حكاية ناي ♔
01-04-2024, 11:37 AM
من الأسس الأخلاقية الإسلامية أداء الأمانات إلى أهلها، وإعطاء الحقوق لمستحقِّيها، وتحريم الغدر والخيانة، والنصوص التي تفيد هذا المعنى كثيرة؛ منها:
قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58].
قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك))؛ رواه الإمام أحمد وأهل السنن.
وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله - عز وجل - على عباده؛ من الصلوات والزكوات والصيام، والكفارات والنذور، وغير ذلك مما هو مؤتمن عليه ولا يطَّلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة على ذلك، فأمر الله - عز وجل - بأدائها؛ فمن لم يفعل ذلك في الدنيا، أخذ منه ذلك يوم القيامة؛ كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها، حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء))[1].
وقال القرطبي: "هذه الآية من أمهات الأحكام، تضمنت جميع الدين والشرع.
وقد اختُلف مَن المخاطَب بها والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس؛ فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال، ورد الظلامات، والعدل في الحكومات، وهذا اختيار الطبري.
وتتناول مَن دونهم من الناس في حفظ الودائع، والتحرز في الشهادات، وغير ذلك؛ كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه، والصلاةُ والزكاة وسائر العبادات أمانةُ الله تعالى.
وروي هذا المعنى مرفوعًا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها))، أو قال: ((كل شيء إلا الأمانة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشدُّ ذلك الودائع))؛ ذكره أبو نعيم الحافظ في الحلية.
وممن قال: إن الآية عامة في الجميع: البراء بن عازب، وابن مسعود، وابن عباس وأبيُّ بن كعب، قالوا: الأمانة في كل شيء؛ في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع، وقال ابن عباس: لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة.
قلت: وهذا إجماع، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها، الأبرار منهم والفجار؛ قاله ابن المنذر...
فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة، وهي أعداد كثيرة كما ذكرنا، وأمهاتها في الأحكام: الوديعة، واللقطة، والرهن، والعارية.
وروى أبيُّ بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك))؛ أخرجه الدارقطني، ورواه أنس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى أبو أمامة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: ((العارية مؤداة، والمِنحة مردودة، والدَّين مقضيٌّ، والزعيم غارم))؛ صحيح أخرجه الترمذي وغيره، وزاد الدارقطني فقال رجل: فعهد الله؟ قال: ((عهد الله أحق ما أدي)).
وقال بمقتضى هذه الآية والحديث في رد الوديعة وأنها مضمونة على كل حال، كانت مما يغاب عليها أو لا يغاب، تعدَّى فيها أو لم يتعدَّ: عطاء والشافعي وأحمد وأشهب"[2].
فقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58] يفيد وجوب تأدية جميع أنواع الأمانات التي تقع تحت سلطة كل إنسان إلى أصحابها ومستحقيها، وسمِّيت العواري والودائع أمانات؛ لأنها لا تؤدَّى إلا بخُلق الأمانة، فخلق الأمانة هو المسؤول عن تأدية العواري والودائع إلى أهلها، وإعطاء الحقوق إلى مستحقيها.
وهذه الأمانات تشمل جميع الحقوق المتعلقة بذمم الناس، سواء كانت حقوقًا لله أو حقوقًا لخلقه[3].
ومن هذه النصوص أيضًا قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ [البقرة: 283].
وقوله تعالى: ﴿ لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ ﴾ [الأنفال: 27].
وقوله تعالى في موضعين يصف أخلاق عباده المؤمنين: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8]، و[المعارج: 31].
قال ابن كثير: "وقوله: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾؛ أي: إذا اؤتمنوا لم يخونوا، بل يؤدونها إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك"[4].
وقال القرطبي: "قرأ الجمهور "لأماناتهم" بالجمع، وابن كثير بالإفراد.
والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولاً وفعلاً، وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك، وغاية ذلك حفظه والقيام به، والأمانة أعمُّ من العهد، وكل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد"[5].
ومن نصوص السنة التي أمرت بالأمانة، ونهت عن الخيانة:
عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك))[6].
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))[7].
وعن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصهم فجَرَ))[8].
ومن مواقف السيرة العمَلية التي تدل على وجوب أداء الأمانة، وتعظيم الإسلام لهذا الخلق العظيم:
رد رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة بن أبي طلحة بعد أن أخذها منه يوم فتح مكة، ودخل الكعبة وطهَّرها مما كان فيها من أصنام وأوثان، حتى قال بعض المفسرين: إن قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58] نزل في هذه الواقعة.
قال الطبري: "حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج قولَه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ قال: نزلت في عثمان بن طلحة بن أبي طلحة؛ قبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة ودخل به البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح، قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية: فداه أبي وأمي! ما سمعته يتلوها قبل ذلك!
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا الزنجي بن خالد، عن الزهري قال: دفعه إليه وقال: ((أعينوه))"[9].
وقال ابن سيد الناس: "ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت فطاف به سبعًا على راحلته يستلم الركن بمِحجن في يده.
فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففُتحت له، فدخلها فوجد بها حمامة من عيدان، فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة فقال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألاَ كل مأثرة أو دم أو مال يُدَّعى فهو تحت قدميَّ هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألاَ وقتيل الخطأ شبه العمد السوط والعصا ففيه الدية مغلَّظة مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادُها.
يا معشر قريش، إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظُّمَها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ﴾ [الحجرات: 13]، ثم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
ثم جلس في المسجد فقام إليه عليٌّ ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين عثمان بن طلحة؟))، فدُعي له فقال: ((هاك مفتاحك يا عثمان؛ اليوم يوم برٍّ ووفاء)).
وروينا عن عثمان بن طلحة من طريق ابن سعد قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس، فأقبل - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - يومًا يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فغلَّظتُ عليه ونلت منه، وحلم عني، ثم قال: ((يا عثمان، لعلَّك سترى هذا المفتاح يومًا بيدي أضعه حيث شئتُ))، فقلت: لقد هلكت قريشٌ يومئذٍ وذلَّت، فقال: ((بل عمرت وعزت يومئذٍ)).
ودخل الكعبة، فوقعتْ كلمتُه مني موقعًا ظننتُ يومئذٍ أن الأمر سيصير إلى ما قال، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قال له يوم الفتح: ((يا عثمان، أن ائتني بالمفتاح))، فأتيته به، فأخذه مني ثم دفعه إليَّ وقال: ((خذوها تالدة خالدةً، لا يَنزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان، إن الله تعالى استأمنك على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من البيت بالمعروف)).
قال عثمان: فلما ولَّيت، ناداني فرجعتُ إليه فقال: ((ألم يكن الذي قلتُ لك؟))، قال: فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: ((لعلك سترى هذا المفتاح يومًا بيدي أضعه حيث شئتُ))، فقلت: بلى أشهد أنك رسول الله"[10].
ومن المواقف التي تَنطلق من قاعدة الأمانة الأخلاقية: استبقاء الرسول صلى الله عليه وسلم لعليِّ بن أبي طالب في يوم الهجرة؛ ليؤدي ما عنده من أمانات وودائع للناس رغم خروجه مضطرًّا مطاردًا، مع تآمر قريش عليه لقتله.
روى ابن هشام عن ابن إسحاق قوله: "ولم يعلم فيما بلَغني بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ حين خرج - أي: للهجرة - إلا عليُّ بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر.
أما علي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - أخبره بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة؛ حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يَخشى عليه إلا وضعه عنده؛ لما يعلم من صدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم"[11].
فهذا أنموذج فريد في الأمانة في أحْلَك الظروف؛ فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم معرض للموت، وتحاك حوله مؤامرات وضيعة للنَّيل منه وقتله، وكان من قبل ذلك يعاني ويلات الاضطهاد على مدى ثلاثة عشر عامًا في مكة، حتى هاجر أصحابه مخلِّفين وراءهم ديارهم وأموالهم، ورغم ذلك لم يَفُتْهُ أن يرد أمانات هؤلاء المشركين التي أودعت عنده، ويستبقي ابن عمه وحبيب قلبه عليًّا رضي الله عنه؛ ليرد الأمانات إلى أهلها.
ثم إن الناظر لَيَعجبُ من وضع المشركين لأماناتهم لدى النبي صلى الله عليه وسلم رغم ما بينهم من عداوة، ورغم زعمهم أنه كاذب فيما يدَّعيه من النبوة، في إقرار عملي واضح منهم أنه صلى الله عليه وسلم أكثر الناس أمانة وصدقًا.
ومن فروع قاعدة الأمانة الأخلاقية: الوفاء بالعهود والعقود، وآثرت إفرادها بمبحث مستقل؛ لإبرازها كأساس في المعاملات بين المسلمين وغيرهم، لا سيما عند الحديث عن الحروب الإسلامية وأخلاقها.
قول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [النساء: 58].
قال ابن كثير: "يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها، وفي حديث الحسن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك))؛ رواه الإمام أحمد وأهل السنن.
وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان من حقوق الله - عز وجل - على عباده؛ من الصلوات والزكوات والصيام، والكفارات والنذور، وغير ذلك مما هو مؤتمن عليه ولا يطَّلع عليه العباد، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة على ذلك، فأمر الله - عز وجل - بأدائها؛ فمن لم يفعل ذلك في الدنيا، أخذ منه ذلك يوم القيامة؛ كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لتؤدنَّ الحقوق إلى أهلها، حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء))[1].
وقال القرطبي: "هذه الآية من أمهات الأحكام، تضمنت جميع الدين والشرع.
وقد اختُلف مَن المخاطَب بها والأظهر في الآية أنها عامة في جميع الناس؛ فهي تتناول الولاة فيما إليهم من الأمانات في قسمة الأموال، ورد الظلامات، والعدل في الحكومات، وهذا اختيار الطبري.
وتتناول مَن دونهم من الناس في حفظ الودائع، والتحرز في الشهادات، وغير ذلك؛ كالرجل يحكم في نازلة ما ونحوه، والصلاةُ والزكاة وسائر العبادات أمانةُ الله تعالى.
وروي هذا المعنى مرفوعًا من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها))، أو قال: ((كل شيء إلا الأمانة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشدُّ ذلك الودائع))؛ ذكره أبو نعيم الحافظ في الحلية.
وممن قال: إن الآية عامة في الجميع: البراء بن عازب، وابن مسعود، وابن عباس وأبيُّ بن كعب، قالوا: الأمانة في كل شيء؛ في الوضوء والصلاة والزكاة والجنابة والصوم والكيل والوزن والودائع، وقال ابن عباس: لم يرخص الله لمعسر ولا لموسر أن يمسك الأمانة.
قلت: وهذا إجماع، وأجمعوا على أن الأمانات مردودة إلى أربابها، الأبرار منهم والفجار؛ قاله ابن المنذر...
فالآية شاملة بنظمها لكل أمانة، وهي أعداد كثيرة كما ذكرنا، وأمهاتها في الأحكام: الوديعة، واللقطة، والرهن، والعارية.
وروى أبيُّ بن كعب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك))؛ أخرجه الدارقطني، ورواه أنس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى أبو أمامة قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع: ((العارية مؤداة، والمِنحة مردودة، والدَّين مقضيٌّ، والزعيم غارم))؛ صحيح أخرجه الترمذي وغيره، وزاد الدارقطني فقال رجل: فعهد الله؟ قال: ((عهد الله أحق ما أدي)).
وقال بمقتضى هذه الآية والحديث في رد الوديعة وأنها مضمونة على كل حال، كانت مما يغاب عليها أو لا يغاب، تعدَّى فيها أو لم يتعدَّ: عطاء والشافعي وأحمد وأشهب"[2].
فقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58] يفيد وجوب تأدية جميع أنواع الأمانات التي تقع تحت سلطة كل إنسان إلى أصحابها ومستحقيها، وسمِّيت العواري والودائع أمانات؛ لأنها لا تؤدَّى إلا بخُلق الأمانة، فخلق الأمانة هو المسؤول عن تأدية العواري والودائع إلى أهلها، وإعطاء الحقوق إلى مستحقيها.
وهذه الأمانات تشمل جميع الحقوق المتعلقة بذمم الناس، سواء كانت حقوقًا لله أو حقوقًا لخلقه[3].
ومن هذه النصوص أيضًا قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ ﴾ [البقرة: 283].
وقوله تعالى: ﴿ لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ ﴾ [الأنفال: 27].
وقوله تعالى في موضعين يصف أخلاق عباده المؤمنين: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8]، و[المعارج: 31].
قال ابن كثير: "وقوله: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾؛ أي: إذا اؤتمنوا لم يخونوا، بل يؤدونها إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك"[4].
وقال القرطبي: "قرأ الجمهور "لأماناتهم" بالجمع، وابن كثير بالإفراد.
والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولاً وفعلاً، وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك، وغاية ذلك حفظه والقيام به، والأمانة أعمُّ من العهد، وكل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد"[5].
ومن نصوص السنة التي أمرت بالأمانة، ونهت عن الخيانة:
عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك))[6].
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))[7].
وعن عبدالله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصهم فجَرَ))[8].
ومن مواقف السيرة العمَلية التي تدل على وجوب أداء الأمانة، وتعظيم الإسلام لهذا الخلق العظيم:
رد رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة لعثمان بن طلحة بن أبي طلحة بعد أن أخذها منه يوم فتح مكة، ودخل الكعبة وطهَّرها مما كان فيها من أصنام وأوثان، حتى قال بعض المفسرين: إن قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58] نزل في هذه الواقعة.
قال الطبري: "حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج قولَه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ قال: نزلت في عثمان بن طلحة بن أبي طلحة؛ قبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة ودخل به البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح، قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية: فداه أبي وأمي! ما سمعته يتلوها قبل ذلك!
حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا الزنجي بن خالد، عن الزهري قال: دفعه إليه وقال: ((أعينوه))"[9].
وقال ابن سيد الناس: "ولما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة واطمأن الناس، خرج حتى جاء البيت فطاف به سبعًا على راحلته يستلم الركن بمِحجن في يده.
فلما قضى طوافه، دعا عثمان بن طلحة فأخذ منه مفتاح الكعبة، ففُتحت له، فدخلها فوجد بها حمامة من عيدان، فكسرها بيده ثم طرحها، ثم وقف على باب الكعبة فقال: ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألاَ كل مأثرة أو دم أو مال يُدَّعى فهو تحت قدميَّ هاتين، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألاَ وقتيل الخطأ شبه العمد السوط والعصا ففيه الدية مغلَّظة مائة من الإبل، أربعون منها في بطونها أولادُها.
يا معشر قريش، إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظُّمَها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، ثم تلا هذه الآية: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى ﴾ [الحجرات: 13]، ثم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء)).
ثم جلس في المسجد فقام إليه عليٌّ ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله، اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أين عثمان بن طلحة؟))، فدُعي له فقال: ((هاك مفتاحك يا عثمان؛ اليوم يوم برٍّ ووفاء)).
وروينا عن عثمان بن طلحة من طريق ابن سعد قال: كنا نفتح الكعبة في الجاهلية يوم الاثنين والخميس، فأقبل - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - يومًا يريد أن يدخل الكعبة مع الناس، فغلَّظتُ عليه ونلت منه، وحلم عني، ثم قال: ((يا عثمان، لعلَّك سترى هذا المفتاح يومًا بيدي أضعه حيث شئتُ))، فقلت: لقد هلكت قريشٌ يومئذٍ وذلَّت، فقال: ((بل عمرت وعزت يومئذٍ)).
ودخل الكعبة، فوقعتْ كلمتُه مني موقعًا ظننتُ يومئذٍ أن الأمر سيصير إلى ما قال، وفيه أنه عليه الصلاة والسلام قال له يوم الفتح: ((يا عثمان، أن ائتني بالمفتاح))، فأتيته به، فأخذه مني ثم دفعه إليَّ وقال: ((خذوها تالدة خالدةً، لا يَنزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان، إن الله تعالى استأمنك على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من البيت بالمعروف)).
قال عثمان: فلما ولَّيت، ناداني فرجعتُ إليه فقال: ((ألم يكن الذي قلتُ لك؟))، قال: فذكرت قوله لي بمكة قبل الهجرة: ((لعلك سترى هذا المفتاح يومًا بيدي أضعه حيث شئتُ))، فقلت: بلى أشهد أنك رسول الله"[10].
ومن المواقف التي تَنطلق من قاعدة الأمانة الأخلاقية: استبقاء الرسول صلى الله عليه وسلم لعليِّ بن أبي طالب في يوم الهجرة؛ ليؤدي ما عنده من أمانات وودائع للناس رغم خروجه مضطرًّا مطاردًا، مع تآمر قريش عليه لقتله.
روى ابن هشام عن ابن إسحاق قوله: "ولم يعلم فيما بلَغني بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدٌ حين خرج - أي: للهجرة - إلا عليُّ بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر.
أما علي، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - أخبره بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة؛ حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده للناس.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يَخشى عليه إلا وضعه عنده؛ لما يعلم من صدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم"[11].
فهذا أنموذج فريد في الأمانة في أحْلَك الظروف؛ فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم معرض للموت، وتحاك حوله مؤامرات وضيعة للنَّيل منه وقتله، وكان من قبل ذلك يعاني ويلات الاضطهاد على مدى ثلاثة عشر عامًا في مكة، حتى هاجر أصحابه مخلِّفين وراءهم ديارهم وأموالهم، ورغم ذلك لم يَفُتْهُ أن يرد أمانات هؤلاء المشركين التي أودعت عنده، ويستبقي ابن عمه وحبيب قلبه عليًّا رضي الله عنه؛ ليرد الأمانات إلى أهلها.
ثم إن الناظر لَيَعجبُ من وضع المشركين لأماناتهم لدى النبي صلى الله عليه وسلم رغم ما بينهم من عداوة، ورغم زعمهم أنه كاذب فيما يدَّعيه من النبوة، في إقرار عملي واضح منهم أنه صلى الله عليه وسلم أكثر الناس أمانة وصدقًا.
ومن فروع قاعدة الأمانة الأخلاقية: الوفاء بالعهود والعقود، وآثرت إفرادها بمبحث مستقل؛ لإبرازها كأساس في المعاملات بين المسلمين وغيرهم، لا سيما عند الحديث عن الحروب الإسلامية وأخلاقها.