حكاية ناي ♔
01-01-2024, 05:14 PM
الأسير هو: الحربي المأخوذ في حال الحرب وبعبارة أخرى، فالأسرى هم: الرجال الذين يقعون في قبضة عدوهم أحياء في حال الحرب، ويدخل فيه بوضعه اللغوي: المُشرك المحارب الذي يؤخذ قهرًا، وكذلك المحبوس من أهل القِبلة، قال الطبري: "هو الحربي من أهل دار الحرب يؤخذ قهرًا بالغلبة، أو من أهل القِبلة يؤخذ فيحبس بحق"[1].
ولكن من الوجهة الإسلامية الحربية، فإن أسرى الحرب تطلق في الأصل على الأعداء المحاربين الذين أظهروا العداوة للإسلام، وصمموا على محاربته بالعمل، فسقطوا في أيدي المجاهدين المسلمين.
وبهذا يدخل كل من يحمل السلاح ضد الإسلام وهو قادر على الحرب، سواء أكان جنديًّا أصليًّا، أو متطوعًا، أو مرتزقًا، أو جاسوسًا.
ولا يعد الأطفال والشيوخ والنساء والرهبان والفلاحون ومُطلَق العجزة - من الأسرى؛ لأن لهم معاملة خاصة، إلا إذا اشتركوا في القتال، وأعانوا على المسلمين في الحرب.
والمتأمل في أحكام الشريعة الإسلامية في مسألة الأسرى وحقوقهم، وطبيعة التعامل معهم - يلحظ بجلاء أن الإسلام يجنح باستمرار إلى تغليب الجانب الإنساني في معاملة الأسرى.
والأهم من ذلك أن الإسلام جعل معاملة الأسرى خاضعة لنظام إلهي محكم، وتشريع رباني مدوَّن، لا يجوز بأي حال من الأحوال تجاوزه أو التعدي عليه، مهما كانت الضغوط النفسية المتولدة في حال الحروب، ومهما كانت دوافع الانتقام والثأر تشتعل في النفوس؛ لأن أحكام الله لا يجوز أن يتعداها أحد.
من المعلوم أن الأسرى يقعون في أيدي أعدائهم كما تقع الغنائم في أيدي المحاربين، ولكن الحقيقة التي يجب ألا تغيب أن الأصل في الإنسان الحرية، ولأجل ذلك قرر الإسلام بسماحته وعدله أنه لا يجوز أسر كل من تقع عليه أيدي المسلمين من الكافرين؛ وإنما يكون ذلك فقط حيث تكون الحرب، وحيث يكون المحاربون.
وقد وضع فقهاء الإسلام أوصافًا لمن يجوز أسره، وشروطًا لوقوع الأسر حتى أصبح له نظام وحدود معروفة ومدونة في الشريعة الإسلامية قبل أن يعرفها فقه القانون الدولي الحديث بقرون، بل لما ظهرت تشريعات الأسرى في القانون الدولي كان للفقه الإسلامي نظرياته الخاصة به، والتي تلتقي بالفقه الدولي أحيانًا، وتختلف عنه أحيانًا أخرى[2].
لقد وردت نصوص كثيرة في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهَّرة تحث على معاملة الأسير معاملة حسنة تليق به كإنسان، وتأمر بدعوته بالمعروف، ومن هذه النصوص ما يلي:
• قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنفال: 70].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾ قل لمن في يديك وفي يدي أصحابك من أسرى المشركين الذين أخذ منهم من الفداء ما أخذ: ﴿ إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا ﴾ يقول: إن يعلم الله في قلوبكم إسلامًا ﴿ يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ﴾ من الفداء، ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ يقول: ويصفح لكم من عقوبة جرمكم الذي اجترمتموه بقتالكم نبيَّ الله وأصحابه وكفركم بالله، ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ ﴾ لذنوب عباده إذا تابوا، ﴿ رَحِيمٌ ﴾ بهم أن يعاقبهم عليها بعد التوبة"[3].
فإذا كان المولى سبحانه يَعِد الأسرى الذين في قلوبهم خير بالعفو والمغفرة، فإن المسلمين لا يملكون بعد هذا إلا معاملتهم بأقصى درجة ممكنة من الرحمة والإنسانية.
• قول الله تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [الإنسان: 8].
قال قتادة: "لقد أمر الله بالأسراء أن يُحسَن إليهم، وإن أسراهم يومئذٍ لأهل الشرك"[4].
وقال ابن عباس: "كان أسراؤهم يومئذٍ مشركين".
ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى، فكانوا يُقدِّمونهم على أنفسهم عند الغداء[5].
لقد قرر الإسلام بسماحته أنه يجب على المسلمين إطعام الأسير وعدم تجويعه، وأن يكون الطعام مماثلاً في الجودة والكمية لطعام المسلمين، أو أفضل منه إذا كان ذلك ممكنًا؛ استجابةً لأمر الله تعالى في الآية السابقة.
وروى الطبري في تاريخه عن محمد بن إسحاق قال: "حدثني نبيه بن وهب أخو بني عبدالدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فرقهم في أصحابه وقال: ((استوصوا بالأسارى خيرًا)).
قال: وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى...
قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر؛ لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجُل منهم كسرة من الخبز إلا نفَحَني بها، قال: فأَستحي فأردُّها على أحدهم، فيردُّها عليَّ ما يمسها"[6].
وكان الخبز عندهم أنفس من التمر؛ لندرة القمح وكثرة التمر؛ فلهذا كان إيثار الأسير بالخبز من باب الإكرام والحفاوة.
كما قرر الإسلام بسماحته وعدله ورحمته أنه يجب معاملة الأسير بالحسنى، وعدم إهانته أو إذلاله، حتى في حالة الحكم عليه بالإعدام، فإنه لا يجوز تعذيبه.
قال الكاساني: "وإذا عزم المسلمون على قتل الأسارى، فلا ينبغي أن ُيعذِّبوهم بالجوع والعطش وغير ذلك من أنواع التعذيب؛ لأن ذلك تعذيب من غير فائدة، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بني قريظة: ((لا تجمَعوا عليهم حر هذا اليوم وحر السلاح))[7]، وفي زيادة عند الواقدي: ((قيِّلوهم حتى يبردوا))[8].
ومن الفضائل العظيمة التي قررها الإسلام: كسوة الأسير كسوة لائقة به تَقيه حر الصيف وبرد الشتاء؛ فقد أخرج البخاري في الصحيح عن جابر رضي الله عنه أنه لما كان يوم بدر أُتي بالأسارى، وأُتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد قميصَ عبدالله بن أبي الحارث يقدر عليه فكساه إياه، كما ورد أنه عليه السلام كسا بعض الأسارى من ملابسه[9].
أما هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأسرى، فيُلخِّصه ابن القيم في زاد المعاد بقوله: "كان يمنُّ على بعضهم، ويقتل بعضهم، ويفادي بعضهم بالمال وبعضهم بأسرى المسلمين، وقد فعل ذلك كله بحسب المصلحة؛ ففادى أسارى بدر بمال، وقال: ((لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلمني في هؤلاء النتنى، لتركتهم له)).
وهبط عليه في صلح الحديبية ثمانون متسلِّحون يريدون غرته، فأسرَهم ثمَّ منَّ عليهم.
وأسر ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة، فربطه بسارية المسجد ثم أطلقه فأسلَمَ.
واستشار الصحابة في أسارى بدر، فأشار عليه الصدِّيق أن يأخذ منهم فدية تكون لهم قوة على عدوِّهم ويُطلقهم؛ لعلَّ الله أن يهديهم إلى الإسلام، وقال عمر: لا والله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تُمكِّننا فنضرب أعناقهم؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهويَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قال عمر، فلما كان من الغد أقبل عمر، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي هو وأبو بكر، فقال: يا رسول الله، مِن أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبكي للذي عَرَض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة))، وأنزل الله: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الأنفال: 67].
وقد تكلَّم الناس في أيِّ الرأيين كان أصوَب، فرجحت طائفة قول عُمر؛ لهذا الحديث، ورجحت طائفة قول أبي بكر؛ لاستقرار الأمر عليه، وموافقته الكتاب الذي سبق من الله بإحلال ذلك لهم، ولمُوافقته الرحمة التي غلبَت الغضب، ولتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك بإبراهيم وعيسى، وتشبيهه لعمر بنوح وموسى، ولحصول الخير العظيم الذي حصَل بإسلام أكثر أولئك الأسرى، ولخُروج مَن خرَج من أصلابهم من المسلمين، ولحصول القوة التي حصلت للمسلمين بالفداء، ولموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أولاً، ولموافقة الله له آخرًا؛ حيث استقر الأمر على رأيه، ولكمال نظر الصدِّيق؛ فإنه رأى ما يستقر عليه حكم الله آخرًا، وغلَّب جانب الرحمة على جانب العقوبة.
واستأذنه الأنصار أن يتركوا للعباس عمه فداءه، فقال: ((لا تدعوا منه درهمًا)).
واستوهب من سلمة بن الأكوع جارية نفَله إياها أبو بكر في بعض مغازيه، فوهبها له، فبعث بها إلى مكة ففدى بها ناسًا من المسلمين.
وفدى رجلَين من المسلمين برجل من عقيل، وردَّ سبي هوازن عليهم بعد القسمة، واستطاب قلوب الغانمين فطيبوا له، وعوَّض من لم يطيب من ذلك بكل إنسان ست فرائض، وقتل عقبة بن أبي معيط من الأسرى، وقتل النضر بن الحارث؛ لشدة عداوتِهما لله ورسوله.
وذكر الإمام أحمد عن ابن عباس قال: كان ناس من الأسرى لم يكن لهم مال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة، وهذا يدل على جواز الفداء بالعمل كما يجوز بالمال.
وكان هديه أن من أسلم قبل الأَسرِ لم يُسترقَّ..."[10].
وعند استقراء أحكام الأسرى التي وقعت في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، والسرايا التي قام بها أصحابه، نجد أن مصير الأسرى حُدِّد في أمور؛ كالفداء، والمَنِّ، والقتل، والاسترقاق، وضرب الجزية عليهم.
لكن غالب وقائع السيرة آل فيها مصيرُ الأسرى إلى أحد أمرين: أحدهما العفو والمن، والآخر الفداء، وقد أكد عليهما العلماء؛ كما ورد في الآية الكريمة التي تحكم الوضع الشرعي للأسرى غير المسلمين في دولة الإسلام: ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ [محمد: 4].
ومعنى الآية أن على المجاهدين المسلمين عند لقائهم بالكفار في ساحة الوغى أن يُعملوا السيف في رقابهم، وبعد إثخانهم بالجراح وإنهاكِهم إلى درجة الوهن، عليهم القبض عليهم وتقييدهم والتحفُّظ عليهم حتى تضع الحرب أوزارها، وعند ذلك يحقُّ للمسلمين المنُّ عليهم بإطلاق سراحهم بدون أي مقابل أو مفاداتهم بمال.
وإن هذا هو الغالب من وقائع السيرة، إلا أن الراجح من أقوال العلماء أن الخيار للإمام يختار ما يراه الأصلح والأفضل.
قال ابن رشد: "وأكثر العلماء على أن الإمام مخير في الأسارى في خصال: منها أن يمن عليهم، ومنها أن يستعبدهم، ومنها أن يقتلهم، ومنها أن يأخذ منهم الفداء، ومنها أن يضرب عليهم الجزية"[11].
وعلى هذا يكون مصير الأسير هو واحد مما يلي، يختار الإمام الأصلح منها:
أما الأول، فهو: العفو عن الأسير وإطلاق سراحه مجانًا دون مقابل، وقد حكم به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في كثير من غزواته، كما هو مدوَّن في سيرته عليه السلام، ولا غرو في ذلك؛ فإن الله سبحانه بدأ بالمن عندما قال: ﴿ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ [محمد: 4].
ومدح من يتصف بصفة العفو والصفح: ﴿ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التغابن: 14]، وهكذا كان العفو هو الأول؛ لأنه من شيمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى إنه كان يطلق الأسير لسبب يسير، أو تدخُّل رجل من المؤمنين يطلب حرية الأسير، وكان عليه السلام يتمنى أن يتدخل أحدهم، حتى إنه تمنى حياة أحد الكفار من الذين ماتوا ليتدخل في أسرى بدر ليُطلِق سراحهم، وهو المطعم بن عدي، كل هذا وذاك يدل دلالة أكيدة على ما للعفو من قيمة ومن قدسية، ولأجل ذلك حث الإسلام الناس على تطبيق هذه الصفة، وأعظم التطبيق حين يكون ذلك مع أسرى الحرب.
وأما الثاني، فهو: فداء أسرى الحرب، فالأسير إما أن يفدي نفسه بالمال، كما وقع ذلك في أسرى غزوة بدر الكبرى، أو يُفدى برجل مسلم أسير عند الكفار، ولم يقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على الفداء بالمال والرجال، بل جعل الفداء بتعليم الأسير أولادَ المسلمين الكتابةَ والقراءة، وهذه أسهل مهمة بالنسبة للأسير ولم يُسبَق إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلُّ على ما لهذا الدين من تطلع إلى الحرية وإلى محاربة الجهل الفكري والاعتقادي على حد سواء، وأنه يتطلع إلى دولة العلم والتفكير الصحيح والاعتقاد بالتوحيد، وللأسف فإن الإنسانية لم تنتبه حتى يومنا هذا إلى هذا الحكم النبوي الكريم الذي طبقه سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام منذ أربعة عشر قرنًا، في وقت لم تكن للثقافة قيمة ولا للأسير حاجة، ولا توجد جمعيات دولية أو منظمات تهتم بالأسرى[12].
وقد ذكر بعض العلماء أن القتل يعد خيارًا ثالثًا؛ فقد ثبت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل بعض الأسرى؛ منهم: عقبة بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وهم من أسرى بدر.
وجواز قتل الأسير هو مذهب جمهور الفقهاء من الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم، لكنَّهم يجعلونه خيارًا مرتبطًا بالمصلحة وجوبًا، فإذا كانت المصلحة تقضي عدم قتلهم، فلا يجوز في هذه الحال أن يحكم عليهم بالقتل، كما أنه إذا ارتبط المسلمون بمعاهدات دولية تمنع قتل الأسرى فيجب عليهم الوفاء بها، ولا يجوز في هذه الحالة قتل الأسير[13].
قال ابن رشد في بداية المجتهد: "وأكثر العلماء على أن الإمام مخيَّر في الأسارى في خصال؛ منها أن يمنَّ عليهم، ومنها أن يستعبدهم، ومنها أن يقتلهم، وقال قوم: لا يجوز قتل الأسير، وحكى الحسن بن محمد التميمي أنه إجماع الصحابة"[14].
والذي يترجح أنَّ قتل الأسير لمجرَّد أنه أسير غير جائز من جهة الأصل، لكنَّه يصير جائزًا إذا وجد في أسير معيَّن أسباب أخرى تُبيح قتله، فهو عند ذلك يقتل لهذه الأسباب، وليس للأسر.
ولعل هذا القول يفسِّر كلَّ الحوادث التي قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل بعض الأسرى؛ فأبو عزَّة الجمحي استحقَّ القتل؛ لأنه عاهد ونقض العهد.
وأسرى بنو قريظة استحقوا القتل؛ لأنهم عاهدوا المسلمين على القتال معهم ضدَّ كلِّ عدو خارجي، فلما جاء المشركون وحاصروا المدينة في غزوة الأحزاب، نقضوا عهدهم وانضمُّوا إليهم، وقد كان هذا الغدر كفيلاً بالقضاء على الإسلام وإبادة المسلمين، لولا أنَّ رعاية الله حفظتهم.
وأسرى بدر الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهم: عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وطعيمة بن عدي - كانوا قد قاموا بإيذاء المسلمين وتعذيبهم وتعريضهم للموت.
فهؤلاء الأسرى الذين قُتلوا في العهد النبوي أشبه ما يكونون بمجرمي حرب في المعاهدات الدولية الحديثة؛ لما ارتكبوه من جرائم في حق الأبرياء؛ ولذلك وجب أن يقدَّموا للمحاكمة، ويمكن أن يحكم عليهم بالقتل أو بعقوبة أخرى.
وأما الاختيار الرابع، فهو الجزية؛ حيث ذكر بعض العلماء أنه إذا طلب الأسير أن يكون من رعايا الدولة الإسلامية، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ويخضع لنظام هذه الدولة مع الاحتفاظ بحقوقه الشخصية في العقيدة والعبادة، وهذا ما يُسمى عقد الذمة، فقد اتَّفق الفقهاء من جميع المذاهب على حقِّ السلطة في منحه عقد الذمَّة بشروط محددة في كتب الفقه؛ بل أوجب بعض الفقهاء على الإمام قبول عقد الذمَّة إذا طلبَه الأسير، وحرَّموا قتله في هذه الحالة إن كان من أهل الذمة[15].
وأما الخامس، فهو أن يفرض الإمام الرق على هؤلاء الأسرى.
وكذلك حرم الإسلام قتل رسل الأعداء، وحض على حسن التعامل معهم وعدم التعرض لهم بالأذى؛ فقد احتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حماقة عروة بن مسعود في صلح الحديبية، وكذلك لم يقتل رسولي مسيلمة حين جاهَرَا بالكفر بين يديه صلى الله عليه وسلم؛ فعن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي عن أبيه نعيم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين قرأ كتاب مسيلمة الكذاب قال للرسولين: ((فما تقولان أنتما؟))، قالا: نقول كما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لولا أن الرسل لا تُقتَل، لضربت أعناقكما))[16].
وقال ابن القيم في فوائد صلح الحديبية: "ومنها: احتمال قلة أدب رسول الكفار وجهله وجفوته، ولا يقابل على ذلك؛ لما فيه من المصلحة العامة، ولم يقابل النبي صلى الله عليه وسلم عروة على أخذه بلحيته وقت خطابه، وإن كانت تلك عادة العرب، لكن الوقار والتعظيم خلاف ذلك"[17].
وقال في فوائد فتح مكة: "وفيها: أن رسول الكفار لا يُقتَل؛ فإن أبا سفيان كان ممَّن جرى عليه حكم انتقاض العهد ولم يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان رسولَ قومه إليه"[18].
ولكن من الوجهة الإسلامية الحربية، فإن أسرى الحرب تطلق في الأصل على الأعداء المحاربين الذين أظهروا العداوة للإسلام، وصمموا على محاربته بالعمل، فسقطوا في أيدي المجاهدين المسلمين.
وبهذا يدخل كل من يحمل السلاح ضد الإسلام وهو قادر على الحرب، سواء أكان جنديًّا أصليًّا، أو متطوعًا، أو مرتزقًا، أو جاسوسًا.
ولا يعد الأطفال والشيوخ والنساء والرهبان والفلاحون ومُطلَق العجزة - من الأسرى؛ لأن لهم معاملة خاصة، إلا إذا اشتركوا في القتال، وأعانوا على المسلمين في الحرب.
والمتأمل في أحكام الشريعة الإسلامية في مسألة الأسرى وحقوقهم، وطبيعة التعامل معهم - يلحظ بجلاء أن الإسلام يجنح باستمرار إلى تغليب الجانب الإنساني في معاملة الأسرى.
والأهم من ذلك أن الإسلام جعل معاملة الأسرى خاضعة لنظام إلهي محكم، وتشريع رباني مدوَّن، لا يجوز بأي حال من الأحوال تجاوزه أو التعدي عليه، مهما كانت الضغوط النفسية المتولدة في حال الحروب، ومهما كانت دوافع الانتقام والثأر تشتعل في النفوس؛ لأن أحكام الله لا يجوز أن يتعداها أحد.
من المعلوم أن الأسرى يقعون في أيدي أعدائهم كما تقع الغنائم في أيدي المحاربين، ولكن الحقيقة التي يجب ألا تغيب أن الأصل في الإنسان الحرية، ولأجل ذلك قرر الإسلام بسماحته وعدله أنه لا يجوز أسر كل من تقع عليه أيدي المسلمين من الكافرين؛ وإنما يكون ذلك فقط حيث تكون الحرب، وحيث يكون المحاربون.
وقد وضع فقهاء الإسلام أوصافًا لمن يجوز أسره، وشروطًا لوقوع الأسر حتى أصبح له نظام وحدود معروفة ومدونة في الشريعة الإسلامية قبل أن يعرفها فقه القانون الدولي الحديث بقرون، بل لما ظهرت تشريعات الأسرى في القانون الدولي كان للفقه الإسلامي نظرياته الخاصة به، والتي تلتقي بالفقه الدولي أحيانًا، وتختلف عنه أحيانًا أخرى[2].
لقد وردت نصوص كثيرة في القرآن الكريم، وفي السنة النبوية المطهَّرة تحث على معاملة الأسير معاملة حسنة تليق به كإنسان، وتأمر بدعوته بالمعروف، ومن هذه النصوص ما يلي:
• قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنفال: 70].
قال الطبري: "يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾ قل لمن في يديك وفي يدي أصحابك من أسرى المشركين الذين أخذ منهم من الفداء ما أخذ: ﴿ إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا ﴾ يقول: إن يعلم الله في قلوبكم إسلامًا ﴿ يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ ﴾ من الفداء، ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ يقول: ويصفح لكم من عقوبة جرمكم الذي اجترمتموه بقتالكم نبيَّ الله وأصحابه وكفركم بالله، ﴿ وَاللَّهُ غَفُورٌ ﴾ لذنوب عباده إذا تابوا، ﴿ رَحِيمٌ ﴾ بهم أن يعاقبهم عليها بعد التوبة"[3].
فإذا كان المولى سبحانه يَعِد الأسرى الذين في قلوبهم خير بالعفو والمغفرة، فإن المسلمين لا يملكون بعد هذا إلا معاملتهم بأقصى درجة ممكنة من الرحمة والإنسانية.
• قول الله تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [الإنسان: 8].
قال قتادة: "لقد أمر الله بالأسراء أن يُحسَن إليهم، وإن أسراهم يومئذٍ لأهل الشرك"[4].
وقال ابن عباس: "كان أسراؤهم يومئذٍ مشركين".
ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى، فكانوا يُقدِّمونهم على أنفسهم عند الغداء[5].
لقد قرر الإسلام بسماحته أنه يجب على المسلمين إطعام الأسير وعدم تجويعه، وأن يكون الطعام مماثلاً في الجودة والكمية لطعام المسلمين، أو أفضل منه إذا كان ذلك ممكنًا؛ استجابةً لأمر الله تعالى في الآية السابقة.
وروى الطبري في تاريخه عن محمد بن إسحاق قال: "حدثني نبيه بن وهب أخو بني عبدالدار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فرقهم في أصحابه وقال: ((استوصوا بالأسارى خيرًا)).
قال: وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى...
قال: وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر؛ لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجُل منهم كسرة من الخبز إلا نفَحَني بها، قال: فأَستحي فأردُّها على أحدهم، فيردُّها عليَّ ما يمسها"[6].
وكان الخبز عندهم أنفس من التمر؛ لندرة القمح وكثرة التمر؛ فلهذا كان إيثار الأسير بالخبز من باب الإكرام والحفاوة.
كما قرر الإسلام بسماحته وعدله ورحمته أنه يجب معاملة الأسير بالحسنى، وعدم إهانته أو إذلاله، حتى في حالة الحكم عليه بالإعدام، فإنه لا يجوز تعذيبه.
قال الكاساني: "وإذا عزم المسلمون على قتل الأسارى، فلا ينبغي أن ُيعذِّبوهم بالجوع والعطش وغير ذلك من أنواع التعذيب؛ لأن ذلك تعذيب من غير فائدة، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في بني قريظة: ((لا تجمَعوا عليهم حر هذا اليوم وحر السلاح))[7]، وفي زيادة عند الواقدي: ((قيِّلوهم حتى يبردوا))[8].
ومن الفضائل العظيمة التي قررها الإسلام: كسوة الأسير كسوة لائقة به تَقيه حر الصيف وبرد الشتاء؛ فقد أخرج البخاري في الصحيح عن جابر رضي الله عنه أنه لما كان يوم بدر أُتي بالأسارى، وأُتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد قميصَ عبدالله بن أبي الحارث يقدر عليه فكساه إياه، كما ورد أنه عليه السلام كسا بعض الأسارى من ملابسه[9].
أما هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الأسرى، فيُلخِّصه ابن القيم في زاد المعاد بقوله: "كان يمنُّ على بعضهم، ويقتل بعضهم، ويفادي بعضهم بالمال وبعضهم بأسرى المسلمين، وقد فعل ذلك كله بحسب المصلحة؛ ففادى أسارى بدر بمال، وقال: ((لو كان المطعم بن عدي حيًّا ثم كلمني في هؤلاء النتنى، لتركتهم له)).
وهبط عليه في صلح الحديبية ثمانون متسلِّحون يريدون غرته، فأسرَهم ثمَّ منَّ عليهم.
وأسر ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة، فربطه بسارية المسجد ثم أطلقه فأسلَمَ.
واستشار الصحابة في أسارى بدر، فأشار عليه الصدِّيق أن يأخذ منهم فدية تكون لهم قوة على عدوِّهم ويُطلقهم؛ لعلَّ الله أن يهديهم إلى الإسلام، وقال عمر: لا والله ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تُمكِّننا فنضرب أعناقهم؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهويَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قال عمر، فلما كان من الغد أقبل عمر، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكي هو وأبو بكر، فقال: يا رسول الله، مِن أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبكي للذي عَرَض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عُرض عليَّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة))، وأنزل الله: ﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الأنفال: 67].
وقد تكلَّم الناس في أيِّ الرأيين كان أصوَب، فرجحت طائفة قول عُمر؛ لهذا الحديث، ورجحت طائفة قول أبي بكر؛ لاستقرار الأمر عليه، وموافقته الكتاب الذي سبق من الله بإحلال ذلك لهم، ولمُوافقته الرحمة التي غلبَت الغضب، ولتشبيه النبي صلى الله عليه وسلم له في ذلك بإبراهيم وعيسى، وتشبيهه لعمر بنوح وموسى، ولحصول الخير العظيم الذي حصَل بإسلام أكثر أولئك الأسرى، ولخُروج مَن خرَج من أصلابهم من المسلمين، ولحصول القوة التي حصلت للمسلمين بالفداء، ولموافقة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أولاً، ولموافقة الله له آخرًا؛ حيث استقر الأمر على رأيه، ولكمال نظر الصدِّيق؛ فإنه رأى ما يستقر عليه حكم الله آخرًا، وغلَّب جانب الرحمة على جانب العقوبة.
واستأذنه الأنصار أن يتركوا للعباس عمه فداءه، فقال: ((لا تدعوا منه درهمًا)).
واستوهب من سلمة بن الأكوع جارية نفَله إياها أبو بكر في بعض مغازيه، فوهبها له، فبعث بها إلى مكة ففدى بها ناسًا من المسلمين.
وفدى رجلَين من المسلمين برجل من عقيل، وردَّ سبي هوازن عليهم بعد القسمة، واستطاب قلوب الغانمين فطيبوا له، وعوَّض من لم يطيب من ذلك بكل إنسان ست فرائض، وقتل عقبة بن أبي معيط من الأسرى، وقتل النضر بن الحارث؛ لشدة عداوتِهما لله ورسوله.
وذكر الإمام أحمد عن ابن عباس قال: كان ناس من الأسرى لم يكن لهم مال، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداءهم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة، وهذا يدل على جواز الفداء بالعمل كما يجوز بالمال.
وكان هديه أن من أسلم قبل الأَسرِ لم يُسترقَّ..."[10].
وعند استقراء أحكام الأسرى التي وقعت في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، والسرايا التي قام بها أصحابه، نجد أن مصير الأسرى حُدِّد في أمور؛ كالفداء، والمَنِّ، والقتل، والاسترقاق، وضرب الجزية عليهم.
لكن غالب وقائع السيرة آل فيها مصيرُ الأسرى إلى أحد أمرين: أحدهما العفو والمن، والآخر الفداء، وقد أكد عليهما العلماء؛ كما ورد في الآية الكريمة التي تحكم الوضع الشرعي للأسرى غير المسلمين في دولة الإسلام: ﴿ فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ [محمد: 4].
ومعنى الآية أن على المجاهدين المسلمين عند لقائهم بالكفار في ساحة الوغى أن يُعملوا السيف في رقابهم، وبعد إثخانهم بالجراح وإنهاكِهم إلى درجة الوهن، عليهم القبض عليهم وتقييدهم والتحفُّظ عليهم حتى تضع الحرب أوزارها، وعند ذلك يحقُّ للمسلمين المنُّ عليهم بإطلاق سراحهم بدون أي مقابل أو مفاداتهم بمال.
وإن هذا هو الغالب من وقائع السيرة، إلا أن الراجح من أقوال العلماء أن الخيار للإمام يختار ما يراه الأصلح والأفضل.
قال ابن رشد: "وأكثر العلماء على أن الإمام مخير في الأسارى في خصال: منها أن يمن عليهم، ومنها أن يستعبدهم، ومنها أن يقتلهم، ومنها أن يأخذ منهم الفداء، ومنها أن يضرب عليهم الجزية"[11].
وعلى هذا يكون مصير الأسير هو واحد مما يلي، يختار الإمام الأصلح منها:
أما الأول، فهو: العفو عن الأسير وإطلاق سراحه مجانًا دون مقابل، وقد حكم به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في كثير من غزواته، كما هو مدوَّن في سيرته عليه السلام، ولا غرو في ذلك؛ فإن الله سبحانه بدأ بالمن عندما قال: ﴿ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ﴾ [محمد: 4].
ومدح من يتصف بصفة العفو والصفح: ﴿ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التغابن: 14]، وهكذا كان العفو هو الأول؛ لأنه من شيمة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى إنه كان يطلق الأسير لسبب يسير، أو تدخُّل رجل من المؤمنين يطلب حرية الأسير، وكان عليه السلام يتمنى أن يتدخل أحدهم، حتى إنه تمنى حياة أحد الكفار من الذين ماتوا ليتدخل في أسرى بدر ليُطلِق سراحهم، وهو المطعم بن عدي، كل هذا وذاك يدل دلالة أكيدة على ما للعفو من قيمة ومن قدسية، ولأجل ذلك حث الإسلام الناس على تطبيق هذه الصفة، وأعظم التطبيق حين يكون ذلك مع أسرى الحرب.
وأما الثاني، فهو: فداء أسرى الحرب، فالأسير إما أن يفدي نفسه بالمال، كما وقع ذلك في أسرى غزوة بدر الكبرى، أو يُفدى برجل مسلم أسير عند الكفار، ولم يقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على الفداء بالمال والرجال، بل جعل الفداء بتعليم الأسير أولادَ المسلمين الكتابةَ والقراءة، وهذه أسهل مهمة بالنسبة للأسير ولم يُسبَق إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدلُّ على ما لهذا الدين من تطلع إلى الحرية وإلى محاربة الجهل الفكري والاعتقادي على حد سواء، وأنه يتطلع إلى دولة العلم والتفكير الصحيح والاعتقاد بالتوحيد، وللأسف فإن الإنسانية لم تنتبه حتى يومنا هذا إلى هذا الحكم النبوي الكريم الذي طبقه سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام منذ أربعة عشر قرنًا، في وقت لم تكن للثقافة قيمة ولا للأسير حاجة، ولا توجد جمعيات دولية أو منظمات تهتم بالأسرى[12].
وقد ذكر بعض العلماء أن القتل يعد خيارًا ثالثًا؛ فقد ثبت أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل بعض الأسرى؛ منهم: عقبة بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وهم من أسرى بدر.
وجواز قتل الأسير هو مذهب جمهور الفقهاء من الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم، لكنَّهم يجعلونه خيارًا مرتبطًا بالمصلحة وجوبًا، فإذا كانت المصلحة تقضي عدم قتلهم، فلا يجوز في هذه الحال أن يحكم عليهم بالقتل، كما أنه إذا ارتبط المسلمون بمعاهدات دولية تمنع قتل الأسرى فيجب عليهم الوفاء بها، ولا يجوز في هذه الحالة قتل الأسير[13].
قال ابن رشد في بداية المجتهد: "وأكثر العلماء على أن الإمام مخيَّر في الأسارى في خصال؛ منها أن يمنَّ عليهم، ومنها أن يستعبدهم، ومنها أن يقتلهم، وقال قوم: لا يجوز قتل الأسير، وحكى الحسن بن محمد التميمي أنه إجماع الصحابة"[14].
والذي يترجح أنَّ قتل الأسير لمجرَّد أنه أسير غير جائز من جهة الأصل، لكنَّه يصير جائزًا إذا وجد في أسير معيَّن أسباب أخرى تُبيح قتله، فهو عند ذلك يقتل لهذه الأسباب، وليس للأسر.
ولعل هذا القول يفسِّر كلَّ الحوادث التي قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل بعض الأسرى؛ فأبو عزَّة الجمحي استحقَّ القتل؛ لأنه عاهد ونقض العهد.
وأسرى بنو قريظة استحقوا القتل؛ لأنهم عاهدوا المسلمين على القتال معهم ضدَّ كلِّ عدو خارجي، فلما جاء المشركون وحاصروا المدينة في غزوة الأحزاب، نقضوا عهدهم وانضمُّوا إليهم، وقد كان هذا الغدر كفيلاً بالقضاء على الإسلام وإبادة المسلمين، لولا أنَّ رعاية الله حفظتهم.
وأسرى بدر الذين قتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهم: عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث، وطعيمة بن عدي - كانوا قد قاموا بإيذاء المسلمين وتعذيبهم وتعريضهم للموت.
فهؤلاء الأسرى الذين قُتلوا في العهد النبوي أشبه ما يكونون بمجرمي حرب في المعاهدات الدولية الحديثة؛ لما ارتكبوه من جرائم في حق الأبرياء؛ ولذلك وجب أن يقدَّموا للمحاكمة، ويمكن أن يحكم عليهم بالقتل أو بعقوبة أخرى.
وأما الاختيار الرابع، فهو الجزية؛ حيث ذكر بعض العلماء أنه إذا طلب الأسير أن يكون من رعايا الدولة الإسلامية، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ويخضع لنظام هذه الدولة مع الاحتفاظ بحقوقه الشخصية في العقيدة والعبادة، وهذا ما يُسمى عقد الذمة، فقد اتَّفق الفقهاء من جميع المذاهب على حقِّ السلطة في منحه عقد الذمَّة بشروط محددة في كتب الفقه؛ بل أوجب بعض الفقهاء على الإمام قبول عقد الذمَّة إذا طلبَه الأسير، وحرَّموا قتله في هذه الحالة إن كان من أهل الذمة[15].
وأما الخامس، فهو أن يفرض الإمام الرق على هؤلاء الأسرى.
وكذلك حرم الإسلام قتل رسل الأعداء، وحض على حسن التعامل معهم وعدم التعرض لهم بالأذى؛ فقد احتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حماقة عروة بن مسعود في صلح الحديبية، وكذلك لم يقتل رسولي مسيلمة حين جاهَرَا بالكفر بين يديه صلى الله عليه وسلم؛ فعن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي عن أبيه نعيم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين قرأ كتاب مسيلمة الكذاب قال للرسولين: ((فما تقولان أنتما؟))، قالا: نقول كما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والله لولا أن الرسل لا تُقتَل، لضربت أعناقكما))[16].
وقال ابن القيم في فوائد صلح الحديبية: "ومنها: احتمال قلة أدب رسول الكفار وجهله وجفوته، ولا يقابل على ذلك؛ لما فيه من المصلحة العامة، ولم يقابل النبي صلى الله عليه وسلم عروة على أخذه بلحيته وقت خطابه، وإن كانت تلك عادة العرب، لكن الوقار والتعظيم خلاف ذلك"[17].
وقال في فوائد فتح مكة: "وفيها: أن رسول الكفار لا يُقتَل؛ فإن أبا سفيان كان ممَّن جرى عليه حكم انتقاض العهد ولم يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان رسولَ قومه إليه"[18].