حكاية ناي ♔
12-19-2022, 12:05 PM
بداية السرايا والبعوث وبعض الأحكام الشرعية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم وبارك على خير رُسُلِه وأنبيائه وعلى آله وصَحْبه أجمعين.
وقد ذكرنا في الحلقة الماضية إخواني الأكارم ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عند وصوله إلى المدينة مهاجرًا، فأوَّل ما بدأ به بناء المسجد، ثم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ثم حدَّد موقفه عليه الصلاة والسلام من اليهود، وكتب الوثيقة بينه وبينهم، وتعرَّضْنا أيضًا لشعيرة الأذان وكيف شُرعت، وتعرَّضْنا أيضًا لبعض الأحكام الشرعية في أول الهجرة، ونستكمل حديثنا في تلك الحلقة في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ومعاركه وسراياه، فحين استقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم وبنى مسجده وآخى بين أصحابه، وعاهد اليهود، بدأ بعد ذلك بخطوات عملية أخرى يكسب من خلالها نشر ذلك الدين والدعوة إليه، وفي الوقت نفسه أيضًا تنزل التشريعات الربانية على نبيِّه عليه الصلاة والسلام في بيان عبادتهم وفي تزكيتهم، ومن ذلك الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم بَعْثُ السرايا والغزوات، وجهاده الأعداء، وترتيبه جيشه، فإن قريشًا لا تزال تمثل عدوًّا للمسلمين، ولا يزال يحيط بالمدينة عددٌ من القبائل تدين بالولاء لقريش.
وهؤلاء يمثلون خطرًا على المدينة، وحتى يأمن النبي صلى الله عليه وسلم شرَّهم شكَّل مجموعة من السرايا والغزوات؛ وذلك لتهديد قريش في طريقها إلى الشام من جهة المدينة، وضرب اقتصادها، وأيضًا إبراز قوة المسلمين وتهيئتهم، وقد ذكر ابن سعد رحمه الله أن عدد الغزوات اثنتان وسبعون غزوة، وكانت الغزوات التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم تسع غزوات؛ وهي: بَدْر، وأُحُد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحُنين، والطائف، وقد نزل القرآن متحدثًا عن هذه الغزوات الكبار، ففي غزوة بَدْر نزل كثير من سورة الأنفال، وفي غزوة أحد نزل قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ﴾ [آل عمران: 121] الآيات، وفي الخندق وقريظة نزل صدر سورة الأحزاب، وفي شأن الحديبية وخيبر نزلت سورة الفتح، وأشير أيضًا إلى فتح مكة في سورة النصر، وفي غزوة حُنين وتبوك نزلت آيات من سورة التوبة، وفي بني النضير شيء من سورة الحشر، وهكذا ينزل القرآن في شأن حروب المسلمين موضحًا الأحكام، مُثبِّتًا لهم، مُعزِّزًا لمواقفهم، مُبيِّنًا أحوالهم.
وقد قاتلت الملائكة في غزوة بدر، قيل: كذلك في أُحُد وحُنين، وكذلك نزلت في غزوة الخندق، فزلزلوا المشركين، وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة ينذر بالدعوة بغير قتالٍ، صابرًا هو وأصحابه رضي الله عنهم على كيد المشركين وأذاهم؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94]، ويقول الله عز وجل: ﴿ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ [البقرة: 109].
فلما قويت شوكة المسلمين، واشتدَّ ساعِدُهم أنزل الله عز وجل الإذن بالقتال؛ حيث قال الله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39] الآيات، قال ابن عباس رضي الله عنه: هي أول ما نزل في الإذن بالقتال، وأول ما بدأ القتال بدأ ببعث البعوث والسرايا، والسرايا جمع سَريَّة؛ والمراد بالسرية: هي طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة من المقاتلين، في السنة الأولى أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سَريَّةً بقيادة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في ثلاثين راكبًا من المهاجرين، فخرج بهم حمزة، وكان هدفهم اعتراض عِيرٍ لقريش قادمة من الشام تريد مكة، ثم تتابعت السرايا بعد ذلك واحدة تِلْوَ الأخرى لقتال المشركين، ثم في السنة الثانية من الهجرة بدأت الغزوات، وهي أكبر وأكثر عددًا من السرايا والبعوث، وهذا يدل على قوة المسلمين، وأول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم هي غزوة الأبواء، وتسمى وَدَّان، ومكانها بين مكة والمدينة، والأبواء ووَدَّان هما مكانان متقاربان، ففي البخاري: قال ابن إسحاق رحمه الله: أول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم الأبْواء، ثم بُواط، ثم العُشَيْرة، وكانت في شهر صفر من السنة الثانية من الهجرة، وعددهم سبعون، ثم في ربيع الأول غزا النبي صلى الله عليه وسلم بُواط، وكان عددُهم مائتي رجل، ثم غزوة العُشَيْرة في جمادى الآخرة، وكان عددهم مائة وخمسين رجلًا في ثلاثين بعيرًا، ولم يقم النبي صلى الله عليه وسلم بعدها في المدينة إلا ليالي معدودة، حتى نزل عدد من التشريعات والأحكام تبيينًا لهذه الأُمَّة لأمر دينها، وتشريعًا لأحكامه.
ففي هذه السنة الثانية حصل عدد من الأحكام الشرعية، وعدد من الغزوات والسرايا والبعوث، فمن الأحكام ما يلي: أولًا: تحويل القبلة، ففي النصف من شهر رجب من السنة الثانية من الهجرة أمر الله عز وجل بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في المسجد الحرام في مكة، فقد أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال: صلَّينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستةَ عشرَ شهرًا، أو سبعةَ عشرَ شهرًا، ثم صُرِفنا إلى الكعبة؛ رواه البخاري ومسلم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يُصرَف إلى الكعبة، فقد كان وهو بمكة يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، ثم بعدها صُرِف إلى الكعبة في السنة الثانية، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يرفع طرفه إلى السماء، ويدعو ربَّه بذلك، فأنزل الله تعالى عليه قوله: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144]، وأول صلاة صلَّاها إلى الكعبة هي صلاة العصر، كما عند البخاري، وقد تأخَّر الخبر عن أهل قُباء، فلم يصِلْ إليهم تحويل القبلة إلا في وقت الفجر، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: بينا الناس بقُباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنزِل عليه الليلة قرآن، وقد أُمِر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة؛ رواه البخاري ومسلم.
وحصل مثل هذا لقوم من الأنصار قرب المدينة في صلاة العصر، فانحرفوا نحو الكعبة كما عند البخاري، وفي حديث تحويل القبلة حجة قوية في قبول خبر الآحاد، والعمل به؛ حيث إن البعض من الناس يعمل بالمتواتر دون الآحاد، وهذا خطأ كبير وجسيم، فخبر الآحاد إذا ثبت فهو حجة على الخلق أجمعين، وفي تحويل القبلة تخبَّط أهل النفاق واليهود يُشكِّكون، فقالوا: ما لهؤلاء، تارة يستقبلون الشام، وتارة يستقبلون الكعبة؟! فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ [البقرة: 142] الآية، وأما المسلمون فقالوا: سمِعْنا وأطَعْنا؛ ولكن كيف حال صلاتنا إلى بيت المقدس، وكيف بمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ [البقرة: 143]؛ أي: صلاتكم إلى بيت المقدس.
الحكم الشرعي الثاني الذي شرع في مقدم النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة هو صيام يوم عاشوراء، فلما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة وجد اليهود يصومون ذلك اليوم، فسألهم، فقالوا: هذا يوم نجَّى اللهُ فيه موسى وقومَه من فرعون وقومِه، فنحن نصومه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نحنُ أحَقُّ بموسى منكم))، فأمر بصيامه، وجاء في فضله أنه عليه الصلاة والسلام سُئل عن صيامه، فقال: ((يُكَفِّر السنةَ الماضيةَ))؛ رواه مسلم.
الحكم الثالث الذي شرع في السنة الثانية هو صيام شهر رمضان، وقد فرض بعد تحويل القبلة بشهر، فهو فُرض في شهر شعبان من السنة الثانية من الهجرة، وكان صيامه على ثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى: التخيير بين أن يصومه المسلم، أو يُطعم عن كل يوم مسكينًا، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى بإطعام مسكين لكل يوم، المرحلة الثانية: وجوب صيامه، ولا يتناول ذلك الصائم المفطرات إلا فقط ما بين المغرب والعشاء، فإذا دخل وقت العشاء أو نام قبله حُرِّمَت عليه جميع المفطرات إلى الليلة القابلة فوجدوا مشقة كبيرة في ذلك، فجاءت المرحلة الثالثة تخفيفًا على العباد؛ وهي الصيام ما بين الفجر إلى الليل، وهو الذي استقر عليه الحال.
الحكم الرابع الذي فرض في السنة الثانية من الهجرة: زكاة الفطر في شهر شعبان، وكان ذلك قبل أن تُفرَض زكاة المال؛ وهي صاع من قوت البلد على الذكر والأنثى، والحُرِّ والعَبْد، والصغير والكبير من المسلمين.
الحكم الخامس الذي فرض في هذه السنة: هو زكاة الأموال ذات النصاب، فقد فرضت في هذه السنة؛ الثانية من الهجرة التي هي ركن من أركان الإسلام.
إخواني الكرام، هذه أحكام شُرعت في تلك السنة الثانية من الهجرة؛ وهي تحويل القبلة، وصيام رمضان، وصيام عاشوراء، وزكاة الفطر، وزكاة المال، ولعلنا نطرح بعض الدروس والعبر مما سبق، ونستكمل المادة العلمية للسيرة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى:
الدرس الأول: أن المربي حين يأمر من يربيهم بشيء من أمور التربية؛ فإنه يكون قدوةً لهم في ممازجة ذلك العمل الذي أمرهم به؛ وذلك ليقتدوا به في ذلك، حتى يحفِّزهم على العمل، ومأخذ هذا من السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه بقتال عدوِّهم لم يتأخَّر عنهم؛ بل كان قائدًا لهم في ذلك، مُطبِّقًا ما يأمرهم به، وهكذا نحتاج في تربيتنا لغيرنا عندما نُوجِّههم إلى سلوكيات إيجابية، فلنكن نحن أول من يطبق ذلك السلوك؛ ليروا ذلك حتى يطبقوه بأنفسهم، أما إذا صدر الأمر وتخلَّف التطبيق؛ فإن عزيمتهم ستضعُف عند التنفيذ.
الدرس الثاني: نزل القرآن مُتحدِّثًا عن الغزوات؛ كبَدْر، وأُحُد، والخندق، وغيرها؛ تثبيتًا للمؤمنين على دينهم، وتقويةً لقلوبهم، فنحن بحاجة ماسة للتأمل والتدبر لتلك الآيات؛ ليقوى تمسُّكُنا بديننا، ويعظم ثباتُنا عليه في خضمِّ تلك الفتن في الليل والنهار، فمن قرأ وتدبَّر وتأمَّل فإنه حريٌّ بأن يستلهم الدروس والعبر، معظمًا لله تعالى، متبعًا لشرعه، ثابتًا على دينه لا تزعزعه الفتن.
الدرس الثالث: نزول الملائكة في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وسلم تقاتل مع المؤمنين يعطينا درسًا عظيمًا أن الله تعالى مع عباده المؤمنين، ينصرهم ويثبتهم، وييسِّر أمورهم، ويشرح صدورهم، وإن من أكثر ما يكون ذلك مع كثرة ذكر الله تعالى حيث ورد في الحديث القدسي: ((وأنا مَعَه إذا ذَكَرني))، وفي قوله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152]، فإذا ذكرت الله تعالى ذكرَكَ الله، وكان مَعَك، فكُنْ مُكْثِرًا من ذكر الله تعالى في ذَهابك وإيابك، ولحظات انتظارك، فهو عبادة عظيمة في أجرها، ويسيرة في تطبيقها، فما عليك إلا تحريك لسانك في تسبيح، أو تهليل، أو استغفار، أو قرآن، أو غيره من الأذكار، فلا تغفل عن هذا ليذكرك الله تعالى ويكن معك.
الدرس الرابع: في أول الإسلام لم يُؤمَر النبي صلى الله عليه وسلم بالقتال؛ وذلك لقلة المسلمين وضعفهم، وقوة عدوِّهم؛ ولكن بعد أن قويت شوكتُهم، وكثُر عددُهم، وانتشر دينهم جاء الإذن بالقتال، وفي ذلك درس عظيم في عدم الإقدام على الأشياء التي لا يستطيعها الإنسان، ففي حياتنا اليومية نجد الإغراق أحيانًا في أشياء لا نستطيعها، وهي مكلفة لنا، وفوق طاقتنا، ومع ذلك نفعلها، فلو تم تأجيلها حتى يتسنَّى الحال المناسب لها لكان أليق وأحسن، وذلك له أمثلة كثيرة؛ كالصرف على الأولاد، فالبعض ينفق فوق طاقته تماشيًا مع حال فلان وفلان من الأغنياء والأثرياء، فلو أنفق بقدر الطاقة حتى يفتح الله تعالى عليه من رزقه وفضله لكان خيرًا له، ومثال آخر في تأثيث المنازل يسرف في هذا فوق ما يستطيع، ومثل هذا ينتظر حتى يوسِّع الله عليه من رزقه وفضله، ومثال ثالث في شراء السيارات الفارهة، ومثال رابع في بناء البيوت الشاهقة، وخامس في السفريات المكلفة، ومثال سادس في المناسبات المسرفة، وهكذا حال بعض الناس، فيقال لهؤلاء جميعًا: أدركوا أحجامَكم وقدراتكم، وكونوا معها على حدٍّ سواء.
الدرس الخامس: يتضح لنا من خلال السيرة حكم شرعي في الصلاة؛ وهو لو أن الإنسان جهل القبلة، فبحث، فلم يجد ما يدُلُّه عليها، فتحرَّاها واجتهد في ذلك وصلى، ثم جاءه أحد، وأشار عليه بأن القبلة عن يمينك، فليستدر إلى يمينه، وهو يصلي، وليبن على صلاته، وما مضى من صلاته فهو صحيح؛ حيث استدار أهل قُباء في صلاتهم، وبنوا على ما سبق منها.
الدرس السادس: في انحراف أهل قُباء للقبلة، وهم في صلاتهم عندما أتاهم آتٍ، وأخبرهم بأن القبلة حُوِّلت إلى الكعبة، في ذلك حسن الاستجابة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وهذا هو واجب المسلم الحق إذا علم شيئًا عن الله تعالى ورسوله، فإنه يُسارع في الاستجابة لذلك، ولا يتوانى، ولا يتأخَّر، والله عز وجل يقول: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24].
فيا أخي الكريم، كلنا نقرأ القرآن، وشيئًا من السُّنَّة، ونسمع كلام أهل العلم والوعظ والإرشاد، فبعضنا - مشكورًا مأجورًا - يُفلِح في الاستجابة، ويُسارع فيها، ويدعو إليها، وهذا من فضل الله تعالى عليه، والبعض الآخر يقرأ وربما تجاهل حاله التي هو عليها، فهو يسمع عن تحريم الإسبال ويستمر عليه، ويسمع عن تحريم الغناء ويستمر عليه، ويقرأ في تحريم الغِيبة والكذب ويستمر عليهما، ويقرأ ويسمع في تحريم القطيعة والعقوق وهو على ذلك، وهكذا بقية الأحكام، فإلى متى عدم الاستجابة وضعفها؟! فاستثمر وقتك ما دمت في زمن الإمكان، وقبل زوال الأوان، ولو عُرِض على أصحاب القبور الذين لم يستجيبوا أن يرجعوا ليستجيبوا، لافتدوا ذلك بالدنيا كلها؛ ولكنهم إليها لا يرجعون، فما دمت يا أخي الكريم في زمان يمكنك فيه الاستجابة، فسارع إليها قبل أن تحطَّ رِحالَك في زمان ومكان لا يمكنك الاستجابة والرجوع.
الدرس السابع: لا تقوم الحجة على المكلف حتى يبلغه الحكم الشرعي، فتحويل القبلة بدأ بصلاة العصر في المدينة، وأهل قُباء لم يبلغهم ذلك إلا في صلاة الصبح من الغد، فصلَّوا العصر والمغرب والعشاء إلى القبلة الأولى إلى بيت المقدس، فلم يؤمروا بالإعادة، فدلَّ ذلك على أن الحجة لا تقوم حتى يبلغ المكلف الخبر.
الدرس الثامن: في فرضية الصيام، وتخفيفه في نهاية الأمر مظهر عظيم من مظاهر رحمة الله تعالى بعباده؛ حيث شرع ذلك الركن، فلما شقَّ عليهم في أول الأمر خفَّف عنهم برحمته، وواسع فضله عز وجل، وهكذا في كثير من الأحكام؛ لأن الله عز وجل رؤوف بعباده، غفور لذنوبهم، رحيم بهم، ومتى سأل المسلم ربَّه الرحمة أعطاه إياها، فكل النعم رحمة من الله تعالى بعباده، ومن مظاهر رحمة الله تعالى بعباده في الأحكام الفطر في السفر والمرض، وأيضًا كذلك من مظاهر الرحمة قصر الصلاة في السفر، وكذلك المسافر والمريض يكتب لهما ما كان يعملان صحيحين مقيمين، ومن مظاهر الرحمة مضاعفة العمل إلى عشرة أضعافه وهكذا يتتابع عدد من المظاهر في رحمة الله تعالى بعباده، فلله الحمد رب العالمين على رحمته وسعة فضله بعباده.
الدرس التاسع: في دراسة السيرة النبوية تظهر مظاهر القدرة الإلهية في نصرة الله تعالى لعباده وأنبيائه وأوليائه وتسديدهم وتيسير أمورهم، فمن آمن وأسلم، فإن الله عز وجل معه بنصره وتأييده، ومن كفَر وعاند، فإن الله عز وجل يخذله ويمكر به، أخي الكريم كم هو جميل أن يكون لك مع أسرتك الكريمة قراءة وجلسة، ولو مرة في الأسبوع في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ للتعرف على هذا الخُلُق الكريم، والمعاملة الحسنة، والتعبُّد والنُّسُك لنبينا عليه الصلاة والسلام، وصحابته رضي الله عنهم مع ما يحصل مع هذا من تصحيح المفاهيم والتصورات، وما يصحب ذلك من نزول السكينة، وغشيان الرحمة، فاحرص أخي الكريم على ذلك، فما أحوجنا إلى مثل هذا! تربيةً لنفوسنا أولًا، ولمن تحت أيدينا ثانيًا، وأيضًا هو علم نتقرَّب به إلى الله تعالى، وكم هو جميل أن يكون ذلك المقروء مسابقة بين الأولاد لتحفيزهم وتشجيعهم! ومما يقترح في ذلك كتاب الرحيق المختوم لصفي الرحمن المباركفوري، وقد كان هذا الكتاب قد حاز المركزَ الأول في المسابقة العالمية في السيرة، أو أن تكون القراءة في كتاب مختصر ككتاب " نور اليقين في سيرة سيد المرسلين "، وسيستفيد الجميع زيادة على ما ذكر الثبات على دين الله تعالى والاستمساك به، فإن الإنسان إذا قرأ في الكتاب والسنة، ثم في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يتعرف على كثير من أسباب الثبات على دين الله؛ لأن هؤلاء الصحابة الكِرام كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبتوا بتوفيق الله تعالى لهم، فما أحوجنا إلى أن نكون كذلك في زماننا هذا!
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من عباده المفلحين، الذين لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، اللهم أوصلنا إلى دار السلام بسلامٍ، وبارك لنا في أعمالنا وأعمارنا، واغفر لنا، وارحمنا ووالدينا والمسلمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم وبارك على خير رُسُلِه وأنبيائه وعلى آله وصَحْبه أجمعين.
وقد ذكرنا في الحلقة الماضية إخواني الأكارم ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم عند وصوله إلى المدينة مهاجرًا، فأوَّل ما بدأ به بناء المسجد، ثم المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ثم حدَّد موقفه عليه الصلاة والسلام من اليهود، وكتب الوثيقة بينه وبينهم، وتعرَّضْنا أيضًا لشعيرة الأذان وكيف شُرعت، وتعرَّضْنا أيضًا لبعض الأحكام الشرعية في أول الهجرة، ونستكمل حديثنا في تلك الحلقة في غزوات النبي صلى الله عليه وسلم ومعاركه وسراياه، فحين استقرَّ النبي صلى الله عليه وسلم وبنى مسجده وآخى بين أصحابه، وعاهد اليهود، بدأ بعد ذلك بخطوات عملية أخرى يكسب من خلالها نشر ذلك الدين والدعوة إليه، وفي الوقت نفسه أيضًا تنزل التشريعات الربانية على نبيِّه عليه الصلاة والسلام في بيان عبادتهم وفي تزكيتهم، ومن ذلك الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم بَعْثُ السرايا والغزوات، وجهاده الأعداء، وترتيبه جيشه، فإن قريشًا لا تزال تمثل عدوًّا للمسلمين، ولا يزال يحيط بالمدينة عددٌ من القبائل تدين بالولاء لقريش.
وهؤلاء يمثلون خطرًا على المدينة، وحتى يأمن النبي صلى الله عليه وسلم شرَّهم شكَّل مجموعة من السرايا والغزوات؛ وذلك لتهديد قريش في طريقها إلى الشام من جهة المدينة، وضرب اقتصادها، وأيضًا إبراز قوة المسلمين وتهيئتهم، وقد ذكر ابن سعد رحمه الله أن عدد الغزوات اثنتان وسبعون غزوة، وكانت الغزوات التي قاتل فيها النبي صلى الله عليه وسلم تسع غزوات؛ وهي: بَدْر، وأُحُد، والمريسيع، والخندق، وقريظة، وخيبر، وفتح مكة، وحُنين، والطائف، وقد نزل القرآن متحدثًا عن هذه الغزوات الكبار، ففي غزوة بَدْر نزل كثير من سورة الأنفال، وفي غزوة أحد نزل قوله تعالى في سورة آل عمران: ﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ ﴾ [آل عمران: 121] الآيات، وفي الخندق وقريظة نزل صدر سورة الأحزاب، وفي شأن الحديبية وخيبر نزلت سورة الفتح، وأشير أيضًا إلى فتح مكة في سورة النصر، وفي غزوة حُنين وتبوك نزلت آيات من سورة التوبة، وفي بني النضير شيء من سورة الحشر، وهكذا ينزل القرآن في شأن حروب المسلمين موضحًا الأحكام، مُثبِّتًا لهم، مُعزِّزًا لمواقفهم، مُبيِّنًا أحوالهم.
وقد قاتلت الملائكة في غزوة بدر، قيل: كذلك في أُحُد وحُنين، وكذلك نزلت في غزوة الخندق، فزلزلوا المشركين، وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة ينذر بالدعوة بغير قتالٍ، صابرًا هو وأصحابه رضي الله عنهم على كيد المشركين وأذاهم؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94]، ويقول الله عز وجل: ﴿ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ [البقرة: 109].
فلما قويت شوكة المسلمين، واشتدَّ ساعِدُهم أنزل الله عز وجل الإذن بالقتال؛ حيث قال الله تعالى: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [الحج: 39] الآيات، قال ابن عباس رضي الله عنه: هي أول ما نزل في الإذن بالقتال، وأول ما بدأ القتال بدأ ببعث البعوث والسرايا، والسرايا جمع سَريَّة؛ والمراد بالسرية: هي طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة من المقاتلين، في السنة الأولى أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سَريَّةً بقيادة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه في ثلاثين راكبًا من المهاجرين، فخرج بهم حمزة، وكان هدفهم اعتراض عِيرٍ لقريش قادمة من الشام تريد مكة، ثم تتابعت السرايا بعد ذلك واحدة تِلْوَ الأخرى لقتال المشركين، ثم في السنة الثانية من الهجرة بدأت الغزوات، وهي أكبر وأكثر عددًا من السرايا والبعوث، وهذا يدل على قوة المسلمين، وأول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم هي غزوة الأبواء، وتسمى وَدَّان، ومكانها بين مكة والمدينة، والأبواء ووَدَّان هما مكانان متقاربان، ففي البخاري: قال ابن إسحاق رحمه الله: أول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم الأبْواء، ثم بُواط، ثم العُشَيْرة، وكانت في شهر صفر من السنة الثانية من الهجرة، وعددهم سبعون، ثم في ربيع الأول غزا النبي صلى الله عليه وسلم بُواط، وكان عددُهم مائتي رجل، ثم غزوة العُشَيْرة في جمادى الآخرة، وكان عددهم مائة وخمسين رجلًا في ثلاثين بعيرًا، ولم يقم النبي صلى الله عليه وسلم بعدها في المدينة إلا ليالي معدودة، حتى نزل عدد من التشريعات والأحكام تبيينًا لهذه الأُمَّة لأمر دينها، وتشريعًا لأحكامه.
ففي هذه السنة الثانية حصل عدد من الأحكام الشرعية، وعدد من الغزوات والسرايا والبعوث، فمن الأحكام ما يلي: أولًا: تحويل القبلة، ففي النصف من شهر رجب من السنة الثانية من الهجرة أمر الله عز وجل بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة في المسجد الحرام في مكة، فقد أخرج البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال: صلَّينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستةَ عشرَ شهرًا، أو سبعةَ عشرَ شهرًا، ثم صُرِفنا إلى الكعبة؛ رواه البخاري ومسلم.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يُصرَف إلى الكعبة، فقد كان وهو بمكة يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس، ثم بعدها صُرِف إلى الكعبة في السنة الثانية، وكان النبي عليه الصلاة والسلام يرفع طرفه إلى السماء، ويدعو ربَّه بذلك، فأنزل الله تعالى عليه قوله: ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ﴾ [البقرة: 144]، وأول صلاة صلَّاها إلى الكعبة هي صلاة العصر، كما عند البخاري، وقد تأخَّر الخبر عن أهل قُباء، فلم يصِلْ إليهم تحويل القبلة إلا في وقت الفجر، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: بينا الناس بقُباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنزِل عليه الليلة قرآن، وقد أُمِر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة؛ رواه البخاري ومسلم.
وحصل مثل هذا لقوم من الأنصار قرب المدينة في صلاة العصر، فانحرفوا نحو الكعبة كما عند البخاري، وفي حديث تحويل القبلة حجة قوية في قبول خبر الآحاد، والعمل به؛ حيث إن البعض من الناس يعمل بالمتواتر دون الآحاد، وهذا خطأ كبير وجسيم، فخبر الآحاد إذا ثبت فهو حجة على الخلق أجمعين، وفي تحويل القبلة تخبَّط أهل النفاق واليهود يُشكِّكون، فقالوا: ما لهؤلاء، تارة يستقبلون الشام، وتارة يستقبلون الكعبة؟! فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ﴾ [البقرة: 142] الآية، وأما المسلمون فقالوا: سمِعْنا وأطَعْنا؛ ولكن كيف حال صلاتنا إلى بيت المقدس، وكيف بمن مات وهو يصلي إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ﴾ [البقرة: 143]؛ أي: صلاتكم إلى بيت المقدس.
الحكم الشرعي الثاني الذي شرع في مقدم النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة هو صيام يوم عاشوراء، فلما قدم النبي عليه الصلاة والسلام المدينة وجد اليهود يصومون ذلك اليوم، فسألهم، فقالوا: هذا يوم نجَّى اللهُ فيه موسى وقومَه من فرعون وقومِه، فنحن نصومه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((نحنُ أحَقُّ بموسى منكم))، فأمر بصيامه، وجاء في فضله أنه عليه الصلاة والسلام سُئل عن صيامه، فقال: ((يُكَفِّر السنةَ الماضيةَ))؛ رواه مسلم.
الحكم الثالث الذي شرع في السنة الثانية هو صيام شهر رمضان، وقد فرض بعد تحويل القبلة بشهر، فهو فُرض في شهر شعبان من السنة الثانية من الهجرة، وكان صيامه على ثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى: التخيير بين أن يصومه المسلم، أو يُطعم عن كل يوم مسكينًا، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]، فمن شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى بإطعام مسكين لكل يوم، المرحلة الثانية: وجوب صيامه، ولا يتناول ذلك الصائم المفطرات إلا فقط ما بين المغرب والعشاء، فإذا دخل وقت العشاء أو نام قبله حُرِّمَت عليه جميع المفطرات إلى الليلة القابلة فوجدوا مشقة كبيرة في ذلك، فجاءت المرحلة الثالثة تخفيفًا على العباد؛ وهي الصيام ما بين الفجر إلى الليل، وهو الذي استقر عليه الحال.
الحكم الرابع الذي فرض في السنة الثانية من الهجرة: زكاة الفطر في شهر شعبان، وكان ذلك قبل أن تُفرَض زكاة المال؛ وهي صاع من قوت البلد على الذكر والأنثى، والحُرِّ والعَبْد، والصغير والكبير من المسلمين.
الحكم الخامس الذي فرض في هذه السنة: هو زكاة الأموال ذات النصاب، فقد فرضت في هذه السنة؛ الثانية من الهجرة التي هي ركن من أركان الإسلام.
إخواني الكرام، هذه أحكام شُرعت في تلك السنة الثانية من الهجرة؛ وهي تحويل القبلة، وصيام رمضان، وصيام عاشوراء، وزكاة الفطر، وزكاة المال، ولعلنا نطرح بعض الدروس والعبر مما سبق، ونستكمل المادة العلمية للسيرة في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى:
الدرس الأول: أن المربي حين يأمر من يربيهم بشيء من أمور التربية؛ فإنه يكون قدوةً لهم في ممازجة ذلك العمل الذي أمرهم به؛ وذلك ليقتدوا به في ذلك، حتى يحفِّزهم على العمل، ومأخذ هذا من السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه بقتال عدوِّهم لم يتأخَّر عنهم؛ بل كان قائدًا لهم في ذلك، مُطبِّقًا ما يأمرهم به، وهكذا نحتاج في تربيتنا لغيرنا عندما نُوجِّههم إلى سلوكيات إيجابية، فلنكن نحن أول من يطبق ذلك السلوك؛ ليروا ذلك حتى يطبقوه بأنفسهم، أما إذا صدر الأمر وتخلَّف التطبيق؛ فإن عزيمتهم ستضعُف عند التنفيذ.
الدرس الثاني: نزل القرآن مُتحدِّثًا عن الغزوات؛ كبَدْر، وأُحُد، والخندق، وغيرها؛ تثبيتًا للمؤمنين على دينهم، وتقويةً لقلوبهم، فنحن بحاجة ماسة للتأمل والتدبر لتلك الآيات؛ ليقوى تمسُّكُنا بديننا، ويعظم ثباتُنا عليه في خضمِّ تلك الفتن في الليل والنهار، فمن قرأ وتدبَّر وتأمَّل فإنه حريٌّ بأن يستلهم الدروس والعبر، معظمًا لله تعالى، متبعًا لشرعه، ثابتًا على دينه لا تزعزعه الفتن.
الدرس الثالث: نزول الملائكة في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وسلم تقاتل مع المؤمنين يعطينا درسًا عظيمًا أن الله تعالى مع عباده المؤمنين، ينصرهم ويثبتهم، وييسِّر أمورهم، ويشرح صدورهم، وإن من أكثر ما يكون ذلك مع كثرة ذكر الله تعالى حيث ورد في الحديث القدسي: ((وأنا مَعَه إذا ذَكَرني))، وفي قوله تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾ [البقرة: 152]، فإذا ذكرت الله تعالى ذكرَكَ الله، وكان مَعَك، فكُنْ مُكْثِرًا من ذكر الله تعالى في ذَهابك وإيابك، ولحظات انتظارك، فهو عبادة عظيمة في أجرها، ويسيرة في تطبيقها، فما عليك إلا تحريك لسانك في تسبيح، أو تهليل، أو استغفار، أو قرآن، أو غيره من الأذكار، فلا تغفل عن هذا ليذكرك الله تعالى ويكن معك.
الدرس الرابع: في أول الإسلام لم يُؤمَر النبي صلى الله عليه وسلم بالقتال؛ وذلك لقلة المسلمين وضعفهم، وقوة عدوِّهم؛ ولكن بعد أن قويت شوكتُهم، وكثُر عددُهم، وانتشر دينهم جاء الإذن بالقتال، وفي ذلك درس عظيم في عدم الإقدام على الأشياء التي لا يستطيعها الإنسان، ففي حياتنا اليومية نجد الإغراق أحيانًا في أشياء لا نستطيعها، وهي مكلفة لنا، وفوق طاقتنا، ومع ذلك نفعلها، فلو تم تأجيلها حتى يتسنَّى الحال المناسب لها لكان أليق وأحسن، وذلك له أمثلة كثيرة؛ كالصرف على الأولاد، فالبعض ينفق فوق طاقته تماشيًا مع حال فلان وفلان من الأغنياء والأثرياء، فلو أنفق بقدر الطاقة حتى يفتح الله تعالى عليه من رزقه وفضله لكان خيرًا له، ومثال آخر في تأثيث المنازل يسرف في هذا فوق ما يستطيع، ومثل هذا ينتظر حتى يوسِّع الله عليه من رزقه وفضله، ومثال ثالث في شراء السيارات الفارهة، ومثال رابع في بناء البيوت الشاهقة، وخامس في السفريات المكلفة، ومثال سادس في المناسبات المسرفة، وهكذا حال بعض الناس، فيقال لهؤلاء جميعًا: أدركوا أحجامَكم وقدراتكم، وكونوا معها على حدٍّ سواء.
الدرس الخامس: يتضح لنا من خلال السيرة حكم شرعي في الصلاة؛ وهو لو أن الإنسان جهل القبلة، فبحث، فلم يجد ما يدُلُّه عليها، فتحرَّاها واجتهد في ذلك وصلى، ثم جاءه أحد، وأشار عليه بأن القبلة عن يمينك، فليستدر إلى يمينه، وهو يصلي، وليبن على صلاته، وما مضى من صلاته فهو صحيح؛ حيث استدار أهل قُباء في صلاتهم، وبنوا على ما سبق منها.
الدرس السادس: في انحراف أهل قُباء للقبلة، وهم في صلاتهم عندما أتاهم آتٍ، وأخبرهم بأن القبلة حُوِّلت إلى الكعبة، في ذلك حسن الاستجابة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وهذا هو واجب المسلم الحق إذا علم شيئًا عن الله تعالى ورسوله، فإنه يُسارع في الاستجابة لذلك، ولا يتوانى، ولا يتأخَّر، والله عز وجل يقول: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾ [الأنفال: 24].
فيا أخي الكريم، كلنا نقرأ القرآن، وشيئًا من السُّنَّة، ونسمع كلام أهل العلم والوعظ والإرشاد، فبعضنا - مشكورًا مأجورًا - يُفلِح في الاستجابة، ويُسارع فيها، ويدعو إليها، وهذا من فضل الله تعالى عليه، والبعض الآخر يقرأ وربما تجاهل حاله التي هو عليها، فهو يسمع عن تحريم الإسبال ويستمر عليه، ويسمع عن تحريم الغناء ويستمر عليه، ويقرأ في تحريم الغِيبة والكذب ويستمر عليهما، ويقرأ ويسمع في تحريم القطيعة والعقوق وهو على ذلك، وهكذا بقية الأحكام، فإلى متى عدم الاستجابة وضعفها؟! فاستثمر وقتك ما دمت في زمن الإمكان، وقبل زوال الأوان، ولو عُرِض على أصحاب القبور الذين لم يستجيبوا أن يرجعوا ليستجيبوا، لافتدوا ذلك بالدنيا كلها؛ ولكنهم إليها لا يرجعون، فما دمت يا أخي الكريم في زمان يمكنك فيه الاستجابة، فسارع إليها قبل أن تحطَّ رِحالَك في زمان ومكان لا يمكنك الاستجابة والرجوع.
الدرس السابع: لا تقوم الحجة على المكلف حتى يبلغه الحكم الشرعي، فتحويل القبلة بدأ بصلاة العصر في المدينة، وأهل قُباء لم يبلغهم ذلك إلا في صلاة الصبح من الغد، فصلَّوا العصر والمغرب والعشاء إلى القبلة الأولى إلى بيت المقدس، فلم يؤمروا بالإعادة، فدلَّ ذلك على أن الحجة لا تقوم حتى يبلغ المكلف الخبر.
الدرس الثامن: في فرضية الصيام، وتخفيفه في نهاية الأمر مظهر عظيم من مظاهر رحمة الله تعالى بعباده؛ حيث شرع ذلك الركن، فلما شقَّ عليهم في أول الأمر خفَّف عنهم برحمته، وواسع فضله عز وجل، وهكذا في كثير من الأحكام؛ لأن الله عز وجل رؤوف بعباده، غفور لذنوبهم، رحيم بهم، ومتى سأل المسلم ربَّه الرحمة أعطاه إياها، فكل النعم رحمة من الله تعالى بعباده، ومن مظاهر رحمة الله تعالى بعباده في الأحكام الفطر في السفر والمرض، وأيضًا كذلك من مظاهر الرحمة قصر الصلاة في السفر، وكذلك المسافر والمريض يكتب لهما ما كان يعملان صحيحين مقيمين، ومن مظاهر الرحمة مضاعفة العمل إلى عشرة أضعافه وهكذا يتتابع عدد من المظاهر في رحمة الله تعالى بعباده، فلله الحمد رب العالمين على رحمته وسعة فضله بعباده.
الدرس التاسع: في دراسة السيرة النبوية تظهر مظاهر القدرة الإلهية في نصرة الله تعالى لعباده وأنبيائه وأوليائه وتسديدهم وتيسير أمورهم، فمن آمن وأسلم، فإن الله عز وجل معه بنصره وتأييده، ومن كفَر وعاند، فإن الله عز وجل يخذله ويمكر به، أخي الكريم كم هو جميل أن يكون لك مع أسرتك الكريمة قراءة وجلسة، ولو مرة في الأسبوع في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ للتعرف على هذا الخُلُق الكريم، والمعاملة الحسنة، والتعبُّد والنُّسُك لنبينا عليه الصلاة والسلام، وصحابته رضي الله عنهم مع ما يحصل مع هذا من تصحيح المفاهيم والتصورات، وما يصحب ذلك من نزول السكينة، وغشيان الرحمة، فاحرص أخي الكريم على ذلك، فما أحوجنا إلى مثل هذا! تربيةً لنفوسنا أولًا، ولمن تحت أيدينا ثانيًا، وأيضًا هو علم نتقرَّب به إلى الله تعالى، وكم هو جميل أن يكون ذلك المقروء مسابقة بين الأولاد لتحفيزهم وتشجيعهم! ومما يقترح في ذلك كتاب الرحيق المختوم لصفي الرحمن المباركفوري، وقد كان هذا الكتاب قد حاز المركزَ الأول في المسابقة العالمية في السيرة، أو أن تكون القراءة في كتاب مختصر ككتاب " نور اليقين في سيرة سيد المرسلين "، وسيستفيد الجميع زيادة على ما ذكر الثبات على دين الله تعالى والاستمساك به، فإن الإنسان إذا قرأ في الكتاب والسنة، ثم في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يتعرف على كثير من أسباب الثبات على دين الله؛ لأن هؤلاء الصحابة الكِرام كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبتوا بتوفيق الله تعالى لهم، فما أحوجنا إلى أن نكون كذلك في زماننا هذا!
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا من عباده المفلحين، الذين لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، اللهم أوصلنا إلى دار السلام بسلامٍ، وبارك لنا في أعمالنا وأعمارنا، واغفر لنا، وارحمنا ووالدينا والمسلمين، وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.