مشاهدة النسخة كاملة : خاتم النبيين (13)


حكاية ناي ♔
12-19-2022, 12:05 PM
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار والوثيقة مع اليهود


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلم على مَن أُرسِل رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبه والتابعين، وبعد:
إخواني الأكارم، ذكرنا في الحلقة الماضية الأحداث والمواقف في طريق الهجرة من مكة إلى المدينة، وأيضًا ذكرنا صورًا من إسلام بعض الصحابة رضي الله عنهم، وأيضًا تعرَّضنا لمسجد قُباء وفضله، وذكرنا شيئًا من دلائل النبوة ومعجزاتها، وبذلك نكون انتهينا من العهد المكي، ونزدلف الآن إلى العهد المدني في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث أمضى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاثةَ عشرَ عامًا، تلوَّنَتْ تلك الأعوامُ بالأفراح والأتراح في المجال الدعوي، وبقي من عمر النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين أمضاها في المدينة، وفيها شُرعت أكثر الأحكام الشرعية، وانتشر الإسلام في الأرض، وفتح الله تعالى على نبيِّه وعباده فتوحًا عظيمة، وحصلت الغزوات والمعارك.

وكان بداية ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة وعلِمَ بذلك أهلُ المدينة كانوا يخرجون صبيحة كل يوم ينتظرون قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا اشتدَّ الحَرُّ رجعوا، فلما كان في يوم الاثنين سنة أربع عشرة من البعثة، وهي السنة الأولى من الهجرة خرجوا كعادتهم، فلما اشتدَّ الحَرُّ رجعوا، وبعد رجوعهم صعد رجلٌ من اليهود على بيته لحاجة له، فنظر فإذا شيء قادم، فاتَّضحه فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَحْبه الكِرام رضي الله عنهم، فقال: يا معشر العرب، هذا جَدُّكم الذي تنتظرونه، فثار المسلمون في حَرِّ الشمس وأخذوا السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَحْبه الكِرام بظَهْرِ الحَرَّة، ولهم تكبير رجَّ المكان فتلقَّوه وحيَّوه وصَحْبَه، وكان بعضهم لا يعرف الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما ظلَّله أبو بكر عن الشمس عرَفوا أنه هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فغامرتهم الفرحة وغشيتهم السكينة، وظهر في أسارير وجوههم السرور، واتَّضح ذلك كثيرًا وقد استقبلوه خارج المدينة، فمَشَوا معه حتى دخل المدينة عليه الصلاة والسلام، وهم عن يمينه وشماله متقلِّدو سيوفهم، وكلَّما مرَّ على قوم رحَّبُوا به وطلبوه أن ينزل عندهم، فيقول لهم عليه الصلاة والسلام: ((خَلُّوا سَبيلَها فإنَّها مأمُورةٌ)) - يعني ناقته - وكان قد مَرَّ على أربعة أقوام قبيل المدينة كلهم يقول له ذلك، فيرُدُّ عليهم: ((خَلُّوا سَبيلَها فأنَّها مأمُورةٌ))، حتى دخل المدينة عليه الصلاة والسلام، وكان ذلك مساء يوم الجمعة في جوٍّ مشحونٍ بالفرح والسرور والبهجة، وكان يومًا تاريخيًّا مشهودًا ارتجَّتْ له المدينة بالتحميد والتكبير حتى إن النساء فوق البيوت يتراءونه يقلْنَ: أيهم هو؟ أيهم هو؟

وقال البراء بن عازب: ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء مثل فرحهم هذا، ولم تزل ناقتُه عليه الصلاة والسلام تسير به حتى أتَتْ إلى دار بني مالك بن النجار، وهو موضع المسجد النبوي اليوم، فبركَتْ عنده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((هذا إنْ شاءَ اللهُ المنزل))، أمام دار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أيُّ بيوتِ أهلِنا أقْرَبُ?)) فقال أبو أيوب رضي الله عنه: أنا يا نبي الله، هذه داري، وهذا بابي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((فانطلِقْ فهيِّئ لنا مَقيلًا))، فاحتمل أبو أيوب رَحْلَ النبي صلى الله عليه وسلم، فوضَعه في بيته، فجاء رجل بعد ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أين تحلُّ يا رسول الله? فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المَرْءُ مع رَحْله))، وأخذ أسعد بن زرارة راحلة النبي صلى الله عليه وسلم إلى داره.

وقد أقام النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب سبعة أشهر، وقيل: شهرًا واحدًا، ثم انتقل إلى مساكنه قرب المسجد، فما أحسَنَ حظَّ أبي أيوب! وما أكرم الضيفَ عليه الصلاة والسلام! ولم تقتصر تلك الفرحة بقدومه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة على المسلمين فقط؛ بل شملت نفرًا من أهل الكتاب، فهذا عبدالله بن سلام رضي الله عنه وكان حين قدوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يهوديًّا، فيقول عبدالله بن سلام: جئت لأنظر إليه فعرَفتُ أن وجهه ليس بوجه كذَّاب، وكان أول ما سمِعْتُه منه قوله: ((يا أيُّها الناسُ، أفْشُوا السلامَ، وأطْعِمُوا الطعامَ، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناسُ نيام، تدخلوا الجنةَ بسلامٍ)).

وكانت أول جمعة صلَّاها صلى الله عليه وسلم بالمدينة هي التي كانت في حي بني سالم بن عوف، وعندما نزل النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب نزل في القسم السفلي وأبو أيوب وزوجته في القسم العلوي، فقال أبو أيوب لزوجته: كيف نمشي فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أثناء الليل فتنحَّوا جانبًا من البيت حتى أصبحوا، ثم ذكر أبو أيوب ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أن يكون الرسول في الأعلى وهو في الأسفل، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((السُّفْلُ أرْفَقُ بنا وبمَنْ يَغْشانا)) ثم لم يزل أبو أيوب يرجوه ويُلِحُّ عليه في ذلك حتى صعد النبي صلى الله عليه وسلم في الأعلى، وكان أبو أيوب إذا أخذ فضلة العشاء من رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمَّم هو وزوجته مكان يده عليه الصلاة والسلام، فأكل منها رجاء البركة.

وعندما كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب بعث زيد بن حارثة وأبا رافع إلى مكة وأعطاهما بعيرين وخمسمائة درهم ليأتياه بأهله، فقدما رضي الله عنهما بفاطمة وأم كلثوم ابنتيه، وأيضًا قدما بزوجته سودة بنت زمعة وغيرهن.

فقدموا المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت أسماء بنت أبي بكر حين هاجرت حاملًا بابنها عبدالله بن الزبير، فلما نزلت قُباء ولدَتْه، فأتت به النبي صلى الله عليه وسلم فحَنَّكَه؛ حيث مضغ النبي صلى الله عليه وسلم التمرة ثم أخذ منها ووضعه في فم عبدالله بن الزبير فحَنَّكَه بها، فكان من أوائل ما دخل إلى جوف عبدالله بن الزبير هو ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا له وباركه، وسمَّاه عبد الله، فكان هو أول مَن ولِدَ في الإسلام بعد الهجرة؛ رواه البخاري.

وفي شهر شوال من السنة الأولى من الهجرة تزوَّج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة وقد رآها في المنام، فقال عليه الصلاة والسلام بعد تلك الرؤيا: ((إنْ يَكُ هذا من الله يُمْضِهِ))؛ رواه البخاري ومسلم، وهي البِكْر الوحيدة من زوجاته عليه الصلاة والسلام، وقد دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم ضُحى وهي بنت تسع سنين، وكانت كنيتها أم عبدالله، والذي كنَّاها بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم وهي لم يولد لها قَطُّ، وكانت وليمتها مختصرة جدًّا تقدر بالجفنة من الطعام، أتى بها سعد بن عبادة رضي الله عنه؛ أخرجه الإمام أحمد، وحين استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة عمد إلى تأسيس لهذا المجتمع المسلم يقوم على أعمدة ثلاثة؛ الأول: بناء المسجد، والثاني: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، والثالث: المعاهدة مع اليهود في المدينة، فكان بناء المسجد هو أول الأعمال التي قام بها في المدينة؛ حيث هو الشعار الكبير للمسلمين والإسلام، فهم يجتمعون فيه مرارًا في اليوم والليلة لتأدية تلك الفريضة العظيمة الصلاة.

فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا غلامين من بني النجَّار وهما صاحبا الأرض التي عليها المسجد فساومَهما على ثمنها، فقالا: نَهِبُها لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك إلا بالثمن، فابتاعها منهما بعشرة دنانير، وكانت قبلته إلى بيت المقدس؛ لأنه في أول الأمر قبل أن تتحوَّل القبلة إلى الكعبة كانت إلى بيت المقدس، وتم بناء المسجد، وكان طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع- أي: خمسون مترًا - فهو مربع الشكل، وفي عهد عمر تمت زيادة المسجد، وقد قال عمر عند أمره ببناء المسجد وتوسعته لمن يبنيه، قال له: إياك أن تحمِّر أو تصفِّر، فتفتن الناس – أي: نهي لهذا البنَّاء عن الزخرفة - فهو نهي من عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن الزخرفة المشغلة للمصلِّين، وكذلك في عهد عثمان بن عفان زاد فيه كثيرًا فكان المسجد مركزًا للمسلمين للتآلف والتشاوُر، يسلم فيه فئام من الناس، وفيه إيواء الفقراء؛ كأهل الصُّفَّة، ويُقابَل فيه الوفود، وتُصدَر فيه الأحكام، وتنطلق منه الراياتُ، وتنعقد فيه حِلَقُ الذِّكْر والعلم.

وذكر البيهقي رحمه الله أن بناء المسجد قد استغرق اثني عشر يومًا، وبعد الفراغ من المسجد تم بناء الحجرات لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استغرق هذا البناء لهذه الحجرات أيامًا قليلة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس مستندًا إلى جذع نخلة، فلما كثُر الناس وكان ذلك بعد غزوة خيبر أشار عليه أصحابه رضي الله عنهم، فقالوا: لو اتخذت شيئًا تخطُب عليه؟ فأمر ببناء المنبر، فلما قام على المنبر حَنَّ الجذعُ وأصدر صوتًا كصياح الطفل، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم ومسَحَه فسَكَن، وفي المسجد الروضة الشريفة حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياضِ الجنةِ، ومنبري على حوضي))؛ رواه البخاري ومسلم، قال ابن حجر في الفتح في معنى ذلك: أي تلك البقعة كروضة من رياض الجنة في نزول الرحمة وحصول السعادة، أو أن يكون الحديث على ظاهره بأن تلك البقعة تنتقل في الآخرة إلى الجنة.

والصلاة في المسجد النبوي بألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ من ألْفِ صلاةٍ فيما سواه إلا المسجد الحرام))؛ متفق عليه، وهي تعادل أكثر من ستة أشهر فيما سواه، ومن أسماء المدينة طابة، ففي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ سمَّى المدينةَ طابة))؛ رواه مسلم، وسمَّاها النبي صلى الله عليه وسلم طيبة، وقد نهي عن تسميتها يَثْرِب، قال ابن حجر: لأن كلمة يَثْرِب هي من التثريب، وهو التوبيخ، أو من الثرب وهو الفساد، وكلاهما مستقبح على المدينة.

إخواني الكرام، لعلنا نستخرج بعض الدروس والعِبَر والفوائد مما سبق ذكره، نستكمل مادتنا العلمية في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فمن الدروس ما يلي:
الدرس الأول: حرص الصحابة رضي الله عنهم على استقبال النبي صلى الله عليه وسلم عند قدومه المدينة، وكان ضيفًا عليهم وأكْرِمْ به من ضيف وصحبه الكرام! والدافع لهم في ذلك هو التقرُّب إلى الله تعالى بمحبة هذا النبي الكريم واتِّباعه والإيمان به، ومن حُسْن استقبالهم له وحفاوتهم به خرجوا من المدينة لاستقباله عليه الصلاة والسلام، ومَشَوا معه داخلين إلى المدينة، وفي هذا درس في استقبال الضيوف خصوصًا إذا كانوا من أهل العلم والكِبار والوجهاء وأهل الإحسان بأن يكون الاستقبال محفوفًا بالاهتمام، فإن ذلك يُدخِل السرور، ويُوجِب المحبة، ويسلم الصدور، ويبهج النفس، وذلك بعكس المعهود السلبي عند بعض الناس حيث يستقبل ضيوفه ببرودة وغير اهتمام؛ مما يجعل الضيف قد لا يعود مرةً أخرى، وقد اشتاق الأنصار للالتقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم فحصل لهم ما اشتاقوا إليه، وحقَّ لهم ذلك؛ فهو سيِّدُ ولد آدم، وأفضل خَلْق الله تعالى، ورسول ربِّ العالمين عليه الصلاة والسلام.

الدرس الثاني: لقد فرح الصحابة رضي الله عنهم بالنبي صلى الله عليه وسلم فرحًا شديدًا؛ حيث تخلَّص من أذية قريش، وجاء إلى مَن ينصره ويرفع راية دينه، فإن كان الصحابة رضي الله عنهم فعلوا ذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم حال وجوده بين أظهرهم، فلنفرح نحن في زماننا هذا بسُنَّته عليه الصلاة والسلام تطبيقًا لها ودعوة إليها، ومنابذة لمن يُعاديها وتربية لأولادنا وأنفسنا عليها ودفاعًا عنها، وإننا إذ نفعل ذلك فهو مقدورنا وما قدَّره الله لنا، وأيضًا عندما نفعل ذلك فإننا لنرجو أن نفرح بلُقْياه عليه الصلاة والسلام في الآخرة ونُحشَر في زمرته وتحت لوائه، فاستمسكوا بسُنَّته وعضُّوا عليها بالنواجذ في أقوالكم وأفعالكم وأعمال قلوبكم، فهذا من أعظم أسباب الثبات على دين الله تعالى، وقوموا بتربية أولادكم على ذلك باستحداث البرامج التربوية داخل أُسَركم وبيوتكم، وذلك كتحفيظ أولادكم لأذكار اليوم والليلة، ودلالتهم على عمل اليوم والليلة؛ كصلاة الضُّحى والسُّنَن الرواتب، وصلاة الوتر، وغيرها من التطوعات، وقد يتسلسل ذلك إلى أحفادكم، ويكون صدقةً جاريةً لكم، فافرحوا بهذا كما فرح الصحابة رضي الله عنهم بلُقْيا النبي صلى الله عليه وسلم.

الدرس الثالث: تأمَّل من خلال السيرة كيف أن الله عز وجل يُؤتي فضلَه مَن يشاء، نسأل الله تعالى من فضله، وذلك بعمل مقارنة سريعة بين أهل مكة وهم قريش، وأهل المدينة وهم الأنصار، فالجميع خَلْق من خَلْق الله تعالى؛ ولكن الله عز وجل أسدى فضله وعطاءه للأنصار في المدينة، وحرَمه قريشًا في مكة، فإن الأنصار في المدينة نصروا النبي صلى الله عليه وسلم واتَّبعوه ووقَّرُوه وعزَّروه وأطاعوه، بينما قريش في مكة آذَوْه وحاربوه وطردوه وكفَروا به، فما حجم الفرق بين الفريقين؛ فريق في الجنة، وفريق في السعير، فعندما تتأمَّل تلك المقارنة فإنك تسأل الله تعالى التوفيق والثبات على الحقِّ في الدارين.

الدرس الرابع: في موقف أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم في منزله، حيث أشار أبو أيوب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون النبي في الأعلى وأبو أيوب في الأسفل وليس العكس، وذلك كله تقديرًا واحترامًا ومهابة للنبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان أبو أيوب فعل ذلك مع النبي عليه الصلاة والسلام، فلنعمل نحن ذلك مع سُنَّته صلى الله عليه وسلم محبةً له وتوقيرًا ومهابةً، وذلك في تطبيقها والدعوة إليها والتربية عليها وعدم مخالفتها وتمام الإيمان بها.

الدرس الخامس: في زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة وهي ابنة تسع سنين دليلٌ كبيرٌ على جواز تزويج الصغيرات إذا كُنَّ يعقلْنَ الأمر ويفهمْنَه، ودرس لجميع الأولياء الكِرام الذين تبقى بناتُهم ومولياتهم حبيسات البيوت سنين طويلة؛ نظرًا لشروط يتطلبونها هم أو بناتهم، فيا معاشر الأولياء كما تبحثون لأبنائكم عن زوجات، فابحثوا لبناتكم عن أزواج أكْفاء، ولا تزيدوا في شروط لا داعي لها، فليس من صالح الجميع أن تتأخر الفتاة أو يتأخر الشابُّ في الزواج، فالتأخُّر له سلبياته التي تتزايد كلما زاد ذلك التأخر، فالكمال عزيز، فلا بُدَّ من التنازل غير المخل والتفاؤل مطلب الجميع، وهناك زواجات عديدة لم يكمل انعقادها وتمامها؛ بل انتهت أثناء الخطبة، وكان السبب في ذلك شروطًا لا داعي لها ولا تستحق أن يُطلق عليها ثانويات، ناهيك أن تكون ضروريات، فيا معاشر الأزواج والزوجات والآباء والأمهات خفِّفُوا من شروطكم واسْعَوا إلى استثمار الخطاب ما أمكن، وعيشوا حالة التفاؤل ولا بُدَّ من مراعاة كل طرف للآخر، بارك الله لكم وفيكم، وجعلكم مباركين أينما كنتم.

الدرس السادس: إن من أعظم النساء بركةً أيسرهُنَّ مؤونة، وقد كانت وليمة عائشة رضي الله عنها تقدر بالجفنة من الطعام، أتى بها سعد بن عبادة، وأيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالرحمن بن عوف: ((أوْلِمْ ولو بشاةٍ)) وعندما نُلقي نظرةً على الواقع نجده أحيانًا أليمًا وموجعًا أن تكون الولائم أضعافًا مضاعفة للحاضرين، وربما أن المتبقي منها قد لا يُستفاد منه كما ينبغي، وهذا من طِباع بعض الناس هداهم الله، أما أناس آخرون فقد قدروا تلك النِّعَم فلم يزيدوا إلا القليل، واستفادوا من ذلك المتبقي للفقراء والمحتاجين عن طريق الجمعيات الخيرية وغيرها، فحَريٌّ بنا جميعًا الابتعاد عن الإسراف ما أمكن سواء في الوليمة أو في مقدماتها من المأكولات الشعبية والمحلية.

الدرس السابع: أهمية المسجد في حياة المسلم، فهو يتردَّد عليه مرارًا في اليوم والليلة، فعلينا التعرف على فضائله، فالمكث فيه عبادة، فتدعو الملائكة لك وتُصلِّي عليك، وهو في صلاة ما انتظر الصلاة، وأيضًا صلاة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم هي خيرٌ من ألف صلاة، فهي تعادل في غيره ستة أشهر عدا المسجد الحرام، والمسجد مصدرٌ للعلم والتعلُّم والتواصل والتكافل، فلا يكن المسجد فقط لأداء صلواتكم؛ بل امكثوا فيه في مبادرتكم للصلوات، وكذلك امكثوا بعدها وتعلَّمُوا فيه، وعلى أئمة المساجد ومؤذنيها - حفظهم الله وسلَّمَهم - أن يستشعروا تلك المسئولية من حيث تحقيق المقاصد الشرعية مما كُلِّفوا به والحرص على التوافق ونبذ الخلاف وتحقيق الائتلاف، وعليهم - وفقهم الله - إحياء مساجدهم بالكلمات الوعظية عن طريق الجمعيات الدعوية، وأيضًا من خلال حديث العصر والعشاء، فلهذه المصالح ونحوها بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالمسجد حال وصوله المدينة.

الدرس الثامن: لما وسَّع عمر بن الخطاب رضي الله عنه المسجد نهى ذلك البَنَّاء أن يزخرف المسجد حتى لا يكون مُشغِلًا للمُصلِّين، وفي هذا درس عظيم لأصحاب الخير والإحسان الذين يقومون ببناء المساجد في عدم الإسراف وإزجاء الأموال في زخرفتها وتحسينها أكثر مما يلزم، ففي هذا مفسدتان: المفسدة الأولى إشغال المصلي بتلك الزخافة الزائدة، والمفسدة الثانية ضياع المال على شيء ليس له مردود، وكلا الأمرين خسارة، فعلى المحسنين ونحوهم أن تكون أموالهم مصروفةً في مكانها الصحيح، فالمساجد تختلف عن البيوت والقصور والمتاحف، فهي ليست مكانًا للزخرفة والنقوش الزائدة؛ ولذلك قال عمر لمن يبني: لا تحمِّر ولا تصفِّر، فتفتن الناس، وهذا أمر واقع، فكثرةُ الزخرفة هي فتنة ومشغلة للمُصلِّين.

الدرس التاسع: إثبات معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وهي حنين ذلك الجِذْع وهو جماد، فكيف صدر منه هذا الصوت؟! فهو أمر خارق للعادة، فسبحان الله ما أعظمَه! لذلك كان معجزة لهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، وذلك كسلام الحَجَر والشَّجَر عليه في مكة، فمعرفة معجزاته عليه الصلاة والسلام تزيد من الإيمان به، وهي سببٌ من أسباب الثبات على الدين.

إن من يتأمَّل تلك المعجزات يقوى إيمانُه بقدرة الله تبارك وتعالى وبرسوله عليه الصلاة والسلام، وكم هو جميل أن يكون للأسرة الكريمة مجلسٌ ولو أسبوعيًّا في قراءة تلك المعجزات والتعليق عليها، فهو خيرٌ عظيمٌ لهذه الأسرة.

أخي الكريم، إن تأمُّلَك وقراءاتك في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تعطيك بإذن الله تعالى دروسًا علمية وعملية، فحافظ على ذلك مقتديًا به متأسيًا به، ومما يُقترح عليك في ذلك قراءة كتاب الرحيق المختوم للمباركفوري، فهو كتابٌ قيِّمٌ ومفيدٌ، وقد حصل على الدرجة الأولى في المسابقة العالمية، فأسلوبُه سهلٌ ومادَّتُه متميزة.

أسأل الله تبارك وتعالى التوفيق للجميع، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

سنينى معاك
12-19-2022, 12:09 PM
جزاك الله خير
وأحسن إليك فيما قدمت
دمت برضى الله وإحسانه وفضله

حكاية ناي ♔
12-21-2022, 09:12 AM
اسعدني حضوركم