حكاية ناي ♔
01-17-2024, 11:50 AM
سواء قلَّت السطور هنا أم كثرت، فإنها ستقف عاجزة عن توفية الرسول صلى الله عليه وسلم حقَّه، وسواء أحاط البشر بقدره أم لم يحيطوا به، فإن ذلك لن ينقص من قدره شيئًا، فهو عندنا بالمقام الأسمى، والمنزلة الأرفع بقدر علمنا به، وهو عند ربه تعالى فوق ذلك كله بقدر علمه به.
وإذا كان هناك شرذمة قليلة لم تكلف نفسها معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم حق المعرفة قبل أن تكيل له الاتهامات، وتثير حوله الشُّبَه والافتراءات، فإن هذه الحثالة البشرية ليست بِمَن يُؤبه بها، إن مثلهم كمثل مَنْ وضع الماء ملء فيه ورفع رأسه ليطفئ نور الشمس، فماذا كان حاله غير أن الماء ارتد عليه، فهؤلاء قبل أن يطلقوا سهام الطعن من الغيظ والكراهية ترتد إلى نحورهم خائبة خاسرة، ولن ينتقص هؤلاء من قدر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بمقدار ما ينتقص الأصبع من ماء البحار.
سنسجل هنا عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ما يمليه علينا المقام، من غير فضول ولا تقصير في المراد؛ إذ الفضول في القول يبعث أحيانًا على الملل، بيد أنه هنا لا ملال فيه ولا كلال؛ لأنه غيض مِن فيض، والتقصير لا يليق بقدر من نتحدث عنه، وبين هذا وذاك تنال الكلمات الشرف الرفيع حين تنتظم انتظامًا لتطاول النجم في ذراه، فإني عجزتْ أشارت إليه في سراه.
كانت أخلاقه - عليه الصلاة والسلام - غير متكلَّفة؛ لأن المتكلف لا يدوم أمره طويلاً، بل يرجع إلى الطبع، وهذا ما أكسبها عظمة وجلالاً. قالوا: إن الخلق ملكة نفسانية، يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة، والإتيان بالأفعال الجميلة شيء، وسهولة الإتيان بها شيء آخر، فالحالة التي باعتبارها تحصل تلك السهولة هي الخلق.
فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلف شيئًا من الفضائل أصلاً، ثم إن اجتماع الفضائل في شخص واحد مع عدم التكلف أمر خارق للعادة؛ لأن الإنسان مخلوقة فيه شهوات، لا يمكن أن يردها إلى حد الاعتدال من غير إفراط أو تفريط، إلا إذا عوَّد نفسه سنين عديدة واجتهد، وقد لا يستطع.
والعاقل إذا شعر بنقيصة فيه، وأراد محاربتها ومحوها بالتعود وقوة الإرادة، كان لا بد من مرور زمن طويل، حتى تزول وتنمحي، وهو في أثناء محاربتها عرضة لأن تظهر عليه تلك النقيصة أو آثارها من حين لآخر، وبالرغم منه، وعند ذلك يلاحظها الناس فيه، فإن كان رجلاً عظيمًا أثبتوها عليه في تاريخ حياته، فيقولون مثلاً: كان بخيلاً ثم اعتاد السخاء، أو جبانًا فتشجع بمعاشرة الشجعان، والاقتداء بهم.. إلخ.
ولم نرَ إنسانًا له نقيصة واحدة فقط، مع كثرة تجاربنا ومعاشرتنا الناس، نعم قد يتوهم كل إنسان أنه كامل لا عيب فيه ولا نقص؛ لأن العين لا ترى نفسها إلا بطريق المرآة، ومرآة الإنسان أصدقاؤه وخلانه ومعاشروه، ثم إن اعتقاد المرء بكماله وتنزهه عن القبائح والرذائل يمنعه من الاطلاع على عيوبه وهفواته وسقطاته وإن كانت كثيرة، ولو أنه سمع رأي الناس فيه، وإن كانوا أقل منه منزلة، لتبين له كثير من المساوئ التي كانت خافية عليه، بسبب اعتقاده الكمال في نفسه.
نقول ذلك؛ إذ قد يعترض علينا أحد فيقول: إنك لم ترَ إنسانًا له نقيصة واحدة فقط، مع أني لا أذكر لنفسي عيوبًا تؤخذ عليَّ، وكل الناس يمدحونني ويوقِّرونني. فهذا القول إنما هو ادعاء رجل محجوب أعمى، فالأولى أن يسأل عن عيوبه؛ حتى يهتدي إليها فيصلحها، قال أبو بكر الصديق - وهو ممن لا يخفى على أحد علمه وفضله وصدقه وإخلاصه وتقواه: رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبي".
يعني أن له عيوبًا يريد الاهتداء إليها. والناس الآن قد بلغ بهم الغرور والكبر والزهو، ما جرَّأهم على القول بتنزههم عن المعايب؛ لذلك حُرِموا من إصلاح أنفسهم.
والخلوُّ من المعايب، واجتماع الفضائل في شخص فرد من المستحيلات، إلا إذا خُلِق الإنسان معتدل المزاج، معتدل الشهوات، صحيح الجسم، صحيح العقل، قوي الأعصاب، من نسل سليم، ليس له وراثة مرضية، خاليًا من مطامع المادة، ومثل هذا الشخص لم يوجد.
أما اعتقاد الإنسان الكمال في نفسه، فهذا مِن حبه ذاته، ومَن أحب ذاته أحب كمال ذاته، وأحب أن يوصف بصفات الكمال، وهذه غريزة تظهر في الأطفال، فإنك إذا مدحت طفلاً صغيرًا بما يفهم، ظهرت على ملامحه سيماء السرور، فإذا كان قبيح المنظر ووصفته بالجمال أمَّن على كلامك وابتسم. وقد سأل شاعر عن رجل خالٍ من كل عيب؛ لأنه لم يجد إنسانًا كاملاً:
مَن ذا الذي ما ساء قط ومَن له الحسنى فقط
فسمع هاتفًا يقول:
محمد الهادي الذي عليه جبريل هبط
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
موسوعة "الرسول والخلفاء الراشدون"، محمد رضا، مج5، نوبليس.
ذاك هو النبي صلى الله عليه وسلم، لا يشبهه في أخلاقه وكريم صفاته أحدٌ، مهما كرم محتده، أو علا بين العالمين كعبه. وحسبه صلى الله عليه وسلم ثناء ربه سبحانه وتعالى عليه، حين قال: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]. ذاك هو النبي صلى الله عليه وسلم، إن حدثت عن أخلاقه فإنك تحدث عن عظيم، ليس له في العظماء مثيل، وإن أسرتك شيمته وخلقه، فإنك بين يدي رؤوف رحيم، ليس له في العالمين شبيه أو نظير. وإن بحثت عنه بين الشجعان، وجدته جريء الصدر والمقدم، صادق البأس، رابط الجأش، ثابت الجنان، شديد الحملة، ابن كريهة، خوَّاض مغوار. وإن لمحت سناه بين الكرماء، فقد لاقيت رجلاً رحب الباع، خصيب الجناب، معطاء فيَّاضا، سخيًّا جواداً، ليس هناك يد أسخى من يده، ولا كفٌّ أبسط من كفه. وإن أكبرته، فإنك تكْبره حيي الطبع، رقيق الوجه، محتشم النفس. وإن عظمته، فإنك تعظمه جليل القدر، فخيم الشأن، عريض الجاه، عالي الكعب. وإن وقرته، فإنك توقره خافض الجناح، واسع الكنف، عطوف رؤوف، رقيق رفيق. وإن ألفيته معرضًا عن الدنيا وزينتها، فإنك تلفاه رضي النفس، قانعًا بالكفاف، راغبًا عن الثراء، زاهدًا في الغنى، اكتفى بقسمة القدر. وإن جذبتك قصص الصابرين المحتسبين، فحسبك مَن لا يلين جنبه لنائبة من نوائب الدهر، ولا يهتز لعادية من عوادي الزمان، ويصبر على ما نابه فلا تنال من صبره الملمات. لم يُرَ أقوى منه جَلَدًا على محنة، ولا أثبت جأشًا على نازلة. وإن جلست تحدث الأجيال عن صادق أمين، فدونك مَن كان صادقًا قبل أن يُختبر صدقه، وأمينًا قبل أن تُمتحن أمانته. وإن أردت مدحًا، فقف في إجلال وإكبار وإعظام للنبي الهادي صلى الله عليه وسلم، وقل:
مَن زار بابك لم تبرح جوارحه تَرْوِي أحاديث ما أوليت من مننِ
فالعين عن قرَّةٍ والكف عن صلةٍ والقلب عن جابر والسمع عن حسنِ
وإذا كان هناك شرذمة قليلة لم تكلف نفسها معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم حق المعرفة قبل أن تكيل له الاتهامات، وتثير حوله الشُّبَه والافتراءات، فإن هذه الحثالة البشرية ليست بِمَن يُؤبه بها، إن مثلهم كمثل مَنْ وضع الماء ملء فيه ورفع رأسه ليطفئ نور الشمس، فماذا كان حاله غير أن الماء ارتد عليه، فهؤلاء قبل أن يطلقوا سهام الطعن من الغيظ والكراهية ترتد إلى نحورهم خائبة خاسرة، ولن ينتقص هؤلاء من قدر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بمقدار ما ينتقص الأصبع من ماء البحار.
سنسجل هنا عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم ما يمليه علينا المقام، من غير فضول ولا تقصير في المراد؛ إذ الفضول في القول يبعث أحيانًا على الملل، بيد أنه هنا لا ملال فيه ولا كلال؛ لأنه غيض مِن فيض، والتقصير لا يليق بقدر من نتحدث عنه، وبين هذا وذاك تنال الكلمات الشرف الرفيع حين تنتظم انتظامًا لتطاول النجم في ذراه، فإني عجزتْ أشارت إليه في سراه.
كانت أخلاقه - عليه الصلاة والسلام - غير متكلَّفة؛ لأن المتكلف لا يدوم أمره طويلاً، بل يرجع إلى الطبع، وهذا ما أكسبها عظمة وجلالاً. قالوا: إن الخلق ملكة نفسانية، يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة، والإتيان بالأفعال الجميلة شيء، وسهولة الإتيان بها شيء آخر، فالحالة التي باعتبارها تحصل تلك السهولة هي الخلق.
فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلف شيئًا من الفضائل أصلاً، ثم إن اجتماع الفضائل في شخص واحد مع عدم التكلف أمر خارق للعادة؛ لأن الإنسان مخلوقة فيه شهوات، لا يمكن أن يردها إلى حد الاعتدال من غير إفراط أو تفريط، إلا إذا عوَّد نفسه سنين عديدة واجتهد، وقد لا يستطع.
والعاقل إذا شعر بنقيصة فيه، وأراد محاربتها ومحوها بالتعود وقوة الإرادة، كان لا بد من مرور زمن طويل، حتى تزول وتنمحي، وهو في أثناء محاربتها عرضة لأن تظهر عليه تلك النقيصة أو آثارها من حين لآخر، وبالرغم منه، وعند ذلك يلاحظها الناس فيه، فإن كان رجلاً عظيمًا أثبتوها عليه في تاريخ حياته، فيقولون مثلاً: كان بخيلاً ثم اعتاد السخاء، أو جبانًا فتشجع بمعاشرة الشجعان، والاقتداء بهم.. إلخ.
ولم نرَ إنسانًا له نقيصة واحدة فقط، مع كثرة تجاربنا ومعاشرتنا الناس، نعم قد يتوهم كل إنسان أنه كامل لا عيب فيه ولا نقص؛ لأن العين لا ترى نفسها إلا بطريق المرآة، ومرآة الإنسان أصدقاؤه وخلانه ومعاشروه، ثم إن اعتقاد المرء بكماله وتنزهه عن القبائح والرذائل يمنعه من الاطلاع على عيوبه وهفواته وسقطاته وإن كانت كثيرة، ولو أنه سمع رأي الناس فيه، وإن كانوا أقل منه منزلة، لتبين له كثير من المساوئ التي كانت خافية عليه، بسبب اعتقاده الكمال في نفسه.
نقول ذلك؛ إذ قد يعترض علينا أحد فيقول: إنك لم ترَ إنسانًا له نقيصة واحدة فقط، مع أني لا أذكر لنفسي عيوبًا تؤخذ عليَّ، وكل الناس يمدحونني ويوقِّرونني. فهذا القول إنما هو ادعاء رجل محجوب أعمى، فالأولى أن يسأل عن عيوبه؛ حتى يهتدي إليها فيصلحها، قال أبو بكر الصديق - وهو ممن لا يخفى على أحد علمه وفضله وصدقه وإخلاصه وتقواه: رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبي".
يعني أن له عيوبًا يريد الاهتداء إليها. والناس الآن قد بلغ بهم الغرور والكبر والزهو، ما جرَّأهم على القول بتنزههم عن المعايب؛ لذلك حُرِموا من إصلاح أنفسهم.
والخلوُّ من المعايب، واجتماع الفضائل في شخص فرد من المستحيلات، إلا إذا خُلِق الإنسان معتدل المزاج، معتدل الشهوات، صحيح الجسم، صحيح العقل، قوي الأعصاب، من نسل سليم، ليس له وراثة مرضية، خاليًا من مطامع المادة، ومثل هذا الشخص لم يوجد.
أما اعتقاد الإنسان الكمال في نفسه، فهذا مِن حبه ذاته، ومَن أحب ذاته أحب كمال ذاته، وأحب أن يوصف بصفات الكمال، وهذه غريزة تظهر في الأطفال، فإنك إذا مدحت طفلاً صغيرًا بما يفهم، ظهرت على ملامحه سيماء السرور، فإذا كان قبيح المنظر ووصفته بالجمال أمَّن على كلامك وابتسم. وقد سأل شاعر عن رجل خالٍ من كل عيب؛ لأنه لم يجد إنسانًا كاملاً:
مَن ذا الذي ما ساء قط ومَن له الحسنى فقط
فسمع هاتفًا يقول:
محمد الهادي الذي عليه جبريل هبط
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه يصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
خلقت مبرأ من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء
موسوعة "الرسول والخلفاء الراشدون"، محمد رضا، مج5، نوبليس.
ذاك هو النبي صلى الله عليه وسلم، لا يشبهه في أخلاقه وكريم صفاته أحدٌ، مهما كرم محتده، أو علا بين العالمين كعبه. وحسبه صلى الله عليه وسلم ثناء ربه سبحانه وتعالى عليه، حين قال: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]. ذاك هو النبي صلى الله عليه وسلم، إن حدثت عن أخلاقه فإنك تحدث عن عظيم، ليس له في العظماء مثيل، وإن أسرتك شيمته وخلقه، فإنك بين يدي رؤوف رحيم، ليس له في العالمين شبيه أو نظير. وإن بحثت عنه بين الشجعان، وجدته جريء الصدر والمقدم، صادق البأس، رابط الجأش، ثابت الجنان، شديد الحملة، ابن كريهة، خوَّاض مغوار. وإن لمحت سناه بين الكرماء، فقد لاقيت رجلاً رحب الباع، خصيب الجناب، معطاء فيَّاضا، سخيًّا جواداً، ليس هناك يد أسخى من يده، ولا كفٌّ أبسط من كفه. وإن أكبرته، فإنك تكْبره حيي الطبع، رقيق الوجه، محتشم النفس. وإن عظمته، فإنك تعظمه جليل القدر، فخيم الشأن، عريض الجاه، عالي الكعب. وإن وقرته، فإنك توقره خافض الجناح، واسع الكنف، عطوف رؤوف، رقيق رفيق. وإن ألفيته معرضًا عن الدنيا وزينتها، فإنك تلفاه رضي النفس، قانعًا بالكفاف، راغبًا عن الثراء، زاهدًا في الغنى، اكتفى بقسمة القدر. وإن جذبتك قصص الصابرين المحتسبين، فحسبك مَن لا يلين جنبه لنائبة من نوائب الدهر، ولا يهتز لعادية من عوادي الزمان، ويصبر على ما نابه فلا تنال من صبره الملمات. لم يُرَ أقوى منه جَلَدًا على محنة، ولا أثبت جأشًا على نازلة. وإن جلست تحدث الأجيال عن صادق أمين، فدونك مَن كان صادقًا قبل أن يُختبر صدقه، وأمينًا قبل أن تُمتحن أمانته. وإن أردت مدحًا، فقف في إجلال وإكبار وإعظام للنبي الهادي صلى الله عليه وسلم، وقل:
مَن زار بابك لم تبرح جوارحه تَرْوِي أحاديث ما أوليت من مننِ
فالعين عن قرَّةٍ والكف عن صلةٍ والقلب عن جابر والسمع عن حسنِ