حكاية ناي ♔
01-13-2024, 01:37 PM
هذه قطرة سالت عذبة من بين شفتي هند بن أبي هالة، ربيب بيت النبوة، واسمه هند بن أبي هالة شماس، وقيل: نباش، وقيل: مالك بن نباش بن زرارة بن وقدان بن حبيب بن سلامة بن غُوَيِّ بن جزرة بن أسيد بن عمرو بن تميم، حليف بني عبد الدار بن قصي الأسدي التميمي. أمه خديجة بنت خويلد، خلف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أخو زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة الزهراء لأمهن. قال أبو عمر في "الاستيعاب": كان هند بن أبي هالة فصيحًا بليغًا وصَّافًا، وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن وأتقن، تُوُفِيَ قتيلاً يوم الجمل مع عليٍّ رضي الله عنه، وهو خال ابنيه الحسن والحسين – رضي الله عنهما.
بلغ هند من الفصاحة والبيان مبلغًا مكَّنه من وصف الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف لا يصفه وهو زوج أمه السيدة خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - ولم لا ينال هذا الشرف وهو ربيب من أرباب البيت النبوي، وله من ملكات البيان، وأدوات البلاغة والتبيان ما يؤهله لتلك المنزلة.
كان وصف هند دقيقًا غاية الدقة، وشاملاً للجانب الخَلْقي والخُلُقي للنبي صلى الله عليه وسلم، وحاويًا من فصاحة الكلام وفوائد اللغة، ما دفع العلماء من أمثال أبي عبيد القاسم بن سلام وابن قتيبة، إلى شرح غريب ألفاظ حديثه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم.
عن الحسن بن علي – رضي الله عنهما - قال: سألت خالي هند بن أبي هالة - وكان وصَّافًا - عن حلية النبي، وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئًا أتعلق به، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخمًا مفخَّمًا، الفخم المفخم: العظيم المعظم في العيون والصدور؛ أي: كان جميلاً مهيبًا. وأصل الفخم: الضخم، لكنه لم يكن ضخمًا، وإنما أراد به التعظيم، يقال: رجل فخم. أي: عظيم القدر. وقيل: الفخامة في الوجه، هي نُبْلُه وامتلاؤه، مع الجمال والمهابة. يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، ليلة البدر: الليلة الرابعة عشرة من الشهر، وفيها يستكمل البدر نوره. أطول من المربوع، المربوع: المعتدل القامة، وسطًا بين الطويل والقصير. وأقصر من المشَذَّب، المشَذَّب: الطويل البائن الطول، مع نقص في لحمه، وأصله من النَّخْلة الطويلة التي شُذِّب عنها سَعَفها؛ أي: قُطِعت وفُرِّقت، فيُفْحِش طولها في مرأى العين. وأكثر ما يقال المشذب في طول لا عرض له؛ أي: ليس بنحيف طويل، بل طوله وعرضه متناسبان على أتم صفة. عظيم الهامة، الهامة: الرأس. رَجِل الشعر، الشَّعر الرَّجِل: الذي ليس شديد الجعودة، ولا شديد السبوطة، بل بينهما. إن انفَرَقَت عَقِيصَتُه العَقِيصَة: الشَّعر المجموع كهيئة المضفور، من العقص بمعنى اللَّيِّ والعطف. وقيل: هي الخُصلة من الشَّعر إذا عُقِصت. ويُروى: إن انفرقت عقيقته العقيقة في الأصل: الشعر الذي يخرج على رأس الصبي حين يولد، وبه سُمِّيت العقيقة المسنونة في الذبح عن المولود، إذا حلق شعره بعد سبعة أيام من مولده، وكان تركها عندهم عيبًا وشُحًّا ولؤمًا. وإنما سمي شعر النبي عقيقة؛ لأنه منها، ونباته من أصولها، كما سمت العرب أشياء كثيرة بأسماء ما هي منه أو من سببه، وذهب بعض الأئمة إلى أن العقيقة في هذا الحديث تصحيف؛ فإن أكثر الروايات: العقيصة. فَرَق، الانفراق: مطاوع فَرَق: إذا فصل بين الشيئين. أي: كان لا يفرق شعره، إلا أن ينفرق هو بنفسه، كأنه يريد أن يفرِّق شعره بعدما جمعه وعقصه. يقال: فرق شعره وفرَّقه: إذا ترك كل شيء منه في منبته منحدرًا على حالته؛ لأنه إذا كان معقوصًا، فموضعه الذي يجمعه فيه حذاء أذنيه، ثم يرسله هناك. قال القتيبي: كان هذا في صدر الإسلام، يقال: إنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بأمر، فسدل شعره ما شاء الله؛ موافقة لأهل الكتاب، ثم فرق بعد ذلك. وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفَّره، وفَّره: أي: أعفاه من الفَرْق. يعني أن شعره إذا فرقه تجاوز شحمة أذنيه، وإذا ترك فرقه لم يجاوزها. وشحمة الأذن: طرفها الأسفل. أزهر اللون، اللون الأزهر: الأبيض الممتلئ المستنير، والزَّهْرَة والزَّهْر: البياض النيِّر، وهو أحسن الألوان، وليس بالشديد البياض. واسع الجبين، الجبين: ما عن جانبي الجبهة من مقَدَّم الرأس. أَزَجّ الحواجب، الزَّجَج: دقة الحاجبين وسبوغهما إلى محاذاة العين، مع تقوس خِلْقَة، وقد تفعله النساء تكلُّفًا، وقد نُهي عنه. وأزجُّ الحواجب: دقت حواجبه في حال سبوغهما. سوابغ في غير قَرَن، القَرَن: أن يلتقي طرفاهما مما يلي أعلى الأنف، وهو غير محمود عند العرب، ويستحبون البَلَج، وهو بياض ما بين رأسيهما وخلوه من الشعر. والمراد أن حاجبيه قد سُبِغا وامتدا حتى كادا يلتقيان ولم يلتقيا. ونفي القرن هو الصحيح في صفته، دون ما وصفته به أم معبد، ويمكن الجمع بينهما على أنه لم يكن بالأقرن حقيقة، ولا بالأبلج حقيقة، بل كان بين حاجبيه فُرْجة يسيرة، لا تتبين إلا لمن حقق النظر إليها، كما ذكر في صفة أنفه، فقال: يحسبه من لم يتأمله أشمَّ، ولم يكن أشمَّ. والسوابغ: جمع سابغ، وهو التام الطويل. وسبوغ الدرع: سعتها وتمامها. بينهما عرق يُدِرُّه الغضب، بينهما عرق يدره الغضب: أي يحركه ويظهره، فكان إذا غضب امتلأ ذلك العرق دمًا، كما يمتلئ الضَّرع لبنًا إذا درَّ، فيظهر ويرتفع. وقيل: هو من أدرَّت المرأة المِغْزَل؛ إذا فتلته فتلاً شديدًا. أَقْنَى العِرْنين، العرنين: الأنف. والقنا: طول الأنف ودقته ودقة أرنبته، مع ارتفاع في وسط قصبته. له نور يعلوه، يحسبه مَن لم يتأمله أَشَمَّ، الشَّمَمُ: ارتفاع رأس الأنف، وإشراف الأرنبة قليلاً، واستواء أعلى القصبة. أي: كان يُحسب لحسن قناه قبل التأمل أشم، فليس بفاحش مفرط، بل يميل يسيرًا إلى الشَّمَم. كثّ اللحية، الشعر الكَثُّ: الكثيف المتراكب، من غير طول ولا رقة. سهل الخدين، سهل الخدين: أي: ليس في خده نُتُوٌّ وارتفاعٌ، من سهل الأرض، ضد حَزْنها. وقيل: أراد أن خديه أسيلان؛ قليلا اللحم، رقيقا الجلد. ضليع الفم، الضليع الفم: الواسع العظيم، وكانوا يذمون صغر الفم. وقال أبو عبيد: أحسبه جِلَّة في الشفتين وغلظة فيهما. والضليع في الأصل الذي عظمت أضلاعه واتسع جنباه، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل عظيم وإن لم يكن ثَمَّ أضلاع. أَشْنَب، الشنب: رقة الأسنان ودقتها، وتحدُّد أطرافها. وقيل: هو بردها وعذوبتها. ومنه قولهم: رمانة شنباء. وهي العذبة الطعم، الكثيرة الماء. وسُئل رؤبة بن العجاج عن الشَّنَب، فأخرج حبة رمان، وقال: هذا هو الشنب. مُفَلَّج الأسنان، الفَلَج: تباعد ما بين الثنايا والرباعيات. والفَرَق: فرجة بين الأسنان. دقيق المَسْرُبة، المَسْرُبَة: ما دق من شعر الصدر، سائلاً إلى السُّرَّة. كأن عنقه جِيد دُمْية في صفاء الفضة، الجيد: العنق. الدُّمْية: الصورة المصورة في جدار أو غيره. معتدل الخَلْق، اعتدال الخَلق: تناسب الأعضاء والأطراف، وألا تكون متباينة مختلفة في الدقة والغلظ، والصغر والكبر، والطول والقصر. بادنًا متماسكًا، البادن: الضخم التام اللحم. المتامسك: الذي لحمه ليس بمسترخٍ ولا متهدل. ولما وصفه بالبدانة أتبعها بالتماسك، كأن لحمه لاكتنازه واصطحابه يمسك بعضه بعضًا؛ لأن الغالب على السِّمَن الاسترخاء. سواء البطن والصدر، سواء البطن والصدر: متساويهما. يعني أن بطنه غير خارجٍ بل مساوٍ لصدره، وصدره عريض، فهو مساوٍ لبطنه. عريض الصدر، بعيد ما بين المَنْكَبين، المنكبان: أعلى الكتفين. وبُعْد ما بينهما يدل على سعة الصدر والظهر. ضخم الكَراديس، الكراديس: جمع كُرْدوس، وهو رأس كل عظم كبير، وملتقى كل عظمين ضخمين؛ كالمنكبين والمرفقين والوركين والركبتين، ويريد به ضخامة الأعضاء وغلظها. أنور المُتَجَرَّد، المُجَرَّد والمُتَجَرَِّّد: ما كُشِف عنه الثوب من البدن. أي: كان مشرق الجسد، نيِّر اللون، فوضع الأنور موضع النَّيِّر. موصول ما بين اللَّبَّة اللَّبَّة: الوهْدة التي في أعلى الصدر، في أسفل الحلق بين التَّرْقُوَتين. والسُّرَّة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أي: إن ثدييه وبطنه ليس عليهما شعر سوى المسرُبة، الذي جعله يجري كالخط. أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزَّنْدَين، الزَّنْدان: العظمان اللذان يليان الكف من الذراع، رأس أحدهما يلي الإبهام، ورأس الآخر يلي الخِنْصَر. رحب الراحة، الراحة: الكف. ورحبها: سعتها. وهو دليل الجود مستعارًا، كما أن ضيقها وصغرها دليل البخل. سَبْط القصب، القَصَب: كل عظم أجوف فيه مخّ. شَثْن الكفين والقدمين، الشَّثْن: الغليظ الأطراف والأصابع. سائل الأطراف، كونها سائلة أي: ليست بمتعقِّدة ولا متجعِّدة، فهي مع غلظها سهلة سَبْطَة. ويُروى: سائن الأطراف. بالنون على الإبدال. أو قال: شائل الأطراف. خُمْصان الأَخْمَصَين، الأخمص من القدم: الموضع الذي لا يصل إلى الأرض منها عند الوطء، والخُمْصان: المبالغ منه. أي: ذلك الموضع من رجله شديد التجافي عن الأرض. مَسِيح القدمين ينبو عنهما الماء، القدمان المسيحتان: اللتان ظاهرهما ممسوح غير متعقِّد، فإذا صب عليهما الماء مر سريعًا؛ لملاستهما فينبو عنهما الماء ولا يقف. إذا زال زال قَلْعًا، إذا زال زال قَلعًا: اختُلف في ضبط هذه اللفظة، فقال الهراوي: قرأت هذا الحرف في كتاب غريب الحديث لابن الأنباري: "قَلِعًا" بفتح القاف وكسر اللام، وكذلك قرأته بخط الأزهري. قال: وهذا كما جاء في حديث آخر: كأنما ينحط من صَبَب. والانحدار من الصبب، والتَّقَلُّع من الأرض قريب بعضه من بعض. أراد أنه كان يستعمل التثبت، ولا يبين منه في هذه الحال استعجال ومبادرة شديدة. وقد جاءت صفته في حديث آخر: إذا مشى تقلع. أراد به قوة مشيه، وأنه كان يرفع قدميه من الأرض رفعًا قويًّا، لا كمن يمشي اختيالاً ويقارب خطوه، فإن ذلك من مشي النساء، ويوصفن به. وقيل: هو بفتح القاف وسكون اللام، مصدر بمعنى الفاعل. أي: إذا زال زال قالعًا من الأرض. ومنهم من يرويه بضم القاف وسكون اللام، على أنه مصدر - أيضًا - بهذا المعنى. يخطو تكفِّيًا، التَّكفُّؤ: تمايل الماشي إلى قدَّام، كما تتكفَّأ السفينة والغصن إذا هبت به الريح، وأصله من كفأت الإناء: إذا أَمَلْته. والذي جاء في الرواية: يمشي تكفِّيًا غير مهموز. وفي حديث آخر: إذا مشى تكفَّى تكفِّيًا. ويمشي هونًا، الهون: المشي في رفق ولين، غير مختال ولا معجب. وفي رواية: كان يمشي الهوينى. الهوينى: تصغير الهونى، تأنيث الأهون، وهو من الأول. ذريع المشية، الذريع: السريع. أي: إنه كان واسع الخَطو، فيسرع مشيه. وربما يُظن أن هذا ضد الأول، ولا تضاد فيه؛ لأن معناه أنه كان مع تثبته في المشي يتابع بين الخطوات ويوسعها، فيسبق غيره. إذا مشى كأنما ينحط من صَبَب، ينحط: يسقط ويهوي من مكان عالٍ. والصَبَب: الموضع المنحدر من الأرض. وذلك دليل على سرعة مشيه؛ لأن المنحدر لا يكاد يثبت في مشيه. وفي رواية: كأنما يهوي من صَبُوب. بالضم والفتح، فبالضم جمع صَبَب، وهو المنحدر من الأرض. وبالفتح اسم لما يُصب على الإنسان من ماء وغيره. وإذا التفت التفت جميعًا، إذا التفت التفت جميعًا أي: لم يكن يلوي عنقه ورأسه إذا أراد أن يلتفت إلى ورائه، فعل الطائش العَجِل، إنما يُدير بدنه كله وينظر، وقيل: أراد أنه كان لا يسارق النظر. خافض الطرف، الطرف: العين، مسمًّى بالمصدر، وكانت الملاحظة معظم نظره وأكثره، وهو دليل الحياء والكرم. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء تفسير لخفض الطرف والملاحظة. جل نظره الملاحظة، جلُّ الشيء: معظمه وأكثره. والملاحظة: أن ينظر الرجل بلحظ عينيه، وهو شِقُّها الذي يلي الصُّدْغ والأذن، ولا يحدق إلى الشيء تحديقًا، يقال: لحظ لحظًا، ولاحظ ملاحظة. يسوق أصحابه، يسوق أصحابه أي: يُقَدِّمهم أمامه، ويمشي وراءهم. ويُروى: ينُسُّ أصحابه. والنَّسُّ: السَّوق، وقد نسَّه ينسُّه نسًّا. ويبدأ من لقي بالسلام.
قلت: صف لي منطقه.
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، تواصل أحزانه، ودوام فكره، وعدم راحته لاهتمامه بأمر الدين، والقيام بما بُعث به، وكلف تبليغه، وخوفه من أمور الآخرة. طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، الأشداق: جمع شِدق، وهو جانب الفم. وإنما يتكلم الرجل بأشداقه؛ لرُحبها وسعتها، والعرب تمتدح بذلك. وأما قوله في الحديث الآخر: "أبغضكم إليَّ يوم القيامة المتشدقون" [رواه الطبراني]. فقيل: أراد المستهزئين بالناس، كالذي يلوي شدقه بهم وعليهم. وقيل: أراد المتوسع في كلامه كبرًا وعُجبًا في غير احتياط واحتراز. وقيل: هو أن يفتح فاه كله عند الكلام بملء فيه. ويتكلم بجوامع الكلم، جوامع الكلم: هي القليلة الألفاظ الكثيرة المعاني، ومنه الحديث: "أُوتِيت جوامع الكلم". يعني القرآن. فصلاً، لا فضول ولا تقصير، القول الفصل: هو البيِّن الظاهر المحكم الذي لا يعاب قائله وحقيقته: الفاصل بين الحق والباطل، والصواب والخطأ. والفضول من الكلام: ما زاد عن الحاجة وفضل. دَمِثًا، الدَّمِث: السهل اللين الخلق، وأصله من الدَّمَث، وهي الأرض اللينة السهلة. ليس بالجافي ولا المُهين، الجافي: المعرض المتباعد عن الناس، من الجفاء: وهو ترك الصلة والبر. وقيل: الجافي: الغليظ الخِلْقة والطبع، وقد جفا أصحابه يجفوهم: إذا قاطعهم، أو خشُن عليهم. والمهين: يُروى بضم الميم وفتحها، فبالضم من الإهانة، وهي الإذلال والاطِّراح. أي: لا يهين أحدًا من أصحابه أو من الناس. وبالفتح: هو من المهانة: الحقارة والصِّغَر، وقد مَهُن يمهن فهو مهين. يعظم النعمة وإن دقَّت، يعظم النعمة أي: لا يستصغر شيئًا أوتيه وإن كان صغيرًا. ودقَّت أي: صغرت. لا يذم منها شيئًا، لا يذم ذَواقًا ولا يمدحه، الذَّواق: اسم ما يذاق باللسان. أي: لا يصف الطعام بطيب ولا بشاعة. ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد، إذا تعوطي الحقُّ لم يعرفه أحد أي: إذا نيل من الحق أو أهمل أو تُعُرِّض للقدح فيه، تنكَّر عليهم، وخالف عادته معهم، حتى لا يكاد يعرفه أحد منهم، ولا يثبت لغضبه شيء حتى ينتصر للحق. ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها. إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها، إذا تحدث اتصل أي: كان يشير بكفه إلى حديثه، وتفسيره: فيضرب بباطن راحته اليمنى إبهامه اليسرى. فيضرب بباطن راحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، أي: إذا غضب لم يكن ينتقم ويؤاخذ، ويقنع بالإعراض عمن أغضبه. وإذا فرح غضَّ طرفه، غضُّ الطرف عند الفرح: دليل على نفي البطر والأشر. جُلُّ ضحكه التبسم، التبسم: أقل الضحك وأدناه. ويفترُّ عن مثل حَبِّ الغمام. يفترُّ: أي: يكشف عند التبسم عن أسنانه من غير قهقهة. والغمام: السحاب.
قال الحسن رضي الله عنه: فكتمتها الحسين زمانًا، ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه، فسأله عما سألته عنه، ووجدته قد سأل أباه – يعني سيدنا عليًّا رضي الله عنه - عن مدخله ومجلسه ومخرجه وشكله، الشَّكْل: بفتح الشين، وهو السيرة والطريقة. فلم يدع منه شيئًا.
قال الحسين رضي الله عنه: سألت أبي عن دخول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان دخوله لنفسه مأذونًا له في ذلك، فكان إذا أوى أوى: رجع. إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزَّأ: قسَّم. جزءًا لله، وجزءًا لأهله، وجزءًا لنفسه، والجزء المختص بالله تعالى: هو اشتغاله بعبادته ومناجاته في ليله ونهاره. والجزء المختص بأهله: هو الوقت الذي يصحبهم ويعاشرهم فيه. والجزء المختص بنفسه: هو الذي لا يتعبد فيه ولا يعاشر أهله. ثم جزَّأ جزءه بينه وبين الناس، أي: قسمه قسمين بينه وبين الناس. فيرد ذلك على العامة بالخاصة، فيرد ذلك على العامة بالخاصة: أراد أن العامة كانت لا تصل إليه في هذا الوقت، فكانت الخاصة تُخْبر العامة بما سمعت منه، فكأنه أوصل الفوائد إلى العامة بالخاصة. وقيل: إن "الباء" في الخاصة بمعنى "من"، أي: يجعل وقت العامة بعد وقت الخاصة، وبدلاً منهم. ولا يدخر عنهم شيئًا.
وذكر مجلسه فقال: مجلس حلم وحياء، وكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم فيما أصلحهم والأمة عن شيء من مساءلتهم عنه، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، يقول ليبلغ الشاهد الغائب، وأبلغوني حاجة مَن لا يستطيع إبلاغي حاجته، وإنه من أبلغ سلطانًا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه، ثبَّت الله قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره يدخلون عليه روَّادًا، الرواد: جمع رائد، وهو الذي يتقدم القوم يكشف لهم حال الماء والمرعى قبل وصولهم.
ولا يفترقون إلا عن ذواق، لا يفترقون إلا عن ذَواق: ضرب الذواق مثلاً لما ينالون عنده من الخير. أي: لا يتفرقون إلا عن علم يتعلمونه، يقوم لهم مقام الطعام والشراب؛ لأنه يحفظ الأرواح كما يحفظ الطعام الأجسام. ويخرجون من عنده أدلة. ويخرجون أدلة: جمع دليل، أي: يدلون الناس بما قد علموه منه وعرفوه. يريد أنهم يخرجون من عنده فقهاء. ويُروى بالذال المعجمة، جمع ذليل. يريد به: يخرجون من عنده متواضعين متعظين بما سمعوا، من قوله تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 54]
قال: فسألته عن مخرجه، كيف كان يصنع فيه؟
فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلا مما يعنيهم ويؤلفهم، ولا يفرقهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره، ولا خلقه، يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجوزه الذين يلونه من الناس، خيارهم خيارهم: أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
قال: فسألته عن مجلسه؟
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله، ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه بنصيبهم، لا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه، مَنْ جالسه أو فاوضه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف، ومن سأله حاجة لم يرد إلا بها أو بميسور من القول، قد وَسِع الناس منه بسطته وخلقه، فصار لهم أبًا، وصاروا في الحق عنده سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، لا تُؤْبَن فيه الحُرَم. أي: لا تقذف وترمى بعيب. ومنه حديث الإفك: "أشيروا عليَّ في أناس أبَنُوا أهلي" [متفق عليه]. أَبْنَوا: عابوهم واتهموهم. والحرَم: جمع حرمة وهي المرأة، وما يلزم الإنسان حفظه وصونه. ولا تنثى فلتاتُهُ لا تُنْثى فلتاته، أي: لا يتحدث عن مجلسه بهفوة أو زلة، إن حدثت فيه من بعض القوم. يقال: نَثَوت الحديثَ أنثوه نثْوًا: إذا أذعته. الفلتات: جمع فلتة، وهي ههنا الزلة والسَّقْطة. وقيل: معناه أنه لم يكن فيه فلتات فتُنْثَى. متعادِلِين، بل كانوا يتفاضلون فيه بالتقوى متواضعين، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب.
قلت: كيف كانت سيرته في جلسائه؟
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البِشْر، البِشْر: طلاقة الوجه وبشاشته. سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظٍّ، الفَظُّ: السيئ الخُلُق. ولا غليظ ولا صخَّاب، الصَّخَّاب: فعَّال من الصَّخَب، وهو الضجة، واضطراب الأصوات والخصام، ويُروَى بالسين والصاد على الإبدال. ولا فحَّاش ولا عيَّاب الفحَّاش والعيَّاب: على وزن فعَّال للمبالغة، من الفحش في القول، وعيب الناس، والوقيعة فيهم. ولا مدَّاح، متغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه، ولا يخيب فيه،قوله: "ولا يؤيس منه، ولا يخيب فيه" كذا عند الطبراني في الكبير وابن الجوزي في صفة الصفوة وأبي نعيم في معرفة الصحابة، وورد عند الترمذي في الشمائل والصنعاني في سبل الهدى والرشاد: "لا يؤيس منه راجيه، ولا يخيب فيه" بمعنى أن من يطلب المصطفى لحاجته ويرجوه لها لا ييأس من إجابته ولا يتوقع منه أن يخيب ظنه فيه.والله أعلم.
قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار ومما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدًا ولا يعيِّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، الإطراق: خفض الرأس، وإدامة النظر إلى الأرض بين يديه. كأنما على رؤوسهم الطير: يصفهم بالسكون والثبات في المجلس؛ لأن الطير لا تسقط إلا على ساكن. فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده، مَن تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوَّلِيَّتهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إذا كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرشدوه. ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، لا يقبل الثناء إلا من مكافئ: يريد أنه كان إذا ابتدئ بثناء ومدح كره ذلك، وإذا اصطنع معروفًا فأثنى عليه مثنٍ وشكر له قبل ثناءه. وأنكر ابن الأنباري هذا التأويل، وقال: المعنى أنه لا يقبل الثناء عليه ممن لا يعرف حقيقة إسلامه، ولا يكون من المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وقال الأزهري: فيه قول ثالث، أي: لا يقبل الثناء إلا من مقارب غير مجاوز حد مثله، ولا مقصر عما رفعه الله إليه. والمكافأة: المجازاة على الشيء. ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه، فيقطعه بنهي أو قيام.
قلت: كيف كان سكوته؟
قال: كان سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكر، فأما تقديره، ففي تسويته النظر والاستماع بين الناس. وأما تفكره - أو قال تذكره - ففيما يبقى ويفنى. وجمع له الحلم والصبر، وكان لا يغضبه ولا يستفزه شيء. وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسنى ليُقتدى به، وتركه القبيح ليتناهى عنه، واجتهاده الرأي فيما يصلح أمته، والقيام فيما جمع لهم من أمر الدنيا والآخرة. هذا الحديث أخرجه ابن قتيبة في غريبه، عن محمد بن عبيد، بإسناده عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، وأخرجه أيضًا الترمذي في الشمائل، وابن سعد في طبقاته، وابن كثير في شمائله، وأبو نعيم في دلائل النبوة، والبيهقي في الدلائل. وهو حديث معروف بهند لم يرو غيره، وإن كان أكثره عن عليٍّ رضي الله عنه، وفيه ما هو موافق لما في الصحيح.
بلغ هند من الفصاحة والبيان مبلغًا مكَّنه من وصف الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، وكيف لا يصفه وهو زوج أمه السيدة خديجة بنت خويلد - رضي الله عنها - ولم لا ينال هذا الشرف وهو ربيب من أرباب البيت النبوي، وله من ملكات البيان، وأدوات البلاغة والتبيان ما يؤهله لتلك المنزلة.
كان وصف هند دقيقًا غاية الدقة، وشاملاً للجانب الخَلْقي والخُلُقي للنبي صلى الله عليه وسلم، وحاويًا من فصاحة الكلام وفوائد اللغة، ما دفع العلماء من أمثال أبي عبيد القاسم بن سلام وابن قتيبة، إلى شرح غريب ألفاظ حديثه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم.
عن الحسن بن علي – رضي الله عنهما - قال: سألت خالي هند بن أبي هالة - وكان وصَّافًا - عن حلية النبي، وأنا أشتهي أن يصف لي منها شيئًا أتعلق به، فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فخمًا مفخَّمًا، الفخم المفخم: العظيم المعظم في العيون والصدور؛ أي: كان جميلاً مهيبًا. وأصل الفخم: الضخم، لكنه لم يكن ضخمًا، وإنما أراد به التعظيم، يقال: رجل فخم. أي: عظيم القدر. وقيل: الفخامة في الوجه، هي نُبْلُه وامتلاؤه، مع الجمال والمهابة. يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، ليلة البدر: الليلة الرابعة عشرة من الشهر، وفيها يستكمل البدر نوره. أطول من المربوع، المربوع: المعتدل القامة، وسطًا بين الطويل والقصير. وأقصر من المشَذَّب، المشَذَّب: الطويل البائن الطول، مع نقص في لحمه، وأصله من النَّخْلة الطويلة التي شُذِّب عنها سَعَفها؛ أي: قُطِعت وفُرِّقت، فيُفْحِش طولها في مرأى العين. وأكثر ما يقال المشذب في طول لا عرض له؛ أي: ليس بنحيف طويل، بل طوله وعرضه متناسبان على أتم صفة. عظيم الهامة، الهامة: الرأس. رَجِل الشعر، الشَّعر الرَّجِل: الذي ليس شديد الجعودة، ولا شديد السبوطة، بل بينهما. إن انفَرَقَت عَقِيصَتُه العَقِيصَة: الشَّعر المجموع كهيئة المضفور، من العقص بمعنى اللَّيِّ والعطف. وقيل: هي الخُصلة من الشَّعر إذا عُقِصت. ويُروى: إن انفرقت عقيقته العقيقة في الأصل: الشعر الذي يخرج على رأس الصبي حين يولد، وبه سُمِّيت العقيقة المسنونة في الذبح عن المولود، إذا حلق شعره بعد سبعة أيام من مولده، وكان تركها عندهم عيبًا وشُحًّا ولؤمًا. وإنما سمي شعر النبي عقيقة؛ لأنه منها، ونباته من أصولها، كما سمت العرب أشياء كثيرة بأسماء ما هي منه أو من سببه، وذهب بعض الأئمة إلى أن العقيقة في هذا الحديث تصحيف؛ فإن أكثر الروايات: العقيصة. فَرَق، الانفراق: مطاوع فَرَق: إذا فصل بين الشيئين. أي: كان لا يفرق شعره، إلا أن ينفرق هو بنفسه، كأنه يريد أن يفرِّق شعره بعدما جمعه وعقصه. يقال: فرق شعره وفرَّقه: إذا ترك كل شيء منه في منبته منحدرًا على حالته؛ لأنه إذا كان معقوصًا، فموضعه الذي يجمعه فيه حذاء أذنيه، ثم يرسله هناك. قال القتيبي: كان هذا في صدر الإسلام، يقال: إنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بأمر، فسدل شعره ما شاء الله؛ موافقة لأهل الكتاب، ثم فرق بعد ذلك. وإلا فلا يجاوز شعره شحمة أذنيه إذا هو وفَّره، وفَّره: أي: أعفاه من الفَرْق. يعني أن شعره إذا فرقه تجاوز شحمة أذنيه، وإذا ترك فرقه لم يجاوزها. وشحمة الأذن: طرفها الأسفل. أزهر اللون، اللون الأزهر: الأبيض الممتلئ المستنير، والزَّهْرَة والزَّهْر: البياض النيِّر، وهو أحسن الألوان، وليس بالشديد البياض. واسع الجبين، الجبين: ما عن جانبي الجبهة من مقَدَّم الرأس. أَزَجّ الحواجب، الزَّجَج: دقة الحاجبين وسبوغهما إلى محاذاة العين، مع تقوس خِلْقَة، وقد تفعله النساء تكلُّفًا، وقد نُهي عنه. وأزجُّ الحواجب: دقت حواجبه في حال سبوغهما. سوابغ في غير قَرَن، القَرَن: أن يلتقي طرفاهما مما يلي أعلى الأنف، وهو غير محمود عند العرب، ويستحبون البَلَج، وهو بياض ما بين رأسيهما وخلوه من الشعر. والمراد أن حاجبيه قد سُبِغا وامتدا حتى كادا يلتقيان ولم يلتقيا. ونفي القرن هو الصحيح في صفته، دون ما وصفته به أم معبد، ويمكن الجمع بينهما على أنه لم يكن بالأقرن حقيقة، ولا بالأبلج حقيقة، بل كان بين حاجبيه فُرْجة يسيرة، لا تتبين إلا لمن حقق النظر إليها، كما ذكر في صفة أنفه، فقال: يحسبه من لم يتأمله أشمَّ، ولم يكن أشمَّ. والسوابغ: جمع سابغ، وهو التام الطويل. وسبوغ الدرع: سعتها وتمامها. بينهما عرق يُدِرُّه الغضب، بينهما عرق يدره الغضب: أي يحركه ويظهره، فكان إذا غضب امتلأ ذلك العرق دمًا، كما يمتلئ الضَّرع لبنًا إذا درَّ، فيظهر ويرتفع. وقيل: هو من أدرَّت المرأة المِغْزَل؛ إذا فتلته فتلاً شديدًا. أَقْنَى العِرْنين، العرنين: الأنف. والقنا: طول الأنف ودقته ودقة أرنبته، مع ارتفاع في وسط قصبته. له نور يعلوه، يحسبه مَن لم يتأمله أَشَمَّ، الشَّمَمُ: ارتفاع رأس الأنف، وإشراف الأرنبة قليلاً، واستواء أعلى القصبة. أي: كان يُحسب لحسن قناه قبل التأمل أشم، فليس بفاحش مفرط، بل يميل يسيرًا إلى الشَّمَم. كثّ اللحية، الشعر الكَثُّ: الكثيف المتراكب، من غير طول ولا رقة. سهل الخدين، سهل الخدين: أي: ليس في خده نُتُوٌّ وارتفاعٌ، من سهل الأرض، ضد حَزْنها. وقيل: أراد أن خديه أسيلان؛ قليلا اللحم، رقيقا الجلد. ضليع الفم، الضليع الفم: الواسع العظيم، وكانوا يذمون صغر الفم. وقال أبو عبيد: أحسبه جِلَّة في الشفتين وغلظة فيهما. والضليع في الأصل الذي عظمت أضلاعه واتسع جنباه، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل عظيم وإن لم يكن ثَمَّ أضلاع. أَشْنَب، الشنب: رقة الأسنان ودقتها، وتحدُّد أطرافها. وقيل: هو بردها وعذوبتها. ومنه قولهم: رمانة شنباء. وهي العذبة الطعم، الكثيرة الماء. وسُئل رؤبة بن العجاج عن الشَّنَب، فأخرج حبة رمان، وقال: هذا هو الشنب. مُفَلَّج الأسنان، الفَلَج: تباعد ما بين الثنايا والرباعيات. والفَرَق: فرجة بين الأسنان. دقيق المَسْرُبة، المَسْرُبَة: ما دق من شعر الصدر، سائلاً إلى السُّرَّة. كأن عنقه جِيد دُمْية في صفاء الفضة، الجيد: العنق. الدُّمْية: الصورة المصورة في جدار أو غيره. معتدل الخَلْق، اعتدال الخَلق: تناسب الأعضاء والأطراف، وألا تكون متباينة مختلفة في الدقة والغلظ، والصغر والكبر، والطول والقصر. بادنًا متماسكًا، البادن: الضخم التام اللحم. المتامسك: الذي لحمه ليس بمسترخٍ ولا متهدل. ولما وصفه بالبدانة أتبعها بالتماسك، كأن لحمه لاكتنازه واصطحابه يمسك بعضه بعضًا؛ لأن الغالب على السِّمَن الاسترخاء. سواء البطن والصدر، سواء البطن والصدر: متساويهما. يعني أن بطنه غير خارجٍ بل مساوٍ لصدره، وصدره عريض، فهو مساوٍ لبطنه. عريض الصدر، بعيد ما بين المَنْكَبين، المنكبان: أعلى الكتفين. وبُعْد ما بينهما يدل على سعة الصدر والظهر. ضخم الكَراديس، الكراديس: جمع كُرْدوس، وهو رأس كل عظم كبير، وملتقى كل عظمين ضخمين؛ كالمنكبين والمرفقين والوركين والركبتين، ويريد به ضخامة الأعضاء وغلظها. أنور المُتَجَرَّد، المُجَرَّد والمُتَجَرَِّّد: ما كُشِف عنه الثوب من البدن. أي: كان مشرق الجسد، نيِّر اللون، فوضع الأنور موضع النَّيِّر. موصول ما بين اللَّبَّة اللَّبَّة: الوهْدة التي في أعلى الصدر، في أسفل الحلق بين التَّرْقُوَتين. والسُّرَّة بشعر يجري كالخط، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، عاري الثديين والبطن مما سوى ذلك، أي: إن ثدييه وبطنه ليس عليهما شعر سوى المسرُبة، الذي جعله يجري كالخط. أشعر الذراعين والمنكبين وأعالي الصدر، طويل الزَّنْدَين، الزَّنْدان: العظمان اللذان يليان الكف من الذراع، رأس أحدهما يلي الإبهام، ورأس الآخر يلي الخِنْصَر. رحب الراحة، الراحة: الكف. ورحبها: سعتها. وهو دليل الجود مستعارًا، كما أن ضيقها وصغرها دليل البخل. سَبْط القصب، القَصَب: كل عظم أجوف فيه مخّ. شَثْن الكفين والقدمين، الشَّثْن: الغليظ الأطراف والأصابع. سائل الأطراف، كونها سائلة أي: ليست بمتعقِّدة ولا متجعِّدة، فهي مع غلظها سهلة سَبْطَة. ويُروى: سائن الأطراف. بالنون على الإبدال. أو قال: شائل الأطراف. خُمْصان الأَخْمَصَين، الأخمص من القدم: الموضع الذي لا يصل إلى الأرض منها عند الوطء، والخُمْصان: المبالغ منه. أي: ذلك الموضع من رجله شديد التجافي عن الأرض. مَسِيح القدمين ينبو عنهما الماء، القدمان المسيحتان: اللتان ظاهرهما ممسوح غير متعقِّد، فإذا صب عليهما الماء مر سريعًا؛ لملاستهما فينبو عنهما الماء ولا يقف. إذا زال زال قَلْعًا، إذا زال زال قَلعًا: اختُلف في ضبط هذه اللفظة، فقال الهراوي: قرأت هذا الحرف في كتاب غريب الحديث لابن الأنباري: "قَلِعًا" بفتح القاف وكسر اللام، وكذلك قرأته بخط الأزهري. قال: وهذا كما جاء في حديث آخر: كأنما ينحط من صَبَب. والانحدار من الصبب، والتَّقَلُّع من الأرض قريب بعضه من بعض. أراد أنه كان يستعمل التثبت، ولا يبين منه في هذه الحال استعجال ومبادرة شديدة. وقد جاءت صفته في حديث آخر: إذا مشى تقلع. أراد به قوة مشيه، وأنه كان يرفع قدميه من الأرض رفعًا قويًّا، لا كمن يمشي اختيالاً ويقارب خطوه، فإن ذلك من مشي النساء، ويوصفن به. وقيل: هو بفتح القاف وسكون اللام، مصدر بمعنى الفاعل. أي: إذا زال زال قالعًا من الأرض. ومنهم من يرويه بضم القاف وسكون اللام، على أنه مصدر - أيضًا - بهذا المعنى. يخطو تكفِّيًا، التَّكفُّؤ: تمايل الماشي إلى قدَّام، كما تتكفَّأ السفينة والغصن إذا هبت به الريح، وأصله من كفأت الإناء: إذا أَمَلْته. والذي جاء في الرواية: يمشي تكفِّيًا غير مهموز. وفي حديث آخر: إذا مشى تكفَّى تكفِّيًا. ويمشي هونًا، الهون: المشي في رفق ولين، غير مختال ولا معجب. وفي رواية: كان يمشي الهوينى. الهوينى: تصغير الهونى، تأنيث الأهون، وهو من الأول. ذريع المشية، الذريع: السريع. أي: إنه كان واسع الخَطو، فيسرع مشيه. وربما يُظن أن هذا ضد الأول، ولا تضاد فيه؛ لأن معناه أنه كان مع تثبته في المشي يتابع بين الخطوات ويوسعها، فيسبق غيره. إذا مشى كأنما ينحط من صَبَب، ينحط: يسقط ويهوي من مكان عالٍ. والصَبَب: الموضع المنحدر من الأرض. وذلك دليل على سرعة مشيه؛ لأن المنحدر لا يكاد يثبت في مشيه. وفي رواية: كأنما يهوي من صَبُوب. بالضم والفتح، فبالضم جمع صَبَب، وهو المنحدر من الأرض. وبالفتح اسم لما يُصب على الإنسان من ماء وغيره. وإذا التفت التفت جميعًا، إذا التفت التفت جميعًا أي: لم يكن يلوي عنقه ورأسه إذا أراد أن يلتفت إلى ورائه، فعل الطائش العَجِل، إنما يُدير بدنه كله وينظر، وقيل: أراد أنه كان لا يسارق النظر. خافض الطرف، الطرف: العين، مسمًّى بالمصدر، وكانت الملاحظة معظم نظره وأكثره، وهو دليل الحياء والكرم. نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء، نظره إلى الأرض أطول من نظره إلى السماء تفسير لخفض الطرف والملاحظة. جل نظره الملاحظة، جلُّ الشيء: معظمه وأكثره. والملاحظة: أن ينظر الرجل بلحظ عينيه، وهو شِقُّها الذي يلي الصُّدْغ والأذن، ولا يحدق إلى الشيء تحديقًا، يقال: لحظ لحظًا، ولاحظ ملاحظة. يسوق أصحابه، يسوق أصحابه أي: يُقَدِّمهم أمامه، ويمشي وراءهم. ويُروى: ينُسُّ أصحابه. والنَّسُّ: السَّوق، وقد نسَّه ينسُّه نسًّا. ويبدأ من لقي بالسلام.
قلت: صف لي منطقه.
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متواصل الأحزان، دائم الفكرة، ليست له راحة، تواصل أحزانه، ودوام فكره، وعدم راحته لاهتمامه بأمر الدين، والقيام بما بُعث به، وكلف تبليغه، وخوفه من أمور الآخرة. طويل السكت، لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، الأشداق: جمع شِدق، وهو جانب الفم. وإنما يتكلم الرجل بأشداقه؛ لرُحبها وسعتها، والعرب تمتدح بذلك. وأما قوله في الحديث الآخر: "أبغضكم إليَّ يوم القيامة المتشدقون" [رواه الطبراني]. فقيل: أراد المستهزئين بالناس، كالذي يلوي شدقه بهم وعليهم. وقيل: أراد المتوسع في كلامه كبرًا وعُجبًا في غير احتياط واحتراز. وقيل: هو أن يفتح فاه كله عند الكلام بملء فيه. ويتكلم بجوامع الكلم، جوامع الكلم: هي القليلة الألفاظ الكثيرة المعاني، ومنه الحديث: "أُوتِيت جوامع الكلم". يعني القرآن. فصلاً، لا فضول ولا تقصير، القول الفصل: هو البيِّن الظاهر المحكم الذي لا يعاب قائله وحقيقته: الفاصل بين الحق والباطل، والصواب والخطأ. والفضول من الكلام: ما زاد عن الحاجة وفضل. دَمِثًا، الدَّمِث: السهل اللين الخلق، وأصله من الدَّمَث، وهي الأرض اللينة السهلة. ليس بالجافي ولا المُهين، الجافي: المعرض المتباعد عن الناس، من الجفاء: وهو ترك الصلة والبر. وقيل: الجافي: الغليظ الخِلْقة والطبع، وقد جفا أصحابه يجفوهم: إذا قاطعهم، أو خشُن عليهم. والمهين: يُروى بضم الميم وفتحها، فبالضم من الإهانة، وهي الإذلال والاطِّراح. أي: لا يهين أحدًا من أصحابه أو من الناس. وبالفتح: هو من المهانة: الحقارة والصِّغَر، وقد مَهُن يمهن فهو مهين. يعظم النعمة وإن دقَّت، يعظم النعمة أي: لا يستصغر شيئًا أوتيه وإن كان صغيرًا. ودقَّت أي: صغرت. لا يذم منها شيئًا، لا يذم ذَواقًا ولا يمدحه، الذَّواق: اسم ما يذاق باللسان. أي: لا يصف الطعام بطيب ولا بشاعة. ولا تغضبه الدنيا ولا ما كان لها، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد، إذا تعوطي الحقُّ لم يعرفه أحد أي: إذا نيل من الحق أو أهمل أو تُعُرِّض للقدح فيه، تنكَّر عليهم، وخالف عادته معهم، حتى لا يكاد يعرفه أحد منهم، ولا يثبت لغضبه شيء حتى ينتصر للحق. ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها. إذا أشار أشار بكفه كلها، وإذا تعجب قلبها، وإذا تحدث اتصل بها، إذا تحدث اتصل أي: كان يشير بكفه إلى حديثه، وتفسيره: فيضرب بباطن راحته اليمنى إبهامه اليسرى. فيضرب بباطن راحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، وإذا غضب أعرض وأشاح، أي: إذا غضب لم يكن ينتقم ويؤاخذ، ويقنع بالإعراض عمن أغضبه. وإذا فرح غضَّ طرفه، غضُّ الطرف عند الفرح: دليل على نفي البطر والأشر. جُلُّ ضحكه التبسم، التبسم: أقل الضحك وأدناه. ويفترُّ عن مثل حَبِّ الغمام. يفترُّ: أي: يكشف عند التبسم عن أسنانه من غير قهقهة. والغمام: السحاب.
قال الحسن رضي الله عنه: فكتمتها الحسين زمانًا، ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه، فسأله عما سألته عنه، ووجدته قد سأل أباه – يعني سيدنا عليًّا رضي الله عنه - عن مدخله ومجلسه ومخرجه وشكله، الشَّكْل: بفتح الشين، وهو السيرة والطريقة. فلم يدع منه شيئًا.
قال الحسين رضي الله عنه: سألت أبي عن دخول النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان دخوله لنفسه مأذونًا له في ذلك، فكان إذا أوى أوى: رجع. إلى منزله جزَّأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزَّأ: قسَّم. جزءًا لله، وجزءًا لأهله، وجزءًا لنفسه، والجزء المختص بالله تعالى: هو اشتغاله بعبادته ومناجاته في ليله ونهاره. والجزء المختص بأهله: هو الوقت الذي يصحبهم ويعاشرهم فيه. والجزء المختص بنفسه: هو الذي لا يتعبد فيه ولا يعاشر أهله. ثم جزَّأ جزءه بينه وبين الناس، أي: قسمه قسمين بينه وبين الناس. فيرد ذلك على العامة بالخاصة، فيرد ذلك على العامة بالخاصة: أراد أن العامة كانت لا تصل إليه في هذا الوقت، فكانت الخاصة تُخْبر العامة بما سمعت منه، فكأنه أوصل الفوائد إلى العامة بالخاصة. وقيل: إن "الباء" في الخاصة بمعنى "من"، أي: يجعل وقت العامة بعد وقت الخاصة، وبدلاً منهم. ولا يدخر عنهم شيئًا.
وذكر مجلسه فقال: مجلس حلم وحياء، وكان من سيرته في جزء الأمة إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمه على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، فيتشاغل بهم فيما أصلحهم والأمة عن شيء من مساءلتهم عنه، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم، يقول ليبلغ الشاهد الغائب، وأبلغوني حاجة مَن لا يستطيع إبلاغي حاجته، وإنه من أبلغ سلطانًا حاجة من لا يستطيع إبلاغها إياه، ثبَّت الله قدميه يوم القيامة، لا يذكر عنده إلا ذلك، ولا يقبل من أحد غيره يدخلون عليه روَّادًا، الرواد: جمع رائد، وهو الذي يتقدم القوم يكشف لهم حال الماء والمرعى قبل وصولهم.
ولا يفترقون إلا عن ذواق، لا يفترقون إلا عن ذَواق: ضرب الذواق مثلاً لما ينالون عنده من الخير. أي: لا يتفرقون إلا عن علم يتعلمونه، يقوم لهم مقام الطعام والشراب؛ لأنه يحفظ الأرواح كما يحفظ الطعام الأجسام. ويخرجون من عنده أدلة. ويخرجون أدلة: جمع دليل، أي: يدلون الناس بما قد علموه منه وعرفوه. يريد أنهم يخرجون من عنده فقهاء. ويُروى بالذال المعجمة، جمع ذليل. يريد به: يخرجون من عنده متواضعين متعظين بما سمعوا، من قوله تعالى: ﴿ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 54]
قال: فسألته عن مخرجه، كيف كان يصنع فيه؟
فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخزن لسانه إلا مما يعنيهم ويؤلفهم، ولا يفرقهم ولا ينفرهم، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر الناس، ويحترس منهم من غير أن يطوي عن أحد بشره، ولا خلقه، يتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهنه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا، لكل حال عنده عتاد، لا يقصر عن الحق، ولا يجوزه الذين يلونه من الناس، خيارهم خيارهم: أفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.
قال: فسألته عن مجلسه؟
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله، ولا يوطن الأماكن وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي به المجلس ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه بنصيبهم، لا يحسب جليسه أن أحدًا أكرم عليه منه، مَنْ جالسه أو فاوضه في حاجة صابره حتى يكون هو المنصرف، ومن سأله حاجة لم يرد إلا بها أو بميسور من القول، قد وَسِع الناس منه بسطته وخلقه، فصار لهم أبًا، وصاروا في الحق عنده سواء، مجلسه مجلس حلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا تؤبن فيه الحرم، لا تُؤْبَن فيه الحُرَم. أي: لا تقذف وترمى بعيب. ومنه حديث الإفك: "أشيروا عليَّ في أناس أبَنُوا أهلي" [متفق عليه]. أَبْنَوا: عابوهم واتهموهم. والحرَم: جمع حرمة وهي المرأة، وما يلزم الإنسان حفظه وصونه. ولا تنثى فلتاتُهُ لا تُنْثى فلتاته، أي: لا يتحدث عن مجلسه بهفوة أو زلة، إن حدثت فيه من بعض القوم. يقال: نَثَوت الحديثَ أنثوه نثْوًا: إذا أذعته. الفلتات: جمع فلتة، وهي ههنا الزلة والسَّقْطة. وقيل: معناه أنه لم يكن فيه فلتات فتُنْثَى. متعادِلِين، بل كانوا يتفاضلون فيه بالتقوى متواضعين، يوقرون الكبير، ويرحمون الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب.
قلت: كيف كانت سيرته في جلسائه؟
قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائم البِشْر، البِشْر: طلاقة الوجه وبشاشته. سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظٍّ، الفَظُّ: السيئ الخُلُق. ولا غليظ ولا صخَّاب، الصَّخَّاب: فعَّال من الصَّخَب، وهو الضجة، واضطراب الأصوات والخصام، ويُروَى بالسين والصاد على الإبدال. ولا فحَّاش ولا عيَّاب الفحَّاش والعيَّاب: على وزن فعَّال للمبالغة، من الفحش في القول، وعيب الناس، والوقيعة فيهم. ولا مدَّاح، متغافل عما لا يشتهي، ولا يؤيس منه، ولا يخيب فيه،قوله: "ولا يؤيس منه، ولا يخيب فيه" كذا عند الطبراني في الكبير وابن الجوزي في صفة الصفوة وأبي نعيم في معرفة الصحابة، وورد عند الترمذي في الشمائل والصنعاني في سبل الهدى والرشاد: "لا يؤيس منه راجيه، ولا يخيب فيه" بمعنى أن من يطلب المصطفى لحاجته ويرجوه لها لا ييأس من إجابته ولا يتوقع منه أن يخيب ظنه فيه.والله أعلم.
قد ترك نفسه من ثلاث: المراء والإكثار ومما لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحدًا ولا يعيِّره، ولا يطلب عورته، ولا يتكلم إلا فيما رجا ثوابه، وإذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، الإطراق: خفض الرأس، وإدامة النظر إلى الأرض بين يديه. كأنما على رؤوسهم الطير: يصفهم بالسكون والثبات في المجلس؛ لأن الطير لا تسقط إلا على ساكن. فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده، مَن تكلم أنصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث أوَّلِيَّتهم، يضحك مما يضحكون منه، ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته، حتى إذا كان أصحابه ليستجلبونهم، ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرشدوه. ولا يقبل الثناء إلا من مكافئ، لا يقبل الثناء إلا من مكافئ: يريد أنه كان إذا ابتدئ بثناء ومدح كره ذلك، وإذا اصطنع معروفًا فأثنى عليه مثنٍ وشكر له قبل ثناءه. وأنكر ابن الأنباري هذا التأويل، وقال: المعنى أنه لا يقبل الثناء عليه ممن لا يعرف حقيقة إسلامه، ولا يكون من المنافقين الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم. وقال الأزهري: فيه قول ثالث، أي: لا يقبل الثناء إلا من مقارب غير مجاوز حد مثله، ولا مقصر عما رفعه الله إليه. والمكافأة: المجازاة على الشيء. ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه، فيقطعه بنهي أو قيام.
قلت: كيف كان سكوته؟
قال: كان سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكر، فأما تقديره، ففي تسويته النظر والاستماع بين الناس. وأما تفكره - أو قال تذكره - ففيما يبقى ويفنى. وجمع له الحلم والصبر، وكان لا يغضبه ولا يستفزه شيء. وجمع له الحذر في أربع: أخذه بالحسنى ليُقتدى به، وتركه القبيح ليتناهى عنه، واجتهاده الرأي فيما يصلح أمته، والقيام فيما جمع لهم من أمر الدنيا والآخرة. هذا الحديث أخرجه ابن قتيبة في غريبه، عن محمد بن عبيد، بإسناده عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، وأخرجه أيضًا الترمذي في الشمائل، وابن سعد في طبقاته، وابن كثير في شمائله، وأبو نعيم في دلائل النبوة، والبيهقي في الدلائل. وهو حديث معروف بهند لم يرو غيره، وإن كان أكثره عن عليٍّ رضي الله عنه، وفيه ما هو موافق لما في الصحيح.