مشاهدة النسخة كاملة : قبسات من أخلاق النبي محمد صلى الله عليه وسلم


حكاية ناي ♔
12-25-2023, 11:35 AM
لقد ورد فيما مضى كيف كان النبي محمد صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام، وكيف أنه ملقبٌ في قومه بالصادق الأمين، ورأينا كيف ارتضوه حكمًا في قضية وضع الحجر الأسود عند بناء الكعبة، وما اشتمل عليه من خصال كريمة بين قومه.. فها نحن نظهر بعض ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم من أخلاق حميدة اعترف له بها القاصي والداني، ووصفه بها ربه في القرآن، ولم يعترض عليها ولم ينكرها إلا من جهل محمدًا صلى الله عليه وسلم وما جاء به وما دعا إليه... ولعل أول ما نبدأ به هو وصف الله لمحمد صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].

وحسب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم - رسولِ اللهِ - هذا الثناءُ العظيم من الرب العظيم: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]، ولِمَ لا وقد أدبه ربه فأحسن تأديبه، وعصمه من الفواحش والدنايا، وأكرمه بمحاسن الأخلاق وجميل الصفات، وارتضاه أسوة حسنة لعباده؟! ولِمَ لا يتأسى به المسلمون وقد ذكرت عائشة حينما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: "كان خلقه القرآن"[1]؟! ومعنى هذا: أنه امتثل القرآن أمرًا ونهيًا، فما أمره القرآن به فعله، وما نهاه عنه تركه، وتخلق بأخلاقه العظيمة[2]، ولِمَ لا وهو القائل: ((إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق))؟! وكان دائمًا يدعو الله قائلًا: ((.. واهدِني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرِفْ عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت...))[3].

وبذلك استحق أن يكون الأسوة الحسنة لجميع الناس على اختلاف مشاربهم، وما من أحد إلا ويجد في سيرته صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى الذي يهتدي به في مناكب الحياة، يقول الأستاذ (سليمان الندوي):
"إن حياة موسى عليه السلام تمثل لنا القوة البشرية العظيمة والبطش الشديد، ولكننا لا نعرف في المأثور عنه ما تكون لنا فيه الأسوة الحسنة من ناحية دماثة الخلق، وخفض الجناح، وسجاحة النفس وسماحتها... وفيما نعرفه من حياة المسيح عليه السلام نماذج لسماحة النفس ورقة الطبع ودماثة الخلق ولين الجانب، لكننا لا نجد فيما وصل إلينا من أخلاقه وأعماله تفاصيل عن شؤون حياته وأسرته تحرك ساكن القوى وتثير كوامن النفس وتنبه القوى المتراخية، والإنسان في حياته محتاج إلى هذا وهذا، فكما يحتاج إلى ما يهدئ ثائرة قواه ويسكن جائشها يحتاج كذلك إلى ما يثير الكامن من هذه القوى ويهيج ساكنها وينبه المتراخي منها، إنه في حاجة إلى حياة يتخذها قدوة له في هاتين الحالتين المختلفتين، على أن يكون بيد صاحبها ميزان العدل بالقسط تستوي كفتاه، ولن تجد الجمع بين هاتين الخصلتين المختلفتين جمعًا قويمًا عزيز الوجود إلا في حياة محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه هو الذي مثلت حياته أعمالًا كثيرة متنوعة، بحيث تكون فيه الأسوة الصالحة والمنهج الأعلى للحياة الإنسانية في جميع أطوارها؛ لأنها جمعت بين الأخلاق العالية والعادات الحسنة والعواطف النبيلة المعتدلة والنوازع العظيمة القوية"[4].

والنقطة الثانية التي تتجلى فيها عظمة الخلق المحمدي هي أن هذه الأخلاق على درجة سواء وفي توازن عجيب، فلا خلق يطغى على خلق، ولا صفة تطغى على صفة، رحمة في غير ضعف، وتواضع في غير مهانة، وحياء في غير ذلة، وشجاعة في غير تهور، وعزة في غير كبرياء، وجُودٌ في غير إسراف، وعدل في غير تفريط، وحِلم في غير غفلة، وزهد في غير رهبانية، ومزاح في غير باطل... ومن أي النواحي نظرت في حياة محمد صلى الله عليه وسلم وجدتَه عظيمًا، كان عظيمًا في بيته بين أزواجه وبنيه، وبين مواليه وخدمه، وكان عظيمًا بين أصحابه، وكان عظيمًا مع أعدائه، وكان عظيمًا وهو يدعو إلى ربه عز وجل، وكان عظيمًا وهو يسوس الدولة، ويجهز الجيش، ويرسل البعوث، ويدعو الأفراد والقبائل، ويكاتب الملوك والأمراء، وكان عظيمًا وهو في محرابه بين يدي ربه عز وجل يدعوه خاشعًا متضرعًا فقيل له في ذلك، فقال: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!))[5].

لقد كان عظيمًا في رحمته، وفي تواضعه، وفي جوده، وفي حِلمه، وفي شجاعته، وفي عدله، وفي حيائه، وفي صدقه، وفي وفائه، وفي زهده... وكان عظيمًا في كل شيء... وشهد بهذه العظمة الصاحب والعدو، والقريب والبعيد، والقاصي والداني، واشتهر ذلك بين الناس وتناقلوه جيلًا عن جيل، وهو من أعظم دلائل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لمن أنصف، حتى قال ابن حزم: "إن سيرة محمد صلى الله عليه وسلم تقتضي تصديقه ضرورة، وتشهد له بأنه رسول الله حقًّا، فلو لم يكن له معجزة غير سيرته لكفى"[6].

وها هم أقرب الناس إليه يشهدون بعظيم أخلاقه، ولعلنا اطلعنا على ما قالته خديجة له عندما رأى الوحي لأول مرة وعاد خائفًا فزعًا من هول ما رأى، إذ ردت على قوله: ((لقد خشيت على نفسي))، قائلة: "كلا، والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتَكسِب المعدوم، وتَقْري الضيف، وتعين على نوائب الحق))[7].

وهذه عائشة زوجته تقول عنه وقد سئلت: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع في بيته؟ قالت: "يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة"، وحينما سئلت عن خُلق رسول الله، قالت: "لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا، ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح"[8].

وهذا ابن عمه (علي بن أبي طالب) يصفه فيقول: "أجود الناس كفًّا، وأشرحهم صدرًا، وأصدق الناس لهجة، وألينهم عريكة، وأكرمهم عِشرة، من رآه بديهة هابه، ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته: لم أرَ قبله ولا بعده مثله"[9].

وهذا ابن عمه (جعفر بن أبي طالب) يقف بين يدي (النجاشي) في بلاط الملك بين بطارقته وحاشيته فيقول: "أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولًا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام... فصدقناه وآمنا به واتبعناه..."[10].

وهذا ابن عمه (عبدالله بن عباس) قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجودُ ما يكون في شهر رمضان حتى ينسلخ فيأتيه جبريل فيعرض عليه القرآن، فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة"[11].

فهؤلاء أقرباؤه، وهذه شهاداتهم فيه... أما شهادات أصحابه من غير قرابته فحدث عن البحر ولا حرج، فما أكثر ما وصفوه به، وشهدوا له به من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، ونذكر منها:
ما قاله أنس بن مالك مولى رسول الله: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أفٍ قط، وما قال لي لشيء صنعته: لِمَ صنعتَه؟ ولا لشيء تركته: لم تركتَه؟"[12].

ولعلك قد يأخذك بعض الريب في هذه الشهادات فتحسب الباعث من ورائها عنصر القرابة من رسول الله أو الصحبة له، فدونك إذًا، فها هي شهادات أعدائه فيه، والفضل ما شهدت به الأعداء، إن هؤلاء الذين نشأ بين أظهرهم، وقضى أربعين سنة من عمره وهم يعرفون عنه الصغيرة والكبيرة قبل أن يبعثه الله نبيًّا.

فها هو (أبو سفيان) - وهو سيد قريش، ومن أشد أعدائه يومئذ - واقف في بلاط (هرقل) عظيم الروم يسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في محاورة طويلة وثقها الكثير من المؤرخين، فكان من جملة ما سأله عن أخلاقه صلى الله عليه وسلم، قال: "هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فأجاب أبو سفيان: لا، قال: فهل يغدر؟ قال: لا.

قال: ماذا يأمركم؟ قال: أن اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة... ثم عقب (هرقل) على جواب (أبي سفيان) قائلًا: سألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، فذكرتَ أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله!"[13].

وهذا (أبو جهل) - وهو من ألد أعدائه وأشدهم حربًا على الإسلام والمسلمين - لم يملك إلا الاعتراف بصدق محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: "إنا لا نكذبك، ولكن نكذب الذي جئت به"، فأنزل الله قوله: ﴿ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ﴾ [الأنعام: 33، 34].

مجنون بحبك
12-25-2023, 11:37 AM
جزاك الله خير الجزاء
دمت برضى الله وحفظه ورعايته