: (وقوله: "سهلاً " أي: سهل الخُلق، كريم الشمائل، لطيفاً، ميسراً في الخَلق، كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4] [شرح النووي على صحيح مسلم ج8/ ص160].

ونجد صوراً كثيرة من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بالخلق في سيرته العطرة ومن ذلك:
تقريره لمبدأ الرحمة بشكل عام حين قال: " لا يرحم الله من لا يرحم الناس " [ البخاري] وكلمة الناس هنا عامة تشمل كل أحد، دون اعتبار لجنسهم أو دينهم.

وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أن ابنة للنبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم وسعد وأبي، نحسب أن ابنتي قد حضرت فأشهدنا، فأرسل إليها السلام ويقول:" إن لله ما أخذ، وما أعطى، وكل شيء عنده مسمى، فلتحتسب، ولتصبر " فأرسلت تقسم عليه. فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا فرفع الصبي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ونفسه تقعقع، ففاضت عينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال له سعد: ما هذا يا رسول الله؟ قال: " هذه رحمة وضعها الله في قلوب من شاء من عباده، ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء "[البخاري].

قال ابن حجر رحمه الله: (ومقتضاه أن رحمة الله تختص بمن اتصف بالرحمة وتحقق بها، بخلاف من فيه أدنى رحمة) [فتح الباري ج3/ ص158].

وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من لا يرحم لا يرحم "[البخاري].

وقد ساق البخاري في باب رحمة الناس والبهائم حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم غرس غرساً فأكل منه إنسان أو دابة إلا كان له صدقة"[البخاري].

فدين الإسلام دين السماحة والرحمة يسع الناس كلهم ويغمرهم بالرحمة والإحسان.

وعلق ابن حجر - رحمه الله - على تبويب الإمام البخاري - رحمه الله - باب: رحمة الناس والبهائم: (أي صدور الرحمة من الشخص لغيره، وكأنه أشار إلى حديث ابن مسعود رفعه قال: " لن تؤمنوا حتى ترحموا " قالوا كلنا رحيم يا رسول الله! قال: " انه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة الناس رحمة العامة " أخرجه الطبراني ورجاله ثقات) [فتح الباري ج10/ ص438].

وجوانب رحمته بالمؤمنين كثيرة فهو كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [ التوبة:128].

أما رحمته لغير المسلمين فهي مضرب المثل وقمة الخلق مع المخالف حتى في الدين.

1 - ففي جانب الاعتقاد تظهر رحمته لغير المسلمين في تقرير حرية الاعتقاد وممارسة العبادة لهم ﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ [الكهف: 29] فلا إكراه في الدين والعبادة، فلم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه ألزم أهل الكتاب بدين الإسلام مع قدرته على قهرهم وإلزامهم، وحرصه أشد الحرص على هدايتهم.

ففي كتابه لأهل نجران النصارى نجد: (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي للأسقف أبي الحارث وأساقفة نجران وكهنتهم ورهبانهم، وكل ما تحت أيديهم من قليل وكثير جوار الله ورسوله، لا يغير أسقف من أسقفته، ولا راهب من رهبانيته، ولا كاهن من كهانته، ولا يغير حق من حقوقهم ولا سلطانهم، ولا ما كانوا عليه من ذلك جوار الله ورسوله أبداً؛ ما أصلحوا ونصحوا عليهم غير مبتلين بظلم ولا ظالمين. وكتب المغيرة بن شعبة) [ابن كثير: البداية والنهاية:5/ 55].

2 - ومن صور رحمته أنه يوم بدر قبيل المعركة يقول لأصحابه: (إني قد عرفت رجالا من بني هاشم وغيرهم قد اخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله فلا يقتله، فانه إنما خرج مستكرها) [ابن كثير: البداية والنهاية ج3/ ص284].

3 - ولما أسلم ثمامة بن أثال - رضي الله عنه - أقسم وقال: ولا والله لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم ثم خرج إلى اليمامة، فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً، فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنك تأمر بصلة الرحم، فكتب إلى ثمامة أن يخلى بينهم وبين الحمل إليهم. [ ابن كثير: البداية والنهاية: (5/ 49) وابن حجر: فتح الباري: (8/ 88)].

لقد كانت رحمة أعلى من الخصومة، وأرفع من العداوة، وأعظم من مقابلة التجويع بمثله، بل لم يعاملهم بمثل ما عاملوه به يوم حصار الشِعب، ولم يستغل الحصار الاقتصادي لإرغام قريش على ما يريد لقد كانت خصومته شريفة صلى الله عليه وسلم.

4 - ولما توجه صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحا لقيه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة، والتمسا الدخول عليه، فكلمته أم سلمة فيهما فقالت: يا رسول الله إن ابن عمك وابن عمتك وصهرك. قال: لا حاجة لي بهما، أما ابن عمي فهتك عرضي، وأما ابن عمتي فهو الذي قال لي بمكة ما قال. قال: فلما خرج الخبر بذلك، وكان مع أبي سفيان بني له. فقال: والله ليأذنن لي، أو لآخذن بيد بني هذا، ثم لنذهبن في الأرض، ثم نموت عطشاً وجوعاً، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم رق لهما، ثم أذن لهما، فدخلا عليه فأسلما. [البداية والنهاية ج4/ ص287].

5 - ومر صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين بامرأة قتلها خالد بن الوليد والناس مزدحمون عليها فقال لبعض أصحابه: أدرك خالداً، فقل له: إن رسول الله ينهاك أن تقتل وليداً أو امرأة أو عسيفاً. [البداية والنهاية:4/ 337].

6 - ولما أسر سهل بن عمرو في بدر قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لرسول الله صلى الله عليه وسلم: دعنى أنزع ثنية سهيل بن عمرو، ويدلع لسانه، فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أمثل به فيمثل الله بي، وإن كنت نبياً، عسى أن يقوم مقاماً لا تذمه. [البداية والنهاية ج3/ ص310].

وهذا هو المقام الذي قامه سهيل بمكة حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد من العرب ونجم النفاق بالمدينة وغيرها فقام بمكة فخطب الناس وثبتهم على الدين الحنيف.

7 - كان يقول لأصحابه عند توزيع الأسرى: " استوصوا بالأسرى خيراً ".

8 - وأعفى الأسرى الفقراء من الفدية رحمة بهم كما فعل مع أبي عزة عمر بن عبد الله لما ذكر له بأنه أباً لفتيات وهو فقير لا يقدر على الفدية، فأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم.

9 - ولما سأل النبي صلى الله عليه وسلم جارية من السبايا فقال لها: من أنت؟ قالت: أنا بنت حاتم الجود. فقال: ارحموا عزيز قوم ذل، ارحموا عالماً ضاع بين جهال.

10 - كما تجاوز عن قريش - وما أدراك ما فعلت قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فكان موقفه ممن كانوا حرباً على الدعوة ولم يضعوا سيوفهم بعد عن حربها أن قال لهم: "ما تظنون أني فاعل بكم؟ فقالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء".

11 - وكان يدعو صلى الله عليه وسلم لمخالفيه من غير المسلمين بالهداية، فقد قدم الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه فقالوا: يا رسول الله إن دوساً قد كفرت وأبت فادع الله عليها، فقيل: هلكت دوس فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهد دوساً وأئت بهم".

ودعا صلى الله عليه وسلم لأم أبي هريرة قبل إسلامها، فقد روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة فدعوتها يوماً، فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي قلت: يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " اللهم اهد أم أبي هريرة "، فخرجت مستبشراً بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم فلما جئت فصرت إلى الباب، فإذا هو مجاف، فسمعت أمي، خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من الفرح.

وجاء الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ادع الله على ثقيف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهد ثقيفاً " قالوا: يا رسول الله ادع عليهم. فقال: " اللهم اهد ثقيفاً"، فعادوا فعاد، فأسلموا وكانوا ممن ثبت يوم الردة.

ومن صور الدعاء ما كان من اليهود حيث كانوا يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول لهم يرحمكم الله، فلم يحرمهم من الدعوة بالهداية والصلاح، فكان يقول: "يهديكم الله ويصلح بالكم".

12 - وكان صلى الله عليه وسلم يقبل هدايا مخالفيه من غير المسلمين، فقبل هدية زينب بنت الحارث اليهودية امرأة سلام بن أبي مشكم في خيبر، حيث أهدت له شاة مشوية قد وضعت فيها السم.

وقد قرر الفقهاء قبول الهدايا من الكفار بجميع أصنافهم حتى أهل الحرب قال في المغني: (ويجوز قبول هدية الكفار من أهل الحرب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدية المقوقس صاحب مصر).

13 - كما تظهر رحمته النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين في كتبه إليهم حيث تضمنت هذه الكتب دعوتهم إلى الإسلام بألطف أسلوب وألين عبارة.

14 - وكان صلى الله عليه وسلم يغشى مخالفيه في دورهم ويأتيهم في مجالسهم تواضعاً منه ودعوة لهم إلى دين الإسلام، فعن أبي هريرة رضي الله عه قال: بينا نحن في المسجد إذ خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انطلقوا إلى يهود فخرجنا معه حتى جئناهم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداهم فقال: "يا معشر يهود أسلموا تسلموا" فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم.

15 - وعاد صلى الله عليه وسلم يهودياً، كما في البخاري عن أنس - رضي الله عنه - أن غلاماً ليهود كان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقال: "أسلم " فأسلم.

16 - وكان صلى الله عليه وسلم يعامل مخالفيه من غير المسلمين في البيع والشراء والأخذ والعطاء فلا يخونهم ولا يخدعهم ولا يغشهم، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: "توفي النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين" يعني: صاعاً من شعير.

وكان صلى الله عليه وسلم يأمر بصلة القريب وإن كان غير مسلم رحمة بهذه الصلة من أن تتقطع فعن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: قدمت علي أمي، وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: " نعم، صلي أمك " [البخاري].

ومن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بغير المسلمين خاصة الذين يعيشون بين ظهراني المسلمين ممن يحترمون قيم ومبادئ الإسلام أن وضع أسس حمايتهم ورعايتهم وعدم ظلمهم وتحريم البغي عليهم بغير حق فقال صلى الله عليه وسلم: " ألا من ظلم معاهداً، أو انتقصه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة " وشدد الوعيد على من هتك حرمة دمائهم فقال صلى الله عليه وسلم: "من قتل معاهداً، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً ".

تلك بعض من صور رحمة النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين وهو نهج سار عليه الصحابة رضي الله عنهم والتابعون من بعدهم ومن جاء بعدهم عبر تاريخ الإسلام.

مجنون بحبك
12-25-2023, 11:25 AM
جزاك الله خيـر
وبارك الله في جهودك
وأسال الله لك التوفيق دائما