مشاهدة النسخة كاملة : لماذا هاجر النبي صلى الله عليه وسلم؟


حكاية ناي ♔
01-01-2024, 05:08 PM
الهجرة النبويَّة الشريفة.. تتجدَّد الذِّكرى كل عام، كغيرها من المناسبات الكبرى في العالم، فهل تتجدَّد معها المعاني؟

هل تتجدَّد الأفكار والرُّؤى، والطموحات والدوافع؟
لماذا يتكرَّر حديث الهجرة كل عام دون أن نملَّ؟
هل يمكن فعلاً أن تضيف مدارسةُ الذِّكرى جديدًا إلينا؟

وكيف لنا أن نتدارس ذكريات وقائع السِّيرة النبويَّة في إطار منهج فكريٍّ متَّسق مع متطلبات العصر؟
إنَّها أسئلة يفرضها الواقعُ على العقل المسلم المعاصر، فهل نحن جاهزون للانطلاق؟

إنَّ حوادث السيرة النبويَّة الكبرى تمثِّل لنا ذكرياتٍ خالدةً حيَّة نابضة؛ حيث إنَّ السيرة النبوية بوقائعها وأحداثها هي ترجمان القرآن الكريم، والمذكِّرة التفسيريَّة للكتاب الخاتم الخالد، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم لم يجلس بين أصحابه ليفسِّر لهم القرآن الكريم كما يفعل العلماء والمشايخ والمفسِّرون في عصرنا والعصور السَّابقة؛ وإنما كان يحيا بالقرآن في حركاته وسكناته، صحوه ونومه، يحيا به قولاً وعملاً وفعلاً، فكانت حياته كلها القرآن، أو كان قرآنًا يمشي على الأرض.

ولأنَّ السيرة النبويَّة هي التطبيق الحيوي والترجمة الفعليَّة للقرآن في أرض الواقع؛ فقد اتَّسمت ببعض سِمات القرآن الكريم؛ فهي لا تفنى عجائبُها ولا تَخلَق على كثرة الردِّ! يتجدَّد من خلالها الإلهام بتجدُّد الزمان وتعدُّد الأمكنة.. فكلَّما أَعَدْنا قراءةَ السيرة النبوية الشريفة متجرِّدين من الأفكار المعلَّبة، قادَتْنا القراءة الجديدة إلى إسهامات فكريَّة رائعة في واقع الحياة.. ولستُ أقصد بارتباط السيرة بالقرآن الكريم ارتباطًا لصيقًا وثيقًا - أنَّ لكُتبها ورواتها ورواياتها قدَاسةً كقداسَة القرآن الكريم، فالمقدَّس في الإسلام الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه هو القرآن الكريم وحده لا سواه؛ وإنَّما نقصد بارتباطها الوثيق بالقرآن الكريم أنَّها تقدِّم النموذجَ العملي الواقعي لتطبيق القرآن والسعي به في الحياة الدُّنيا، وشرح الوقائع والأحداث التي واكبَت نزول الوحي على النبيِّ صلى الله عليه وسلم.

إنَّ فهم وقائع السيرة النبويَّة من هذا المنطلق ركنٌ أصيل من أركان فهم وتطبيق القرآن دون غلوٍّ يقدِّس رواياتها المختلفة، أو إهدارٍ لقيمتها في المنهج الإسلامي.. فالذين يريدون أن يهدروا قيمةَ السِّيرة والحديث الشريف يتخذون من تضارب بعض الرِّوايات أو تعارضها أو مصادَمة شيء منها للقرآن الكريم أو للعلم الثابت - ذريعةً لإهدار هذا الجزء الثابت من وحي الله تعالى، وهو الحكمة النبوية، ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129].



هنا نجد أنفسنا مضطرين أن نتَّخذ موقفًا وسطًا رافضًا للمغالاة في تقديس كتب وروايات السِّيرة والحديث، يدعو للمراجعة والتمحيص والتدقيق وفق أصول عِلم مصطلح الحديث بفروعه المتعددة جرحًا وتعديلاً ورجالاً، مع التأكيد على وجوب خلوِّ المتن من الشذوذ والعِلَل، ولا شك أنَّ أكبر علَّة تواجه متون السنن تَعارُضها مع النُّصوص قطعيَّة الدلالة في كتاب الله - فكلُّه قطعي الثبوت - وكذلك مع العلم الثابت؛ حيث لا يمكن أن يتعارَض علمٌ ثابت صحيح مع نصٍّ قطعي الثبوت والدلالة.

فإذا كنَّا نرفض هذا الغلو في تقديس كتب السنَّة والسيرة، داعين إلى اتِّباع المنهج العلمي الدَّقيق الذي أسَّسه أجدادُنا من التابعين في جمع هذا العالم لتنقيته من الشوائب، فإنَّنا في ذات الوقت نرفض رفضًا قاطعًا إهدارَ قيمة السنَّة النبويَّة الشريفة باعتبارها المصدر الثاني المجمَع عليه من مصادر التشريع، مُعلِين في هذا الشأن من قيمة السيرة النبويَّة بوقائعها الثابتة المتوافقة مع منهج القرآن، مُثنِين على قول بعضهم: "إنَّ السنَّة لغة: هي الطريقة والمنهاج أكثر من كونها أحاديث قوليَّة ملقاة في مناسباتٍ مختلفة".. فهل هناك أدل على طريقة حياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم من سيرته؟!

إنَّنا أمام موجة جديدة من موجات التشكيك في ثوابت السنَّة ومحاولة الفَصل بينها وبين القرآن الكريم، في مواجهةِ موجة أخرى من موجات إشاعة الرِّوايات الشعبيَّة غير المدقَّقة؛ لإغراق العقل المسلم في متاهاتٍ من الفِكر الذاتي الرَّامي إلى تغييب قدرة هذا العقل على الإبداع والتجديد والابتكار وموائمةِ العصر! هنا وجبَت الانتفاضة في وجه الموجتين العاتيتين.. فإنَّنا حينما نتناول في السيرة النبوية المشرَّفة وقائع مثل: (الهجرة النبوية - غزوة بدر - أُحد - إجلاء بني النَّضير - الأحزاب - صلح الحديبية - فتح مكة - غزوة حُنين - غزوة تبوك - حادثة الإفك - قول المنافقين أثناء غزوة المريسيع والعودة منها - إبطال تبنِّي زيد بن حارثة - الزواج من أمِّنا زينب بنت جحش - وغيرها من الوقائع)، فإنَّنا نتناول فهم القرآن الكريم نفسه دون زيادةٍ أو نقصان، فكلُّ تلك الوقائع ثابتة في كتاب الله لا تقبل الشكَّ.. هذه الوقائع الثابتة في القرآن الكريم هي السيرة النبوية التي نريد والتي ندعو إلى دراستها والاهتمام بها.. عجبتُ لمن يدعونا إلى الاقتصار على القرآن الكريم وحده في المنهج والتشريع والتلقِّي، ثمَّ يتجاهل دعوة القرآن الكريم ذاته للاعتبار بقصص ووقائع التاريخ: ﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [الأنعام: 11]، ويقول تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111]، فكيف يدعونا القرآنُ الكريم إلى الانتفاع بتاريخ وقصص الأمم السَّابقة ولا ننتفع بتاريخ أمَّتنا المسلمة؟! أوَليس في كتاب الله تعالى الأمر الصَّريح باتِّباع النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به؟!

إشكاليَّة أخرى تواجه عقلَ المسلِم المعاصِر عند الدعوة إلى تفعيل وإحياء دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، هذه الإشكاليَّة تطرح سؤالاً: ماذا نريد من استلهام السيرة النبوية واستدعائها في حياتنا المعاصرة؟

أصبح من نافلة القول للإجابة عن هذا السؤال أنَّ منهج الإسلام به جزء ثابت يرتبط بالآيات البيِّنات المحكَمات، ويتناول أصولَ الإيمان وأصول العبادات وأصول التشريعات الثَّابتة، وبه جزء متغير يَختلف باختلاف الزَّمان والمكان وأحوال النَّاس، يُعرف بالمصالح المرسَلَة، ويعتمد على فقه المقاصد، وهو الجزء الخاص بالوسائل والتقنيات والأساليب والممارَسات.. في هذا الإطار نريد أن نَستلهم من السيرة منهجَ التفكير والتخطيط، ومنهج التعاطي مع الواقع.. نريد أن نَستلهم من السيرة طريقة حياة متجدِّدة متطورة كل يوم.

عندما نطرح من السيرة النبويَّة العطِرة تعاطي النبي صلى الله عليه وسلم مع الهجرة، وكيف اختبأ في الغار - وهو الأمر الثابت بالقرآن الكريم - فهل ندعو المسلمَ المعاصِر إلى البحث عن المغارات والكهوف للاختباء فيها من الأعداء؟! أم أنَّنا ندعوه إلى استخدام تقنيات العصر المكافئة لمواجهة عدوِّه؟! هل ندعوه إلى انتظار جنود الله في صورة خيوطِ العنكبوت والحمامتين؟ أم نريد منه أن يأخذ بالأسباب العصريَّة جميعًا، ولا يغفل التوكُّل على الله إيمانًا وتسليمًا، دعاء وإخباتًا؟! نحن يا سادة في ذكرى الهجرة لا نَنتظر خيوطَ العنكبوت ولا بيض الحمام؛ وإنَّما ننتظر نصرَ الله ومعيَّته بوسائل ربَّانية تكافئ الواقع ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ﴾ [المدثر: 31].

نريد من مُدارسة السيرة منهجَ النبيِّ في التخطيط والتنظيم والإدارة، وفي اليقين والتوكُّل، في الثَّبات على الحقِّ والمرونة في المواقف، ووحدة القياس وعدم التطفيف في موازين القِيَم والمبادئ الثَّابتة، وكيفيَّة التعاطي مع الواقع وعدم مصادمَة نواميس الكون الغلابة، منهجه في احترام موازين القوى، والتعامل مع أعراف المجتمع، والحفاظ على حقوق الإنسان - كل الإنسان - ومنهجه في تحقيق مبادئ العدل والمساواة، والحريَّة والمؤاخاة، والتكافل الاجتماعي...

نريد من دراسة السيرة اتِّباع قِيَمها الخالدة، لا اتِّباع خطواتها فوق آثار أقدام النبي صلى الله عليه وسلم، فلو فهم الصحابةُ رضوان الله عليهم الاتِّباعَ بهذا المفهوم العَقيم ما انطلقوا في الأرض فاتحين، وما فارقوا آثارَ أقدام الرَّسول صلى الله عليه وسلم شبرًا واحدًا!

فإذا أردنا الفائدةَ العُظمى من دراسة السيرة، فعلينا احترام ضوابط هذه الدِّراسة، فلنكن صرحاء منصِفين؛ ففي مقابل الذين يريدون إهدار قيمة دراسة سيرة النبي والتأسِّي بقِيَمها العامَّة، لا تجد جماعة حركيَّة إسلامية إلاَّ وتدرس منهج السيرة دراسةً حركيَّة تؤسس بها أو تبرِّر لخطواتها ومواقفها الحركيَّة المختلفة في الممارسة الدعويَّة والسياسيَّة والتنظيمية.. فما هي ضوابط دراسة السيرة النبوية المشرَّفة؟

مراعاة الفارق الجوهري والأساسي بين صفِّ النبي صلى الله عليه وسلم وبين المجتمعات المعاصرة.. فمن البديهي أنَّ صفَّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قد تحوَّل إلى الأمَّة المسلمة على اتِّساع أرضها وعراقة تاريخها.. فالصفُّ المسلِم المعاصِر هو أمَّة المسلمين، وليس حركة أو جماعة دعوية أو إسلاميَّة أو حركية أو سياسية في مواجهة باقي الأمَّة.

كيف نَسحب مواقفَ ومعاملات النبي صلَّى الله عليه وسلم وصحابته الكرام مع أئمَّة الكُفر من أمثال أبي جهل وأبي لهب على معاملاتنا اليوم مع طائفةٍ من المسلمين ولو كانوا خصومًا فكريِّين لنا، أو حتى مفسِدين في الأرض؟ لا شكَّ أنَّ أحكام التعامل مع المشرِك تختلف عن أحكام التعامل مع المفسِد في الأرض ولكل يلزمه فقه مختلف..

على هذا تظل حركات الإصلاح الاجتماعي والسِّياسي - أو ما يُعرف بجماعات الحركة الإسلامية - حركات إصلاحيَّة ودعوية، ليست بديلاً عن الأمَّة المسلمة، وليست هي الصف المسلِم أو الجماعة المسلِمة.. إنما هي مجرَّد فصائل دعويَّة إصلاحية محتسبة، تَقبَل التعدُّد والاختلاف والتنافُس في إطارٍ من التكامل، وهي أقرب إلى مؤسَّسات المجتمع المدني في صورتها الحديثة؛ من كونها دولة داخل إطار الدَّولة أو المجتمع.

عمل تلك الحركات الإصلاحيَّة يدخل في باب الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، والقيام بواجب الحِسبة والاحتساب داخل المجتمع المسلم، وليس دعوة إلى دينٍ جديد، فليس هناك دين بعد الإسلام الخاتم الذي نؤمن به جميعًا.

إنَّ دراسة السيرة النبويَّة المشرَّفة في ضوء هذه الضَّوابط تجعل من ذِكرى هِجرة النبي صلى الله عليه وسلم منطلَقًا لتأسيس مَرحلة جديدة في فِكر الدَّعوة الإصلاحيَّة المعاصرة، وتحاول الإجابة عن سؤال الواقع: لماذا هاجر النبيُّ صلى الله عليه وسلم؟

ألم تكن هذه الهِجرة تأسيسًا لواقعٍ جديد يختلف كلَّ الاختلاف عن الواقع المعيش قبل هجرته صلى الله عليه وسلم؟!

اعشق ملامحك
01-01-2024, 06:16 PM
جزاك الله خيرا
وجعلة فى ميزان حسناتك