حكاية ناي ♔
01-17-2024, 11:39 AM
الحمد لله الذي ظهر لأوليائه بنعوتِ جلاله. وأنار قلوبَ أصفيائه بمشاهدة صفات كماله. وتحبب إلى عباده بما أسداه إليهم من إنعامه وإفضاله. أحمده سبحانه حمدَ عبدٍ أخلص لله في أقواله وأفعاله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معين في تدبيره وأفعاله. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله نبي أنعم الله على جميع أهل الأرض ببعثه وإرساله. اللهم صلّ على عبدك ورسولك محمد وعلى جميع أصحابه وآله وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ فيا أيها الناس اتقوا اللهَ تعالى فإنَّ تقواه عليها المعوَّل. واشكروه على ما أولاكم من الإنعام والخير الكثير وخَوَّل. وعليكم بما كان عليه السلف الصالح والصدرُ الأوَّل.
عباد الله:
لقاءنا يتجدد وإياكم مع الأصناف السبعة السعداء الذين يظلهم يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله.
ذاك الحديث المبارك الذي قال عنه ابن عبد البر: إنه أحسن حديث، وأوضح حديث، وأعم حديث يروى في فضائل الأعمال.
إنهم سبعة جمعهم تقوى الله ومراقبته وخشيته فنالوا الكرامة وعاشوا بالاستقامة وفازوا بظل عرش الرحمن في يوم الندامة.
واليوم مع الصنف الرابع من هؤلاء السعداء: رجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وافترقا عليه.
عباد الله:
الروابط بين البشر كثيرة ومتنوعة، فمنها العرقية والوطنية، والقبلية والأسرية، ومنها الدينية والفكرية، والثقافية.
والرابطة الأعلى والأسمى والأقوى والأبقى دنيا وآخرة هي الرابطة الإيمانية، التي جعلها النبي المصطفى من أوثق عرى الإيمان. فقال المصطفى بأبي وامي: « «أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله -عز وجل-» [حسن، أخرجه الطيالسي في مسنده، رقم (378)، والطبراني في الكبير (10357)، والحاكم (2/ 480) وصححه].
إنها الرابطة التي تجمع المسلم بأخيه المسلم بغض النظر عن لونه، وجنسه، وبلده، ولسانه.
إنها الرابطة التي آخَى بها النبي صلى الله عليه وسلم بين بلالٍ الحبشي وأبي عبيدة بن الجراح القرشي، وبين صهيب الرومي والحارث بن الصِّمة الخزرجي الأنصاري، وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء الخزرجي الأنصاري، رضي الله عنهم وأرضاهم.
إنها الرابطة التي آخى بها النبي صلى الله عليه وسلم بها بين المهاجرين والانصار فقال الانصاري: "قـد علمت الأنصار أنى من أكثرها مالًا، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولى امرأتان فانظـر أعجبهما إليك، فأطلقها حتى إذا حَلَّتْ تزوجْتَها. فقال المهاجري: بارك الله لك في أهلك. دلوني على السوق الله أكبر هل عرف التاريخ محبة واخوة مثل هذه؟
فقال عبد الرحمن بن عوف:بارك الله لك في أهلك ومالك دلني على السوق.
انها الرابطة التي بها يحقق العبد كمال الإيمان متى ما بنى تعامله مع الآخرين عليها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» [رواه أبو داود من حديث أبي أمامة رضي الله عنه].
أيها المؤمنون:
رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه.
الحب في الله والاخوة في الله أسمى وأقوى من علاقة ورابطة النسب؛ قال تعالى على لسان نوح ﴿ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وإِنَّ وعْدَكَ الْحَقُّ وأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ [هود: 45 - 46]، ولذا كان الحسن يقول: "إخواننا أحب إلينا من أهلينا، فإخواننا يُذكِّروننا بالآخرة، وأهلونا يُذكِّروننا بالدنيا".
نعم رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه.
الحب في الله - عبادةٌ قلبيَّةٌ عظيمةٌ، بها يجد العبد طعم الإيمان وحلاوته؛ كما في الحديث المتفق عليه من حديث أنس ا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان»، وذكر منها: «أن يحب المرء لا يُحِبُّهُ إلا لله»،
وفي عرصات القيامة حين يطول بالناس المقام، ويشتد الزحام؛ وتعظم الأهوال، وتكون الشمس على مقدار ميل من رؤوس أهل الموقف، فإن المتحابين في الله تعالى ينجيهم حبهم هذا من كرب ذلك الموقف العظيم في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون لجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي»؛ [رواه مسلم رقم (2566) في البر والصلة، باب في فضل الحب في الله، والموطأ (2/ 952) في الشعر، باب ما جاء في المتحابين في الله].
نعم رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه.
اجتمعا على الخير والايمان والقران وتفرقا على الاحسان والطاعة وسنة النبي العدنان قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن من عباد الله أُناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله، قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور، ولا يخافون إذا خاف الناس». وقرأ هذه الآية: ﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [صحيح الترغيب والترهيب/ 3026].
هذا من شعب، وذاك من شعب، وهذا من قبيلة وذاك من قبيلة، جمعهم الحب في الله، فيناديهم الله -عزو جل-، فيقومون يتخطون الناس حتى يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله. ونحن في هذا المسجد نسأل الله أن يجعلنا ممن تحابوا من أجله ونسأل الله كما جمعنا هنا على طاعته أن يجمعنا يوم القيامة في دار كرامته ورحمته.
نعم رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه.
لا مال بينهم ولا نسب يربطهم ولا رحم تجمعهم ولا مصالح تهمهم انما هو لله وفي ذات الله.
اجتمعا في طاعة الله وفيما يرضي الله، ولإعلاء كلمة لا اله إلا الله هذا سبب اجتماعهما، أخرج مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته - أي: على طريقه - ملكًا، فلما أتى عليه قال الملك: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه نعمة تربها؟ ـ أي: هل تريد أن تحافظ على أمر دنيوي بينك وبينه بهذه الزيارة ـ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه».
والتزاوُر والتواصل حق من حقوق الأخوة، وكم تطيب الزيارة يوم أن تكون لله! ولقد قال النبي: «قال الله تعالى: وجبَت محبتي للمتحابين فيَّ، وجبَت محبتي للمُتزاوِرين فيَّ»؛ [أخرجه الإمام مالك (6711) والإمام أحمد (5/ 233)].
ومن القصص العجيبة في الحب في الله ما رواها مغسل اموات فيقول شاب في الثلاثينات من العمر أحضروه إلى المغسلة وكان برفقته بعض معارفه وإخوانه فوجدت من أحد الإخوة يقوموا بإخراج جميع من كانوا موجودين في المغسلة من ضمن الذين أخرجهم والد الميت فافتكرت أنه هو الولي أو الأخ الأكبر لهذا المتوفي.. فعندما بدأت في تجريد ملابسه فوجدت الأخ هذا يبكي بحرقة شديدة بكاء دعاني إلى سؤاله فقلت له: الله يجزاك خير أدعو لأخوك بالرحمة والشفقة. فقال لي وهو يبكي:
"إنه ليس أخي إنه ليس أخي"! فاستغربت كيف ليس أخوه ويقوم بإخراج أبوه ووالده وإخوانه من مكان الغسل ويبقى هو لوحده!
فقال لي: يا شيخ هذا أكثر من أخي هذا أكثر من أخي وأبي فقلت له كيف.. قال لي يا شيخ درسنا الاساسية وودرسنا الثانوية سوى وتخرجنا سوى وعينّا الاثنين سوى في دائرة حكومية وتزوجنا أختين سوى، وربنا رزق كل واحد ولد وبنت، وساكنين في عمارة سوى، كل واحد آخذ شقة قبال الثاني، كل يوم يروح للشغل عملهم بسيارة واليوم الثاني يروح بسيارة الأخ الثاني.
إذا فطر مع صديقه هذا فالعشاء في البيت الثاني والغداء في بيت صديقه الآخر. فيقول لي:" أسألك بالله يا شيخ هل مر لك إخوان شغفا بالطريقة هذه؟!! فقلت لا والله..
وأنا أسألكم بالله هل مر عليكم هذا الأمر؟! فقلت له ادع له الله يتغمده برحمته وقمنا بالصلاة عليه ودفنه بعد صلاة الظهر.. العبرة ليست هنا.. ثاني يوم العصر جابوا لي ميت وانا اغسله انظر الى وجهه فقلت لوالده: إن هذا الوجه ليس بغريب علي! فقال لي: كيف يا شيخ هذا كان أمس معك يغسل صديقه فقلت له ما سبب وفاته؟ قال أرادت زوجته أن توقظه لطعام الغداء فقال لا سبيني أنام شوي حتى صلاة العصر ا جاءت لتوقظه للصلاة وجدته ميتًا.
لا إله الا الله يقول المغسل: سبحان الله قمنا بدفنه في القبر المجاور لصديقه ما ليس بينه وبين صديقه غير الحاجز الجدار وهذه نادرًا ما تحدث! وسبحان الله كانوا في الدنيا سوى وفي الآخرة سوى.
نعم رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه.
روى الغزالي في « الأحياء » قول ابن عمر رضي الله عنهما: «والله لو أنفقت أموالي في سبيل الله، وصمت النهار لا افطره، وقمت الليل لا أنامه.. ثم لقيت الله لا أحب أهل الطاعة ولا أبغض أهل المعصية لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار».
من هذا المنطلق: جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الولاء والبراء عقيدة.
فالمرء يُحشر ويكون مع من أحب يوم القيامة فلينظر العبد من يخالل ومن يحب، وليختر من يقربه إلى الله ويعينه على طاعة الله ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال: «ما أعددت لها؟» قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، قال: «أنت مع من أحببت». قال أنس بن مالك: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت مع من أحببت»؛ فأنا أُحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم.
ونحن نُشهد الله أننا نحب رسول الله وأبى بكر، وعمر، وعثمان وعلىّ وجميع أصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم، ونتضرع إلى الله بفضله لا بأعمالنا أن يحشرنا معهم جميعًا بمنه وكرمه وهو أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد:
رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه.
محبةٌ صادقة خالصة، محبة نشأت لله فتدوم لوجه الله، ومن أحبك لشيء أبغضك عند فقده، فمن أحبك لدنياك كرهك لفقرك، ومن أحبك لمنصبك فارقك عند عزلك، إذًا فانظر من تحب، وانظر أولئك الذين جمعت أرقامهم وأسماءهم في دليل هاتفك: هل تستطيع أن تخرج عشرة من هؤلاء تُعدُّهم للنوائب؟ هل تستطيع أن تجمع من مجموع من عرفت وخالطت وجالست وصادقت وخاللت وتعرفت.. هل تستطيع أن تخرج من هؤلاء خمسة أو عشرة؟
سلامٌ على الدنيا إذا لم يكن بها
صديقٌ صدوقٌ صادق الوعد مخلصا
فما كان لله دام واتصل:
وما أكثرَ الأصحابَ حين تعدُّهُمْ
ولكنَّهُمْ في النائباتِ قليلُ
أيها الفضلاء:
إن كل صداقة في الدنيا ستؤول إلى عداوة في الآخرة إلا الصداقة التي وثق الدين بين أصحابها: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67].
وكم من صاحب سيتبرأ من صاحبه يوم القيامة، و يندم على أنه صاحب أهل الشر ويقول: ﴿ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ﴾ [الفرقان: 28].
في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-. «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» [رواه مسلم رقم « 2638» في البر والصلة].
قال الخطابي: فالخَيِّر يحنو إلى الأخيار والشرير يحنو إلى الأشرار، لذا لا يحب المؤمن إلا من هو على شاكلته من أهل الإيمـان والإخلاص ولا يبغض المؤمن إلا منافـق خبيث القلب.
وحب المؤمن للخير وأهله دليل صادق على طيب نفسه، وطُهر قلبه، وأنه عند الله بمنزلة عالية، والمؤمن يحب أخاه المؤمن القريب والبعيد لا فرق بين أخيه المؤمن الذي من صلب أبيه ولا بين أخيه المؤمن من أنحاء الأرض الذي لا تربطه به إلا أواصر الدين وأخوة الإيمان، فيسرّ له في النعماء ويحزن عليه في البأساء، ويتولاه لإيمانه من دون آبائه وإخوانه وسائر أقربائه، ويؤثره على نفسه، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، وما ذلك إلا للمحبة الصادقة في ذات الله تبارك وتعالى.
قال الإمام الشافعي:
أُحب الصالحين ولست منهم
لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي
ولو كنا سواءً في البضاعة
فرد عليه الإمام أحمد:
تحب الصالحين وأنت منهم
ومنكم قد تناولنا الشفاعة
نعم رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه.
روي ان علي بن الحسين قال لولده موصيًا: "لا تصاحبن خمسةً ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق: لا تصحبن فاسقا فإنه يبيعك بأكلة، ولا تصحبن البخيل فإنه يمنعك ماله أحوج ما تكون إليه، ولا تصحبن كذابًا فإنه بمنزلة السراب فإنه يبعد منك القريب ويقرب منك البعيد ولا تصحبن أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، ولا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواضع"..
هذا وصلوا ـ رحمكم الله -سبحانه وتعالى- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك فقال في كتابه الكريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾.
أما بعدُ فيا أيها الناس اتقوا اللهَ تعالى فإنَّ تقواه عليها المعوَّل. واشكروه على ما أولاكم من الإنعام والخير الكثير وخَوَّل. وعليكم بما كان عليه السلف الصالح والصدرُ الأوَّل.
عباد الله:
لقاءنا يتجدد وإياكم مع الأصناف السبعة السعداء الذين يظلهم يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله.
ذاك الحديث المبارك الذي قال عنه ابن عبد البر: إنه أحسن حديث، وأوضح حديث، وأعم حديث يروى في فضائل الأعمال.
إنهم سبعة جمعهم تقوى الله ومراقبته وخشيته فنالوا الكرامة وعاشوا بالاستقامة وفازوا بظل عرش الرحمن في يوم الندامة.
واليوم مع الصنف الرابع من هؤلاء السعداء: رجلان تحابا في الله فاجتمعا عليه وافترقا عليه.
عباد الله:
الروابط بين البشر كثيرة ومتنوعة، فمنها العرقية والوطنية، والقبلية والأسرية، ومنها الدينية والفكرية، والثقافية.
والرابطة الأعلى والأسمى والأقوى والأبقى دنيا وآخرة هي الرابطة الإيمانية، التي جعلها النبي المصطفى من أوثق عرى الإيمان. فقال المصطفى بأبي وامي: « «أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله والحب في الله والبغض في الله -عز وجل-» [حسن، أخرجه الطيالسي في مسنده، رقم (378)، والطبراني في الكبير (10357)، والحاكم (2/ 480) وصححه].
إنها الرابطة التي تجمع المسلم بأخيه المسلم بغض النظر عن لونه، وجنسه، وبلده، ولسانه.
إنها الرابطة التي آخَى بها النبي صلى الله عليه وسلم بين بلالٍ الحبشي وأبي عبيدة بن الجراح القرشي، وبين صهيب الرومي والحارث بن الصِّمة الخزرجي الأنصاري، وبين سلمان الفارسي وأبي الدرداء الخزرجي الأنصاري، رضي الله عنهم وأرضاهم.
إنها الرابطة التي آخى بها النبي صلى الله عليه وسلم بها بين المهاجرين والانصار فقال الانصاري: "قـد علمت الأنصار أنى من أكثرها مالًا، سأقسم مالي بيني وبينك شطرين، ولى امرأتان فانظـر أعجبهما إليك، فأطلقها حتى إذا حَلَّتْ تزوجْتَها. فقال المهاجري: بارك الله لك في أهلك. دلوني على السوق الله أكبر هل عرف التاريخ محبة واخوة مثل هذه؟
فقال عبد الرحمن بن عوف:بارك الله لك في أهلك ومالك دلني على السوق.
انها الرابطة التي بها يحقق العبد كمال الإيمان متى ما بنى تعامله مع الآخرين عليها؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان» [رواه أبو داود من حديث أبي أمامة رضي الله عنه].
أيها المؤمنون:
رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه.
الحب في الله والاخوة في الله أسمى وأقوى من علاقة ورابطة النسب؛ قال تعالى على لسان نوح ﴿ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وإِنَّ وعْدَكَ الْحَقُّ وأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾ [هود: 45 - 46]، ولذا كان الحسن يقول: "إخواننا أحب إلينا من أهلينا، فإخواننا يُذكِّروننا بالآخرة، وأهلونا يُذكِّروننا بالدنيا".
نعم رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه.
الحب في الله - عبادةٌ قلبيَّةٌ عظيمةٌ، بها يجد العبد طعم الإيمان وحلاوته؛ كما في الحديث المتفق عليه من حديث أنس ا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان»، وذكر منها: «أن يحب المرء لا يُحِبُّهُ إلا لله»،
وفي عرصات القيامة حين يطول بالناس المقام، ويشتد الزحام؛ وتعظم الأهوال، وتكون الشمس على مقدار ميل من رؤوس أهل الموقف، فإن المتحابين في الله تعالى ينجيهم حبهم هذا من كرب ذلك الموقف العظيم في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون لجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي»؛ [رواه مسلم رقم (2566) في البر والصلة، باب في فضل الحب في الله، والموطأ (2/ 952) في الشعر، باب ما جاء في المتحابين في الله].
نعم رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه.
اجتمعا على الخير والايمان والقران وتفرقا على الاحسان والطاعة وسنة النبي العدنان قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «إن من عباد الله أُناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء بمكانهم من الله، قالوا: يا رسول الله من هم؟ قال: هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نور، ولا يخافون إذا خاف الناس». وقرأ هذه الآية: ﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [صحيح الترغيب والترهيب/ 3026].
هذا من شعب، وذاك من شعب، وهذا من قبيلة وذاك من قبيلة، جمعهم الحب في الله، فيناديهم الله -عزو جل-، فيقومون يتخطون الناس حتى يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله. ونحن في هذا المسجد نسأل الله أن يجعلنا ممن تحابوا من أجله ونسأل الله كما جمعنا هنا على طاعته أن يجمعنا يوم القيامة في دار كرامته ورحمته.
نعم رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه.
لا مال بينهم ولا نسب يربطهم ولا رحم تجمعهم ولا مصالح تهمهم انما هو لله وفي ذات الله.
اجتمعا في طاعة الله وفيما يرضي الله، ولإعلاء كلمة لا اله إلا الله هذا سبب اجتماعهما، أخرج مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته - أي: على طريقه - ملكًا، فلما أتى عليه قال الملك: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه نعمة تربها؟ ـ أي: هل تريد أن تحافظ على أمر دنيوي بينك وبينه بهذه الزيارة ـ قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه».
والتزاوُر والتواصل حق من حقوق الأخوة، وكم تطيب الزيارة يوم أن تكون لله! ولقد قال النبي: «قال الله تعالى: وجبَت محبتي للمتحابين فيَّ، وجبَت محبتي للمُتزاوِرين فيَّ»؛ [أخرجه الإمام مالك (6711) والإمام أحمد (5/ 233)].
ومن القصص العجيبة في الحب في الله ما رواها مغسل اموات فيقول شاب في الثلاثينات من العمر أحضروه إلى المغسلة وكان برفقته بعض معارفه وإخوانه فوجدت من أحد الإخوة يقوموا بإخراج جميع من كانوا موجودين في المغسلة من ضمن الذين أخرجهم والد الميت فافتكرت أنه هو الولي أو الأخ الأكبر لهذا المتوفي.. فعندما بدأت في تجريد ملابسه فوجدت الأخ هذا يبكي بحرقة شديدة بكاء دعاني إلى سؤاله فقلت له: الله يجزاك خير أدعو لأخوك بالرحمة والشفقة. فقال لي وهو يبكي:
"إنه ليس أخي إنه ليس أخي"! فاستغربت كيف ليس أخوه ويقوم بإخراج أبوه ووالده وإخوانه من مكان الغسل ويبقى هو لوحده!
فقال لي: يا شيخ هذا أكثر من أخي هذا أكثر من أخي وأبي فقلت له كيف.. قال لي يا شيخ درسنا الاساسية وودرسنا الثانوية سوى وتخرجنا سوى وعينّا الاثنين سوى في دائرة حكومية وتزوجنا أختين سوى، وربنا رزق كل واحد ولد وبنت، وساكنين في عمارة سوى، كل واحد آخذ شقة قبال الثاني، كل يوم يروح للشغل عملهم بسيارة واليوم الثاني يروح بسيارة الأخ الثاني.
إذا فطر مع صديقه هذا فالعشاء في البيت الثاني والغداء في بيت صديقه الآخر. فيقول لي:" أسألك بالله يا شيخ هل مر لك إخوان شغفا بالطريقة هذه؟!! فقلت لا والله..
وأنا أسألكم بالله هل مر عليكم هذا الأمر؟! فقلت له ادع له الله يتغمده برحمته وقمنا بالصلاة عليه ودفنه بعد صلاة الظهر.. العبرة ليست هنا.. ثاني يوم العصر جابوا لي ميت وانا اغسله انظر الى وجهه فقلت لوالده: إن هذا الوجه ليس بغريب علي! فقال لي: كيف يا شيخ هذا كان أمس معك يغسل صديقه فقلت له ما سبب وفاته؟ قال أرادت زوجته أن توقظه لطعام الغداء فقال لا سبيني أنام شوي حتى صلاة العصر ا جاءت لتوقظه للصلاة وجدته ميتًا.
لا إله الا الله يقول المغسل: سبحان الله قمنا بدفنه في القبر المجاور لصديقه ما ليس بينه وبين صديقه غير الحاجز الجدار وهذه نادرًا ما تحدث! وسبحان الله كانوا في الدنيا سوى وفي الآخرة سوى.
نعم رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه.
روى الغزالي في « الأحياء » قول ابن عمر رضي الله عنهما: «والله لو أنفقت أموالي في سبيل الله، وصمت النهار لا افطره، وقمت الليل لا أنامه.. ثم لقيت الله لا أحب أهل الطاعة ولا أبغض أهل المعصية لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار».
من هذا المنطلق: جعل الرسول صلى الله عليه وسلم الولاء والبراء عقيدة.
فالمرء يُحشر ويكون مع من أحب يوم القيامة فلينظر العبد من يخالل ومن يحب، وليختر من يقربه إلى الله ويعينه على طاعة الله ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله عنه-: أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: متى الساعة؟ قال: «ما أعددت لها؟» قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، قال: «أنت مع من أحببت». قال أنس بن مالك: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت مع من أحببت»؛ فأنا أُحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم.
ونحن نُشهد الله أننا نحب رسول الله وأبى بكر، وعمر، وعثمان وعلىّ وجميع أصحاب الحبيب صلى الله عليه وسلم، ونتضرع إلى الله بفضله لا بأعمالنا أن يحشرنا معهم جميعًا بمنه وكرمه وهو أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.
أما بعد:
رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه.
محبةٌ صادقة خالصة، محبة نشأت لله فتدوم لوجه الله، ومن أحبك لشيء أبغضك عند فقده، فمن أحبك لدنياك كرهك لفقرك، ومن أحبك لمنصبك فارقك عند عزلك، إذًا فانظر من تحب، وانظر أولئك الذين جمعت أرقامهم وأسماءهم في دليل هاتفك: هل تستطيع أن تخرج عشرة من هؤلاء تُعدُّهم للنوائب؟ هل تستطيع أن تجمع من مجموع من عرفت وخالطت وجالست وصادقت وخاللت وتعرفت.. هل تستطيع أن تخرج من هؤلاء خمسة أو عشرة؟
سلامٌ على الدنيا إذا لم يكن بها
صديقٌ صدوقٌ صادق الوعد مخلصا
فما كان لله دام واتصل:
وما أكثرَ الأصحابَ حين تعدُّهُمْ
ولكنَّهُمْ في النائباتِ قليلُ
أيها الفضلاء:
إن كل صداقة في الدنيا ستؤول إلى عداوة في الآخرة إلا الصداقة التي وثق الدين بين أصحابها: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67].
وكم من صاحب سيتبرأ من صاحبه يوم القيامة، و يندم على أنه صاحب أهل الشر ويقول: ﴿ يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا ﴾ [الفرقان: 28].
في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-. «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف» [رواه مسلم رقم « 2638» في البر والصلة].
قال الخطابي: فالخَيِّر يحنو إلى الأخيار والشرير يحنو إلى الأشرار، لذا لا يحب المؤمن إلا من هو على شاكلته من أهل الإيمـان والإخلاص ولا يبغض المؤمن إلا منافـق خبيث القلب.
وحب المؤمن للخير وأهله دليل صادق على طيب نفسه، وطُهر قلبه، وأنه عند الله بمنزلة عالية، والمؤمن يحب أخاه المؤمن القريب والبعيد لا فرق بين أخيه المؤمن الذي من صلب أبيه ولا بين أخيه المؤمن من أنحاء الأرض الذي لا تربطه به إلا أواصر الدين وأخوة الإيمان، فيسرّ له في النعماء ويحزن عليه في البأساء، ويتولاه لإيمانه من دون آبائه وإخوانه وسائر أقربائه، ويؤثره على نفسه، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، وما ذلك إلا للمحبة الصادقة في ذات الله تبارك وتعالى.
قال الإمام الشافعي:
أُحب الصالحين ولست منهم
لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي
ولو كنا سواءً في البضاعة
فرد عليه الإمام أحمد:
تحب الصالحين وأنت منهم
ومنكم قد تناولنا الشفاعة
نعم رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه.
روي ان علي بن الحسين قال لولده موصيًا: "لا تصاحبن خمسةً ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق: لا تصحبن فاسقا فإنه يبيعك بأكلة، ولا تصحبن البخيل فإنه يمنعك ماله أحوج ما تكون إليه، ولا تصحبن كذابًا فإنه بمنزلة السراب فإنه يبعد منك القريب ويقرب منك البعيد ولا تصحبن أحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، ولا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعونًا في كتاب الله في ثلاثة مواضع"..
هذا وصلوا ـ رحمكم الله -سبحانه وتعالى- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك فقال في كتابه الكريم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾.