مشاهدة النسخة كاملة : خاتم النبيين (17)


حكاية ناي ♔
12-19-2022, 12:07 PM
الأحداث بين بدر وأُحُد، وعددها 15 حدثًا


بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعثه الله تعالى رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:
وقد ذكرنا إخواني الأفاضل في الحلقة الماضية شيئًا من تفاصيل غزوة بدر في ملاقاة عِير أبي سفيان، كيف علمت قريش بذلك، وماذا عملوا عندما علموا، وأيضًا ذكرنا كيف كان خروج كل من الفريقين، وكيف بدأ القتال، وأيضًا ذكرنا النتيجة لهذا القتال في تلك الغزوة، وأيضًا ذكرنا كيف لطف الله عز وجل بعباده المؤمنين، إلى غير ذلك من المسائل.

وفي حلقتنا هذه نتطرق لأحداث حدثت بعد غزوة بدر وقبل أُحُد؛ حيث إنه لم يكن بينهما إلا سنة واحدة، فغزوة بدر في السنة الثانية وغزوة أُحُد في السنة الثالثة، وحدث بين الغزوتين أحداث تاريخية يحسن بنا مدارستها والعلم بها على سبيل الاختصار، ومن ذلك:
الحدث الأول: عيد للفطر هو بعد غزوة بدر مباشرة، فلم يكن بينهما إلا بضعة أيام، فما أروع هذا العيد بعد هذا الانتصار المبين، وقد كان لأهل المدينة يومان يلعبون فيهما في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ قد أبْدَلَكم بهما خيرًا: يوم الفطر، ويوم النَّحْر))؛ أخرجه أحمد.

الحدث الثاني: وفاة رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم، وهي زوجة عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ حيث تخلَّف عثمان عن غزوة بدر بإذنٍ من النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليكون عند زوجته رقية، حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ لكَ أجرَ رجلٍ ممَّن شَهِدَ بدرًا وسَهْمَه))؛ رواه البخاري.

الحدث الثالث: زواج علي بن أبي طالب رضي الله عنه من فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها؛ حيث بنى عليها في السنة الثانية بعد بدر، وقد عقد له عليها في نهاية السنة الأولى، وكان عُمُرُه حينها خمسة وعشرين عامًا، وكان عمرها ثماني عشرة سنة، وقد خطبها قبل ذلك أبو بكر وعمر، فردَّهما النبي صلى الله عليه وسلم لصغرها آنذاك، وولد له منها الحسن والحسين ومحسن وأم كلثوم وزينب، ولما ولد الذكور سموا الأول حربًا، فسمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن، ولما ولد الثاني سمَّوه أيضًا حربًا، فسمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم الحسين، ولما ولد الثالث كذلك سمَّوه حربًا، فسمَّاه النبي صلى الله عليه وسلم محسن، وفي هذا العناية باختيار الأسماء ذات المعاني الطيبة، وعقَّ النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين كَبْشَينِ كَبْشَينِ.

الحدث الرابع: ظهور النفاق والمنافقين، ففي هذه الفترة بدأت ظاهرة النفاق، فأسلم أناس في الظاهر، وأبطنوا الحقد والكيد في قلوبهم للإسلام وأهله.

الحدث الخامس: بني قينقاع، فقد حدثت تلك الغزوة في السنة الثانية بعد بدر بشهر تقريبًا، وكان بينهم وبين الرسول عليه الصلاة والسلام عهدٌ، فلما كانت وقعة بدر أظهروا الحسد والبغي، ونقضوا العهد مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لما رجع من بدر جمع اليهود فقال لهم: ((يا معشر يهود، أسْلِمُوا قبل أن يصيبَكم مثل ما أصاب قريشًا))، فكان ردُّهم سيئًا، واعتزوا بقوتهم، فأنزل الله تبارك وتعالى قوله: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 12]، وحاصرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فتحصنوا في حصونهم ودام الحصار عليهم خمسة عشر يومًا، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتفهم عليه الصلاة والسلام وأسرهم، ثم بدأ المنافق عبدالله بن أُبيِّ بن سلول يشفع لهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فألحَّ عليه كثيرًا حتى قبِلَ النبي عليه الصلاة والسلام شفاعته، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرجوا من المدينة، وأمهلهم ثلاثة أيام، وأوكل بهم عبادة بن الصامت، وطلبوا هم من عبادة زيادة المدة في الإمهال، فقال لهم عبادة رضي الله عنه: لا أمهلكم ولا ساعة من نهار بعد الثلاثة أيام، فأخرجهم من المدينة وأجْلَاهم عنها.

الحدث السادس: غزوة السويق، وهي في الخامس من ذي الحجة من السنة الثانية من الهجرة؛ حيث إن أبا سفيان أقسم يمينًا أن يغزو محمدًا وصحبه؛ ليأخذ بثأر بدر، فخرج بمئتي رجل من قريش متجهًا إلى المدينة للحرب، فلما وصل أطراف المدينة ليلًا طرق الباب على حُيي بن أخطب زعيم بني النضير، فأبى أن يفتح عليه بابه؛ خوفًا من المسلمين، ثم اتجه إلى سلام بن مشكم وكان من ساداتهم أيضًا ففتح له وتحدث معه ساعةً، ثم خرج منه وبعث رجالًا من قومه الذين معه إلى بستان، فوجدوا فيه رجلين من المسلمين، فقتلوهما، ثم هربوا، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عليه الصلاة والسلام مائتي رجل من المهاجرين والأنصار، فخرج بهم عليه الصلاة والسلام يطلب هؤلاء، فهرب أبو سفيان ومن معه حتى ألقوا ما معهم من السويق؛ وهو نوع من الطعام؛ ليتخفَّفوا في هروبهم، فلما ولَّوا مدبرين رجع النبي صلى الله عليه وسلم بالصحابة إلى المدينة، وسميت بهذا الاسم؛ لكثرة ما ألقي من السويق ليتخفَّفوا في الهرب.

الحدث السابع: إقامة عيد الأضحى، فهو أول عيد للأضحى في المدينة، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضحى هو وأهل اليسر من الصحابة، فقد ذبح النبي صلى الله عليه وسلم كبشين، وذلك بعد صلاة العيد، وكان من هديه عليه الصلاة والسلام الإمساك عن الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي.

الحدث الثامن: وفاة عثمان بن مظعون رضي الله عنه، فقد كان من سادات المهاجرين، وهو ممن هاجر إلى الحبشة والمدينة، وأيضًا هو ممن شهد بدرًا، وكان صاحب نُسُك وعبادة كثيرة، وقد أخرج البخاري (أن أم العلاء رضي الله عنها قالت: رأيت في النوم عينًا تجري لعثمان بن مظعون)، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: ((ذلك عملُه يجري له))؛ رواه البخاري.

الحدث التاسع: غزوة بني سليم، وكانت في منتصف شهر الله المحرم من السنة الثالثة، فعندما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن جمعًا من بني سليم وغطفان تجمعوا لقتاله، خرج إليهم عليه الصلاة والسلام بمئتي رجل من أصحابه رضي الله عنهم، فساروا إليهم، فهربوا منه ولم يبق إلا الراعي يسار ومعه الإبل يرعاها، فظفروا وغنموا تلك الإبل والراعي، وأعتق الراعي بعد ذلك الذي هو يسار، ثم أسلم هذا الراعي، وقسم النبي صلى الله عليه وسلم الإبل على الصحابة، وكان ذلك استغرق خمس عشرة ليلة.

الحدث العاشر: غزوة غطفان، ففي المحرم من السنة الثالثة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربعمائة رجل من أصحابه رضي الله عنهم، وذلك عندما جاءه الخبر أن جمعًا من غطفان اجتمعوا للإغارة على المدينة، فلما سمعوا بخروج رسول الله عليه الصلاة والسلام والصحابة إليهم هربوا على رؤوس الجبال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سار إليهم حتى بلغ مكانًا يقال له ذو أمر، فعسكر به، وأصابهم مطر، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فرآه المشركون كذلك، فبعثوا رجلًا شجاعًا لقتل النبي صلى الله عليه وسلم، واسم هذا الرجل دعثور بن الحارث، فلما شعر به الرسول عليه الصلاة والسلام وهو قائم على رأسه والسيف بيد دعثور، فقال له: مَن يمنعك مني يا محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الله))، فوقع السيف من يده على الأرض، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ((مَنْ يمنعك مني؟))، قال دعثور: لا أحد، ثم قال بعد ذلك: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فرجع إلى قومه متغيرًا، فقالوا: ويلك! ما لك؟! فقال: لما جئتُ إلى محمد لأقتله نظرت إلى رجل طويل، فدفع في صدري ووقعت لظهري، فوقع مني السيف، فعرفت أنه مَلَك، فأسلمتُ، وجعل يدعو قومه إلى الإسلام.

الحدث الحادي عشر: مقتل كعب بن الأشرف، وهو من أشد اليهود عداوةً للنبي عليه الصلاة والسلام، وكان شاعرًا مجيدًا، ولما علم بانتصار المسلمين في بدر، قال: إن كان ذلك صحيحًا، فبطن الأرض خيرٌ من ظهرها، فانبعث يهجو المسلمين، ويمدح كفار قريش، ويبكي على قتلاهم، فلما اشتد أذاه للمؤمنين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ لكعب بن الأشرف؛ فإنه آذى اللهَ ورسولَه؟))، فانتدب له ثلاثة من الصحابة، وهم: محمد بن مسلمة، وأبو نائلة، وعباد بن بشر، ودلَّهم على قتله، وذهبوا إليه، ولهم في قصة قتله حدث طويل كبير طريف رواه البخاري في صحيحه؛ لكن في آخر موقفهم قال لهما أبو نائلة- أي: قال لمحمد وعبَّاد -: سأشم الطيب في رأس كعب، فإذا تمكنت منه فاقتلوه، فلما تمكن منه قتلوه شر قتلة، ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: ((أفلَحَتِ الوجوهُ))، والقصة طويلة وطريفة جدًّا، فليُرجَع إليها في صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب قتل كعب بن الأشرف، ولما قُتِل كعب - وهو من أشرافهم- ضعف اليهود واستكانوا، ودَبَّ الرعب والخوف في قلوبهم.

الحدث الثاني عشر: سرية زيد بن حارثة، حيث إن قريشًا قالت: لا بد أن نذهب بتجارتنا إلى الشام وليس لنا طريق إلا بجوار المدينة، وإننا نخشى المسلمين أن يفعلوا بنا كما فعلوا في بدر، فسلكوا طريقًا بعيدًا عن المدينة يتَّجه إلى الشام، فلما علم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل زيد بن حارثة بمئة راكب، فأدركوهم بمكان يقال له القردة، فاستولوا على العِير كلها، وهرب أهلها وأسر المسلمون دليل القافلة، وهو فرات بن الحارث، وأسلم عندما أُسِر وحسُن إسلامه.

الحدث الثالث عشر: زواج عثمان بن عفان رضي الله عنه بأم كلثوم رضي الله عنها بنت النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث إن عثمان تزوج اختها رقية بنت محمد عليه الصلاة والسلام وماتت، ثم تزوج بعدها أختها أم كلثوم.

الحدث الرابع عشر: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بحفصة بنت عمر، فقد تزوجها في شعبان من السنة الثالثة، وكان عمر قد عرض نكاحها على عثمان بن عفان فأبى، ثم عرضها على أبي بكر رضي الله عنه فأبى، ثم تقدم إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجها، ثم قال أبو بكر بعد ذلك لعمر: لم أقبل الزواج بحفصة؛ لأني سمِعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها ليتزوجها.

الحدث الخامس عشر: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت خزيمة، فقد تزوَّجها في شهر رمضان من السنة الثالثة، وكانت رضي الله عنها تُسمَّى أم المساكين؛ لكثرة إطعامها لهم، ولم تلبث إلا ستة أشهر تقريبًا حتى توفيت ولها ثلاثون سنة، فصلَّى عليها النبي صلى الله عليه وسلم ودُفِنَتْ في البقيع.

إخواني وأخواتي الكرام، هذه خمسةَ عشرَ حدثًا حصلت بين غزوة بدر وأُحُد، ولعلنا نختم تلك الحلقة ببعض الدروس والعِبَر من تلك الأحداث، فمن الدروس في تلك الأحداث ما يلي:
الدرس الأول: أن من نوى عملًا من أعمال الخير، ثم منعه مانع منه، فإنه يُكتَب له أجر ذلك العمل فضلًا من الله عز وجل ورحمة، وهذا مستنبط من بقاء عثمان بن عفان رضي الله عنه لتمريض زوجته رقية، وقد عقد العزم على الخروج إلى غزوة بدر؛ لكنه منعه ذلك المانع؛ وهو مرض زوجته رقية رضي الله عنها؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ لك أجْرَ مَن شهِدَ بدرًا وسَهْمَه))؛ رواه البخاري، والله عز وجل يقول: ﴿ وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ﴾ [النساء: 100] وقد استنبط أهل العلم من ذلك حكمًا؛ وهو أن مَن منعه مانع من أداء العمل الذي عزم على فعله، فإنه يُكتَب له أجرُه، فالحمد لله على سعة فضله ورحمته على عباده، فلا تضِق ذَرْعًا إذا مُنعت من خير قد عزمت على فعله، فاهنأ بفضل الله تبارك وتعالى؛ فقد كتب لك الأجر وإن لم تعمل.

الدرس الثاني: يتعين علينا العناية بتسمية أبنائنا وبناتنا الأسماء الحسنة ذات المعاني السامية الطيبة حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم سمَّى أبناءه الحسن والحسين ومحسنًا، وبدل تسميتهم الأولى بحرب؛ فهي تفيد معنى الإحسان وذلك بخلاف الأسماء ذات المعاني السيئة أو أسماء أعداء الإسلام أو الأسماء الأجنبية، فكل هذا محظور، ففي الغالب أن المسمى له نسبة من اسمه؛ فقد ورد عن المسيب عن أبيه عن جده قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما اسمُكَ؟))، قلتُ: حزن، قال: ((بل أنت سهل))، قال: لا أغير اسمًا سمَّاني به أبي، فقال المسيب: ما زالت الحزونة فينا بعد؛ رواه البخاري.
فيا معاشر الأولياء، اختاروا لأولادكم الأسماء الحسنة ذات المعاني السامية، فهذا من أسباب صلاحهم.

الدرس الثالث: لقد حثَّ الإسلام على العقيقة عن المولود؛ حيث عقَّ النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين كبشين كبشين، وهي سنة مؤكدة، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الغلامُ مرتهنٌ بعقيقتِه)) ويقول أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((كُلُّ غلامٍ مرتهنٌ بعقيقته، تُذبَح عنه اليوم السابع، ويحلق، ويُسمَّى))؛ صححه الألباني وغيره، وهي عن الذكر والأنثى، فللذكر شاتان، وللأنثى شاة، ولو ذبح شاة عن الذكر لجاز ذلك، وقد كان اليهود يعقُّون عن الذكر ويتركون الأنثى، وفي هذا تكريم من الإسلام للمرأة، وتُذبَح العقيقة في اليوم السابع من ولادته، وهذا على سبيل الاستحباب، ومن منافعها قيل: إنه محبوس عن الشفاعة لوالديه حتى يعق عنه، وقيل أيضًا: إنها نوع من أسباب حفظه من الشيطان، ومن لم يعق عنه حال صغره فله أن يذبح له عقيقة ولو كان كبيرًا.

الدرس الرابع: بيان خطر النفاق والمنافقين، فإن فعل المنافق هو خير في الظاهر؛ لكنه ليس لله عز وجل، فهو تعب بلا ثمرة، وليسأل الإنسان ربَّه عز وجل الثبات على الحق، ويبذل جهده في الإخلاص لله تعالى في أقواله وأفعاله، ولو نظرنا إلى عمل المنافقين لرأيناها صلاةً وصَدَقةً وصيامًا وغيرها من العبادات؛ لكنها هباء منثور، فلنستعذ بالله تعالى من حالهم، ولنبتعد عن صفاتهم ونفاقهم العملي والاعتقادي، فعملهم كعمل المسلمين؛ لكن فقدوا ثمرة العمل بسبب تلك النية الفاسدة، نسأل الله تعالى العافية.

الدرس الخامس: إن الصدقة الجارية هي أجر وحسنات تُكتَب للإنسان في حياته وبعد مماته، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن مظعون في تفسير الرؤيا: ((ذاك عمَلُه يجري له))، فهل جعلنا لأنفسنا أعمالًا تجري لنا من الصدقات الجارية، فما أحوجنا لذلك! وإنني ألفتُ نظرك أخي الكريم إلى أن الصدقة الجارية ليس لزامًا أن تحتوي على كلفة مادية مالية؛ كبناء مسجد، أو حفر بئر، ونحوهما، فهذه الصدقات ذات الكلفة المالية هي على رأس الصدقات الجارية فضلًا وأجرًا وغنيمةً؛ ولكن لمن لا يستطيعها فإن لديه صدقات جارية هي خالية من المال تمامًا، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ دلَّ على خير فله مثلُ أجْرِ فاعلِه))؛ رواه مسلم، فعندما تُعلِم أحدًا من الناس بعمل صالح فيعمله، فهو صدقة جارية لك، وإنني أذكر لك صورةً من أبدع الصور في ذلك، وغيرها كثير، وذلك أن أحدهم تحدث مع أصحابه مدة لا تزيد عن دقيقتين في رحلة لهم، وذلك عن صيام يوم الاثنين، فلما انصرفوا تحدَّث أحد هؤلاء الجالسين مع زوجته عن ذلك الصيام لذلك اليوم المبارك، فشجَّعَتْه زوجتُه على صيام ذلك اليوم، فيقول: صُمْنا بعد ذلك مدة ثلاثين عامًا ولا نزال نصوم، وهي ما يعادل تقريبًا ثلاثة آلاف يوم، وكلها في ميزان ذلك المتحدث، فكان هذا الكلام المختصر صدقةً جاريةً لهذا المتحدث فيا بُشْراه! فلنكن جميعًا كذلك، ولنحفظ بعض الأحاديث المختصرة الثابتة، ولنجعلها مشروعًا لنا وصدقةً جاريةً لنا في مجالسنا، ومع أهلنا وأبنائنا وأصحابنا، وأيضًا في وسائل التواصل لدينا، وذلك مثل قوله عليه الصلاة والسلام: ((مَن قال: سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حُطَّت خطاياه، وإن كانتْ مثل زَبَد البحر))؛ رواه البخاري.
فاجعل هذا الحديث العظيم في فضله واليسير في تنفيذه، اجعله وأمثاله صدقةً جاريةً لك في حياتك وبعد مماتك، فستنهال عليك الحسنات والأجور بإذن الله تبارك وتعالى، ولا تغفل عن ذلك ولا تُسوِّف.

الدرس السادس: عندما نقرأ أو نسمع شيئًا من الأعمال والأقوال الصالحة لا يحسن بنا أن تكون حبيسة الأفكار والأذهان؛ بل إن من الدعوة إلى الله تعالى نشرَ ذلك ليكون أجرًا وذخرًا لنا، وذلك مقتبس من موقف دعثور عندما أراد قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فسقط من يده السيف، وفي الأخير أسلم وذهب دعثور إلى قومه، فدعاهم إلى الإسلام واجتهد في ذلك فلم يكن أنانيًّا فيما كسبه من الخير؛ بل ذهب إلى قومه يدعو إلى الله عز وجل، فلنكن نحن كذلك عندما نعلم شيئًا من الخير، فهو مرصود لنا في الموازين، فاستثمر مجالسك بذلك يا رعاك الله.

الدرس السابع: لقد عرض عمرُ حفصةَ على عثمانَ، وبعده على أبي بكر رضي الله عنهما، فلم يرغبا في ذلك، ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك درس عظيم لنا معاشر الأولياء؛ ألا ننتظر في بناتنا حتى يأتي الخُطَّاب؛ بل إذا علمنا أن فلانًا كُفْئًا، فلنلتمس ذلك بالطرق المناسبة، ولنعرض عليه بالأسلوب المناسب، فالبيوت قد امتلأت بسبب ذلك الانتظار، ولو كنا إذا رأينا الكفء وعلمنا ذلك تمامًا مدَدْنا الجسور للموافقة، لكان ذلك طريقًا حسنًا في سرعة تزويج بناتنا، واختصرنا كثيرًا من الجهود والأوقات، وفي المقابل أيضًا إذا تقدم الكُفْء فلا يطيل الوليُّ في السؤال والتسويف، ثم يكون ذلك حجرَ عثرةٍ في التزويج؛ بل يستعجل بلا خَلَلٍ.

الدرس الثامن: بعض المواقف تكون مكروهةً للنفس؛ لكن وراءها الخير العظيم، وذلك يتضح من خلال أسْرِ دليل قريش في سير عِيرهم إلى الشام، وهو فرات بن حيان، فلما تم أسْرُه كره ذلك كثيرًا وحزن له واهتمَّ؛ ولكنه كان سببًا في إسلامه، فنحن يحصل لنا في مواقفنا الحياتية أمور نكرهها وربما كان الخير فيها، والله عز وجل يقول: ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19]، فوطِّن نفسك عند حصول أي موقف تكرهه أنه ربما كان خيرًا وأنت لا تعلم، فإن هذا يُسهِّل عليك في هذا الموقف غير المرغوب، وقد لا يخلو ذلك الموقف من نسبة إيجابية، ففكِّر فيها منطلقًا منها؛ ليخف عليك ذلك المكروه.

أسأل الله تبارك وتعالى لنا جميعًا السداد والهُدى والرشاد، وصلى الله وسلم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ساكن الروح
12-19-2022, 12:09 PM
جزاك الله خيرا
وجعلة فى ميزان حسناتك

حكاية ناي ♔
12-21-2022, 09:13 AM
اسعدني حضوركم