مشاهدة النسخة كاملة : عبد الله العلايلي


حكاية ناي ♔
01-04-2024, 03:39 PM
عَبْدُ اللهِ العَلَايلِيّ:

اسمُهُ الثُّلَاثِيُّ عَبْدُ اللهِ عُثْمَان العَلَايلِيّ (20 نوفمبر 1914م - 1333 هـ / 3 ديسمبر 1996م - 1417 هـ). لُغَوِيٌّ أَدِيبٌ مَوْسُوعِيٌّ، وَفَقِيهٌ مُجَدِّدٌ لُبْنَانِيٌّ. لُقِّبَ بِفَرْقَدِ الضادِ؛ بِاعْتِبَارِهِ مِن أَبْرَزِ الشَّخْصِيَّاتِ اللُّغَوِيَّةِ الإِصلَاحِيَّةِ التَّنوِيرِيَّةِ. جَدَّدَ فِي المُعْجَمِ اللُّغَوِيّ وَجَمَعَ بَيْنَ مَفْهُومَيْ «المُعْجَم» وَ «المَوْسُوعَة». وَعُرِفَ بِآرَائِهِ اللُّغَوِيَّةِ وَالفِقْهِيَّةِ المُثِيرَةِ لِلجَدَلِ؛ مُتَّخِذًا مِن شِعَارِهِ القَدِيمِ: «لَيْسَ مُحَافَظَةً التَّقْلِيدُ مَعَ الخَطَأِ؛ وَلَيْسَ خُرُوجًا التَّصحِيحُ الَّذِي يُحَقِّقُ المَعْرِفَةَ»؛ نَهْجًا لَاحِبًا فِي مَسِيرَتِهِ الفِكْرَوِيَّةِ الوُجُودِيَّةِ.
ولادته

وُلِدَ عَبْدُ اللهِ العَلَايلِيُّ يَوْمُ الجُمُعَةِ الوَاقِعُ فِيهِ 20 نوفمبر 1914؛ حِينَ شَهِدَتْ مَحَلَّةُ الـثُّـكْنَاتِ مِن أَحْيَاءِ مَحْرُوسَةِ بَيْرُوتَ، خَارِجَ السُّورِ القَدِيمِ، وِلَادَةَ طِفْلٍ كَانَتْ نَذَرَتْهُ أُمُّهُ عِندَ بِئْرِ مَار إِلْيَاس مِن أَحْيَاءِ المَزْرَعَةِ الوَاقِعَةِ فِي ضَاحِيَةِ بَيْرُوتَ القَدِيمَةِ؛ وَقَدْ دَعَتْهُ أُمُّهُ عَبْدَ اللهِ إِيمَاءً إِلَى وَفَائِهَا بِالنَّذْرِ الأَثِيرِ عِندَ ذَيَّاكَ البِيرِ.

وَقَدْ ظَلَّ ذَلِكَ اليَوْمُ لَم يَزَلْ يَصدَحُ فِي ذَاكِرَةِ الطِّفْلِ المَنذُورِ حَتَّى حِين . ثُمَّ مَا عَتَّمَ هَذَا الطِّفْلُ أَن سَجَّلَ أَصدَاءَ هَذِهِ الذِّكْرَى المُتَرَدِّدَةِ بِإِلْحَاحٍ فِي الذَّاكِرَةِ؛ حِينَ عَزَمَ عَلَى كِتَابَةِ مَلْحَمَتِهِ «رِحْلَة إِلَى الخُلْد» مُومِيًا إِلَى عَيْنِ ذَيَّاكَ الحَدَثِ بِقَوْلِهِ:
لَيْتَ أُمِّي لَم تَلِدْنِي دَلَّـةً
لَيْتَ أُمِّي لَم تَـرِدْ ذَاكَ الفِنَاءْ
نشأته

نَشَأَ عَبْدُ اللهِ العَلَايلِيُّ؛ نَشْأَةً جَائَتْ مَعَ حَبْكَةِ التَّارِيخِ عَلَى قَدَرٍ؛ فَتَرَبَّى فِي بَيْتٍ بَيْرُوتِيٍّ مُحَافِظٍ عَلَى التَّقَالِيدِ وَالعَادَاتِ الَّتِي طَبَعَتْ مَطْلِعَ القَرْنِ العِشْرِينَ بِمَيْسَمٍ خَاصٍّ؛ يَعْتَمِلُ بِالأَفْكَارِ التَّنوِيرِيَّةِ، وَالآرَاءِ النَّهْضَوِيَّةِ، وَالمَنَاهِجِ الإِصلَاحِيَّةِ؛ بِالرَّغْمِ مِن أَتّونِ الحَرْبِ الأُولَى العَالَمِيَّةِ. وَإِذَا كَانَ مِن طَالِعِ مِيمَاتِ الأَفْكَارِ العَابِرَةِ لِلثَّقَافَاتِ؛ أَن تَشْهَدَ نَشْأَةَ الحَرَكَةِ الدَّادِيَّةِ رَحِمِ المَدْرَسَةِ السُّورْيَالِيَّةِ فِي الغَرْبِ؛ فَمَا مِن عَجَبٍ أَن يَشْهَدَ هَذَا الشَّرْقُ نَشْأَةَ نَابِغَةٍ لَا شَكَّ أَنَّهُ أُرْسِلَ إِلَيْنَا مِن «وَادِي عَبْقَر»؛ لِيَكُونَ أَحَـدَ أَرْكَـانِ النَّهْضَةِ الأَدَبِيَّةِ، وَاللُّغَوِيَّةِ، وَالفَلْسَفِيَّةِ، وَالاجْتِمَـاعِيَّةِ، وَالفِقْهِيَّةِ؛ وَيَغْدُوَ وَاحِدًا مِن أَفْذَاذِ الدَّهْرِ يُشَارُ إِلَيْهِ بِكَوْنِهِ فَرْقَدَ الضادِ وَإِمَامَ مِحْرَابِ اللُّغَةِ وَكَاهِنَ سِرِّهَا. عَلَى أَنَّ اللُّغَةَ هُنَا لَيْسَتْ شَيْئًا يَتَقَوْقَعُ فِي اللَّفْظِ أَوْ يَتَمَوْضَعُ فِي الحَرْفِ مِنهُ؛ بَلِ اللُّغَةُ هِيَ المَعْبَرُ وَالمُعَبِّرُ، عَلَى أَنحَاءَ شَتَّى، عَن كُلِّ مَا تَتَطَارَحُهُ الرُّؤَى، وَتَتَرَاوَحُهُ هَسْهَسَات الفِكْرِ، وَخَلَجَات القَلْبِ، وَهَمَسَات الرُّوحِ.

إِنَّهَا مَجْمُوعَاتٌ مِنَ الأَفْكَارِ، وَالتَّقَالِيدِ، وَالعَوَاطِفِ، وَالأَحَاسِيسِ، وَالمَشَاعِرِ، وَالنَّزَعَاتِ، وَالنَّزَوَاتِ، وَالنَّزَغَاتِ.

نَعَم! لَا مَعْدَى مِن كَوْنِ اللُّغَةِ هَذَا كُلَّهُ، وَمِن كَوْنِ العَلَايلِيّ فَرْقَدَهَا وَإِمَامَهَا بِهَذَا كُلِّهِ.

يَقُولُ الحُكَمَاءُ الشَّرْقِيُّونَ القُدَمَاءُ: «مَا مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ؛ إِلَّا وَلِلْقَدَرِ فِيهِ بَصمَةٌ»!!

فَالكَائِن يُصنَعُ عَلَى عَيْنِ القَدَرِ الآخِذِ بِتَلَابِيبِهِ إِلَى مَا يَكُون مِنهُ؛ فَيَغْدُو هَذَا الكَائِن قِرْطَاسَ قَلَمِ الأَزَلِ؛ يَرْقُمُ فِيهِ بِحُرُوفٍ نورَانِيَّةٍ شَعْشَعَانِيَّةٍ، أَوْ ظُلْمَانِيَّةٍ غَسَقَانِيَّةٍ؛ أَطْوَارَ وُجُودِهِ، وَأَسْرَارَ نحُوسِهِ، وَسُعُودِهِ.

وَلَا يَعْدُو أَن يَكُونَ المَهْدُوفَ عَن قَوْسِ سُلْطَانِ القَدَرِ الرَّهِيبِ؛ عَلَى حَدِّ قَوْلِ العَلَايلِيّ فِي «مَلْحَمَتِهِ»:
زَعَــمُـونِي أَنَّنِي حُــرَّ الــهَـوَى
وَإِذَا شِــــــئْــــــت أُمُــورِي لَا يَشَاءْ
كَيْفَ أَرْجُو مَرَحًا فِي مَسْرَحِي
وَأَنَــا الـمـَهْدُوفُ عَــن قَوْسِ السَّمَاءْ
طلبه للعلم
الأزهر الشريف

وَمَا أَن بَلَغَ العَلَايلِيُّ السَّنَةَ العَاشِرَةَ مِن عُمُرِهِ؛ حَتَّى كَانَ لَهُ مَعَ القَدَرِ مَوْعِدٌ ءَاخَرُ؛ حَيْثُ أَخَذَهُ أَخُوهُ، الَّذِي يَكْبُرُهُ بِعَشْرِ سنَوَاتٍ، مَعَهُ إِلَى القَاهِرَةِ؛ عَاصِمَةِ العِلْمِ ءَانَذَاكَ، وَكَعْبَةِ العُلَمَاءِ، وَنَدْوَةِ الأُدَبَاءِ، وَمَحَجَّةِ البُلَغَاءِ، وَمَوْئِلِ المُفَكِّرِينَ وَالإِصلَاحِيّينَ؛ لِيَشْرَعَ الصَّبِيُّ النَّابِغَةُ فِي الانكِبَابِ عَلَى اللُّغَةِ وَتَحْصِيلِهَا، وَالانهِمَامِ بِحِفْظِ مُفْرَدَاتِهَا، وَتَأصِيلِهَا، وَتَرْسِيسِهَا، وَتَأثِيلِهَا؛ فَحَفِظَ الأَلْفِيَّةَ حِفْظَ إِجَادَةٍ وَإِتْقَانٍ؛ وَلَمَّا يَزَلْ فِي الحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِن عُمُرِهِ. وَأَتَمَّ حِفْظَ القُرْءَانِ بِوَصفِهِ: «قَامُوسَ مَن لَا قَامُوسَ لَهُ»، حِفْظَ مَلَكَةٍ وَاسْتِحْضَارٍ بَاهِرٍ؛ وَلَمَّا يُكْمِلِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِن عُمُرِهِ. وَطَفِقَ يَنهَلُ وَيَعُلُّ مِن مَعِينِ الأَسَاتِيذِ الكِبَارِ فِي الأَزْهَرِ الشَّرِيفِ مِن أَمثَالِ الشِّنقِيطِيّ، وَالسَّمَالُوطِيّ، وَالدِّجْوِيّ، وَالمُطِيعِيّ، وَالمَرْصِفِيّ؛ لُغَةً، وَأَدَبًا، وَفِقْهًا، وَأُصُولًا، وَتَفْسِيرًا، وَحَدِيثًا؛ حَتَّى أَتَمَّ كُلَّ ذَلِكَ وَهُوَ فِي غَضَاضَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ مِن عُمُرِهِ. وَبِإِشَارَةِ الحَدِيثِ الوَلَوِيّ العِرْفَانِيّ: «مَنهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ»؛ مَالَ العَلَايلِيُّ بِكُلِّهِ إِلَى النَّهْلِ، وَالعَلِّ؛ مِن حِيَاضِ العِلْمِ المُشْرَعَةِ عَلَى ثَقَافَةِ عَصرِهِ؛ فَقَرَأَ عِلْمَ الأَحْيَاءِ «الحِيَاوَةِ»، وَالكِيميَاءِ، وَالفِيزِيَاءِ، وَالرِّيَاضِيَّاتِ، وَاللُّغَتَيْنِ: الفَرَنسِيَّةِ، وَالإِنگِلِيزِيَّةِ؛ مُزَاحِمًا طُلَّابَ «دَارِ العُلُومِ» المُبَرِّزِينَ. كَمَا التَحَقَ بِكُلِيَّةِ الحُقُوقِ؛ لِيَتَضَلَّعَ مِن عِلْمِ القَانونِ، تَضَلُّعَهُ مِن سَائِرِ العُلُومِ عَلَى حَدٍّ شَرَعٍ.
العلايلي في سن الحادية عشرة وبيده الألفية بعد حفظه لها
تجديده اللُّغويّ

كَانَ العَلَايلِيُّ فِي الرَّابِعَةِ وَالعِشْرِينَ مِن عُمُرِهِ، حَيْنَ أَصدَرَ كِتَابَهُ الفَذَّ «مُقَدِّمَة لِدَرْس لُغَة العَرَب»؛ وَقَدْ تَعَرَّضَ فِيهِ لِأَصلِ اللُّغَةِ، وَنشُوئِهَا، وَارْتِقَائِهَا، وَمَرَاحِلِ طُفُولَتِهَا، وَشُبُوبَتِهَا، وَاكْتِهَالِهَا، وَمَوْتِهَا، وَاضْمِحْلَالِهَا. كَمَا تَعَرَّضَ لِلأَوْزَانِ الشِّعْرِيَّةِ وَتَحْدِيدَاتِهَا؛ وَنَاقَشَ مُعْضِلَاتِ السَّمَاعِ وَالقِيَاسِ وَالاشْتِقَاقِ؛ مُقَدِّمًا فِي تَضَاعِيفِ ذَلِكَ كُلِّهِ؛ رُؤَاهُ فِي تَجْدِيدِ اللُّغَةِ، وَإِحْيَائِهَا، وَابْتِعَاثِهَا؛ عَارِضًا لِمُشْكِلَاتِ المُعْجَمِ العَرَبِيّ فِي القَدِيمِ وَالحَدِيثِ، وَمُقْتَرِحًا: إِجَادَةَ العَمَلِ عَلَى مُعْجَمٍ وَافٍ لِتَارِيخِ الأَلْفَاظِ وَتَطَوُّرِهَا الدِّلَالِيّ؛ وَهُوَ العَمَلُ الَّذِي لَم يُنجَزْ حَتَّى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا. وَلَم يَقْتَصِرِ العَلَايلِيُّ فِي «مُقَدِّمَتِهِ» عَلَى إِحْيَاءِ اللُّغَةِ؛ بَلْ عَرَضَ لِمَشْرُوعِهِ حَوْلَ إِصلَاحِ الأَزْهَرِ، وَمَعَاهِدِ العُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمُسْتَقْبَلِ المُؤَسَّسَاتِ الدِّينِيَّةِ! ثُمَّ تَعَمَّدَ أَن يَخْتِمَ «مُقَدِّمَتَهُ» بِفُصُولٍ تَشْرَحُ ضَرُورَةَ مُعَالَجَةِ أَبْوَابٍ فِي فِقْهِ اللُّغَةِ وَأُصُولِ العَرَبِيَّةِ؛ لَم يَحْفِلْ بِهَا اللُّغَوِيُّونَ كَمَا يَجِبُ!

وَلِأَنَّ العَلَايلِيَّ كَانَ مُؤْمِنًا كُلَّ الإِيمَانِ بِمَشْرُوعِ المُعْجَمِ الجَدِيدِ؛ طَفِقَ يَجْمَعُ مَادَّتَهُ؛ جَمعًا مَوْسُوعِيّـًا غَيْرَ مَسْبُوقٍ؛ حَتَّى نَشَرَ الأَقْسَامَ الأَرْبَعَةَ الأُولَى مِنَ «المُعْجَم» الكَبِيرِ، قَبْلَ أَن تَدْهَمَهُ الحَرْبُ اللُّبْنَانِيَّةُ الأَهْلِيَّةُ؛ فَوُئِدَ مَشْرُوعُ «المُعْجَم» الكَبِيرِ فِي مَهْدِهِ، وَفَعَلَتْ يَدُ الحَدَثَانِ فِعْلَهَا المَشْؤُومَ بِآلَافِ الجُذَاذَاتِ؛ لِتَضِيعَ فِي غَيَاهِبِ دَهْرِ الدَّهَارِيرِ، وَتطْوَى صَفَحَات ذَيَّاكَ «المُعْجَم» مَعَ القِسْمِ الرَّابِعِ مِنَ المُجَلَّدِ الأَوَّلِ مِنهُ. لَقَدْ كَانَ مُقَرَّرًا لِمُعْجَمِ العَلَايلِيّ أَن يَصدُرَ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مُجَلَّدًا؛ لِكُلٍّ مِنهَا أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِسْمًا؛ بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ الأَقْسَامَ الخَمسَ مِئَةٍ وَالسِّتَّةَ وَالسَّبْعِينَ لَم يَصدُرْ مِنهَا إِلَّا أَرْبَعَةٌ فَقَطْ. أَرَادَ العَلَايلِيُّ أَن يَكُونَ «المُعْجَم» مَوْسُوعَةً لُغَوِيَّةً، عِلْمِيَّةً، فَنِّيَّةً؛ مُفْتَتِحًا عَهْدًا جَدِيدًا مِن عُهُودِ التَّصنِيفِ المُعْجَمِيّ اللُّغَوِيّ، يَجْمَعُ بَيْنَ «المُعْجَم» وَ «المَوْسُوعَة»؛ وَمُعَقِّبًا كُلَّ جَذْرٍ بـِ: فُصَحٍ نَهْجِيَّةٍ؛ عَنَى بِهَا الكَلِمَاتِ الاتِّبَاعِيَّةَ الَّتِي جَاءَتْ مَاشِيَةً مَعَ عَمُودِ العَرَبِيَّةِ؛ وَاضِعًا كَلِمَةَ «نَهْجِيَّة» فِي مُقَابِلِ كَلِمَةِ "Classique". وَلِذَا؛ لَم يَقْنَعِ العَلَايلِيُّ بِتَقْلِيدِيَّةِ العَمَلِ المُعْجَمِيّ؛ فَجَاءَ مُبْتَكِرًا لِطَرَائِقَ اشْتِقَاقِيَّةٍ، وَطَرَائِفَ فُصَحِيَّةٍ نَهْجِيَّةٍ؛ مَيَّزَتْ مَوَادَّ مُعْجَمِهِ، وَأَمَدَّتْ لُغَةَ العَصرِ بِأَوْضَاعٍ جَدِيدَةٍ؛ تَتَّسِقُ وَلِيَانَ العَرَبِيَّةِ؛ مِن وِجْهَةِ نَظَرِ العَلَايلِيّ المُتَمَحْوِرَةِ حَوْلَ ثَلَاثَةِ مَبَادِئَ:

1- تَثْبِيت قُدْرَةِ العَرَبِيَّةِ عَلَى التَّعْبِيرِ عَن فِكْرِ العَصرِ فِي أَنحَائِهِ كَافَّةً.

2- تَثْبِيت المَعْنَى المُوَحِّدِ لِلْجَذْرِ.

3- تَثْبِيت مَبْدأِ أَنَّ مَا قِيسَ عَلَى كَلَامِ العَرَبِ فَهُوَ مِن كَلَامِ العَرَبِ.

وَفِي سِيَاقِ هَذَا المَشْرُوعِ الضخْمِ الَّذِي اضطَّلَعَ بِهِ العَلَايلِيُّ؛ لَا بُدَّ أَن نَعْتَرِفَ لَهُ أَنَّهُ اسْتَلْهَمَ فِي مَشْرُوعِهِ اللُّغَوِيّ مَقُولَةَ صَدِيقِهِ المُتَنَبِّي:
إِذَا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومِ
فَـــلَا تَــقْــنَــعْ بِــمَــا دُونَ النّجُومِ
رأيه في التّفاسير

أَدْرَكَ العَلَايلِيُّ الشَّابُّ أَهَمِيَّةَ الدِّرَاسَاتِ القُرْءَانِيَّةِ فِي أَيّ فِكْرٍ إِصلَاحِيٍّ تَجْدِيدِيٍّ نَهْضَوِيٍّ؛ فَوَضَعَ «مُقَدِّمَة التَّفْسِير»؛ مَدْفُوعًا بِمُلَاحَظَةِ أَنَّ جُلَّ التَّفَاسِيرِ لَا تَعْدُو كَوْنَهَا تَفَاسِيرَ أَهْوَاءٍ وَشَهَوَاتٍ، وَنَزَعَاتٍ وَنَزَغَاتٍ. أَرَادَ العَلَايلِيُّ لِمُقَدِّمَتِهِ فِي التَّفْسِيرِ أَن تَكُونَ مَدْخَلًا لِوَعْي النَّصِّ القُرْءَانِيّ؛ قِرَاءَةً وَتَفْسِيرًا وَتَأوِيلًا. وَقَدْ طَوَاهَا عَلَى قِسْمَيْنِ رَئِيسِيَّيْنِ:

قِسْـمٍ لَـفْـظِــيٍّ؛ وَيَتَضَمَّن: أُسْلُوبَ القُرْءَانِ النَّثْرِيّ كَجُملَةٍ بَيَانِيَّةٍ، وَالأَعْلَامَ، وَالكُنَى، وَأَسْمَاءَ المَوَاضِعِ، وَالتَوَارِيخَ؛ مُبْتَدِعًا حَلًّا لِأُحْجِيَّةِ الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ فِي فَوَاتِحِ السُّوَرِ؛ بِاعْتِبَارِهَا الكَلِمَاتِ المَفَاتِيحَ الرَّامِزَةَ لِمَوْضُوعَاتِ السُّورَةِ وَقَضَايَاهَا الكُبْرَى.

وَقِسْـمٍ مَعْنَوِيٍّ؛ وَيَتَضَمَّن: أَغْرَاضَ القُرْءَانِ العُلْيَا، وَالفَلْسَفَةَ، وَالاجْتِمَاعَ، وَالقَانونَ، وَالأَخْلَاقَ، وَالسُّلُوكَ. أَخْبَرَنَا شَيْخُنَا الحَبِيبُ وَالعَلَّامَةُ الأَرِيبُ، الحَسِيبُ النَّسِيبُ السَّيّدُ عَبْد الرَّحْمٰن بِن دِيب الحُلْو -أَمتَعَنَا اللهُ تَعَالَى بِهِ- قَالَ: لَم أَجِدْ شَيْخَنَا مَغْمُومًا قَطُّ؛ كَمَا كُنت أَجِدُهُ حِينَ يَتَحَدَّثُ مُلْتَاعًا عَن ضَيَاعِ الأَصلِ المَخْطُوطِ لِهَذَا الكِتَابِ.

قَالَ شَيْخُنَا: وَكَانَ مِن قِصَّةِ ضَيَاعِ «مُقَدِّمَة التَّفْسِير» أَنَّ شَيْخَنَا العَلَايلِيَّ كَانَ دَفَعَ بِالأَصلِ المَخْطُوطِ إِلَى النَّاشِرِ الأَدِيبِ حُسَام الدِّين القُدْسِيّ؛ لِيَقُومَ بِنَشْرِهِ فِي مَكْتَبَتِهِ بِالقَاهِرَةِ؛ وَقَفَلَ شَيْخُنَا إِلَى بَيْرُوتَ لِإِتْمَامِ إِجْرَاءَاتِ عَوْدَتِهِ إِلَى لُبْنَانَ، فِي مَطْلِعِ الأَرْبَعِينِيَّاتِ مِنَ القَرْنِ المَاضِي؛ وَبَيْنَمَا هُوَ فِي بَيْرُوتَ جَاءَتْهُ رِسَالَةٌ مِنَ الأُسْتَاذِ حُسَام الدِّين القُدْسِيّ؛ أَنَّ الكِتَابَ قَدْ فُقِدَ فِي أَثْنَاءِ انتِقَالِ مَكْتَبَتِهِ مِن مَكَانِهَا إِلَى مَكَانٍ جَدِيدٍ؛ مُتَأَسِّفًا لِشَيْخِنَا، وَرَاغِبًا إِلَيْهِ فِي إِعَادَةِ كِتَابَةِ «المُقَدِّمَة» وَإِرْسَالِهَا لِنَشْرِهَا؛ لَكِنَّ شَيْخَنَا المَفْجُوعَ، بِافْتِقَادِ الكِتَابِ، عَزَفَ عَن ذَلِكَ، وَعَكَفَ عَلَى ذَاكِرَةٍ مُؤْلِمَةٍ حَوْلَ كِتَابٍ شَاءَ لَهُ سُلْطَان القَدَرِ؛ أَن لَا يُبْصِرَ النّورَ حَتَّى السَّاعَةَ!
عشقه وشعره

مَرَّ العَلَايلِيُّ الشَّابُّ بِتَجْرِبَةِ حُبٍّ مُتَأَجِّجَةٍ لَاهِبَةٍ مُتَوَهِّجَةٍ؛ بَيْدَ أَنَّ سُلْطَانَ القَدَرِ المُسْتَوْلِي عَلَى أَنحَائِهِ؛ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَتَاتِهِ؛ فَانعَطَفَ العَلَايلِيُّ عَلَى ذَاتِهِ؛ نَاظِمًا أَرْوَعَ قَصَائِدِهِ فِي الحُبِّ، وَالغَزَلِ والتَّشْبِيبِ؛ مُعَبِّرًا عَن لَوَاعِجِهِ بِاسْتِيهَامٍ وَءَالَامٍ؛ لَا تَزَالُ تَلْتَفُّ حَوْلَ الإِنسَانِ؛ كَقِمَاطٍ حَالِكٍ لَا سَبِيلَ مَعَهَ إِلَى خَلْعِهِ عَنهُ، بَلْهَ انخِلَاعِهِ مِنهُ. أَوْ كَكَأسٍ طَافِحَةٍ بِاليَأسِ لَا مَنَاصَ مِن تَجَرُّعِهَا حَتَّى الثُّمَالَةِ. دَاعِيًا إِلَى تَحْطِيمِ هَاتِيكَ الكَأسِ المَصمُودَةِ فِي سُدَفِ الظُّلْمَةِ الغَاشِيَةِ لِلَيْلِ الوُجُودِ المُظْلِمِ:
ظُلْمَةٌ مَــادَتْ، وَغَشَّــتْ ظُــلْـمَـةٌ
بَـــيْـــنَ مَــوْجَــيْــهَــا شَــــقَــــاءُ الأَبْرِيَاءْ
طَـــفَـــتِ المَـوْجَـةُ تَحْـدُو أُخْتَهَا
فِـــي ظَـــــلَامِ الدُّجْـــــنِ وَالـــدُّخُّ كِسَاءْ
يَـــا خَلِـيـلِي حَطِّمِ الكَـأسَ مَعِي
إِنَّــــهَــــا الكَـــأسُ حَـــوَتْ رُوحَ الشَّقَاءْ
إِنَّ كَـوْنًــا كُــلُّ مَــا فِـيـهِ أَسَــىً
خَــــــيْــــــرُهُ نَــــــوْمٌ وَمَــــــوْتٌ وَفَـنَـاءْ
لَا يُــرَجِّـي الخُــلْــدَ فِـيـهِ نَــابِـغٌ
كَيْفَ يَـهْـنَـــا العَيْشُ فِـــي وَادِي العَنَاءْ

إِنَّهُ الأَلَمُ الَّذِي سَيُصَاحِبُ العَلَايلِيَّ طَوَالَ دَهْرِهِ الدَّاهِرِ؛ وَهُوَ الَّذِي كَانَ يَعْتَقِدُ جَازِمًا أَنَّ الأَلَمَ يُعَمِّقُ الشُّعُورَ بِالإِحْسَاسِ الإِنسَانِيّ العَامِّ، وَيُوَجِّهُ الكَائِنَ تَوْجِيهًا سُلُوكِيّـًا صَحِيحًا رَجِيحًا، وَيَجْعَلُ مِنهُ إِنسَانًا مُتَفَهِّمًا لِمُعَانَاةِ الجَوْعَى وَالمَحْرُومِينَ وَالبَائِسِينَ. فَمَا الكَائِن عِندَ العَلَايلِيّ إِلَّا رَبِيبُ الأَلَمِ.

وَلِأَنَّ الأَلَمَ يُوقِظُ الحِسَّ الوُجُودِيَّ فِي الكَائِنِ؛ وَلِأَنَّ لَوَاعِجَ الحُبِّ وُأَتّونَهُ المُتَّقِد َيُسَعِّرُ النَّزْعَةَ الوُجُودِيَّةَ لَدَيْهِ؛ فَقَدْ جَاءَتْ قَصِيدَةُ «مَع القَمَر»؛ لِتعَبِّرَ عَن وُجُودِيَّةِ العَلَايلِيّ المُتَأَمِّلَةِ المُتَأَلِّمَةِ؛ وَالمُدْنِيَةِ لَهُ مِن صَدِيقِهِ الحَمِيمِ أَبِي العَلَاءِ المَعَرِّيّ؛ غَيْرِ المُبْتَعِدَةِ عَن عَبَثِيَّةِ عُمَرالخَيَّام الهَاتِكَةِ لِسِتَارَةِ الوُجُودِ!!

اِسْتَمِعْ إِلَى العَلَايلِيّ وَهُوَ يُحَاوِرُ مَعْشُوقَتَهُ المَرْمُوزَةَ بِاسْمَيْ «نعْم» وَ «سَمَر» بِقَوْلِهِ:
يَا نعْمُ بَلْ يَا سَمَرُ رَاحٌ وَلَـــهْــــوٌ وَدَدُ
وَقَــــمَــــرٌ مُـــتَّــكِــئٌ لَـهُ عَـلَى الأُفْـقِ يَدُ
وَوَتَرٌ مُـصطَخِبٌ وَوَتَـــرٌ مَــضــطَّرِدُ
وَكُـوبُ نَـخْـبٍ رَائِــحٌ وَكُــوبُ نَـخْبٍ يَفِـدُ
فِي سَهْرَةٍ كَوْكَبُهَا بَــدْرٌ هُــنَـاكَ غَــرِدُ
يَـقُــصُّـهَـا وَشْـوَشَـةً نَجْـمٌ لِـنَـجْــمٍ يَــقِـدُ
وَزَهْـــرَةٌ لِـــزَهْـرَةٍ وَبُـلْـبـلٌ يُغَرِّدُ
وَشَـــهْـــرَزَادُ قَـيْـنَـةٌ تَحْـدُو بِـهَا وَتَسْرُدُ
لَـيْلَاتهَا دَارَتْ بِهَا مَـعَـازِفٌ تَـضـطَّـرِدُ
مَــجَــانَــةٌ لَاعِـــبَـــةٌ وَدَعْـــوَةٌ وَحَــــرَدُ
وَلَـهْـفـَةٌ ظَــامِئَـةٌ وَنَــشْـــوَةٌ تَــرْتَـعِـدُ
وَشَــهْــوَةٌ مَجْـنـونَـةٌ لَــهَــا لِسَــانٌ وَيَـدُ
وَلَـحْـظَةٌ مُـفْـعَـمَةٌ فِـيهَـا تَـلَـظَّـى الأَبَدُ
فِي رَبْـوَةٍ مِــن عَبْقَرٍ لِلْـحُـبِّ فِيـهَـا مَعْبَدُ
وَرَبَّــةٌ نَـــشْوَانَــةٌ لَهَا الجَمَالُ يَسْجُدُ
فَــرَاشَــــةٌ وَمَـــارِجٌ خُـلْـدٌ وَأَمـسٌ وَغَـدُ
مَا الخُلْدُ إِلَّا جَذْوَةٌ أُوَارُهَــــا تَــتَّــقِــدُ
نَـحْن اشْـتِـعَـالٌ أَبَدًا وَابـْن الرَّمَــادِ بَـدَدُ
يَا نعْمُ بَلْ يَا سَمَرُ رَوَائِــحُ الخُــلْـدِ دَدُ
هُـنَــيْــهَــةٌ مَــاتِـعَــةٌ نَـفْـنَـى بِـهَـا وَنَخْلُدُ

أبيات من ملحمة: «رحلة إلى الخلد» - 1500 بيت نظمها (1938) وترجمت مقاطع منها إلى الفرنسية.
أنا يومي بين أمسٍ وغدٍ
خدعةُ الآمال في بُرد الرجاءْ
وأمانُ القلبِ برقٌ خلَّبٌ
حار إذ شَعَّ كضحكٍ في بكاء
أظننتَ الخلدَ بابًا واسعًا
بسمةَ الآمال إذ يعلو النداء
لو عفَتْه بدعةُ الصنعِ ولو
لم تَخَلْ دُرَّ حصاهُ كذُكاء
فتنةُ العابدِ في محرابه
ورؤى الشاعر في لوح السماء
نشوةُ القيثار في أوتاره
ولحون الزُّهر في زَهْر الفضاء
وحنينُ الحبِّ في تطريبه
ورجيعُ الوُرق في إلفِ النَّشاء
زرقةُ الأمواج في إزبادها
وخريرُ الماء في أُذن الضياء
ظلمةٌ مادت، وغشَّت ظلمةً
بين مَوْجيها شقاء الأبرياء
طَفَتِ الموجة تحدو أختَها
في ظلام الدَّجْنِ والدُخُّ كساء
يطلع الشيطانُ من أقطارها
نافثًا في طيّها كلَّ بلاء
وترى الجِنَّةَ فيها مُرَّحًا
مسرحُ الجِنَّةِ أصداءُ الجواء
جِنَّةٌ جازوا على أسوارها
شِدْقُ كلٍّ، كخليجٍ من دماء
يزفرُ الماردُ منهم زفرةً
كهزيمِ الرعدِ في الأرض العراء
شرَرُ النار على أفواههم
قمَّةُ البركان عند الصُّعَداء
جمعت خبثًا ولؤمًا ورياءْ
وقصارى كلِّ ما فيها جَفاء
يا مقرَّ اللطف كيف انحدرت
بك أقدامٌ إلى هذا العناء؟
نغماتُ اللطف فيك اجتمعتْ
كيف جاورتَ أباليسَ الذَّكاء؟
هل رأيت الدهر زهرًا مُونقًا
في لهيب النار مخضرَّ اللِّحاء؟
عجبٌ أنت بها مُستمتعٌ
ويحَ ظبيٍ في صُحيراء الضَّراء
لو خبرْتَ العيش فيها يقظةً
لتخيَّرت غروبًا في البَداء
دمعةُ الطفل لدى ميلاده
غصّةُ الآمال في زيْفِ الـمُناء
يُهَريقُ الدمعَ من إرهاقها
ليت لو يمكن تسديد الخَطاء
أفعوان الدهر أو عقربُهُ
في وثير المهد يحبوك الغذاء
أنت في دهرك هذا كُرَةٌ
كُلّما ضخَّمْتها ازدادت هواء
لم تنل محظيّةً في جمعهم
برداءٍ غير مكذوبِ الرواء
يا خليلي حطِّمِ الكأس معي
إنها الكأس حوت روح الشّقاء
إن كونًا كلُّ ما فيه أسىً
خيرُهُ نومٌ وموتٌ وفَناء
ليت أمّي لم تلدني ضَلَّةً
ليت أمّي لم تَرِدْ هذا الفِناء
زعموني أنني حرُّ الهوى
وإذا شئتُ أُموري لا يشاء
كيف أرجو مرحًا في مسرحي
وأنا المهدوفُ عن قوس السّماء
مرَّتِ المركبُ تمشي الخيزَلى
درةٌ قد جُوِّفت مثل الخباء
وبدا منها فتىً في رونقٍ
ريِّقٍ أشبَهَ تهطال السّماء؟
لا تلوموا الصبَّ في لوعته
خمرةُ الله ارتوى منها وناء
رأيه في المرأة
هدى شعراوي من أبرز الناشطات المصريات في النشاط النسوي في نهايات القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين

ءَامَنَ العَلَايلِيُّ بِأَنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ، وَأَنَّ العَمَلَ النِّسْوِيَّ لَا يَقِلُّ شَأنًا عَن أَعْمَالِ الرِّجَالِ؛ مُنطَلِقًا مِن رُؤَى صُوفِيّهِ الأَكْبَرِ الشَّيْخِ مُحْيي الدِّين ابْن عَرَبِيّ؛ فِي أَنَّ «مَا لَا يُؤَنَّثُ: لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ». وَمُؤَكِّدًا عَلَى أَنَّ زِيَادَةَ تَاءِ التَّأنِيثِ فِي اسْمِ «المَرْأَةِ» عَلَى اسْمِ «المَرْءِ» يَمنَحُ الأُنثَى دَرَجَةً تكَافِئُ دَرَجَةَ الرِّجَالِ؛ فَإِذَا كَانَ لِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ فِي سَبْقِ الخِلْقَةِ، فَلَهُنَّ عَلَى الرِّجَالِ دَرَجَةٌ فِي نَسَقِ الرُّتْبَةِ؛ فَدَرَجَةٌ مِن هُنَاكَ، وَرُتْبَةٌ مَكَافِئَةٌ مِن هُنَا. وَبِالتَّالِي فَإِنَّ لِلْمَرْأَةِ عِندَ العَلَايلِيّ دَوْرًا بَارِزًا مُسْتَمِرًّا فِي حَرَكَةِ التَّارِيخِ وَمَسَارِ الأُمَمِ، بَيْنَ القُطْبِيَّةِ المَرْكَزِيَّةِ وَهَامِشِيَّةِ الأَطْرَافِ، تَبَعًا لِمَا تَضطَّلِعُ بِهِ المَرْأَةُ زَمكَانِيّـًا، كَأُمٍّ وَزَوْجَةٍ وَبِنتٍ وَشَقِيقَةٍ وَقَرِيبَةٍ وَنَسِيبَةٍ، مُسْتَقْطِبَةً المَرْجِعِيَّةَ، أَوْ مُكْتَفِيَةً بِدِينَامِيَّةِ الهَامِشِ! مِن هُنَا شَكَّلَتِ السَّيّدَةُ الأُولَى فِي الإِسْلَامِ خَدِيجَةُ بِنت خُوَيْلِد، قُطْبًا مَرْجِعِيّـًا فِي الإِسْلَامِ المُبَكِّرِ، وَأَوْحَتْ إِلَى الكَثِيرِينَ مِنَ المُؤَرِّخِينَ فِي المَصَادِرِ الإِسْلَامِيَّةِ وَغَيْرِهَا، بِالكَثِيرِ مِنَ الرُّؤَى وَالإِشْرَاقَاتِ، تَثْمِينًا لِدَوْرِهَا وَتَعْزِيزًا لِمَنزِلَتِهَا؛ وَكَانَ لَهَا فِي فِكْرِ العَلَايلِيّ حُضُورٌ مُمتَازٌ لَم يَفْتَأ يَسْتَحِثُّهُ إِلَى الكِتَابَةِ عَنهَا كِتَابَةً عَبْرَ نَوْعِيَّةٍ.

وَلِأَنَّ العَلَايلِيَّ اخْتَبَرَ تَجْرِبَةَ الحُبِّ؛ فَقَدْ رَأَى فِي تَجْرِبَةِ العِشْقِ المُؤَالِفِ بَيْنَ نَبِيّ الإِسْلَامِ وَزَوْجِهِ الأَثِيرَةِ خَدِيجَةَ؛ مَا يَدْعُو إِلَى تَعْمِيمِ التَّجْرِبَةِ؛ فَصَاغَ لَنَا رِوَايَةً تَارِيخِيَّةً عَن تَجْرِبَةِ عِشْقِ خَدِيجَةَ لِلنَّبِيّ، وَحُبِّ النَّبِيّ لِخَدِيجَةَ مِن بَيْنِ النِّسَاءِ؛ جَاعِلًا مِنهَا: «مَثَلهُنّ الأَعْلَى»؛ وَهِي الَّتِي غَذَّتْ نَبِيّـًا وَرَعَتْ وَصِيّـًا.
مع المعرّي

وَكَالشَّأنِ فِي الصَّدْمَةِ الحَضَارِيَّةِ؛ وَجَدَ العَلَايلِيُّ فِي فَيْلَسُوفِ المَعَرَّةِ صَدِيقًا حَمِيمًا مُؤَاخِيًا؛ فَتَوَفَّرَ عَلَى دِرَاسَتِهِ، دِرَاسَةً مَوْضُوعِيَّةً جَادَّةً، مُتَّخِذًا مِن فِقْهِ اللُّغَةِ، وَالمُعْجَمِ الفَلْسَفِيّ الخَاصِّ بِأَلْفَاظِ المَعَرِّيّ وَمُصطَلَحَاتِهِ؛ وَسَائِلَ بَحْثِيَّةً لِفَهْمِ ذَلِكَ الفَيْلَسُوفِ الغَامِضِ، بِالرَّغْمِ مِن كَثْرَةِ الكِتَابَاتِ حَوَلَهُ، وَالَّتِي جَاءَتْ فِي أَكْثَرِهَا: مُبْتَسَرَةً مُتَسَرِّعَةً؛ لَم تَزِدْ مَعْرِفَتَنَا بِهِ إِلَّا اسْتِغْلَاقًا وَانبِهَامًا؛ فَحُقَّ وَصفُ العَلَايلِيّ لِصَدِيقِهِ الفَيْلَسُوفِ بِأَنَّهُ: «المَعَرِّي.. ذَلِكَ المَجْهُول»!!
نشاطه وأدبه

عَادَ العَلَايلِيُّ فِي مَطْلِعِ الأَرْبَعِينِيَّاتِ؛ لِيَكُونَ إِمَامًا وَمُدَرِّسًا وَخَطِيبًا فِي الجَّامِعِ العُمَرِيّ الكَبِيرِ، بِمَحْرُوسَةِ بَيْرُوتَ، بَيْدَ أَنَّ العَلَايلِيَّ لَم يَكُن يَوْمًا شَيْخًا تَقْلِيدِيّـًا؛ وَلِذَا كَانَتْ دُرُوسُهُ وخُطَبُهُ وَعِظَاتهُ وَمَقَالَاتهُ؛ مُفْعَمَةً بِالحَيَوِيَّةِ النَّابِضَةِ؛ لُغَةً وَفِقْهًا وَاجْتِمَاعًا إِنَاسِيّـًا؛ فَكَانَ شَيْخَ مِحْرَابٍ وَقِبْلَةٍ؛ كَمَا كَانَ لُغَوِيّـًا شَاعِرًا، أَدِيبًا نَاثِرًا، خَطِيبًا مِصقَـعًا ثَائِرًا؛ حَتَّى إِنَّ عَلَّامَةَ بَيْرُوتَ ءَانَذَاكَ الشَّيْخَ عَبْد الرَّحْمَن سَلَام؛ كَانَ يَسْتَحِثُّ نَفْسَهُ عَلَى أَن يَكُونَ فِي مُقَدِّمَةِ الحُضُورِ فِي مَجَالِسِ العَلَايلِيّ المَسْجِدِيَّةِ، وَخُطَبِهِ النَّارِيَّةِ؛ لِيَرَى أُعْجُوبَةَ اللهِ فِي العَلَايلِيّ عَلَى حَدِّ مَا نقِلَ عَنهُ.

رَأَى العَلَايلِيُّ أَنَّ الهَمسَ فِي الآذَانِ أَسْرَعُ انتِشَارًا لِلْفِكْرَةِ مِن أَيّ وَسِيلَةٍ إِعْلَامِيَّةٍ أُخْرَى؛ فَـآثَـرَ أَن يَكُونَ أَدَبُهُ لَصِيقًا بِآمَالِ الشَّعْبِ وَءَالَامِهِ، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ مِنَ الأَدَبِ فَـنّـًا إِنسَانِيّـًا وَلَيْسَ مُجَرَّدَ حِرْفَةٍ بَيَانِيَّةٍ تَتَّخِذُ مِن خُدَعِ الأَلْفَاظِ وَسِيلَةً لِلْأَدْلَجَةِ.

وَلِهَذَا طَوَّعَ العَلَايلِيُّ أَدَبَهُ لُيُحَاكِيَ هَوَاجِسَ النَّاسِ، وَيُدَغْدِغَ مَشَاعِرَهُم، وَيَسْتَجِيشَ عَوَاطِفَهُم؛ فِي مُحَاوَلَةٍ لِإِلْغَاءِ الفَرَاسِخِ وَالبَرَازِخِ بَيْنَ فَنِّ الأَدَبِ وَإِنسَانِهِ. وَهُوَ الَّذِي لَاحَظَ بِذَكَاءٍ مُتَفَوِّقٍ الإِبْدَالَ وَالمُعَاقَبَةَ بَيْنَ «أَدَب» وَ«أَدَم»؛ فَإِذَا بِالأَدَبِ هُوَ الإِنسَان نَفْسُهُ؛ مُسْتَشْهِدًا بِاللُّغَةِ السُّومَرِيَّةِ، وَجَذْرِ «أَدَم» فِي اللُّغَاتِ السَّامِيَّةِ المُشْتَرَكَةِ، وَمِنهُ اسْمُ «ءَادَم» وَهُوَ أَبُو الإِنسَانِيَّةِ. لِيَنزَاحَ مَفْهُومُ «الأَدَب» بِتَأثِيرِ الذِّهْنِيَّةِ الدِّينِيَّةِ فِي الإَسْلَامِ، إِلَى مَعْنَى التَّعْلِيمِ وَالتَّلْقِينِ وَالإِلْهَامِ؛ بِإِشَارَةِ الحَدِيثِ النَّبَوَيّ: «أَدَّبَنِي رَبِّي فَأَحْسَنَ تَأدِيبِي» يُرِيدُ: عَلَّمَنِي وَلَقَّنَنِي وَأَلْهَمَنِي، وَغَذَّانِي بِمَشْبُوبِ مَعْنَاهُ الأَقْدَسِ.

رَفَضَ العَلَايلِيُّ الحُدُودَ وُالقُيُودَ عَلَى الأَدَبِ كَمَا عَلَى الشِّعْرِ. وَدَعَا إِلَى تَحْرِيرِ الأَدَبِ وَالشِّعْرِ وَاللُّغَةِ وَالبَيَانِ، مِن كَوَابِلِ التَّحْمِيلِ وَالتَّثْقِيلِ فِي نَزْعَةٍ سُورْيَالِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ. وَكَادَ أَن يُحْدِثَ انقِلَابًا نَوْعِيّـًا فِي المَدَارِسِ الأَدَبِيَّةِ، يَوْمَ صَنَّفَ فِي أَوَاخِرِ الثَّلَاثِينِيَّاتِ مِنَ القَرْنِ المَاضِي كِتَابَهَ «أُدَبَاء وَحَشَّاشُون»؛ لَكِنَّهُ فُقِدَ فِي جُملَةِ الكُتبِ المَخْطُوطَةِ الَّتِي ضَاعَتْ إِبَّانَ انتِقَالِهِ مِن مِصرَ إِلَى لُبْنَانَ، إِثْرَ اشْتِدَادِ الحَملَةِ الإِيطَالِيَّةِ - الأَلْمَانِيَّةِ عَلَى مِصرَ؛ الأَمرُ الَّذِي تَأَسَّفَ عَلَيْهِ الأَسَفَ كُلَّهُ صَدِيقُهُ الأَدَيبُ الكَبِيرُ بِشِر فَارِس.

شَكَّلَ كِتَابُ «الأَغَانِي» مَلَاذًا أَدَبِيّـًا لِلعَلَايلِيّ بِاعْتِبَارِهِ مِن أَهَمِّ المَجَامِيعِ الأَدَبِيَّةِ المُصَنَّفَةِ فِي تَارِيخِ الأَدَبِ العَرَبِيّ؛ فَعَمِلَ جَاهِدًا مَعَ صَدِيقِهِ، المُثَلَّثِ الرَّحَمَاتِ، الأَبِ يُوسُف عَوْن عَلَى تَهْذِيبِ «الأَغَانِي» تَهْذِيبًا بَدِيعًا؛ لَا هُوَ بِالمُطَوَّلِ المُمِلِّ، وَلَا بِالمُخْتَصَرِ المُخِلِّ؛ بِعُنوَانٍ لَافِتٍ هُوَ: «أَغَانِي الأَغَانِي». وَيُعَدُّ هَذَا التَّهْذِيبُ مِنَ الأَعْمَالِ الأَدَبِيَّةِ الرَّائِدَةِ الَّتِي تقَرِّبُ النَّاشِئَةَ وَالمُتَأَدِّبِينَ وَعَامَّةَ المُثَقَّفِينَ مِن خَزَائِنِ الأَدَبِ العَرَبِيّ التَّلِيدِ. وَتكَرِّسُ وِجَهَةَ نَظَرِ العَلَايلِيّ فِي أَنَّ الأَدَبَ هُوَ الإِنسَان كُلُّ الإِنسَانِ؛ بِالحِسِّ بِمَا هُوَ أَسْمَى، وَبِالخُرُوجِ مِن فَرْدِيَّةِ التَّوَحُّشِ إِلَى جَمعِيَّةِ التَّأَنّسِ.

احساس
01-04-2024, 03:39 PM
يعطيـك ـآلـعـآفيـهَ ع جمَ ـآل طرحـكٌ..